أقرأ أيضاً
التاريخ: 23-5-2019
3631
التاريخ: 6-5-2019
5392
التاريخ: 8-5-2019
12446
التاريخ: 26-7-2019
4700
|
قال تعالى : { وسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً ويَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (163) وإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ ولَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164) فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (165) فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ} [الأعراف : 163 - 166] .
ابتدأ سبحانه بخبر آخر من أخبار بني إسرائيل ، فقال مخاطبا لنبيه : {واسألهم} أي : استخبرهم يا محمد ، وهو سؤال توبيخ وتقريع ، لا سؤال استفهام {عن القرية التي كانت حاضرة البحر} أي : مجاورة البحر ، وقريبة من البحر على شاطئ البحر ، وهي إيلة عن ابن عباس . وقيل : هي مدين عنه أيضا . وقيل : طبرية عن الزهري {إذ يعدون في السبت} أي : يظلمون فيه بصيد السمك ، ويتجاوزون الحد في أمر السبت {إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا} أي : ظاهرة على وجه الماء ، عن ابن عباس . وقيل : متتابعة ، عن الضحاك .
وقيل : رافعة رؤوسها . قال الحسن : كانت تشرع إلى أبوابها مثل الكباش البيض ، لأنها كانت آمنة يومئذ .
{ويوم لا يسبتون لا تأتيهم} أي : ويوم لا يكون السبت ، كانت تغوص في الماء . واختلف في أنهم كيف اصطادوا ، فقيل : إنهم ألقوا الشبكة في الماء يوم السبت ، حتى كان يقع فيها السمك ، ثم كانوا لا يخرجون الشبكة من الماء إلى يوم الأحد ، وهذا تسبب محظور . وفي رواية عكرمة ، عن ابن عباس : اتخذوا الحياض ، فكانوا يسوقون الحيتان إليها ، ولا يمكنها الخروج منها ، فيأخذونها يوم الأحد ، وقيل : إنهم اصطادوها وتناولوها باليد في يوم السبت ، عن الحسن {كذلك نبلوهم} أي : مثل ذلك الاختبار الشديد نختبرهم {بما كانوا يفسقون} أي :
بفسقهم وعصيانهم ، وعلى المعنى الآخر لا تأتيهم الحيتان مثل ذلك الإتيان الذي كان منها يوم السبت ، ثم استأنف فقال : نبلوهم .
{وإذ قالت أمة} أي : جماعة {منهم} أي : من بني إسرائيل الذين لم يصطادوا ، وكانوا ثلاث فرق : فرقة قانصة (2) ، وفرقة ساكتة ، وفرقة واعظة ، فقال الساكتون للواعظين ، والناهين : {لم تعظون قوما الله مهلكهم} أي : يهلكهم الله ، ولم يقولوا ذلك كراهية لوعظهم ، ولكن لأياسهم عن أن يقبل أولئك القوم الوعظ ، فإن الأمر بالمعروف ، إنما يجب عند عدم الأياس من القبول ، عن الجبائي ، ومعناه : ما ينفع الوعظ ممن لا يقبل ، والله مهلكهم في الدنيا بمعصيتهم {أو معذبهم عذابا شديدا} في الآخرة {قالوا} أي : قال الواعظون في جوابهم : (معذرة إلى ربكم) معناه : موعظتنا إياهم معذرة إلى الله ، وتأدية لفرضه في النهي عن المنكر ، لئلا يقول لنا : لم لم تعظوهم {ولعلهم} بالوعظ {يتقون} ويرجعون .
- {فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (165) فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ} [الأعراف : 165 - 166] .
{فلما نسوا ما ذكروا به} أي : فلما ترك أهل هذه القرية ما ذكرهم الواعظون به ، ولم ينتهوا عن ارتكاب المعصية بصيد السمك {أنجينا الذين ينهون عن السوء} أي : خلصنا الذين ينهون عن المعصية {وأخذنا الذين ظلموا} أنفسهم {بعذاب بئيس} أي : شديد {بما كانوا يفسقون} أي : بفسقهم وذلك العذاب لحقهم قبل أن مسخوا قردة ، عن الجبائي . ولم يذكر حال الفرقة الثالثة ، هل كانت من الناجية ، أم من الهالكة .
وروي عن ابن عباس فيهم ثلاثة أقوال أحدها أنه نجت الفرقتان ، وهلكت الثالثة ، وبه قال السدي . والثاني : إنه هلكت الفرقتان ، ونجت الفرقة الناهية ، وبه قال ابن زيد ، وروي ذلك عن أبي عبد الله عليه السلام .
والثالث : التوقيف فيه روي عن عكرمة ، قال : دخلت على ابن عباس وبين يديه المصحف ، وهو يبكي ويقرأ هذه الآية ، ثم قال : قد علمت أن الله تعالى ، أهلك الذين اخذوا الحيتان ، وأنجى الذين نهوهم ، ولا أدري ما صنع بالذين لم ينهوهم ، ولم يواقعوا المعصية ، وهذه حالنا ، واختاره الجبائي . وقال الحسن : إنه نجا الفرقة الثالثة ، لأنه ليس شيء أبلغ في الأمر بالمعروف والوعظ ، من ذكر الوعيد ، وهم قد ذكروا الوعيد ، فقالوا : {الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا} وقال : قتل المؤمن أعظم والله من أكل الحيتان {فلما عتوا عما نهوا عنه} أي : عن ترك ما نهوا عنه ، يعني : لم يتركوا ما نهوا عنه ، وتمردوا في الفساد والجرأة على المعصية ، وأبوا أن يرجعوا عنها {قلنا لهم كونوا قردة} أي : جعلناهم قردة {خاسئين} مبعدين مطرودين ، وإنما ذكر {كن} ليدل على أنه سبحانه لا يمتنع عليه شيء . وأجاز الزجاج أن يكون قيل لهم ذلك بكلام سمعوه ، فيكون ذلك أبلغ في الآية النازلة بهم ، وحكي ذلك عن أبي الهذيل ، قال قتادة : صاروا قردة لها أذناب ، تعاوي ، بعد أن كانوا رجالا ونساء ، وقيل : إنهم بقوا ثلاثة أيام ينظر إليهم الناس ، ثم هلكوا ، ولم يتناسلوا عن ابن عباس ، قال : ولم يمكث مسخ فوق ثلاثة أيام . وقيل : عاشوا سبعة أيام ، ثم ماتوا ، عن مقاتل . وقيل : إنهم توالدوا عن الحسن . وليس بالوجه ، لأن من المعلوم أن القردة ليست من أولاد آدم ، كما أن الكلاب ليست منهم ، ووردت الرواية عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : (إن الله تعالى لم يمسخ شيئا فجعل له نسلا وعقبا) .
القصة : قيل كانت هذه القصة في زمن داود عليه السلام . وعن ابن عباس قال :
أمروا باليوم الذي أمرتم به يوم الجمعة ، فتركوه ، واختاروا يوم السبت ، فابتلوا به ، وحرم عليهم فيه الصيد ، وأمروا بتعظيمه ، فكانت الحيتان تأتيهم يوم السبت شرعا بيضا سمانا ، حتى لا يرى الماء من كثرتها ، فمكثوا كذلك ما شاء الله لا يصيدون ، ثم أتاهم الشيطان ، وقال : إنما نهيتم عن أخذها يوم السبت ، فاتخذوا الحياض والشبكات . فكانوا يسوقون الحيتان إليها يوم السبت ، ثم يأخذونها يوم الأحد . وعن ابن زيد قال : أخذ رجل منهم حوتا ، وربط في ذنبه خيطا ، وشده إلى الساحل ، ثم أخذه يوم الأحد وشواه ، فلاموه على ذلك ، فلما لم يأته العذاب أخذوا ذلك ، وأكلوه ، وباعوه ، وكانوا نحوا من اثني عشر ألفا ، فصار الناس ثلاث فرق ، على ما تقدم ذكره ، فاعتزلتهم الفرقة الناهية ، ولم تساكنهم ، فأصبحوا يوما ولم يخرج من العاصية أحد ، فنظروا فإذا هم قردة ، ففتحوا الباب ودخلوا ، فكانت القردة تعرفهم ، وهم لا يعرفونها ، فجعلت تبكي ، فإذا قالوا لهم : ألم ننهكم؟ قالت برؤوسها أن نعم . قال قتادة : صارت الشبان قردة ، والشيوخ خنازير .
_________________________________
1 . تفسير مجمع البيان ، ج4 ، ص 380-٣٨٤ .
2. القانصة : الصيادون .
{وسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ} . الخطاب موجه لمحمد (صلى الله عليه وآله) ، والقرية على حذف مضاف أي أهل القرية ، وضمير هم في واسألهم يعود إلى يهود المدينة الذين عاصروا رسول اللَّه (صلى الله عليه وآله) ، لأن هذه الآية نزلت في المدينة لمواجهة اليهود بها ، وضمت إلى السورة المكية تكملة للحديث عن اليهود ، ولم يذكر اللَّه سبحانه اسم القرية ، وقيل : انها كانت على شاطئ البحر الأحمر . .
وعلى أية حال فهي معروفة عند اليهود الذين سألهم النبي عنها ، أما الباعث على هذا السؤال فأمران : الأول أن يجابه النبي يهود المدينة بأنهم أنكروا نبوته ، وهم على يقين منها في أنفسهم ، لأنه قد أخبرهم عن الكثير من تاريخ أسلافهم ، ومنها قصة أهل القرية التي كانت حاضرة البحر ، مع العلم أنه لم يقرأها في كتاب ، ولم يسمعها من أحد ، فما هي - إذن - إلا وحي من اللَّه . . الأمر الثاني : أن ينبههم النبي إلى أنهم مكابرون معاندون للحق ، وان عنادهم هذا ليس غريبا عن طبيعة اليهود وسيرتهم ، وانما هو دأبهم وديدنهم منذ القديم .
والدليل قصة أهل تلك القرية التي أشار إليها بقوله : {إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً ويَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ} . وتتلخص هذه القصة بأن اللَّه حرم على اليهود العمل يوم السبت ، ومنه صيد الأسماك ، ولأجل أن يعاملهم اللَّه معاملة المختبر لحالهم ، ويظهرهم للملأ على حقيقتهم كان يرسل الحيتان إليهم بكثرة ظاهرة على وجه الماء يوم السبت ، ويمنعها عنهم في سائر الأيام ، فتوصل جماعة منهم إلى حيلة يحللون بها ما حرم اللَّه ، فحفروا أخاديد ، ومسارب تتصل بالماء تنفذ الحيتان منها إلى الأخاديد ، ولا تستطيع الخروج ، فكانوا يأخذونها يوم الأحد ويقولون ، نحن نصطاد يوم الأحد ، لا يوم السبت ، فأنكر عليهم جماعة منهم ، وزجروهم عن هذا الاحتيال والتلاعب بالدين ، وحذروهم من بأس اللَّه وعذابه فلم يتعظوا .
{وإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً} .
أي قالت جماعة من بني إسرائيل أيضا للجماعة الناهية عن المنكر ، قالت لهم :
ما الفائدة من نهيكم العصاة ، وتحذيركم إياهم ، ما داموا لا ينتهون ولا يحذرون ؟ ! دعوهم . . فان اللَّه سيستأصلهم عن آخرهم من هذه الأرض ، أو يبقيهم مع العذاب الأليم . فقالت جماعة الأمر بالمعروف : {مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ ولَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} .
أي نهيناهم عن المنكر ليعلم اللَّه انّا لهم مخالفون ، ولأعمالهم كارهون ، وفي الوقت نفسه نرجو أن ينتفعوا بنهينا ومواعظنا .
{فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ} . الضمير في نسوا وذكروا وظلموا ويفسقون عائد إلى العصاة ، وضمير ينهون عائد إلى جماعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ووصف اللَّه العصاة بالفاسقين لأنهم فسقوا عن أمر ربهم ، وبالظالمين لأن كل من فسق عن أمر ربه فهو ظالم لنفسه ، والمعنى ان اللَّه سبحانه أخذ المذنبين بذنبهم ، وأنجى المطيعين لطاعتهم .
{فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ} . عاقب سبحانه أولئك العصاة بمسخهم على هيئة القرود ، وفي رواية انهم بقوا كذلك ثلاثة أيام ، ثم هلكوا ، لأن الممسوخ لا يعيش أكثر من هذه المدة ، ولا يولد له شيء من جنسه .
وتسأل : لقد جرت سنة اللَّه أن لا يأخذ المذنب بذنبه في الدنيا بشهادة الوجدان والعيان بالإضافة إلى قوله تعالى : {ولَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ} [فاطر - 45] . فكيف عاقب أولئك الذين خرجوا عن طاعته في صيد الحيتان ، وترك الذين أجروا من دماء الأبرياء أنهرا في فلسطين وفيتنام ، ومن قبلهما الكونغو واليابان ، وغيرها كثير مما لا يبلغه الإحصاء ؟ .
الجواب : أجل ، لقد جرت سنته تعالى بأن لا يأخذ المذنب بذنبه في هذه الحياة ، مهما عظم . . ولو فعل لما تميز الخبيث من الطيب ، ولما كان لتارك الشر من فضل ، لأن الترك كان بدافع الخوف ، لا حبا بالخير ، وكرها للشر . .
ولكن حكمة اللَّه سبحانه قد اقتضت أن يستثني من هذه السنة معجزات الأنبياء ، واستجابة دعائهم في أهل المعصية والفساد لكرامتهم عند اللَّه ، ولإثبات نبوتهم .
وقال أهل التفاسير في تفسير الآية 78 من المائدة : {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وكانُوا يَعْتَدُونَ} .
قالوا : ان داود ( عليه السلام ) لعن أهل أيلة من بني إسرائيل لما اعتدوا واصطادوا في في سبتهم ، وقال : اللهم ألبسهم اللعنة مثل الرداء ، فمسخهم اللَّه قردة خاسئين .
إذن ، فسبب مسخ الصيادين المحتالين هو دعاء النبي داود ، ولا نبي في هذا العصر يدعو على سفاكي الدماء ، وناهبي مقدرات الشعوب . . ومهما يكن ، فنحن نؤمن بعدل اللَّه ، وبأن الحق لا يذهب عنده هدرا ، وان الإنسان مجزي بأعماله ، مهما طال الزمن ، وانما يعجل من يخاف الفوت .
____________________________
1. تفسير الكاشف ، ج4 ، ص 410-412 .
قوله تعالى : ﴿وأسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت﴾ إلى آخر الآية .
أي أسأل بني إسرائيل عن حال أهل القرية ﴿التي كانت حاضرة البحر﴾ أي قريبة منه مشرفة عليه من حضر الأمر إذا أشرف عليه وشهده ﴿إذ يعدون﴾ ويتجاوزون حدود ما أمر الله به في أمر ﴿السبت﴾ وتعظيمه وترك الصيد فيه ﴿إذ تأتيهم حيتانهم﴾ والسمك الذي في ناحيتهم ﴿يوم سبتهم شرعا﴾ جمع شارع وهو الظاهر البين ﴿ويوم لا يسبتون لا تأتيهم﴾ أي إن تجاوزهم عن حدود ما أمر به الله كان إذ كانت الحيتان تأتيهم شرعا يوم منعوا من الصيد وأمروا بالسبت ، وأما إذا مضى اليوم وأبيح لهم الصيد وذلك غير يوم السبت فكان لا تأتيهم الحيتان وكان ذلك من بلاء الله وامتحانه ابتلاهم بذلك لشيوع الفسق بينهم فبعثهم الحرص على صيدها على مخالفة أمر الله سبحانه ، ولم يمنعهم تقوى عن التعدي ، ولذلك قال : ﴿كذلك نبلوهم﴾ أي نمتحنهم ﴿بما كانوا يفسقون﴾ .
قوله تعالى : ﴿وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قوما الله مهلكهم﴾ إلى آخر الآية ، إنما قالت هذه الأمة ما قالت ، لأمة أخرى منهم كانت تعظهم وتنهاهم عن مخالفة أمر الله في السبت .
فالتقدير : ﴿وإذ قالت أمة منهم لأمة أخرى كانت تعظهم﴾ حذف للإيجاز وظاهر كلامهم : ﴿لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا﴾ أنهم كانوا أهل تقوى يجتنبون مخالفة الأمر إلا أنهم تركوا نهيهم عن المنكر فخالطوهم وعاشروهم ولو كان هؤلاء اللائمون من المتعدين الفاسقين لوعظهم أولئك الملومون ، ولم يجيبوهم بمثل قولهم : معذرة إلى ربكم إلخ ، وأن المتعدين طغوا في تعديهم وتجاهروا في فسقهم فلم يكونوا لينتهوا بنهي ظاهرا غير أن الأمة التي كانت تعظهم لم ييأسوا من تأثير العظة فيهم ، وكانوا يرجون منهم الانتهاء لو استمروا في عظتهم ، ولا أقل من انتهاء بعضهم ولو بعض الانتهاء ، وليكون ذلك معذرة منهم إلى الله سبحانه بإظهار أنهم غير موافقين لهم في فسقهم منزجرون عن طغيانهم بالتمرد .
ولذلك أجابوا عن قولهم : ﴿لم تعظون﴾ إلخ ، بقولهم : ﴿معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون﴾ أي إنما نعظهم ليكون ذلك عذرا إلى ربكم ، ولأنا نرجو منهم أن يتقوا هذا العمل .
وفي قولهم : ﴿إلى ربكم﴾ حيث أضافوا الرب إلى اللائمين ولم يقولوا : إلى ربنا إشارة إلى أن التكليف بالعظة ليس مختصا بنا بل أنتم أيضا مثلنا يجب عليكم أن تعظوهم لأن ربكم لمكان ربوبيته يجب أن يعتذر إليه ، ويبذل الجهد في فراغ الذمة من تكاليفه والوظائف التي أحالها إلى عباده ، وأنتم مربوبون له كما نحن مربوبون فعليكم من التكاليف ما هو علينا .
قوله تعالى : ﴿فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء﴾ المراد بنسيانهم ما ذكروا انقطاع تأثير الذكر في نفوسهم وإن كانوا ذاكرين لنفس التذكر حقيقة فإنما الأخذ الإلهي مسبب عن الاستهانة بأمره والإعراض عن ذكره ، بل حقيقة النسيان بحسب الطبع مانع عن فعلية التكليف وحلول العقوبة .
فالإنسان يطوف عليه طائف من توفيق الله يذكره بتكاليف هامة إلهية ثم إن استقام وثبت ، وإن ترك الاستقامة ولم يزجره زاجر باطني ولا ردعه رادع نفساني عدا حدود الله بالمعصية غير أنه في بادئ أمره يتألم تألما باطنيا ويتحرج تحرجا قلبيا من ذلك ثم إذا عاد إليها ثانيا من غير توبة زادت صورة المعصية في نفسه تمكنا ، وضعف أثر التذكير وهان أمره ، وكلما عاد إليها وتكررت منه المخالفة زادت تلك قوة وهذه ضعفا حتى يزول أثر التذكير من أصله ، ساوى وجوده عدمه فلحق بالنسيان في عدم التأثير ، وهو المراد بقوله : ﴿فلما نسوا ما ذكروا﴾ أي زال أثره كأنه منسي زائل ، الصورة عن النفس .
وفي الآية دلالة على أن الناجين كانوا هم الناهين عن السوء فقط ، وقد أخذ الله الباقين ، وهم الذين يعدون في السبت والذين قالوا : ﴿لم تعظون﴾ إلخ وفيه دلالة على أن اللائمين كانوا مشاركين للعادين في ظلمهم وفسقهم حيث تركوا عظتهم ولم يهجروهم .
وفي الآية دلالة على سنة إلهية عامة ، وهي أن عدم ردع الظالمين عن ظلمهم بمنع ، وعظة إن لم يمكن المنع أو هجره إن لم تمكن العظة أو بطل تأثيرها ، مشاركة معهم في ظلمهم ، وأن الأخذ الإلهي الشديد كما يرصد الظالمين كذلك يرصد مشاركيهم في ظلمهم .
قوله تعالى : ﴿فلما عتوا عن ما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين﴾ العتو المبالغة في المعصية والقردة جمع القرد وهو الحيوان المعروف ، والخاسئ الطريد البعيد من خسأ الكلب إذا بعد .
وقوله : ﴿فلما عتوا عن ما نهوا عنه﴾ أي عن ترك ما نهوا عنه فإن العتو إنما يكون عن ترك المنهيات لا عن نفسها ، والباقي ظاهر .
___________________________
1. تفسير الميزان ، ج8 ، ص294-296 .
قصّة فيها عبرة :
في هذه الآيات يستعرض مشهدا آخر من تاريخ بني إسرائيل الزاخر بالحوادث ، وهو مشهد يرتبط بجماعة منهم كانوا يعيشون عند ساحل بحر. غاية ما في الأمر أن الخطاب موجه فيها إلى الرّسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ، فيقول له : اسأل يهود عصرك حول تلك الجماعة ، يعني جدّد هذه الخاطرة في أذهانهم عن طريق السؤال ليعتبروا بها ، ويجتنبوا المصير والعقاب الذي ينتظرهم بسبب طغيانهم وتعنتهم.
إنّ هذه القصّة ـ كما أشير إليها في الأحاديث الإسلامية ـ ترتبط بجماعة من بني إسرائيل كانوا يعيشون عند ساحل أحد البحار (والظاهر أنّه ساحل البحر الأحمر المجاور لفلسطين) في ميناء يسمى بميناء «أيلة» (والذي يسمى الآن بميناء ايلات) وقد أمرهم الله تعالى على سبيل الاختبار والامتحان أن يعطّلوا صيد الأسماك في يوم السبت ، ولكنّهم خالفوا هذا التعليم ، فأصيبوا بعقوبة موجعة مؤلمة نقرأ شرحها في هذه الآيات.
في البداية تقول الآية : {وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ}. أي اسأل يهود عصرك عن قضية القرية التي كانت تعيش على ساحل البحر.
ثمّ تقول : وذكّرهم كيف أنّهم تجاوزوا ـ في يوم السبت ـ القانون الإلهي {إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ} لأنّ يوم السبت كان يوم عطلتهم ، وكان عليهم أن يكفوا فيه عن الكسب ، وعن صيد السمك ويشتغلوا بالعبادة ، ولكنّهم تجاهلوا هذا الأمر.
ثمّ يشرح القرآن العدوان المذكور بالعبادة التالية : {إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً} فالأسماك كانت تظهر على سطح الماء في يوم السبت ، بينما كانت تختفي في غيره من الأيّام.
و «السبت» في اللغة تعني تعطيل العمل للاستراحة ، وما نقرؤه في سورة النبأ (وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً) أشارة ـ كذلك ـ إلى هذا الموضوع ، وسمّى «يوم السبت» بهذا الاسم لأنّ الأعمال العادية والمشاغل كانت تتعطل في هذا اليوم ، ثمّ بقي هذا الاسم لهذا اليوم علما له.
ومن البديهي أنّ صيد الأسماك يشكّل لدى سكنة ساحل البحر مورد كسبهم وتغذيتهم ، وكأنّ الأسماك بسبب تعطيل عملية الصيد في يوم السبت صارت تحس بنوع من الأمن من ناحية الصيادين ، فكانت تظهر على سطح الماء أفواجا أفواجاً ، بينما كانت تتوغل بعيدا في البحر في الأيّام الأخرى التي كان الصيّادون فيها يخرجون للصيد.
إنّ هذا الموضوع سواء كان له جانب طبيعي عادي أم كان له جانب استثنائي وإلهي ، كان وسيلة لامتحان واختبار هذه الجماعة ، لهذا يقول القرآن الكريم : وهكذا اختبرناهم بشيء يخالفونه ويعصون الأمر فيه {كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ}.
وجملة {بِما كانُوا يَفْسُقُونَ} إشارة إلى أنّ اختبارهم كان بما من شأنه أن يجذبهم ويدعوهم إلى نفسه ، وإلى المعصية والمخالفة ، وجميع الاختبارات كذلك ، لأن الاختبار يجب أن يبيّن مدى مقاومة الأشخاص أمام جاذبية المعاصي والذنوب.
عند ما واجهت هذه الجماعة من بني إسرائيل هذا الامتحان الكبير الذي كان متداخلا مع حياتهم تداخلا كاملا ، انقسموا إلى ثلاث فرق :
«الفريق الأوّل» وكانوا يشكّلون الأكثرية ، وهم الذين خالفوا هذا الأمر الإلهي.
«الفريق الثّاني» وكانوا على القاعدة يشكلون الأقلية ، وهم الذين قاموا ـ تجاة الفريق الأوّل بوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
«الفريق الثّالث» وهم الساكتون المحايدون الذين لم يوافقوا العصاة ، ولا قاموا بوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وفي الآية الثّانية من الآيات المبحوثة هنا يشرح الحوار الذي دار بين العصاة ، وبين الذين نهوهم عن ارتكاب هذه المخالفة فيقول : {وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً} (2) .
فأجابهم الآمرون بالمعروف الناهون عن المنكر : بأنّنا ننهى عن المنكر لأنّنا نؤدي واجبنا تجاه الله تعالى ، وحتى لا نكون مسئولين تجاهه ، هذا مضافا إلى أنّنا نأمل أن يؤثر كلامنا في قلوبهم ، ويكفوا عن طغيانهم وتعنتهم {قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}.
ويستفاد من الجملة الحاضرة أنّ هؤلاء الواعظين كانوا يفعلون ذلك بهدفين : الأوّل : أنّهم كانوا يعظون العصاة حتى يكونوا معذورين عند الله.
والآخر : عسى أن يؤثروا في نفوس العصاة ، ويفهم من هذا الكلام أنّهم حتى مع عدم احتمال التأثير ، فإنّهم كانوا لا يحجمون عن الوعظ والنصيحة في حين أن المعروف هو أن وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مشروطين باحتمال التأثير.
ولكن لا بدّ من الانتباه إلى أنّه ربّما يجب بيان الحقائق والوظائف الإلهية حتى مع عدم احتمال التأثير ، وذلك عند ما يكون عدم بيان الأحكام الإلهية ، وعدم إنكار المنكر سببا لتناسي وتنامي البدع ، وحينما يعدّ السكوت دليلا على الرضا والموافقة. ففي هذه الموارد يجب إظهار الحكم الإلهي في مكان حتى مع عدم تأثيره في العصاة والمذنبين.
إنّ هذه النقطة جديرة بالالتفات ، وهي أنّ الناهين عن المنكر كانوا يقولون : نحن نريد أن نكون معذورين عند (ربّكم) وكأنّ هذا إشارة إلى أنّكم أيضا مسئولون أمام الله ، وإنّ هذه الوظيفة ليست وظيفتنا فقط ، بل هي وظيفتكم تجاه ربّكم في الوقت ذاته .
ثمّ إنّ الآية اللاحقة تقول : وفي المآل غلبت عبادة الدنيا عليهم ، وتناسوا الأمر الإلهي ، وفي هذا الوقت نجينا الذين كانوا ينهون عن المنكر ، وعاقبنا الظالمين بعقاب أليم منهم بسبب فسقهم وعصيانهم {فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ} (3) .
ولا شك أنّ هذا النسيان ليس نسيانا حقيقيا غير موجب للعذر ، بل هو نوع من عدم الاكتراث والاعتناء بأمر الله ، وكأنّه قد نسي بالمرّة.
ثمّ يشرح العقوبات هكذا : {فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ} (4).
وواضح أن أمر «كونوا» هنا أمر تكويني مثل : {إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس : 28] .
__________________________
1. تفسير الأمثل ، ج4 ، ص 546-549 .
2. التعبير بـ «أمّة منهم» يكشف عن أن الفريق الثّاني كانوا أقلّ من العصاة ، لأنّه عبّر عنهم بلفظة «قوما» بدون كلمة منهم) وتقرأ في بعض الآيات أنّ عدد نفوس هذه المدينة كان ثمانين ألف وبضعة آلاف ، وقد ارتكب 70 ألفا منهم هذه المعصية (راجع تفسير البرهان ، المجلد الثّاني ، الصفحة 42).
3. بئيس مشتقة من مادة «بأس» يعني الشديد.
4. «عتوا» من مادة عتّو على وزن «غلوّ» بمعنى الامتناع عن طاعة أمر ، وما ذكره بعض المفسّرين من تفسيره بمعنى الامتناع فقط يخالف ما قاله أرباب اللغة.
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
قسم شؤون المعارف ينظم دورة عن آليات عمل الفهارس الفنية للموسوعات والكتب لملاكاته
|
|
|