المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

القرآن الكريم وعلومه
عدد المواضيع في هذا القسم 17644 موضوعاً
تأملات قرآنية
علوم القرآن
الإعجاز القرآني
قصص قرآنية
العقائد في القرآن
التفسير الجامع
آيات الأحكام

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر

هل زنابير النوع الواحد تهيء اعشاشة متشابهة؟
1-4-2021
المحاكاة والتشبيه
14-08-2015
فضل سورة الفيل وخواصها
2-05-2015
فضيلة الزواج والحثّ عليه.
2-2-2023
معنى كلمة لوى‌
15-12-2015
أهمية العقوبة في الجرائم المخلة بالشرف
2024-09-15


تفسير الآية (6-8) من سورة الزمر  
  
4466   04:52 مساءً   التاريخ: 27-4-2020
المؤلف : إعداد : المرجع الإلكتروني للمعلوماتية
الكتاب أو المصدر : تفاسير الشيعة
الجزء والصفحة : .....
القسم : القرآن الكريم وعلومه / التفسير الجامع / حرف الزاي / سورة الزمر /

قال تعالى : {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُو فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6) إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7) وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} [الزمر : 6 - 8]

 

تفسير مجمع البيان

- ذكر الطبرسي في تفسير هاتين الآيتين (1) :

أبان سبحانه عن كمال قدرته بخلق آدم وذريته فقال {خلقكم من نفس واحدة} يعني آدم (عليه السلام) لأن جميع البشر من نسله {ثم جعل منها زوجها} يعني حواء أي من فضل طينته وقيل من ضلع من أضلاعه وفي قوله {ثم جعل منها زوجها} ثم يقتضي التراخي والمهلة وخلق الوالدين قبل الولد ثلاثة أقوال (أحدها) أنه عطف يوجب أن الكلام الثاني بعد الأول ويجري مجرى قول القائل قد رأيت ما كان منك اليوم ثم ما كان منك أمس وإن كان ما كان أمس قبل ما يكون اليوم مثله قول الشاعر :

ولقد ساد ثم ساد أبوه *** ثم قد ساد قبل ذلك جده

 (وثانيها) : أنه معطوف على معنى واحدة فكأنه قال خلقكم من نفس واحدة أوجدها وحدها ثم جعل منها زوجها {وثالثها} أنه خلق الذرية في ظهر آدم وأخرجها من ظهره كالذر ثم خلق من بعد ذلك حواء من ضلع من أضلاعه على ما ورد في الأخبار وهذا ضعيف وقد مضى الكلام عليه {وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج} اختلف في معناه على وجوه (أحدها) أن معنى الإنزال هنا الأحداث والإنشاء كقوله قد أنزلنا عليكم لباسا ولم ينزل اللباس ولكن أنزل الماء الذي هو سبب القطن والصوف واللباس يكون منهما فكذلك الأنعام تكون بالنبات والنبات يكون بالماء (والثاني) أنه أنزلها بعد أن خلقها في الجنة عن الجبائي قال وفي الخبر الشاة من دواب الجنة والإبل من دواب الجنة (والثالث) أن المعنى جعلها نزلا ورزقا لكم ويعني بالأزواج الثمانية من الأنعام الإبل والبقر والغنم والضأن والمعز من كل صنف اثنان هما زوجان وهو مفسر في سورة الأنعام .

{يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق} نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظاما ثم يكسو العظام لحما ثم ينشىء خلقا آخر عن قتادة ومجاهد والسدي وقيل خلقا في بطون الأمهات بعد الخلق في ظهر آدم عن ابن زيد .

{في ظلمات ثلاث} ظلمة البطن وظلمة الرحم وظلمة المشيمة عن ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي وابن زيد وهو المروي عن أبي جعفر (عليه السلام) وقيل ظلمة الليل أو ظلمة صلب الرجل وظلمة الرحم وظلمة البطن ثم خاطب سبحانه خلقه فقال {ذلكم الله} الذي خلق هذه الأشياء {ربكم} الذي يملك التصرف فيكم {له الملك} على جميع المخلوقات {لا إله إلا هو فأنى تصرفون} عن طريق الحق بعد هذا البيان مثل قوله {فأنى تؤفكون} .

{إن تكفروا} أي تجحدوا نعمة الله تعالى ولم تشكروه {فإن الله غني عنكم} وعن شكركم فلا يضره كفركم {ولا يرضى لعباده الكفر} وفي هذا أوضح دلالة على أنه سبحانه لا يريد الكفر الواقع من العباد لأنه لو أراده لوجب متى وقع أن يكون راضيا به لعبده لأن الرضاء بالفعل ليس إلا ما ذكرناه أ لا ترى أنه يستحيل أن نريد من غيرنا شيئا ويقع منه على ما نريده فلا نكون راضين به أو أن نرضى شيئا ولم نرده البتة {وإن تشكروا يرضه لكم} أي وأن تشكروا الله تعالى على نعمه وتعترفوا بها يرضه لكم ويرده منكم ويثبكم عليه والهاء في يرضه كناية عن المصدر الذي دل عليه وإن تشكروا والتقدير يرضى الشكر لكم كقولهم من كذب كان شرا له أي كان الكذب شرا له .

{ولا تزر وازرة وزر أخرى} أي لا تحمل حاملة ثقل أخرى والمعنى لا يؤاخذ بالذنب إلا من يرتكبه ويفعله {ثم إلى ربكم مرجعكم} أي مصيركم {فينبؤكم بما كنتم تعملون} أي يخبركم بما عملتموه ويجازيكم بحسب ذلك {إنه عليم بذات الصدور} فلا يخفى عليه سر وعلانية {وإذا مس الإنسان ضر} من شدة ومرض وقحط وغير ذلك {دعا ربه منيبا إليه} أي راجعا إليه وحده لا يرجو سواه {ثم إذا خوله} أي أعطاه {نعمة منه نسي ما كان يدعو إليه من قبل} أي نسي الضر الذي كان يدعو الله إلى أن يكشفه من قبل نيل هذه النعمة قال الزجاج معناه نسي الدعاء الذي كان يتضرع به إلى الله عز وجل من قبل وجائز أن يكون المعنى نسي الله الذي كان يتضرع إليه من قبل ومثله ولا أنا عابد ما عبدتم ولا أنتم عابدون ما أعبد فكانت ما تدل على الله تعالى ومن عبارة عن كل مميز وما يكون لكل شيء .

{وجعل لله أندادا} أي سمي له أمثالا في توجيه عبادته إليها من الأصنام والأوثان {ليضل} الناس {عن سبيله} أي عن دينه أو يضل هوعن الدين واللام لام العاقبة وذلك أنهم لم يفعلوا ما فعلوه وغرضهم ذلك لكن عاقبتهم كانت إليه {قل تمتع بكفرك قليلا} هذا أمر معناه الخبر كقوله إذا لم تستح فاصنع ما شئت والمعنى أن مدة تمتعه في الدنيا بكفره قليلة زائلة {إنك من أصحاب النار} تعذب فيها دائما .

________________

1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج8 ، ص386-388 .

 

تفسير الكاشف

- ذكر محمد جواد مغنية في تفسير هاتين الآيتين (1) 

 

{خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها} . تقدم في الآية 1 من سورة النساء ج 2 ص 242 والآية 189 من سورة الأعراف ج 3 ص 434 {وأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ} . تقدم في الآية 143 من سورة الأنعام ج 3 ص 274 .

{يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلهً إِلَّا هُو فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} . خلقا من بعد خلق إشارة إلى ما جاء في الآية 5 من سورة الحج : فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ ج 5 ص 310 ، والظلمات الثلاث هي ظلمة البطن والرحم والمشيمة ، وهذا الارتقاء من طور لآخر داخل هذه الظلمات دليل قاطع على وجود الباري المصور . . وإذا كان هذا الارتقاء من صنع الطبيعة مباشرة فإن الطبيعة من صنع من يقول للشيء {كن فيكون} ولا يعمى عن هذا إلا أعمى ، قال الإمام علي (عليه السلام) :

أيها المخلوق السوي والمنشأ المرعي في ظلمات الأرحام ، ومضاعفات الأستار ، بدئت من سلالة من طين ، ووضعت في قرار مكين إلى قدر معلوم ، تمور (2) في بطن أمك جنينا لا تحير دعاء ولا تسمع نداء ، ثم أخرجك من مقرك إلى دار

2- تمور تتحرك ، ولا تحير لا تستطيع .

لم تشهدها ، ولم تعرف سبل منافعها ، فمن هداك لاجترار الغذاء من ثدي أمك ، وعرفك عند الحاجة مواضع طلبك وإرادتك ؟

{إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهً غَنِيٌّ عَنْكُمْ} . فلا تضره معصية من عصى ، ولا تنفعه طاعة من أطاع ، ولكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ أي الرضا عنكم ان كنتم متقين {ولا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ} . قال الأشاعرة : ان اللَّه مريد لجميع الكائنات حتى كفر الكافر وزنا الزاني وقتل القاتل ظلما وعدوانا لأنه خالق كل شيء ، ومع ذلك فهو ينهى عن الكفر والزنا والقتل (المواقف ج 8 ص 173) أما التكليف بما لا يطاق فجائز عند الأشاعرة لأن اللَّه لا يجب عليه شيء ، ولا يقبح منه شيء {نفس المصدر ص 200) . ولا شيء أوضح في الدلالة على بطلان هذا المذهب من قوله تعالى : {ولا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ} .

{وإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} . وما يرضاه لنا فهو أمان ورحمة {ولا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى} أي لا تجزي نفس عن نفس شيئا . وتقدم بالنص الحرفي في الآية 164 من سورة الأنعام ج 3 ص 293 والآية 5 من سورة الإسراء والآية 18 من سورة فاطر {ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ} . إليه تعالى مصائر الخلق ، وبيده جزاء الأعمال ، وهو العليم بسرائر أصحابها وما يهدفون من ورائها .

{وإِذا مَسَّ الإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ} . مسه أصابه ، والضر ما يؤذي ويسوء ، والإنابة الرجوع إلى اللَّه ، وخوله أعطاه ، والأنداد الأشباه ، والمعنى ان الإنسان إذا أصيب بنفسه أو أهله أو ماله التجأ إلى خالقه خاشعا متضرعا ، فإذا كشف كربه وضره ، وأسبغ عليه من جوده وكرمه نسي تضرعه إلى خالقه ، واتجه إلى غيره بالعبادة والطاعة . . وفي الآية إيماء إلى أن الإنسان حين الضراء يعود إلى فطرته التي فطره اللَّه عليها . وتقدم مثله في الآية 12 من سورة يونس ج 4 ص 139 والآية 54 من سورة النحل ص 521 من المجلد المذكور والآية 67 من سورة الإسراء ج 5 ص 65 .

{قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ} . هذا تهديد ووعيد لمن يؤمن عند الشدة ، ويكفر عند الرخاء ، وما من شك ان متاع الدنيا مع الكفر وخيم العاقبة .

__________________

1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج6 ، ص396-398 .

 

 

تفسير الميزان

- ذكر الطباطبائي في تفسير هاتين الآيتين (1) 

 

قوله تعالى : {خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها} إلخ الخطاب لعامة البشر ، والمراد بالنفس الواحدة - على ما تؤيده نظائره من الآيات - آدم أبو البشر ، والمراد بزوجها امرأته التي هي من نوعها وتماثلها في الإنسانية ، و{ثم} للتراخي بحسب رتبة الكلام .

والمراد أنه تعالى خلق هذا النوع وكثر أفراده من نفس واحدة وزوجها .

وقوله : {وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج} الأنعام هي الإبل والبقر والضأن والمعز ، وكونها ثمانية أزواج باعتبار انقسامها إلى الذكر والأنثى .

وتسمية خلق الأنعام في الأرض إنزالا لها باعتبار أنه تعالى يسمي ظهور الأشياء في الكون بعد ما لم يكن إنزالا لها من خزائنه التي هي عنده ومن الغيب إلى الشهادة قال تعالى : {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} [الحجر : 21] .

وقوله : {يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق في ظلمات ثلاث} بيان لكيفية خلق من تقدم ذكره من البشر والأنعام ، وفي الخطاب تغليب أولي العقل على غيرهم ، والخلق من بعد الخلق التوالي والتوارد كخلق النطفة علقة وخلق العلقة مضغة وهكذا ، والظلمات الثلاث هي ظلمة البطن والرحم والمشيمة كما قيل ورواه في المجمع ، عن أبي جعفر (عليه السلام) .

وقيل : المراد بها ظلمة الصلب والرحم والمشيمة وهو خطأ فإن قوله : {في بطون أمهاتكم} صريح في أن المراد بالظلمات الثلاث ما في بطون النساء دون أصلاب الرجال .

وقوله : {ذلكم الله ربكم} أي الذي وصف لكم في الآيتين بالخلق والتدبير هو ربكم دون غيره لأن الرب هو المالك الذي يدبر أمر ما ملكه وإذ كان خالقا لكم ولكل شيء دونكم وللنظام الجاري فيكم فهو الذي يملككم ويدبر أمركم فهو ربكم لا غير .

وقوله : {له الملك} أي على جميع المخلوقات في الدنيا والآخرة فهو المليك على الإطلاق ، وتقديم الظرف يفيد الحصر ، والجملة خبر بعد خبر لقوله : {ذلكم الله} كما أن قوله : {لا إله إلا هو ، كذلك ، وانحصار الألوهية فيه تعالى فرع انحصار الربوبية فيه لأن الإله إنما يعبد لأنه رب مدبر فيعبد إما خوفا منه أو رجاء فيه أو شكرا له .

وقوله : {فأنى تصرفون} أي فكيف تصرفون عن عبادته إلى عبادة غيره وهو ربكم الذي خلقكم ودبر أمركم وهو المليك عليكم .

قوله تعالى : {إن تكفروا فإن الله غني عنكم ولا يرضى لعباده الكفر} إلى آخر الآية .

مسوق لبيان أن الدعوة إلى التوحيد وإخلاص الدين لله سبحانه ليست لحاجة منه تعالى إلى إقبالهم إليه بالانصراف عن عبادة غيره بل لعناية منه تعالى بهم فيدعوهم إلى سعادتهم اعتناء بها كما يعتني برزقهم فيفيض النعم عليهم وكما يعتني بحفظهم فيلهمهم أن يدفعوا الآفات عن أنفسهم .

فقوله : {إن تكفروا فإن الله غني عنكم} الخطاب لعامة المكلفين أي إن تكفروا بالله فلم توحدوه فإنه غني عنكم لذاته لا ينتفع بإيمانكم وطاعتكم ولا يتضرر بكفركم ومعصيتكم فالنفع والضرر إنما يتحققان في مجال الإمكان والحاجة وأما الواجب الغني بذاته فلا يتصور في حقه انتفاع ولا تضرر .

وقوله : {ولا يرضى لعباده الكفر} دفع لما ربما يمكن أن يتوهم من قوله : {فإن الله غني عنكم} إنه إذا لم يتضرر بكفر ولم ينتفع بإيمان فلا موجب له أن يريد منا الإيمان والشكر فدفعه بأن تعلق العناية الإلهية بكم يقتضي أن لا يرضى بكفركم وأنتم عباده .

والمراد بالكفر كفر النعمة الذي هو ترك الشكر بقرينة مقابلة قوله : {وإن تشكروا يرضه لكم} وبذلك يظهر أن التعبير بقوله : {لعباده} دون أن يقول : لكم للدلالة على علة الحكم أعني سبب عدم الرضا .

والمحصل أنكم عباد مملوكون لله سبحانه منغمرون في نعمه ورابطة المولوية والعبودية وهي نسبة المالكية والمملوكية لا تلائمه أن يكفر العبد بنعمة سيده فينسى ولاية مولاه ويتخذ لنفسه أولياء من دونه ويعصي المولى ويطيع عدوه وهو عبد عليه طابع العبودية لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا .

وقوله : {وإن تشكروا يرضه لكم} الضمير للشكر نظير قوله تعالى : {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة : 8] والمعنى وإن تشكروا الله بالجري على مقتضى العبودية وإخلاص الدين له يرض الشكر لكم وأنتم عباده ، والشكر والكفر المقابل له ينطبقان على الإيمان والكفر المقابل له .

ومما تقدم يظهر أن العباد في قوله : {ولا يرضى لعباده الكفر} عام يشمل الجميع فقول بعضهم : إنه خاص أريد به من عناهم في قوله : {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الحجر : 42] وهم المخلصون – أو المعصومون على ما فسره الزمخشري - ولازمه أن الله سبحانه رضي الإيمان لمن آمن ورضي الكفر لمن كفر إلا المعصومين فإنه أراد منهم الإيمان ، وصانهم عن الكفر سخيف جدا ، والسياق يأباه كل الإباء ، إذ الكلام مشعر حينئذ برضاه الكفر للكافر فيؤول معنى الكلام إلى نحو من قولنا : إن تكفروا فإن الله غني عنكم ولا يرضى للأنبياء مثلا الكفر لرضاه لهم الإيمان وإن تشكروا أنتم يرضه لكم وإن تكفروا يرضه لكم وهذا - كما ترى - معنى رديء ساقط وخاصة من حيث وقوعه في سياق الدعوة .

على أن الأنبياء مثلا داخلون فيمن شكر وقد رضي لهم الشكر والإيمان ولم يرض لهم الكفر فلا موجب لإفرادهم بالذكر وقد ذكر الرضا عمن شكر .

وقوله : {ولا تزر وازرة وزر أخرى} أي لا تحمل نفس حاملة حمل نفس أخرى أي لا يؤاخذ بالذنب إلا من ارتكبه .

وقوله : {ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم تعملون إنه عليم بذات الصدور} أي هذا في الدنيا من كفر أو شكر ثم يبعثكم الله فيظهر لكم حقيقة أعمالكم ويحاسبكم على ما في قلوبكم وقد تكرر الكلام في معاني هذه الجمل فيما تقدم .

كلام في معنى الرضا والسخط من الله

الرضا من المعاني التي يتصف بها أولو الشعور والإرادة ويقابله السخط وكلاهما وصفان وجوديان .

ثم الرضا يتعلق بالمعاني من الأوصاف والأفعال دون الذوات يقال : رضي له كذا ورضي بكذا قال تعالى : {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ } [التوبة : 59] وقال : {وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [يونس : 7] وما ربما يتعلق بالذوات فإنما هو بعناية ما ويؤول بالآخرة إلى المعنى كقوله : {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى} [البقرة : 120] .

وليس الرضا هو الإرادة بعينها وإن كان كلما تعلقت به الإرادة فقد تعلق به الرضا بعد وقوعه بوجه .

وذلك لأن الإرادة - كما قيل - تتعلق بأمر غير واقع والرضا إنما يتعلق بالأمر بعد وقوعه أو فرض وقوعه فإذن كون الإنسان راضيا بفعل كذا كونه بحيث يلائم ذلك الفعل ولا ينافره ، وهو وصف قائم بالراضي دون المرضي .

ثم الرضا لكونه متعلقا بالأمر بعد وقوعه كان متحققا بتحقق المرضي حادثا بحدوثه فيمتنع أن يكون صفة من الصفات القائمة بذاته لتنزهه تعالى عن أن يكون محلا للحوادث فما نسب إليه تعالى من الرضا صفة فعل قائم بفعله منتزع عنه كالرحمة والغضب والإرادة والكراهة قال تعالى : { رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [البينة : 8] وقال : { وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ} [النمل : 19] ، وقال : {وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة : 3] .

فرضاه تعالى عن أمر من الأمور ملائمة فعله تعالى له ، وإذ كان فعله قسمين تكويني وتشريعي انقسم الرضا منه أيضا إلى تكويني وتشريعي فكل أمر تكويني وهو الذي أراد الله وأوجده فهو مرضي له رضا تكوينيا بمعنى كون فعله وهو إيجاده عن مشية ملائما لما أوجده ، وكل أمر تشريعي وهو الذي تعلق به التكليف من اعتقاد أو عمل كالإيمان والعمل الصالح فهو مرضي له رضا تشريعيا بمعنى ملاءمة تشريعه للمأتي به .

وأما ما يقابل هذه الأمور المأمور بها مما تعلق به نهي فلا يتعلق بها رضا البتة لعدم ملاءمة التشريع لها كالكفر والفسوق كما قال تعالى : {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر : 7] ، وقال : {فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [التوبة : 96] .

قوله تعالى : {وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيبا إليه} إلى آخر الآية الإنابة الرجوع ، والتخويل العطية العظيمة على وجه الهبة وهي المنحة .

على ما في المجمع ، .

لما مر في الآية السابقة ذكر من كفر النعمة وأن الله سبحانه على غناه من الناس لا يرضى لهم ذلك نبه في هذه الآية على أن الإنسان كفور بالطبع مع أنه يعرف ربه بالفطرة ولا يلبث عند الاضطرار دون أن يرجع إليه فيسأله كشف ضره كما قال : {وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا } [الإسراء : 67] ، وقال : { إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم : 34] .

فقوله : {وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيبا إليه} أي إذا أصاب الإنسان ضر من شدة أو مرض أو قحط ونحوه دعا ربه – وهو الله يعترف عند ذلك بربوبيته - راجعا إليه معرضا عمن سواه يسأله كشف الضر عنه .

وقوله : {ثم إذا خوله نعمة منه نسي ما كان يدعوا إليه من قبل} أي وإذا أعطاه ربه سبحانه بعد كشف الضر نعمة منه اشتغل به مستغرقا ونسي الضر الذي كان يدعو إليه أي إلى كشفه من قبل إعطاء النعمة .

فما في قوله : {ما كان يدعوا إليه} موصولة والمراد به الضر وضمير {إليه} له وقيل : مصدرية والضمير للرب سبحانه والمعنى نسي دعاءه إلى ربه من قبل الإعطاء ، وقيل : موصولة والمراد به الله سبحانه وهو أبعد الوجوه .

وقوله : {وجعل لله أندادا ليضل عن سبيله} الأنداد الأمثال والمراد بها - على ما قيل - الأصنام وأربابها ، واللام في {ليضل عن سبيله} للعاقبة ، والمعنى واتخذ الله أمثالا يشاركونه في الربوبية والألوهية على مزعمته لينتهي به ذلك إلى إضلال الناس عن سبيل الله لأن الناس مطبوعون على التقليد يتشبه بعضهم ببعض وفي الفعل دعوة كالقول .

ولا يبعد أن يراد بالأنداد مطلق الأسباب التي يعتمد عليها الإنسان ويطمئن إليها ومن جملتها أرباب الأصنام عند الوثني وذلك لأن الآية تصف الإنسان وهو أعم من المشرك نعم مورد الآية هو الكافر .

وقوله : {قل تمتع بكفرك قليلا إنك من أصحاب النار} أي تمتع تمتعا قليلا لا يدوم لك لأنك من أصحاب النار مصيرك إليها ، وهو أمر تهديدي في معنى الإخبار أي إنك إلى النار ولا يدفعها عنك تمتعك بالكفر أياما قلائل .

___________________

1- الميزان ، الطباطبائي ، ج17 ، ص194-199 .

 

تفسير الامثل

- ذكر الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هاتين الآيتين (1) 

 

الجميع مخلوقون من نفس واحدة :

مرّة اُخرى تستعرض آيات القرآن الكريم عظمة خلق الله ، وتبيّن في نفس الوقت بعض النعم الأُخرى التي منّ بها الله سبحانه وتعالى على الإنسان .

في البداية تتحدّث عن خلق الإنسان وتقول : {خلقكم من نفس واحدة ثمّ جعل منها زوجها} .

خلق كلّ بني آدم من نفس واحدة إشارة إلى مسألة خلق آدم أبي البشر ، إذ أنّ كل البشر وبتنوع خلقتهم وأخلاقهم وطبائعهم واستعداداتهم وأذواقهم المختلفة يعودون في الأصل إلى آدم(عليه السلام)

وعبارة : {ثمّ جعل منها زوجها}(2) إشارة إلى أن الله خلق آدم في البداية ، ثمّ خلق حواء ممّا تبقى من طينته .

وعلى هذا الأساس فإنّ عملية خلق حواء تمّت بعد خلق آدم ، وقبل خلق أبناء آدم .

عبارة(ثمّ) لا تأتي دائماً كتأخير للزمان ، وإنّما تأتي أحياناً كتأخير للبيان ، فمثلا يقال : رأيت ما عملته اليوم ثمّ رأيت ما عملته بالأمس ، في حين أنّ عمل الأمس قد نفذ قبل عمل اليوم ، ولكن المراد هنا أنّ مشاهدته تمّت بعد عمل اليوم .

والبعض اعتبر الآية المذكورة أعلاه تشير إلى (عالم الذّر) وخلق أبناء آدم بعد خلق آدم وقبل خلق حواء بشكل أرواح ، هذا التّفسير غير صحيح ، وقد بيّنا هذا في تفسير وتوضيح «عالم الذّر» في ذيل الآية (172) من سورة الأعراف .

وممّا يجدر ذكره أنّ زوجة آدم(عليه السلام) لم تخلق من أي جزء منه ، وإنّما خلقت ممّا تبقى من طينته التي خلق منها ، وذلك كما ورد في الرّوايات الإسلامية ، وأمّا الرّوايات التي تقول بأنّها خلقت من ضلع آدم الأيسر ، فإنّه كلام خاطىء مأخوذ من بعض الرّوايات الإِسرائيلية ، ومطابق في نفس الوقت لما جاء في الفصل الثّاني من كتاب التّوراة (سفر التكوين) المحرّف ، إضافة إلى كونه مخالفاً للواقع والعقل ، إذ أنّ تلك الرّوايات ذكرت أنّ أحد أضلاع آدم قد أخذ وخلقت منه حواء ، ولهذا فإنّ الرجال ينقصهم ضلع في جانبهم الأيسر ، في حين أنّنا نعلم بعدم وجود أيّ فارق بين عدد أضلع المرأة والرجل ، وهذا الإختلاف ليس أكثر من خرافة .

بعد هذا ينتقل الحديث إلى مسألة خلق أربعة أنواع من الانعام تؤمّن للإنسان ضروريات الحياة ، حيث يستفيد من جلودها لملابسه ، ومن حليبها ولحمه لغذائه ، ومن جهة اُخرى يصنع من جلودها وأصوافها عدّة أُمور يستفيد منها في حياته ، ومن جهة ثالثة يستخدمها كوسيلة لتنقّله وحمل أثقاله : {وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج} والمقصود من (الأزواج الثمانية) الذكر والأنثى لكلّ من الإِبل والبقر والضأن والمعز ، ومن هنا فإنّ كلمة (زوج) تطلق على كلّ من الذكر والأنثى ، ولهذا فأنّ عدده يكون ثمانية أزواج . (ولذا في بداية الآية هذه اُطلقت كلمة زوج على حواء) .

وعبارة(أنزل لكم) والتي تخص هنا الأنعام الأربعة ـ كما بيّنا ذلك من قبل ـ لا تعني فقط إنزال الشيء من كان عال ، وإنّما في مثل هذه الحالات تعني (تدني المقام) والنعم من مقام أعلى الى أدنى .

كما ذكروا احتمالا آخر في أن (إنزال) مشتقّة هنا من (نزل) على وزن (رسل) وتعني ضيافة الضيف ، أو أوّل ما يقدم للضيف ، ونظير هذا المعنى ورد في الآية (198) من سورة ال عمران بخصوص أهل الجنّة ، قال تعالى : {خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ } [آل عمران : 198] .

وقد ذهب بعض المفسّرين الى أنّ الأنعام الأربعة مع أنّها لم تنزل من مكان أعلى إلى الأرض ، فأنّ مقدّمات توفير متطلبات حياتها وتربيتها والتي هي قطرات المطر وأشعة الشمس هي التي تنزل من الأعلى إلى الأرض .

وورد تفسير رابع لهذه العبارة هو أنّ كلّ الموجودات كانت من البداية موجودة في خزائن علم وقدرة الباريء عزّوجلّ ، أي في علم الغيب ، ثمّ انتقلت من الغيب إلى الشهادة أي إلى (الظهور) ، ولهذا أطلقوا على هذا الإنتقال عبارة (الإنزال) كما ورد ذلك في الآية (21) في سورة الحجر : {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} [الحجر : 21] (3) .

لكنّ التّفسير الأوّل أكثر مناسبة من غيره ، رغم عدم وجود أي تعارض بين هذه التفاسير ، بل من الممكن أن تصب جميعها في نفس المفهوم والمعنى .

وورد عن أمير المؤمنين(عليه السلام) حديث في تفسير هذه الآية جاء فيه : «إنزاله ذلك خلقه إباه» أي أن إنزال تلك الأزواج الثمانية من الأنعام يعني خلقها من قبل الله .

ظاهر الحديث يشير إلى التّفسير الأوّل ، لأنّ الله سبحانه وتعالى هو خالق الخلق ، وله المقام الأسمى والأرفع .

وعلى أية حال ، فرغم أنّ الأنعام المذكورة قليلا ما يستفاد منها اليوم في عمليات النقل وحمل الأثقال ، لكنّها تقوم بمنافع مهمّة اُخرى يزداد ويتسع حجم الإحتياج إليها يوماً بعد آخر ، لأنّها تغطي اليوم الجانب الأعظم من احتياجات الإنسان الغذائية كالحليب واللحوم ، إضافة إلى أصوافها وجلودها التي كانت منذ السابق وحتى يومنا هذا تستخدم في صناعة الألبسة وغيرها من الأُمور التي يحتاج إليها الإنسان ، حتى أنّ أحد المنابع المالية المهمّة بيد الدول الكبيرة في العالم يأتي عن طريق تربيه وتكثير هذه الحيوانات .

ثمّ تتطرق الآيات إلى حلقة اُخرى من حلقات خلق الله ، وهي عملية نمو الجنين إذ تقول الآية : {يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقاً من بعد خلق في ظلمات ثلاث} .

يتضح أنّ المقصود من (خلقاً من بعد خلق) هو الخلق المتكرر والمستمر ، وليس الخلق مرتين فقط .

«يخلقكم» : فعل مضارع يعطي معنى الإستمرارية ، وهو هنا بمثابة إشارة قصيرة ذات معان عميقة إلى التحولات العجيبة والصور المختلفة التي تطرأ على الجنين في مراحل وجوده المختلفة في بطن الأُم . وطبقاً لأقوال علماء علم الأجنّة فإنّ عملية خلق ونمو الجنين في بطن الأُمّ تعدّ من أعجب وأدقّ صور خلق الباريء عزّوجلّ ، ونادراً ما نلاحظ أنّ المطلعين على دقائق هذه القضايا لا تلهج ألسنتهم بحمد الخالق وثنائه .

وقوله (ظلمات ثلاث)إشارة إلى ظلمة بطن الأمّ وظلمة الرحم وظلمة المشيمة (الكيس الخاص الذي يستقر فيه الجنين) التي هي في الحقيقة ثلاثة أغلفة سميكة تغطي الجنين .

فالمصورون ـ الآن ـ بحاجة إلى ضوء ساطع ونور من أجل التصوير ، أمّا خالق الإنسان فيخطط في تلك الظلمة بشكل عجيب ويصور بشكل يدهش العقول ، ويمدّه بأسباب العيش في مكان لا يمكن لأحد أن يوصل إليه رزقه الذي هو في أمسّ الحاجة إليه للنمو .

الإمام الحسين(عليه السلام) سيد الشهداء يقول في دعائه المعروف بدعاء عرفه ، الذي يعدّ دورة دراسية كاملة وعالية في التوحيد ، يقول عند استعراضه للنعم التي منّ بها الباري عزّوجلّ عليه : «وابتدعت خلقي من مني يمنى ، ثمّ أسكنتني في ظلمات ثلاث : بين لحم وجلد ودم لم تشهدني خلقي ، ولم تجعل إليّ من أمري ثمّ أخرجتني إلى الدنيا تامّاً سويّاً»(4) .

(ممّا يذكر أنّنا قد تطرقنا إلى عجائب خلق الجنين ومراحل خلقه في ذيل الآية (6) من سورة آل عمران وفي ذيل الآية (5) من سورة الحج) .

وفي نهاية الآية ، بعد ذكر الحلقات التوحيدية الثلاث الخاصة بخلق الإنسان والأنعام ومراحل خلق الجنين ، يقول الباريء عزّوجلّ : {ذلكم الله ربّكم له الملك لا إله إلاّ هو فأنى تصرفون} .

فأحياناً يصل الإنسان بعد مشاهدته لهذه الأثار التوحيدية العظيمة إلى مقام الشهود . ثمّ أشار تعالى إلى ذاته القدسية ، حيث يقول : {ذلكم الله ربّكم} حقّاً لو كانت هناك عين بصيرة فيمكنها أن تراه إنّه وراء هذه الآثار . . . فعين الجسم ترى الآثار ، وعين القلب ترى خالق الآثار .

عبارتي «ربّكم» و «له الملك» تدلان في الحقيقة على حصر الربوبية بذاته الطاهرة المقدسة ، والذي اتضح بصورة جيدة في عبارة (لا إله إلا هو) فعندما يكون هو الخالق والمالك والمربي والحاكم لكلّ عالم الوجود ، فما هودور غيره في هذا العالم كي يستحق العبودية ؟!

وهنا تصرخ الآية بوجه مجموعة من النائمين والغافلين قائلة : (فأنى تصرفون) أي كيف ضللتم وانحرفتم عن سبيل التوحيد (5)؟

بعد ذكر هذه النعم الكبرة التي منّ بها الباريء عزّوجلّ على عباده ، تتطرق الآية التالية إلى مسألة الشكر والكفر ، وتناقش جوانب من هذه المسألة . وفي البداية تقول : {إن تكفروا فإنّ الله غني عنكم} اي إن تكفروا أو تشكروا فإنّ نتائجه تعود عليكم ، والله غني عنكم في حال كفركم وشكركم .

ثمّ تضيف ، إنّ غناه وعدم احتياجه لا يمنعان من أن تشكروا وتتجنبوا الكفر ، لأنّ التكليف إنّما هو لطف ونعمة إلهية ، نعم ، قال تعالى : {ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم} (6) .

وبعد استعراض هاتين النقطتين تستعرض الآية نقطة ثالثة وهي تحمل شخص مسؤولية أعماله ، لأن قضية التكليف لا يكتمل معناها بدون هذا الأمر ، قال تعالى : {ولا تزر وازرةٌ وزر اُخرى} .

ولأنّه لا معنى للتكليف إن لم يكن هناك عقاب وثواب ، فالآية تشير في المرحلة الرّابعة إلى قضية المعاد ، وتقول : {ثمّ إلى ربّكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم تعملون} .

ولكون مسألة الحساب والعقاب لا يمكن أن تتمّ ما لم يكن هناك إطلاع وعلم كاملين بالأسرار الخفية للإنسان ، تختتم الآية بالقول : {إنه عليم بذات الصدور} .

بهذا الشكل ، ومن خلال جمل قصار ، استعرضت فلسفة التكليف وخصوصياته ومسؤولية الإنسان ومسألة العقاب والجزاء والثواب . وهذه الآية جواب قاطع لمن يتولى المذهب الجبري ، الذي انتشر ـ ممّا يؤسف له ـ في صفوف بعض الطوائف الإسلامية ، لأنّ الآيات الكريمة تقول وبصراحة : {ولا يرضى لعباده الكفر} .

وهذا دليل واضح على أن إرادة الكفر لم تفرض على الكافرين (كما يقول بذلك أتباع المذهب الجبري) لأنّ من البديهي أنّ من لا يرتضي شيئاً لا يأتي به ، فهل يمكن أنّ تكون إرادة الله منفصلة عن رضاه؟ متعصبو المذهب الجبري يثيرون العجب عندما يعمدون إلى ستر هذه العبارة الواضحة من خلال حصر كلمة (العباد) بالمؤمنين أو المعصومين ، في حين أنّها كلمة ذات معنى مطلق وتشمل بصورة واضحة كلّ العباد ، نعم ، فالباري ، عزّوجلّ لا يرتضي الكفر لأحد من عباده ، مثلما يرتضي الشكر لكلّ عباده من دون أي استثناء (7) .

وهذه النقطة تلفت الإنتباه ، وهي أنّ أساس تحمّل كلّ إنسان لمسؤولية أعماله يعدّ من الأسس المنطقية والمسلم بها في كلّ الأديان السماوية (8) .

وبالطبع يمكن أحياناً أن يكون الإنسان مشتركاً في ذنوب الأُخرين ، وذلك عندما يكون مضطلعاً أو مساهمأ مع آخرين في تهيئة مقدمات أو أسس ذلك العمل ، كالذين يبتدعون البدع أو السنن الضالة ، في هذه الحالة تكون ذنوب أي شخص يرتكب تلك المحرمات في ذمة مسببها الرئيسي دون أن تقلل ذنوب ذلك الشخص الذي ارتكب الذنب (9) .

وقوله تعالى : {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} [الزمر : 8]

 

هل العلماء والجهلة متساوون ؟

الآيات السابقة تحدثت بالأدلة والبراهين عن توحيد ومعرفة الباريء عزّوجلّ ، وذلك من خلال عرض بعض الظواهر العظيمة له في الآفاق والأنفس ، أما آيات بحثنا فتتحدث في البداية عن التوحيد الفطري وتوضح أن ما يدركه الإنسان عن طريق العقل أوالفهم أو المطالعة في شؤون الخلق موجود بصورة فطرية في أعماقه ، وأنّه يظهر أثناء المشاكل وأعاصير الحوادث التي تعصف به ، ولكن هذا الإنسان الكثير النسيان يبتلى مرّة اُخرى بالغفلة والغرور فور ما تهدأ العواصف والمشاكل وتقول الآية الكريمة : {وإذا مسّ الإنسان ضر دعا ربّه منيباً إليه} ونادماً من ذنوبه وغفلته .

وعندما يمنّ الله على الإنسان بالنعم ينسى المشاكل والإبتلاءات السابقة التي دعا الله عزّوجلّ من أجل كشفها عنه ، قال تعالى : {ثم إذا خوله نعمة منه نسي ما كان يدعوا إليه من قبل}(10) .

إذ يجعل لله أنداداً وشركاء ويعمد إلى عبادتها ، ولا يكتفي بعبادتها بل يعمد ـ أيضاً ـ لإضلال وحرف الناس عن سبيل الله : {وجعل لله أنداداً ليضل عن سبيله} .

المقصود هنا من (الإنسان) هم الناس العاديون الذين لم يتربّوا في ظل إشعاعات أنوار تعاليم الأنبياء ، ولا يشمل هذا الكلام المؤمنين الذين يذكرون الله في السراء والضراء ويطلبون العون من لطفه دائماً .

المراد من (ضر) هنا كلّ أذى أو محنة أو ضرر يصيب الجسم أو الروح .

«خولناه» : من مادة (خول) على وزن (عمل) وتعني المراقبة المستمرة لشيء ما ، المراقبة والتوجّه الخاص يستلزم العطاء والبذل ، فقد استخدمت هنا بمعنى الهبة .

وقال البعض : إنّ (خول) على وزن (عمل) وتعني الخادم ، ولهذا فإنّ كلمة «خوله» تعني الخادم الذين وهب لصاحبه ، ثمّ استعملت في كافة أشكال هبة النعم بالتخويل .

والبعض الآخر قال : إنّها تعني الفخر والتباهي ، ولهذا فإنّ العبارة المذكورة أعلاه تعني حصول الإنسان على الفخر عن طريق منحه وهبته النعم (11) .

وبصورة عامة فإنّ هذه الجملة تعكس إضافة إلى العطاء والهبة ، اهتمام الباريء عزّوجلّ الخاصّ بعبده .

عبارة (منيباً إليه) تبيّن أنّ الإنسان في الحالات الصعبة يضع كافّة ستائر غروره وغفلته جانباً ، ويترك وراءه كلّ ما كان يعبده أو يتمسك به من دون الله ، ويعود إلى الباري ، عزّوجلّ ، ويستشفّ من مفهوم (الإنابة) هذه الحقيقة وهي أن مبدأ الانسان ومقصده وغايته هو الله تعالى .

«أنداد» : جمع (ند) على وزن (ضد) وتعني الشبيه والمثيل ، مع وجود بعض الإختلاف وهو أنّ (مثل) لها مفهوم واسع ، ولكن (ند) لها معنى واحد ، وهو المماثلة في الذات والجوهر .

عبارة (جعل) تبيّن أن تصورات وخيالات الإنسان تصنع مثيلا وشبيهاً لله ، الأمر الذي لا يمكن أن ينطبق مع الواقع .

وعبارة (ليضل عن سبيله) تبيّن أن الضالين المغرورين لا يقتنعون بإضلال أنفسهم ، وإنّما يعمدون لجر الآخرين إلى وادي الضلال .

وعلى أية حال ، فإنّ آيات القرآن المجيد أشارت ـ مرّات عديدة ـ إلى العلاقة الموجودة بين (التوحيد الفطري) و(الحوادث الصعبة في الحياة) كما عكست اضطراب الإنسان المغرور الذي يلجأ إلى الله ويوحده بإخلاص فور ما تعصف به العواصف والأعاصير ، وكيف أنّه ينسى الله ويعود إلى غروره ولجاجته فور هدوء العاصفة ليسير من جديد في طريق الشرك والضلال .

وما أكثر أمثال هؤلاء الأشخاص المتلونون ، وما أقل من ينقلب ويتغير عندما يمنّ الباريء عزّوجلّ عليه بالنصر والنعم والإستقرار .

نعم ، فأبسط نسمة هواء تمرّ على حوض ماء تجعل مياه مضطربة ، أمّا المحيط الهادي فإنّه لا يتأثر أبداً بأشدّ الأعاصير ولذا سمّي المحيط الهادي .

نهاية الآية تخاطب مثل أُولئك الأشخاص بلغة ملؤها التهديد الصريح والحازم والقاطع : {قل تمتع بكفرك قليلا إنّك من أصحاب النّار} .

فهل يمكن أن يكون لإنسان كهذا مصير أفضل من هذا ؟!

_______________________________

1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج11 ، ص464-472 .

2 ـ في قوله تعالى : (ثم جعل منها زوجها) محذوف تقديره (خلقكم من نفس واحدة خلقها ، ثمّ جعل منها زوجها) .

3 ـ تفسير الميزان; وروح المعاني ذيل آيات البحث .

4 ـ دعاء عرفة ، مصباح الزائر ، ابن طاووس .

5 ـ نلفت الإنتباه إلى أن (أنّى) تأتي أحياناً بمعنى (اين) وأحياناً اُخرى بمعنى(كيف) .

6 ـ وفق القراءات المشهورة ، فإن (يرضه) تقرأ بضم الهاء وبدون إشباع الضمير ، لأنّها كانت في الأصل (يرضاه) وقد أسقطت الألف بسبب الجزم وأصبحت (يرضه) والضمير فيها يعود على الشكر . ورغم أن كلمة (شكر) لم ترد من العبارة السابقة بصورة صريحة ، إلاّ أن عبارة (إن تشكروا) تدل عليها ، كما هو الحال بالنسبة إلى الضمير في (اعدلوا هو أقرب للتقوى) الذي يعود على العدالة .

7 ـ هناك بحث مفصل في ذيل الآية (5) من سورة إبراهيم ـ عن أهمية وفلسفة الشكر وعن مفهومها الحقيقي وأبعادها .

8 ـ بهذا الخصوص هناك بحث في ذيل الآية (15) من سورة الإسراء .

9 ـ هناك بحث بهذا الشأن في ذيل الآية (14) من سورة الأنعام .

10 ـ هناك اختلاف بين المفسّرين حول المعنى الذي تعطيه(ما) في عبارة (نسي ما كان يدعو إليه) البعض يعتقد أن (ما) موصولة تشير إلى (ضر) ولكون هذا المعنى هو الأنسب ، فقد قدم على المعاني الأخرى ، وقال البعض أيضاً : إن (ما) موصولة والمراد منها هو الله سبحانه وتعالى : ومجموعة أخرى قالت : إن (ما) مصدرية وتعني الدعاء ، وإمعان النظر في الآية (12) من سورة يونس : (وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعداً أو قائماً فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسّه) يبيّن أن هذه الآية شاهد على صحة المعنى الأوّل .

11 ـ يراجع (لسان العرب) و(مفردات الراغب) وتفسير (روح المعاني) .




وهو تفسير الآيات القرآنية على أساس الترتيب الزماني للآيات ، واعتبار الهجرة حدّاً زمنيّاً فاصلاً بين مرحلتين ، فكلُّ آيةٍ نزلت قبل الهجرة تُعتبر مكّيّة ، وكلّ آيةٍ نزلت بعد الهجرة فهي مدنيّة وإن كان مكان نزولها (مكّة) ، كالآيات التي نزلت على النبي حين كان في مكّة وقت الفتح ، فالمقياس هو الناحية الزمنيّة لا المكانيّة .

- المحكم هو الآيات التي معناها المقصود واضح لا يشتبه بالمعنى غير المقصود ، فيجب الايمان بمثل هذه الآيات والعمل بها.
- المتشابه هو الآيات التي لا تقصد ظواهرها ، ومعناها الحقيقي الذي يعبر عنه بـ«التأويل» لا يعلمه الا الله تعالى فيجب الايمان بمثل هذه الآيات ولكن لا يعمل بها.

النسخ في اللغة والقاموس هو بمعنى الإزالة والتغيير والتبديل والتحوير وابطال الشي‏ء ورفعه واقامة شي‏ء مقام شي‏ء، فيقال نسخت الشمس الظل : أي ازالته.
وتعريفه هو رفع حكم شرعي سابق بنص شرعي لا حق مع التراخي والزمان بينهما ، أي يكون بين الناسخ والمنسوخ زمن يكون المنسوخ ثابتا وملزما بحيث لو لم يكن النص الناسخ لاستمر العمل بالسابق وكان حكمه قائما .
وباختصار النسخ هو رفع الحكم الشرعي بخطاب قطعي للدلالة ومتأخر عنه أو هو بيان انتهاء امده والنسخ «جائز عقلا وواقع سمعا في شرائع ينسخ اللاحق منها السابق وفي شريعة واحدة» .