أقرأ أيضاً
التاريخ: 15-12-2019
1726
التاريخ: 2-10-2019
10181
التاريخ: 2-10-2019
1087
التاريخ: 16-12-2019
1024
|
ومن أهم مظاهر النهضة القومية المظهر الاجتماعي، فالشعب هو المعين الذي يزود الأمة برجالها الحاكمين، وساستها القادرين، وزعمائها المصلحين وعلمائها الأعلام، وكتابها المرشدين، وشعرائها المجيدين، ومهندسيها البارعين،
(2/195)
وأطبائها الأفذاذ، وهو ثروة معنوية عظيمة، وكنز ثمين؛ والشعب اليقظ الفطن المثقف، والحريص على منفعته هو الذي يوجه الأمة في مجموعها وجهة صحيحة نحو الرقي لا يسمح لأحد أن يعبث بمصالحه، أو يتغفله، أو يبرم أمرًا لا يرضيه. وللشعوب في أوربا مهابة عظيمة، يترضاها الزعماء والحكام والكتاب، ويسعى الكل جادين على إنهاضها ورقيها، فهي حصن الأمة حين الفزع، وقوتها التي ترهب بها أعداءها، لأن الشعب هو القوة العاملة الكادحة، وهو صاحب المنفعة المباشرة من رقي الأمة؛ ولقد تغيرت في القرن التاسع عشر عقلية الشعوب، ولم تعد ترضى الحكم المطلق، ولا أن تسام الخسف والهوان على يد حاكم مستبد، يمتص دماءها ويسخرها في سبيل شهواته وأطماعه، وطالبت جادة بالاشتراك في الحكم، وأن يؤخذ رأيها في كل صغيرة وكبيرة.
ولقد تأثرت مصر بهذه النزعة، ونعلم أن الثورة العرابية قد تطورت إلى المطالبة بالحكم النيابي ورفع الضيم عن الشعب، ولا ننسى حملة جمال الدين وصحبه علي إسماعيل، ثم علي توفيق، وقد رأينا كيف عم الفرح بلاد العرب والإسلام حين أعلنت تركيا الدستور في سنة 1908، جهر شاعر مثل إسماعيل صبري بأن مصر لا بد أن تنال مثل ما نالت تركيا، وناشد عباسًا أن يعطي مصر نصيبها في الحكم النيابي، وجاهد مصطفى كامل ومحمد فريد، ورجال الحزب الوطني في أن يمصروا التعليم ويحافظوا على اللغة العربية، وعلى مظاهر القومية في الثقافة كما رأينا آنفًا، وأسهم الشعراء والأدباء في الحث على ذلك.
ومن المظاهر التي استحقت العناية -عناية المصلحين، وعناية الأدباء- مشكلة الفقر بمصر، فقد تخلف عن عهود الإقطاع أن حظي فريق من المصريين بثروة عريضة، وغنى فاحش، وأنفقوا بسرف، وعربدوا بدون وعي، بينما سواد الأمة في فقر مدقع؛ قد تخلفت عدة مشكلات اجتماعية نتيجة هذا التفاوت بين الطبقات، فازداد الغني غنى، والفقير فقرًا. والفقر يفضي إلى التسول والتشرد، وارتكاب الجرائم، وضعف الصحة بين العمال والفلاحين وهم لا يملكون القدرة على العلاج، كما أن الفقر يحرم الأمة ثروة معنوية كبيرة تفيدها في نهضتها حيث لا يمكن الفقراء من التعليم ويظلون في جهل عميم، وكان من أوضح
(2/196)
المشكلات الاجتماعية: الأطفال المشردون، نتيجة لهذا، ونتيجة لجهل الطبقة الدنيا بتعاليم الإسلام، والإكثار من الزواج والطلاق، مع عدم قدرتهم المالية على تربية أولادهم. لذلك كثر الاهتمام بهؤلاء الأطفال الذين يعدون قذى في عين الأمة وسبة لمصر الغنية التي تنبت أرضها الذهب، والتي يبشم فيها فريق، حتى يسأم ويبعثر المال ذات اليمين وذات اليسار في سفه وطيش.
وكان حافظ إبراهيم قبل أن يدخل سجن الوظيفة شاعر مصر الاجتماعي الذي يأسى لما تعانيه من أدواء وعلل. وهو الذي ذاق مر الفقر، وكوي بنار الفاقة، وعرف ذل الحاجة، والبؤس، وكان متأثرًا بمبادئ الحزب الوطني الذي كان في أوجه حينذاك، والذي كان يهدف إلى نهضة الأمة في كل مرفق من مرافق الحياة، لا في السياسة فحسب، ولحافظ أكثر من قصيدة في وجوب العناية بهؤلاء الأطفال الذين إن أهملوا كانوا حربًا على الأمة في المستقبل، وصاروا عيارين، وسفاحين، وأفاقين، وعالة على المجتمع، يعاني منهم -وقد كبر معهم شرهم- أسوأ الأدواء وأضرها فتكا به.
قال حافظ في رعاية الطفل سنة 1910 قصيدته التي مطلعها:
شبحًا أرى ذاك طيف خيال ... لا بل فتاة بالعراء حيالي
أمست بمدرجة الخطوب فما لها ... راع هناك وما لها من والي
وقال في ملجأ رعاية الطفل سنة 1911 قصيدته التي مطلعها:
صفحة البرق أومضت في الغمام ... أم شهاب يشق جوف الظلام
وفيها يحث على الإحسان بقوله:
دعوة البائس المعذب سور ... يدفع الشر عن حياض الكرام
وهو حرب على البخيل وذي ... البغي وسيف على رقاب اللئام
وفيها يقول منوهًا بفضل الزكاة لمن يستحقها:
وعلمنا أن الزكاة سبيل الله ... قبل الصلاة قبل الصيام
خصها الله في الكتاب بذكر ... فهي ركن الأركان في الإسلام
(2/197)
بدأت مبدأ اليقين وظلت ... لحياة الشعوب خير قيام
لو وفى بالزكاة من جمع الدنيا ... وأهوى على اقتناء الحطام
ما شكا الجوع معدم أو تصدى ... لركوب الشرور والآثام
راكبًا رأسه طريدًا شريدًا ... لا يبال بشرعة أو ذمام
سائلًا عن وصية الله فيه ... آخذًا قوته بحد الحسام
ويقول في حفل أقامته جمعية رعاية الطفل سنة 1903، في محاورة بينه وبين مطران:
هذا صبي هائم ... تحت الظلام هيام حائر
أبلى الشقاء جديده ... وتقلمت منه الأظافر
فانظر إلى أسماله ... لم يبقَ منها ما يظاهر
ويقول في دعوة للإحسان سنة 1915، وفي الجمعية الخيرية 1916، وفي إعانة العميان 1916، وفي ملجأ الحرية 1919، ومن قوله في الجمعية الخيرية الإسلامية على لسان يتيم أوته الجمعية، وانتشلته من وهدة الفقر والجهل والتشرد:
قضيت عهد حداثتي ... ما بين ذل واغتراب
لم يغن عني بين مشرقها ... ومغربها اضطراب
صفرت يدي فخوى لها ... رأسي وجوفي والوطاب
لم يبقَ من أهلي سوى ... ذكر تناساه الصحاب
أمشي يرنحنى الأسى ... والبؤس ترنيح الشراب
ولا يكتفي بهذا في الحض على مساعدة الأطفال البائسين، والعمل على النهوض بهم، بل يأسى لما يلاقيه الشعب من غلاء، لا يكتوي به إلا ذوو المورد المحدود، والذين يكدحون في سبيل الرزق، وتتصبب جباههم عرقًا إبان العمل،
(2/198)
ولا يحس به من ورثوا المال الطائل وجاءهم هينًا لينًا؛ فبعثوه في يسر وسخاء غير آسفين ولا نادمين، ولا يحسون بغلاء، ولا تقف دون رغباتهم عقبات:
أيها المصلحون ضاق بنا العيش ... ولم تحسنوا عليه القياما
عزت السلعة الذليلة حتى ... بات مسح الحذاء خطبًا جسامًا
وغدا القوت في يد الناس كالياقوت ... حتى نوى الفقير الصياما
ويخال الرغيف في العيد بدرًا ... ويظن اللحوم لحمًا حرامًا
على أن حافظًا بعد ثورة سنة 1919 انصرف عن الشعر الاجتماعي إلا القليل كقوله في حفلة مدرسة للبنات، أو جمعية الطفل سنة 1928 قصيدة واحدة؛ صمت حافظ عن السياسة، وصمت عن وصف الطبيعة المصرية، وصمت حتى عن الشعر الاجتماعي الذي ظهرت فيه موهبته، والذي لا حرج عليه فيه أنه قاله. ولست أدري لصدوف حافظ عن الشعر الجيد الكريم الغرض في هذه الحقبة تعليلًا، إلا أن طاقة حافظ الشعرية قد نفدت وقريحته قد نضبت، وأنه قال ما قال سابقًا في فورة النفس، ثم ران عليها اليأس والخوف، وانصرفت لرثاء العظماء، وإلى إغفاءة طويلة لا تتنبه منها إلا في فترات متباعدة فتحس بها حولها. فيخرج قصيدة اجتماعية، أو مقطوعة سياسية يحاول إخفاءها جهده حتى لا يضار بشيء مع أنه لو نشرها ما أصابه ضر؛ إذ ليس فيها ما يخشى منه أشد الناس جبنًا. ولكنه على كل كان قبل الحرب العالمية الأولى، وفي خلالها شديد العناية بمصر وشئون مصر.
وليس كذلك شوقي، فهو قبل الحرب الأولى، كان حبيسًا في قفص من ذهب، مقيدًا بقيود القصر، وغل الحاشية، وأغلب الظن أنه لم يكن يدري عن حالة البؤس والفاقة التي يعانيها سواد الشعب شيئًا، وإذا درى فقلما يحس الألم أو يتذكرها، وليس له بها عهد، أو إدراك، ولا نسمع له في هذه الحقبة إلا ثلاث قصائد في الهلال الأحمر والصليب الأحمر، أولاها مواجهة إلى توفيق باشا وزوجته، وهي التي مطلعها:
(2/199)
جبريل هلل في السماء وكبر ... واكتب ثواب المسنين وسطر
سل للفقير على تكرمه الغنى ... وأطلب مزيدًا في الرخاء لموسر
ويتخذ القصيدة في الهلال الأحمر وسيلة لمدح توفيق وزوجته.
يا بنت إلهامي دعاء معظم ... لسماء عزك في البرية مكبر
توفيق مصر وأنت أصل في الندى ... وفتا كما الفرع الكريم العنصر
والقصيدة الثانية قيلت إبان حرب طرابلس. وفيها حث على مساعدة الهلال الأحمر ليعنى بجند الترك وأهل طرابلس، فليست منبعثة عن شجى لحال المنكوبين، وعن شعور صادق بآلامهم، ومطلعها:
يا قوم عثمان والدنيا مداولة ... تعاونوا بينكم يا قوم عثمانا
وفيها يقول في كلام عام لا يصور الفاقة والبؤس كما صورها حافظ:
البر من شعب الإيمان أفضلها ... لا يقبل الله دون البر إيمانًا
هلي ترحمون لعل الله يرحمكم ... باليد أهلًا، وبالصحراء جيرانا؟
وليس لشوقي في الواقع شعر في الفاقة والبؤس، والعناسة بالفقراء لا قبل الحرب العالمية الأولى أيام أن كان مقيدًا بتلك القيود التي أشرنا إليها ولا بعد أن عاد من المنفى، وذاق فيه مرارة الحرمان، ولكنه كان على كل حال -حتى وهو في منفاه- في يسر من العيش ورغد من الحياة، ولذلك لم يشعر بتلك الآلام المبرحة التي يعانيها الفقراء، ولم يألف المواطن الشعبية التي يغشاها هؤلاء الفقراء، والأطفال المشردون، وإنما كان يعيش بعد عودته من المنفى في بيئة محوطة بالعناية والثراء، وقليل الاختلاط بالناس، اللهم إلا طبقة من خلصاء الأصدقاء يزورهم في سيارته الفارهة الفخمة، ويمر بمواكب البؤس ومناظره، ولا يراها ولا يحس بها.
أما مطران فحاله كحال شوقي من حيث ندرة ما قال عن الفقراء، ووصف حالتهم البشعة، وحث الأمة على العناية بهم، وتتصفح ديوانه كله فلا تجد إلا
(2/200)
قصيدتين، وثلاث مقطوعات كل مقطوعة في بيتين، وليس فيها ذلك الشعور الذي تراءى في شعر حافظ، وأغلب الظن أنها متكلفة، طلب إليه أن يقول فقال. فمن تلك المقطوعات قوله:
حبب الفقر إلينا ... منك إحسان شريف
فاشتهى الموسر منعا ... أنه عاف يطوف
ويقول في قصيدة عنوانها "دعوة الخير"، وهي كلام عام، وحكم متداولة مما يقال عادة في هذه المناسبات:
مهما تقل ثمالة الموجود ... لا تحرم المسكين فطرة جود
فإذا حباك الله فضلًا واسعًا ... فالبخل خسران وشبه جحود
ويقول في ملجأ الحرية الذي أسسه الدكتور عبد العزيز نظمي والذي قال فيه حافظ سنة 1919، وبعض تلك الحكم، من غير تصوير، أو ألم أو عاطفة ما:
إن لم يصن خلق الصغار مهذب ... ماذا يحاول وازع ومُشَرِّع
أو لم يكن أدب السجايا رادعًا ... للناشئين هل العقوبة تردع
في كل قطر ملجأ أفما لنا ... في أن نجاري ما يُجارى مطمع
ما بالنا نجد الشعوب أمامنا ... وعلى مثال صنيعهم لا نصنع
هذا ما كان من شأن مطران، أما إسماعيل صبري فليس له في هذا الموضوع قليل أو كثير، وكأن مصر ليس بها فقراء معدمون، أحلاس مسغبة، وأَنَّى لصبري أن يصف الفاقة والبؤس وأهلهما، وقد عاش عيشة مترفة منعمة، وقد قال عنه الدكتور طه حسين في المقدمة التي صدر بها ديوانه: "وكيف السبيل لطالب من طلاب الأزهر، ومن طلاب الجامعة القديمة، شديد الحياء أن يتصل بهذا الرجل الأرستقراطي، الذي كان يشغل منصبًا رفيعًا من مناصب الدولة، ويلقب بلقب رفيع من ألقابها، ولا يجلس حيث كان يجلس الشعراء في هذه القهوة أو تلك، ولا يختلف إلى حيث يختلف الشعراء في هذا النادي أو ذاك"(1).
(2/201)
وترى محمد عبد المطلب يطرق باب هذه المشكلة في أربع قصائد، ثلاث منها في جمعية المواساة الإسلامية قال أولاها في سنة 1913 والثانية في سنة 1914، والثالثة في سنة 1928 أما القصيدة الرابعة فقالها في الحرب والغلا، سنة 1918 ونرى عبد المطلب في قصيدة المواساة الأولى يصف حالة الفقراء، وما يكابدون من جهد، وجوع، وعرى:
أسألت باكية الدياجي ما لها ... أرقت فأرّقت النجوم حيالها
باتت تكفكف بالوقار مدامعًا ... غلب الأسى عبراتها فأسالها
وينهى من هذا الوصف إلى الثناء على رجال المواساة، ثم إلى مدح عباس، وأم المحسنين، وأما القصيدة الثانية فقد جعلها قصة يصف فيها حال فقير بائس، له صبية صغار يتضاعفن من الجوع، ويتلوون من الألم، وله جار رب قصر مثيف:
قصر يشق السماء طولًا ... فخم الدعامات ذو منار
تلألا الكهرباء فيه ... تلألؤ الكُنّس الجواري
كأنه والظلام ساج ... من حوله آية النهار
ومركب النسيم يجري ... على الثرى آمن العثار
والمال يجبى إليه كيلًا ... فمن ضياع ومن عقار
ويرى هذا الفقير جاره الغني، في كل ليلة، وموائده عامرة بكل ما لذّ وطاب، والخدم يروحون ويجيئون:
فتلك في كفها حنيذ ... على إناء من النضار
وتلك من خلفها بصحن ... عليه حوت من البهار
وهذا الفقير يشتهي فتات المائدة ويدعو الله أن يعطف عليه هذا الجار، ولكن لا يستجاب دعاؤه، حتى يأتيه رجل المواساة بالبر والعطف والخير والمواساة.
وأما القصيدة الثالثة فليس فيها هذا التصوير البارع، وإنما هي كلام عام ومدح وثناء على عناية رجال المواساة بالبائسين من كل صنفٍ.
(2/202)
فكم صانوا كرامة ذي إباء ... وكم صاغوا لبائسة حجابا
وكم مدوا لذي الحاجات راحًا ... تسابق في تكرمها السحابا
وأما قصيدة الغلاء، فقد قالها بعد أن فتكت الحرب بما اختزن الناس وما بقي في مصر من خيرات أربع سنوات كاملة، وكان أشد الناس أَلَمًا من الغلاء هم موظفو الحكومة.
فوا رحمنا لابن الحكومة قوسه ... قلوع وهل يجرى سداد قلوع(2)
ومن حوله غرثى، عيال ونسوة ... طواها الطوى في ذلة وخضوع(3)
تقلب في جوع وعرى يؤودها ... وحسبك من عرى يؤود وجوع(4)
غلا كل شيء من مرافق عيشها ... على ربها من مُسْلَم ومبيع
وهذا شعور من اكتوى بنار الغلاء، عجزت موارده وقصرت يده عن تحقيق رغباته ورغبات أسرته الضرورية، فهو يصف حالة عاناها، وآلامًا قاساها، وقد كان موظفًا عفيفًا محدود الدخل، فهو وحافظ إبراهيم صادقان، وصدرا في وصف الغلاء عن شعور صحيح، أما إسماعيل صبري، أو شوقي، أو مطران، فلم يحسوا بعوز أو ضيق من خلال الحرب الأولى، ولذلك لم يخطر لهم ببال وصف الغلاء، وما فعله بالناس.
ولأحمد محرم أكثر من قصيدة في مشكلة الفقر والغنى، وهو قوي في شعوره، غني في تصويره، جريء في تعبيره، مما يدل على شدة انفعال، وفرط حساسية، استمع إليه يصف هذا البؤس في أحد مناظره:
رأيت الهول ينبعث ارتجالًا ... فتنصدع القلوب له بديها
رأيت البؤس يركض في جلود ... بجانبها النعيم ويحتميها
رأيت بيوت ساغبة تلوَّى ... كأمثال الأراقم ملء فيها
تريد طعامها والبيت مُقْو ... فتوشك أن تميل على بنيها
أنيلونا الديات ولا تكونوا ... كمن يردى النفوس ولا يديها
(2/203)
فهو يحمل الأغنياء وزر قتل الفقراء مسغبة وبؤسًا، وحق القاتل شرعًا أن يدفع الدية، وإلا كان مجرمًا وسفاحًا خارجًا على القانون، اللهم إلا إذا عامل البشر معاملة الحيوان الأعجم الذي يذبح، ولا دية له، وهو ينعى على أثرياء مصر أثرتهم. وعدم اهتمامهم بهؤلاء الذين يعولون، ويصرخون ويغولهم الفقر ويفتك بهم البؤس والشر:
أكل امرئ في مصر يسعى لنفسه ... ويطلب أسباب الحياة لذاته
طروب الأماني ما يبالي بشعبه ... وإن ملأ الدنيا ضجيج نعاته
إذا نال ما يرجوه لم يعنه امرؤ ... سواه ولم يحفل بطول شكاته
سواء عليه منزل السخط والرضا ... إذا نال ما يرضيه من شهواته
يرى الدين والدنيا ثراء يصيبه ... وقصرًا تزل العين عن شرفاته
وهكذا نرى بعض الشعراء قد تأثر لهذه المشكلة الاجتماعية، التي لا تزال جاثمة رابطة في مصر الغنية، لم تحل بعد، ولم يرعو ذوو اليسار من غيهم، أو يزدجروا عن شرهم أو يطامنوا من شهواتهم، أو يتستروا في مباذلهم، وتظاهرهم هذا بالفساد يعتصر قلوب مواطنيهم الذين لم يؤاتهم الحظ من ثراء مورث، أو مغتصب، فيزدادون عليهم حقدًا وموجدة، وتعمل في نفوسهم المبادئ الفتاكة عملها.
ولقد كان لدى شعراء الجيل الماضي حساسية، وإدراك لأدواء هذه الأمة، فقالوا، وحضوا على الإحسان، ونبهوا الأثرياء، ولكن ما لنا اليوم وقد خفت صوت الشعر والمشكلة لا تزال على أشدها، والغلاء الشنيع قد طوح بكل القيم؟ (5)
على أن مشكلة الفقر والغنى ليست المشكلة الوحيدة التي نظر إليها شعراء الجيل الماضي بل اهتموا بكل ظاهرة من ظواهر التقدم والرقى، وكل ما يحفز الأمة على أن تتبوأ مركزها العظيم الذي يليق بماضيها الحافل بالحضارات، واهتموا كذلك بكل بادرة من داء يوهن هذه الأمة، ويمكن لأعدائها، أو يضعف بنيها.
(2/204)
وقد اتجه الشعراء اتجاهات مختلفة في هذا، فشوقي عنى بمظاهر النهضة، والإشادة بها والحث عليها فيقول في الجامعة قصيدته الثانية(6) في سنة 1926 والتي مطلعها.
تاج البلاد تحية وسلام ... ردنك مصر وصحت الأحلام(7)
ويقول في الصحافة قصيدته التي مطلعها:
لكل زمان مضى آية ... وآية هذه الزمان الصحف(8)
ويقول في العلم والتعليم قصيدته التي مطلعها:
قم للمعلم وفه التبجيلا ... كاد المعلم أن يكون رسولًا
وكان شوقي حريصًا كل الحرص على أن تتبوأ مصر مكانة مرموقة في العالم، ولن يتأتى لها هذا إلا بالعلم والمال والقوة، ولذلك نراه يحث الشباب في غير ما قصيدة على العمل يوازن بينهم وبين نظائرهم من شباب أوربا، ويتساءل: هل نساير ركب الحضارة والمدينة والثقافة أو أننا لا نزال نعيش عالة على غيرنا في هذه الميادين؟
هل شايع النشء ركب المعلم واكتنفوا ... للعبقرية أحمالًا وأظعانًا
وساير المواكب المرموق متشحًا ... عز الحضارة أعلامًا وركبانًا
ولم يك شوقي يائسًا بل كان يتطلع دائمًا إلى مستقبل زاهر لمصر بفضل شبابها المتواثب، ولذلك قال:
تعلم ما استطعت لعل جيلا ... سيأتي يحدث العجب العجابا
وقد صدقت فراسته، وتحققت نبوءته، وجاء الجيل الذي يحاول أن يغير مجرى الحياة في مصر ويحيلها إلى دولة عظمى معتمدة على علمائها، واقتصادها، ومصانعها، وجيشها ويا ليت شوقي كان اليوم بيننا حين قال:
(2/205)
أرى طيارهم أوفى علينا ... وحلق فوق رؤسنا وحاما
وأنظر جيشهم من نصف قرن ... على أبصارنا ضرب الخياما
فلا أمناؤنا نقصوه رمحًا ... ولا خواننا زادوا حساما
ملكنا ما رن الدنيا بوقت ... فلم نحس على الدنيا القياما
طلعنا وهي مقبلة أسودًا ... ورحنا وهي مدبرة نعامًا
إذا لرأي العجب العجاب، ورأى سماء مصر قد ملأها نسورنا وصارت حرة لهم لا ينازعهم فيها منازع، ولرأي كيف تقوضت خيام المحتل الغشوم، وكيف ذاق مذلة الهزيمة في بور سعيد ورأى أننا فعلًا قد انتقصنا عتادة بل استولينا عليه وهو الذي يقدر بالملايين في قاعدة القناة، وأننا صرنا أمة يجيشها وقادتها وسلاحها، وأننا نصنع اليوم السلاح الذي نحمي به هذه الديار الحبيبة كما تحمى الأسود عرينها(9).
كان شوقي وهو الذي تعلم في باريس، وهو الذي أحب مصر كل الحب حريصًا على تسجيل مظاهر نهضتها، مشجعًا العاملين من بنيها ويرى أن مهمة الشاعر أن ينبه الغافل ويثبت العامل، ويشجع الرائد؛ فنراه يقول في بنك مصر وتأسيس داره أكثر من قصيدة ويقول في أول طيار مصري، وهكذا يتتبع مظاهر النهضة، ويثني على من يقوم لبلاده بمكرمة. ومن يضع في صرح بنائها حجرًا، وليس الأمر كما يصوره الدكتور طه حسين بأن هذا الشعر كالكراسي المذهبة التي لا يخلو منها حفل، وإنما صدر هذا الشعر عن عاطفة صادقة تهتز طربًا وتنتشى فرحًا لكل خطوة تخطوها الأمة في درج الحضارة بعد أن ظلت قرونًا تعاني الحرمان والجهل والمرض وشتى الآفات الوبيلة.
ويرى شوقي أن المرأة تستجيب لدعوة قاسم أمين، وتحاول جاهدة أن تمزق حجابها، وتحطم غل هذا الحجاب، ويقف أول الأمر مترددًا بين هواه في تشجيعها، وبين التقاليد الإسلامية التي يشجع عليها القصر فيقول قصيدته:
(2/206)
صداح يا ملك الكنا ... رويا أمير البلبل
يحذر المرأة عن عاقبة الحجاب، خشية أن تقع على النسور الجهل، وأن حرصه عليها هوى، ومن يحرز ثمينًا يبخل، وإن لم يستطع كتم هواه وأساه لما تعانيه المرأة:
بالبيت شعري يا أسـ ... ـير سج فودك أم خل
وحليف سهد أم تنا ... م الليل حتى ينجلي
بالرغم مني ما تعالـ ... ـج في النحاس المقفل
ويخاطب أم المحسنين حين عودتها من تركيا بعد غيبة طويلة بقوله:
ارفعي الستر وحيي بالجبين ... وأرينا فلق الصبح المبين
وقفي الهودج فينا ساعة ... نقتبس من نور أم المحسنين
ويقول في رثاء قاسم أمين مؤيدًا له في تردد:
ماذا رأيت من الحجاب وعسره ... فدعوتنا لترفق ويسار
رأيٌ بدا لك لم تجده مخالفًا ... ما في الكتاب وسنة المختار
إن الحجاب سماحة ويسارة ... لولا وحوش من الرجال ضواري
جهلوا حقيقته وحكمة حكمه ... فتجاوزوه إلى أذى وضِرار
ولكن موقف شوقي يتضح في هذه القضية بعد أن يعود من المنفى، ولم يعد يخشى الجهر برأيه أو لأنه برأي الحركة النسوية قد فاقت ما قدر لها، وأنه لا فائدة من معارضة المرأة، إذ صار السفور حقيقة واقعة، بانتشار مدارس البنات، والمساواة بينهن وبين البنين في التعليم، واختلاطهم بهم في قاعات الدرس وبالجامعة، وصادف هذا هوى منه فقال قصيدته التي مطلعها:
قم حي هذي النيراتِ ... حي الحسان الخيرات
ويقول مؤيدًا السفور:
(2/207)
خذ بالكتاب والحديث ... وسيرة السلف الثقاة
وارجع إلى سنن الخليـ ... ـفة واتبع نظم الحياة
هذا رسول الله لم ... ينقص حقوق المؤمنات
العلم كان شريعة ... لسائه المتفقهات
رضن التجارة والسيـ ... ـاسة والشئون الأخريات
ويقول شوقي في العمال يخضهم على أن يقتفوا أثر أسلافهم في تشييد مجد مصر، وإبداع الآيات الفنية الخالدة التي لا يزال العلم حتى اليوم ينظر إليها في دهشة وحيرة، وينصحهم بالتمسك بحسن الخلق، واجتناب الموبقات التي كثيرًا ما تنحدر إليها الطبقة العاملة فتودى بصحتها، وتفسد حياتها، إلى غير ذلك من القصائد التي تستحث طبقات الأمة المختلفة على النهوض وقليلًا ما عرج على الآفات الاجتماعية كالانتحار، والميسر، وفساد الشبان وغير ذلك، فمن هذا قوله في زواج الشيب بالبنات الصغيرات، وهذه في نظره جريمة.
المال حلل كل غير محلل ... حتى زواج الشيب بالأبكار
ويقول في انتحار الطلبة قصيدته التي مطلعها:
ناشئ في الورد في أيامه
... حسبه الله أبا الورد عثر
ويقول في حريق ميت غمر قصيدته التي مطلعها:
الله يحكم في المدائن والقرى ... يا ميت غمر خذي القضاء كما جرى(10)
ويكثر من إسداء النصح بمكارم الأخلاق، ولهذا باب سنوفيه حقه فيما بعد، وهو يجاري النهضة الدينية، ويقول أكثر من قصيدة في مدح الرسول عليه الصلاة والسلام، وفي العيد الهجري، وهكذا نرى شوقي لا يقل في شعوره الاجتماعي إزاء ظواهر النهوض في مصر عن أي شاعر آخر، إن لم يفقهم، ولا سيما في دينياته وأخلاقياته.
(2/208)
أما حافظ فكان أحرص على العناية بالأدواء والمصائب من عنايته بمظاهر الرقي والنهوض، وهذا يرجع إلى أن حافظًا قد لاقى في مبدأ حياته، كثيرًا من الصعاب، وخالط أنماط شتى من طبقات الشعب، وكان رجلًا كثير الأصدقاء، يجلس في المقهى، ويلتف حوله المعجبون بأدبه. وكان حافظ في تلك الحقبة الذهبية في حياته، أي قبل أن يعين في دار الكتب. وطنيًّا جياش العاطفة، حريصًا على الإسهام فيما يعود على بلاده بالرقي، يفرح إن أصابها خير، ويأسى إن أصابها ضر، يشب حريق ميت غمر فيقول قصيدة عامرة مطلعها:
سائلوا الليل عنهم والنهارا ... كيف باتت نساؤهم العذارى
وتشتد الحملة على اللغة العربية، ويحاربها أعداء البلاد، ويفتن بدعوتهم بعض من رقت مبادئهم الوطنية والدينية، فيقول قصيدته التي أتينا عليها فيما سبق والتي مطلعها:
رجعت لنفسي فاتهمت حصاتي ... وناديت قومي فاحتسبت حياتي
وينتهز فرصة زواج الشيخ علي يوسف صاحب المؤيد ببنت السيد عبد الخالق السادات والطعن في هذا الزواج بأنه غير متكافئ ويقول قصيدة طويلة، ينعى فيها على الشباب نفاقهم، وتقاعسهم عن المعالي، وتفرقهم شيعًا وأحزابًا.
وهذا يلوذ بقصر الأمير ... ويدعو إلى ظله الأرحب
وهذا يلوذ بقصر السفير ... ويطنب في ورده الأعذب
وهذا يصيح مع الصائحين ... على غير قصد ولا مأرب
ويصور في هذه القصيدة نفاق الناس، فقد حملوا على الشيخ علي يوسف حملة شعواء، ولكنهم ما لبثوا أن هنئوه، وتزاحموا على بابه، وأسدى إليه الخليفة وسامًا، ولذلك قال:
فيا أمة ضاق عين وصفها ... جنان المفوه والأخطب
تضيع الحقيقة ما بيننا ... ويصلي البريء مع المذنب
(2/209)
ويشتد الخلف بين المسلمين والأقباط في سنة 1911، وتكاد تكون فتنة عمياء، يغذيها المستعمر المحتل، فيناشد عباسًا أن يتدارك الأمر قبل أن تعم الفتنة، وتتصدع وحدة الأمة بقصيدته التي مطلعها.
كم تحت أذيال الظلام متيم ... دامي الفؤاد وليله لا يعلم
ويقول على لسان متصوف فاسق، يتظاهر بالصلاح والتقوى، وهو مغرم بغلام(11)، وفي أضرحة الأولياء والتمسح بها(12)، ولكن حافظًا لا ينسى بعض مظاهر النهضة، وإن لم يفض فيها أو يتتبعها كما تتبعها شوقي، فيقول في مشروع الجامعة قصيدتين، الأولى سنة 1907، والثانية 1908، ويقول في معاهد البنات المختلفة أكثر من قصيدة، ويرى النهضة الدينية تقوى في مصر ولا سيما بعد الحرب العالمية الأولى، ويفطن كثير من مصلحي هذه الأمة إلى أن الدين عصمة من المفاسد التي طغى طوفانها في خلال الحرب العالمية الأولى، وكثرة الواردين على مصر من مختلف الجيوش المحاربة، واستحكام الغلاء، وبيع الضمائر، والاستهتار بالتقاليد، وكانت ثورة عامة في العالم أجمع، عصفت بالقيم الخلقية، والفضائل السامية، واشتد طغيان المادة، والإقبال على لذاذات الحياة، وجرت مصر في هذا التيار، وخشي بعض المصلحين أن تنهار البقية الباقية من أخلاق الشباب، الذين ألفوا التسكع في الطرقات والتطرى كما يتطرى النساء، والتهجم على الحرمات، فأسست جمعية الشبان المسلمين في سنة 1927، وهرع الشباب إليها من كل صوب وحدب بالمئات والألوف وظلت سنوات تعمل على إيقاظ الشعور الديني في الناشئة، ذلك الشعور الذي حاول المستعمر الغاصب أن يقضي عليه منذ وطئت أقدامه أرض مصر، بفرضه التعليم باللغة الإنجليزية ومحاولة إضعاف اللغة العربية، لغة القرآن، وباهتمامه في برامجه بالتافه من المعلومات التي لا تقوم خلقًا، ولا تهذب نفسًا، ولا تنمي فضيلة، ولا تخلق رجالًا، وزاد الأمر سوءًا إهماله التعليم الديني في المدارس المدنية، فلم يعد
(2/210)
ثمة ما يغري الطالب بالتمسك بدينه، لا قدوة حسنة يراها، ولا تعليمًا يغذي مشاعره، ولا ضرورة تحفزه على دراسته.
إن أخوف ما كان يخافه المستعمرون هو قوة الشعور الديني الإسلامي في مصر؛ لأن الإسلام دين يدعو إلى العزة والكرامة، ويأبى على المسلم أن يخضع لسواه، وأن يذل، وفي يقظة الشعور الديني استرجاع لماضي هذه الأمة المجيدة، وتذكر لما كانت عليه من عظمة وعلم وقوة، وتحسر على ما آلت إليه من استعباد وخزي، ولذلك ترى هؤلاء المستعمرين الذين جابوا هذه البلاد مرات ومرات، وطمعوا فيها منذ القرن العاشر والحادي عشر إبان الحروب الصليبية، ولم يرد طوفانهم إلا قوة الإسلام وإخوته، يعملون جهودهم على إضعاف هذه الروح في نفوس شباب البلاد التي يحتلونها: لهذه الأسباب، ولأنهم يخشون كل الخشية أن يعم هذا الشعور بلدان الإسلام التي سعوا إلى احتلالها، وإضعاف قوتها، فتتحد فيما بينها، وتهب قوية فتية تطردهم من ديارهم شر طردة، وتستعيد مجدها السالف، وهي غنية بجيرانها، وتستطيع بما فيها من قوى مادية ومعنوية أن تغير مصير العالم إن أرادت. فظن المستعمرون لكل هذا، فأغرونا بزبرج الحضارة الأوربية، وأكثروا من مفاسدها فيما بيننا، بل عملوا على استيراد هذه المفاسد حتى تخف وطأة الدين والأخلاق على نفوسنا، ونستمرئ اللهو والعبث، وننسى ذلك الماضي الرائع، والجهاد الشاق، والصراع الطويل المراد بيننا وبينهم.
وقد ابتدأت هذه الحركة الدينية في الظهور منذ عهد جمال الدين الأفغاني على نحو ما فصلناه في الجزء الأول، وسار محمد عبده على نهجه، ودعا الشيخ رشيد رضا وحزبه إلى تنقية اليد من الخرافات والخزعبلات، والرجوع به إلى بساطته الأولى، وإلى تحبيبه للنفوس التي جهلته وجاء على أثره جماعة أرادوا أن يوفقوا بين الدين والحضارة الحديثة، وساروا في أول أمرهم برفق وحذر، وهم جماعة حزب الأمة وعلى رأسهم لطفي السيد، ولكنهم كانوا يخشون الطفرة فيما يرمون إليه من الأخذ بأسباب الحضارة الأوربية؛ لأن الأمة في ذلك الوقت لم تكن تتقبل هذا الأمر بيسر، ولهذا تجد لطفي السيد مع نزعته إلى الحضارة الأوربية
(2/211)
يحاول أن يظهر المحافظة على الدين، وقد أثنى على باحثة البادية في المقدمة التي صدر بها كتاب النسائيات؛ ولأن دعوتها إلى الإصلاح اتبعت سبيلا معتدلا في حدود الشرع(13)، وظهر كذلك مصطفى كامل يدعو إلى التمسك بالدين وتنمية شعوره في ذلك يقول: "قد يظن بعض الناس أن الدين ينافي الوطنية، أو أن الدعوة إلى الدين ليست من الوطنية في شيء، ولكني أرى أن الدين والوطنية توأمان، وأن الرجل الذي يتمكن الدين من فؤاده يحب وطنه حبًّا صادقًا ويفديه بروحه وما تملك يداه(14).
ودعا رجال الحزب الوطني للاحتفال لأول مرة بالعام الهجري(15)، وأقيم الاحتفال في غرة محرم سنة 1328 هـ -يناير 1910، وأنشد فيه حافظ قصيدته التي مطلعها:
لي فيك حين بدا سناك وأشرقا ... أمل سألت الله أن يتحققا
وكان المؤيد وصاحبه بجانب الحزب الوطني يعمل على تغذية الشعور الديني، والرجوع بالإسلام إلى نقاوته الأولى، وإلى مجده العظيم(16)، وثم تأتي الحرب العالمية الأولى، وما فيها من شدائد وأهوال، وما جلبته من جيوش عديدة أجنبية، مقيمة أو عابرة، وعملوا على إفساد الأخلاق، كما عمل الغلاء على إضعافها، وجاءت الثورة العاتية، وكان فيما أفادته يقظة المصريين إلى الدعوة الدينية بين شباب مصر كما ذكرت في أول هذا الموضوع لانتشار الانحلال الخلقي والاستهتار فيهم، نتيجة للتعليم العقيم الذي غذى به المصريون على يد الإنجليز، وكان من وراء هذا إنشاء عدة جمعيات دينية الشبان المسلمون والهداية الإسلامية برياسة السيد محمد الخضر، والتعارف الإسلامي، ثم الإخوان، وظهرت عدة جرائد ومجلات دينية، لا تهتم إلا بالدين، وتقوية العاطفة
(2/212)
في نفوس المسلمين في مشارق الأرض وأكبر فضل في تقوية الشعور الديني بمصر، وإيجاد صحافة قوية ممتازة تدافع عنه، وعن أمجاد المسلمين، إذ أنشأ "الزهراء" ثم "الفتح". وغذاهما كثير من الشعراء بالقصائد المنبعثة عن عاطفة دينية قوية مثل أحمد محرم، وصادق عرنوس وغيرهما.
وكان إيجاد هذه الجمعيات الدينية، والحصافة التي تدافع عن الدين رد فعل لموجة من الإلحاد سادت بعض المفكرين الذين تشبعوا بالعلم الغربي، وفتنوا به، ولم يعرفوا الإ سلام حق معرفته، أو عرفوا ورغبوا في الشهرة الزائفة بالخروج على إجماع الأمة، وأخذ هؤلاء ينشرون أبحاثًا وكتبًا ومقالات، تأثروا فيها بآراء المستشرقين، الذين لم يهتموا بدراسة اللغات الشرقية، والدين الإسلامي، إلا ليطعنوا فيها وليشككوا أهله في قيمته، وليكونوا عونًا لحكامهم المبالغين في الاستعمار، وقد خدع بعضهم، وظنوا أن هؤلاء المستشرقين يصدرون في أحكامهم عن نية خالصة ودراسة ممحصة وعقل سليم، فجاروهم في أفكارهم، وعملوا على نشرها بين مواطنيهم. ولكن العاطفة الدينية القوية المتمكنة من نفسية هذا الشعب والتي أيقظها المصلحون، ونبهوها إلى الخطر المحدق قد أحبطت مساعي هؤلاء المفتونين، وثارت في وجوههم وانبرى للرد عليهم كثير من الأعلام، وحملتهم على الصمت، ثم على الرجوع عن إلحادهم، بل إن منهم من اضطر إلى أن يتملق الجمهور، ويدرس هذا الدين دراسة جديدة، ويؤلف فيه وفي رجاله، وراج هذا النوع من الأدب، فأقبل على التأليف فيه من كان مجافيًا له، وصارت عندنا ثروة دينية في الأدب الحديث من مثل: على هامش السيرة للدكتور طه حسين والعبقريات للأستاذ العقاد، ومحمد، وأبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب لهيكل ومحمد وأهل الكهف لتوفيق الحكيم.
وقد اشتد الوعي الديني بين الطبقة المثقفة من الأمة وأقبلوا على ينابيعه الصافية ينهلون منها بشغف هربًا بنفوسهم من أدران الحضارة المادية التي اجتاحت مصر والشرق العربي وافدة من الغرب، وكثرت الكتب الدينية التي تقرب العقيدة وتبسطها من عامة الجمهور، كما صار للدين مجلات وصحافة
(2/213)
تدافع عنه وتتكلم باسمه، ومن ذلك مجلة "الأزهر"، "ونور الإسلام" التي يصدرها قسم الوعظ والإرشاد، ومجلة "الشبان المسلمين" وغيرها.
ولقد كانت مجلة "الرسالة" ومجلة "الثقافة" ميدانًا تعالج فيه المشكلات الاجتماعية على ضوء التعاليم الدينية، وممن برز في هذه الناحية وكان له قراء عديدون المرحوم مصطفى صادق الرافعي في مقالاته الاجتماعية بمجلة الرسالة التي جمعت فيما بعد في "وحي القلم"، كما أن هاتين المجلتين عنيتا "قبل أن تحتجبا" بإصدار عدد ممتاز كل عام خاص بالهجرة تعرض فيه أمجاد الإسلام عرضًا جديدًا، وتحشد له الأقلام القوية، وتدبج فيه البحوث الممتازة ولقد راع كل هذا المستعمرين والأجانب فحاولوا جهدهم أن يصرفوا شباب الأمة ومفكريها عن شئون دينهم أو التمسك به لكن الشعور الديني الآن وقد تغلغل في البيئات المثقفة التي بيدها مقدرات الأمة لن يضعف مرة ثانية إن شاء الله. وقد عنيت حكومة الثورة بشئون الدين فأنشئ المؤتمر الإسلامي والمجلس الأعلى للشئون الإسلامية بوزارة الأوقاف ويصدر صحيفة "منبر الإسلام" تكتب فيها الصفوة الممتازة من رجال الأمة، كما أسند تحرير مجلة الأزهر إلى الأستاذ الزيات صاحب الرسالة فجدد شبابها وأقبل على الكتابة فيها عدد من خيرة الباحثين، كما صار التعليم الديني إجباريًّا في المدارس حتى المدارس الأجنبية التي كانت فيما تمضى مباءة للتبشير، ومسخ شخصية المواطنين، وقد صار ملزمة بتعليم المسلمين الدين الإسلامي.
ولقد كان لهذه الحركة الدينية من بدء نشأتها حتى اليوم أثر قوي في الشعر الحديث، فمن قصائد تقال في مطلع العام الهجري، وتذكر المسلمين بماضيهم، وتراثهم، وتصور مآسيهم وتحثهم على المضي قدمًا في نهضتهم التي تغيظ أعداءهم، تجد مثل هذا الشعر عند حافظ إبراهيم، ومحمد عبد المطلب، وأحمد محرم، وحتى عند مطران الذي اضطر إلى مجاراة شعور الأمة في مستهل هذا القرن حين أخذت تحتفل بهذا العيد، وكانت عنه غافلة، واستمع إليه يقول في قصيدة في الهجرة وقد صار ذلك اليوم عيدًا رسميًّا من أعياد الدولة.
(2/214)
هل الهلال فحيوا طالع العيد ... حيوا البشير بتحقيق المواعيد
يأيها الرمز تستجلي العقول به ... لحكمة الله معنى غير محدود
أي مسلمي مصر إن الجد دينكم ... وبئيس ما قبل: شعب غير مجدود
طال التقاعس والأعوام عاجلة ... والعام ليس إذا ولى بمردود
ونرى شوقي يعارض نهج البردة والهمزية للبوصيري؛ ويكثر من ذكر الدين ومكارم الأخلاق في شعره، بل يؤلف ملحمة طويلة في جزء خاص هو "دول العرب وعظماء الإسلام" ويؤلف حافظ العمرية المشهورة، وعبد المطلب العلوية المشهورة، ويهيم بعض الشعراء بنظم الأناشيد الدينية فيؤلف حافظ نشيد الشبان المسلمين:
أعيدو مجدنا دنيا ودينا ... وذودوا عن تراث المسلمينا
فمن يعنو لغير الله فينا ... ونحن بنو الغزاة الفاتحينا
ويؤلف الرافعي نشيدًا قويًّا للشبان المسلمين يقول فيه:
يا شباب العالم المحمدي ... ينقص الكون شباب مهتدى
فأروه دينكم ليقتدي ... دين عقل وضمير ويد
ويعكف أحمد محرم على نظم "الإلياذة" الإسلامية، يصور فيها كفاح الرسول عليه السلام في سبيل الدين ونشره، ويتتبعه منذ الدعوة إلى وفاته ويقف أمام غزواته وسراياه وقفات طويلة يصور بطولته عليه السلام، وبطولة أصحابه الذين أبلوا في الدفاع عنه كل بلاء.
ويقول محرم في النشيد الأول من الإلياذة الإسلامية:
املأ الأرض يا محمد نورا ... واغمر الناس حكمة والدهورا
حجبتك الغيوب سرًّا تجلى ... يكشف الحجب كلها والستورا
عب سيل الفساد في كل ودا ... فتدفق عليه حتى يفورا
(2/215)
جئت ترمى عبابه بعباب ... راح يطوي سيوله والبحورا
ينقذ العالم الغريق ويحمي ... أمم الأرض أن تذوق الثبورا
ويقول في الإلياذة شهداء بدر:
طف بالمصارع واستمع نجواها ... والثم بأفياء الجنان ثراها
ضاع الشذا القدسي في جنباتها ... فانشق وصف للمؤمنين شذاها
حلل يروع جلالها ومنازل ... من نور رب العالمين سناها
ضمت حماة الحق ما عرف امرؤ ... عزا لهم من دونه أوجاها
ويقول عن نزول الملائكة في غزوة بدر يقاتلون الكفار دون أن يروهم:
الله أرسل في السماء كتيبة ... تهفو كما هفت البروق اللمح
تهى مجلجلة، تلهب أعين ... منها، وتقذف بالعواصف أجنح
للخيل حمحمة يراع لهولها ... صيد الفوارس والعتاق القرّح
حيزوم أقدم إنما هي كرة ... عجلى تجاذبك العتاق فتمرح
جبريل يضرب والملائك حوله ... صف ترض به الصفوف وترضح
وتبع خطى محرم في نظم الملاحم الإسلامية طائفة من الشعراء على تباين من منهجهم واختلاف في قدراتهم وخيالهم.
ومن هؤلاء عامر بحيري في ملحمته "أمير الأنبياء" التي أنشأها عام 1952 وهي تتألف من ألف ومائتي بين تتضمن حياة النبي صلى الله عليه وسلم من لدن مولده إلى انتقاله للرفيق الأعلى. وفيها يقول واصفًا نزول الملائكة للقتال في صفوف المسلمين في غزوة بدر:
ولاحت في الفضا خيل تحمحم ... وصاح كبيرهم حيزوم أقدم
فيالله من مدد رهيب ... أضاء شعاعه والنقع مظلم
ملائكة السماء على جياد ... من الأنوار نازلة تدمدم
(2/216)
ترى المتقاتلين ولا يراها ... من الكفار من أجد فيحجم
تقدمت الصفوف بلا توان ... تقتل أو تمثل أو تحطم
إذا الإسلام أقبل ناصروه ... إلى الأعداء بالعزم المصمم
رأوهم ميتين بلا سيوف ... كذلك الخوف إن الخوف يلجم
فلم يرموهم والله رام ... ولا هزموا وجند الله يهزم
وقد طرق الشعر الملحمي غير هذين الشاعرين: كامل أمين، واليعربي محمد توفيق.
واهتم شعراء الجيل الماضي بالمفاسد الاجتماعية التي تناقض تعاليم الدين الإسلامي، وحاولوا الإصلاح والإرشاد ما استطاعوا، كما حاولوا تصوير هذه المفاسد وبشاعتها وضررها البليغ على الأمة. وهكذا نرى عندنا شعرًا يصح أن نسميه شعرًا دينيًّا، منبعثًا عن شعور وعاطفة.
ولم تكن مشكلة الفقر، أو النهضة الدينية، أو حجاب المرأة وسفورها هي وحدها المشكلات الاجتماعية التي أثارت شعراءنا، ولكننا نجد بجانب هذا نهضة اقتصادية في البلاد فإن المستعمر لم يدخل مصر إلا لأنها مدينة للأجانب، وكانت مصر حتى ثورة سنة 1919 بقرة حلوبًا لها؛ لا تدري من أمر اقتصادياتها شيئًا، يفد عليها كل أفاق لفظه وطنه، وضاق به، فيثري في بضع سنوات، ويصير من أصحاب الحول والطول في البلاد، ونحن نعيش كالسائمة لا نعرف كيف نستغل خيرات بلادنا، بل نبيعها بثمن بخس دراهم معدودات، ولا كيف نتعامل مع أوربا إلا عن طريق هؤلاء الأجانب، وعمت شركاتهم البلاد، واحتكرت منابع الخير فيها، وما علينا إلا أن ندفع لهم بسخاء ثمن النور والماء، والركوب وغيرها، وممن تنبه لذلك الخطر السيد عبد الله نديم، وقد عرفت في الجزء الأول كيف صور جشع هؤلاء الأجانب، وغبنهم الفاحش للفلاح الساذج، ثم جاء مصطفى كامل وحاول أن ينبه المصريون إلى أن الواجب يقتضي منهم أن ينهضوا باستقلال البلاد اقتصاديًّا، ولكن التعليم الذي فرضه علينا المستعمر لم يكن يهيئ لنا رجالًا صالحين للنهوض بهذا الأمر، حتى شبت الثورة ونهض فريق من رجال
(2/217)
الاقتصاد وعلى رأسهم طلعت حرب، وأبطلوا ذلك السحر الذي نفثه الإنجليز في عقولنا بأننا لا نصلح للأعمال المالية، ولا تصلح بلادنا لنسج القطن، ولا الصوف ولا الحرير، وبأنه لا يوثق بمصري، فهو كسلان، مرتش، مهمل، حتى فقدنا الثقة بأنفسنا، وتحطمت آمالنا. جاء هؤلاء الرجال وبرهنوا على أن إنجلترا كاذبة، وتود أن نظل في ظلام دامس، تستنزف دماءنا، وتهيئ لأبنائها حياة رغيدة في وطنهم، ولو قتلنا الجوع، وأثقل ظهورنا الدين، فأسسنا "بنك مصر" وشركاته العديدة، التي شملت مختلف النواحي الاقتصادية، وكان نجاح هذه المؤسسة وبمؤسسيها. ومن يرجع إلى خطاب سعد زغلول في الجمعية التشريعية(17) في مارس 1907، وكيف بين قوة تلك القبضة الأجنبية على مقدرات البلاد الاقتصادية، وأن التعليم في مصر لا بد أن يكون بلغة أجنبية، حتى يستطيع أبناء مصر أن يجدوا عملًا في بلادهم، أدرك مدى ما وصلت إليه مصر وحالتها الاقتصادية من احتلال شنيع واستغلال بشع، وأدرك عظم المسرة التي خامرت نفوس بنيها حين تقدم بعضهم ليشق طريقه، وطريق بلاده في عالم المال، وقد ظل وطننا يعاني عنتَ الشركات الاقتصادية العظيمة التي وثبناها في الربع الثاني من هذا القرن، وبعد ثورة 23 يوليو سنة 1952، وليس الضرر في وجود الشركات الأجنبية ورءوس الأموال الغربية، فإن بلادنا ما زالت في حاجة شديدة إلى هذه الأموال لكثرة ما بها من مشروعات ضخمة تحتاج إلى أموال طائلة وتهدف من ورائها إلى تصنيع البلاد وتقويتها، وزيادة دخل أفرادها، ورفع مستوى معيشتهم، وإنما كان الضرر كامنًا في كثرة الامتيازات التي تمتعت بها هذه الشركات الأجنبية وإعفائها من الضرائب، وعدم عنايتها بتدريب المصريين، وحرصها على إرسال أرباحها إلى خارج مصر. وقد نظم كل هذا الآن كما نهضت شركات مصرية كثيرة يسهم فيها الأجانب بأموالهم.
(2/218)
وقد تبين لرجال الثورة المباركة أن رءوس الأموال الأجنبية بمصر تحارب الإصلاح والسير بالوطن قدمًا إلى الأمام، وتتعاون مع الاستعمار وتتخذ مؤسساتها أوكارًا للجاسوسية والخيانة والغدر. فعمدت حكومة الثورة بعد الاعتداء الثلاثي على قناة السويس إلى تأميم كثير من المؤسسات والمصارف الأجنبية، واشترتها الحكومة حتى تتخلص من نير الاقتصاد الأجنبي.
واهتمت حكومة الثورة بتصنيع مصر حتى تستقل بشئونها الاقتصادية ولا تظل عالة على سواها، ورأت أن الاستقلال أكبر دعامة للاقتصاد السياسي، وأن الصناعة بمصر في أشد الحاجة إلى توجيه نحو ما نحتاج إليه الأمة في نهضتها، فلا تترك مرتجلة أو خاضعة لنزوات رءوس الأموال، ولذلك أنشأت الجمهورية العربية المتحدة "القطاع العام" في الصناعة، وأممت كثيرًا من المنشآت الصناعية الكبرى، وأسهمت بالنصف في بعضها حتى تضمن التوجيه والإشراف. ومن أهم المشروعات الصناعية الكبرى التي تمت فعلًا توليد الكهرباء من "خزان أسوان" الذي ظل معطلًا أمدًا طويلًا تقف دون تحقيقه أهواء مغرضة، ومن ذلك مصنع "الحديد والصلب" ليمد مصر بالصناعات الثقيلة، والتوسع في استنباط النفط "البترول" وتصنيعه. ويقف على رأس هذه المشروعات "السد العالي" الذي نرجو أن يغير مجرى الحياة في الجمهورية العربية وفي الشرق العربي كله.
كما قامت حكومة الثورة بعدة إجراءات ثورية قوية تحاول بها أن تحقق الرخاء للمجموع، وأن يعيش المواطنون حياة ليس فيها هذا التفاوت المزري بين الطبقات، فسنت القوانين الاشتراكية في يوليو 1961؛ لتقريب هذه الفوارق، وإنعاش أكبر عدد من الأمة، وفي ديسمبر 1961 حرمت ملكية الأرض بالجمهورية العربية على غير المصريين ووزعت الأرض التي كان يملكها الأجانب على صغار الفلاحين؛ وبذلك أنقذت الثروة الوطنية في مجالات الزراعة والصناعة والتجارة من أيدي المحتكرين والمرتزقة من الأجانب والمستغلين من المصريين وهو إجراء حاسم كان عرب مصر يحلمون به من زمن طويل حتى يستطيعوا أن
(2/219)
يعيشوا أحرارًا في بلادهم غير خاضعين لهذه الأغلال الاقتصادية، وغير مقيدين في تصرفاتهم الوطنية.
فلا عجب إذن حين نرى شعراءنا نقيض بهم العاطفة فيقولون في "بنك مصر"، وفي مشروع القرش، وفي أول سرب من طياري مصر، وفي طليعة الملاحة المصرية، وفي مصنع النسيج بالمحلة، وغير ذلك من مظاهر النهضة الاقتصادية، والتي هي من أكبر دعائم الاستقلال، فقد كانت هذه الحقبة مليئة بعوامل اليقظة والرقي في كل ميدان من ميادين الحياة في السياسة، والاجتماع، والقومية بمظاهرها العديدة، وقد سجل الشعراء كل هذه المظاهر في شعرهم يترجمون به عما يختلج في صدور الأمة، ويطلبون المزيد منها لأنهم نصبوا أنفسهم في مقام الهداة والمرشدين، وقادة الفكر المصلحين، ويصدرون فيه عاطفة غالبًا، وعن تكلف أحيانًا، وقد تعدوا الكلام في هذه المظاهر إلى رثاء عظماء الأمة في كل نواحي نشاطها، سواء كانوا رجال سياسة، أو دين، أو صحافة، أو إصلاح، أو اقتصاد، حتى صار شعرهم وثيقة تاريخية، وصورة لعصرهم الذين عاشوا فيه.
وقد لا يرضى عن ذلك أصحاب المدرسة الجديدة، ولكنهم على الرغم منهم اضطروا إلى مشاركة الأمة في عواطفها، وإلى تغذية هذه العاطفة، وقد لا يكون هذا النوع من الشعر جاريًا على نمط الشعر الغربي الحديث، ولكنا أمة لها ظروفها الخاصة، وفي يده نهضة عامة شاملة، وفي أمس الحاجة إلى من يشجع المكافحين في سبيل مجدها أحياء، ويجعلهم مثلًا طيبًا لمن بعدهم أمواتًا.
كنت أود أن أسوق نماذج على كل لون من ألوان الحياة الاجتماعية، وأن أتعقب الشعراء واحدًا واحدًا كما فعلت في الشعر السياسي، بيد أنني أوثر هنا أن أكتفي بهذا التعميم، مرجئًا الأمثلة إلى حين الكلام عن الشعراء، وحسبنا أن نعرف الخطوط العريضة للعوامل الاجتماعية المؤثرة في الشعر الحديث، وهي لا تقل في قوة تأثيرها عن العامل السياسي بل ربما فاقته؛ لأن الأمة كانت حقًّا في مسيس الحاجة إلى الإصلاح الاجتماعي بعد أن طالبت هجعتها، وعمل المستعمر على أن تظل في تلك الهجعة.
(2/220)
__________
(1) انظر مقدمة ديوان صبري ص9.
(2) قوس قلوع: تنقلت حين النزع فتقلب.
(3) غرثى: جياع.
(4) يؤودها: يبلغ منها الجهد والمشقة.
(5) لقد تغير الوضع بعد ثورة 23 يوليو 1952 وقامت حكومة الثورة بعدة إصلاحات جذرية لمعالجة هذه المشكلة وتلافي التفاوت الشنيع بين الطبقات كان من أهمها قانون الإصلاح الزراعي، والقضاء على الإقطاع والرأسمالية والاحتكارية وتأميم الشركات الكبرى، والسير في طريق الاشتراكية المبنية على الكفاية والعدالة الاجتماعية.
(6) وتلك غير قصيدته الأولى التي قالها يوم أن وضع عباس الحجر الأساسي
للجامعة، انظر الشوقيات ج1 ص 158.
(7)الشوقيات ج4 ص2.
(8) الشوقيات جـ ص 165.
(9) في خطبة الرئيس جمال عبد الناصر احتفالًا بعيد النصر في 23 ديسمبر 1961 قرر زيادة ثلاث فرق كاملة العدة والعتاد في الجيش المصري حتى يكون اعتمادنا على أنفسنا في كل أمورنا الحربية.
(10) شبت المنار في ميت غمر يوم الخميس أول مايو سنة 1902، وبقيت تأكل ما تأتي عليه في هذه المدينة حتى يوم 8 مايو، وهلك في هذا الحريق خلق كثير وتسابق الناس لمساعدة أهلها، وحثت الصحف على التبرع، وأسهم الشعراء في ذلك بشعرهم، وهذا هو السر في تسجيل الحادث لفظاعته، ولاهتمام الصحافة به.
(11) ج1 ص160 ديوان حافظ.
(12) ج1 ص318.
(13) راجع النسائيات، مطبعة الجريدة، القاهرة 1910 ص50.
(14)مصطفى كامل لعبد الرحمن الرافعي 146، 423.
(15) راجع محمد فريد لعبد الرحمن الرافعي ص138.
(16) راجع تراجم شرقية وغربية لهيكل ص53.
(17)راجع ص43 وما بعدها في هذا الكتاب.
دلَّت كلمة (نقد) في المعجمات العربية على تمييز الدراهم وإخراج الزائف منها ، ولذلك شبه العرب الناقد بالصيرفي ؛ فكما يستطيع الصيرفي أن يميّز الدرهم الصحيح من الزائف كذلك يستطيع الناقد أن يميز النص الجيد من الرديء. وكان قدامة بن جعفر قد عرف النقد بأنه : ( علم تخليص جيد الشعر من رديئه ) . والنقد عند العرب صناعة وعلم لابد للناقد من التمكن من أدواته ؛ ولعل أول من أشار الى ذلك ابن سلَّام الجمحي عندما قال : (وللشعر صناعة يعرف أهل العلم بها كسائر أصناف العلم والصناعات ). وقد أوضح هذا المفهوم ابن رشيق القيرواني عندما قال : ( وقد يميّز الشعر من لا يقوله كالبزّاز يميز من الثياب ما لا ينسجه والصيرفي من الدنانير مالم يسبكه ولا ضَرَبه ) . |
جاء في معجمات العربية دلالات عدة لكلمة ( عروُض ) .منها الطريق في عرض الجبل ، والناقة التي لم تروَّض ، وحاجز في الخيمة يعترض بين منزل الرجال ومنزل النساء، وقد وردت معان غير ما ذكرت في لغة هذه الكلمة ومشتقاتها . وإن أقرب التفسيرات لمصطلح (العروض) ما اعتمد قول الخليل نفسه : ( والعرُوض عروض الشعر لأن الشعر يعرض عليه ويجمع أعاريض وهو فواصل الأنصاف والعروض تؤنث والتذكير جائز ) . وقد وضع الخليل بن أحمد الفراهيدي للبيت الشعري خمسة عشر بحراً هي : (الطويل ، والبسيط ، والكامل ، والمديد ، والمضارع ، والمجتث ، والهزج ، والرجز ، والرمل ، والوافر ، والمقتضب ، والمنسرح ، والسريع ، والخفيف ، والمتقارب) . وتدارك الأخفش فيما بعد بحر (المتدارك) لتتم بذلك ستة عشر بحراً . |
الحديث في السيّر والتراجم يتناول جانباً من الأدب العربي عامراً بالحياة، نابضاً بالقوة، وإن هذا اللون من الدراسة يصل أدبنا بتاريخ الحضارة العربية، وتيارات الفكر العربية والنفسية العربية، لأنه صورة للتجربة الصادقة الحية التي أخذنا نتلمس مظاهرها المختلفة في أدبنا عامة، وإننا من خلال تناول سيّر وتراجم الأدباء والشعراء والكتّاب نحاول أن ننفذ إلى جانب من تلك التجربة الحية، ونضع مفهوماً أوسع لمهمة الأدب؛ ذلك لأن الأشخاص الذين يصلوننا بأنفسهم وتجاربهم هم الذين ينيرون أمامنا الماضي والمستقبل. |
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
مكتبة أمّ البنين النسويّة تصدر العدد 212 من مجلّة رياض الزهراء (عليها السلام)
|
|
|