أقرأ أيضاً
التاريخ: 27-6-2019
6457
التاريخ: 29-7-2019
2772
التاريخ: 1-6-2019
4045
التاريخ: 27-6-2019
6912
|
قال تعالى : {تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها ولَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ (101) وما وَجَدْنا لأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ} [الأعراف : 101-102] .
أخبر سبحانه عن أهل القرى التي ذكرها ، وقص خبرها ، فقال : {تلك القرى} والمخاطبة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم {نقص عليك من أنبائها} لتتفكر فيها ، وتخبر قومك بها ، ليتذكروا ، ويعتبروا ، ويحذروا عن الإصرار على مثل حال أولئك المغترين بطول الإمهال في النعم السابغة ، والمنن المتظاهرة {ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات} أي : الدلالات والحجج ، وإنما أضاف الرسل إليهم مع أنهم رسل الله ، لأن المرسل مالك الرسالة ، وقد ملك العباد الانتفاع بها ، والاهتداء بما فيها من البيان {فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل} معناه : فما أهلكناهم إلا وقد كان في معلومنا أنهم لا يؤمنون أبدا ، عن مجاهد ، قال : ويريد بقوله {من قبل} من قبل الهلاك وهو بمنزلة قوله : {ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه} . وقيل : معناه إن عتوهم في كفرهم ، وتمردهم فيه ، يحملهم على أن لا يتركوه إلى الإيمان ، فما كانوا ليؤمنوا بعد أن جاءتهم الرسل بالمعجزات ، بما كذبوا به من قبل رؤيتهم تلك البينات ، عن الحسن . وقيل : معناه ما كان هؤلاء الخلف ليؤمنوا بما كذب به أوائلهم من الأمم .
قال الأخفش : بما كذبوا معناه بتكذيبهم ، فجعل ما مصدرية .
{كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين} قيل : إن الله سبحانه شبه الكفر بالصدأ (2) ، لأنه يذهب عن القلوب بحلاوة الإيمان ، ونور الاسلام ، كما يذهب الصدأ بنور السيف ، وصفاء المرآة . ولما صاروا عند أمر الله لهم بالإيمان إلى الكفر ، جاز أن يضيف الله سبحانه الطبع إلى نفسه كما قال : {زادتهم رجسا إلى رجسهم} وإن كانت السورة لم تزدهم ذلك ، عن جعفر بن حرب ، والبلخي . ووجه التشبيه في الكاف ، ومعناه : إن دلالته على أنهم لا يؤمنون ، كالطبع علي قلوب الكافرين الذين في مثل صفتهم . وقيل : معناه كما دل الله لكم بالإخبار على أنهم لا يؤمنون ، فكذلك يدل للملائكة بالطبع على أنهم لا يؤمنون .
{وما وجدنا لأكثرهم} أي : ما وجدنا لأكثر المهلكين {من عهد} أي : من وفاء بعهد ، كما يقال : فلان لا عهد له ، أي : لا وفاء له بالعهد ، وليس بحافظ للعهد . ويجوز أن يكون المراد بهذا العهد : ما أودع الله العقول من وجوب شكر المنعم ، وطاعة المالك المحسن ، واجتناب القبائح . ويجوز أن يكون المراد به ما أخذ على المكلفين عنى ألسنة الأنبياء أن يعبدوه ، ولا يشركوا به شيئا ، وهو قول الحسن .
{وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين} اللام وإن للتأكيد ، والمعنى : وإنا وجدنا أكثرهم ناقضين للعهد ، مخلفين للوعد .
ويسأل فيقال : كيف {أكثرهم} وكلهم فسقة ، وكيف يجوز أن يكون كافر غير فاسق؟ والجواب : إنه قد يكون الكافر عدلا في دينه ، غير مرتكب لما يحرم في طريقته ، فعلى هذا يكون المعنى : وإن أكثرهم مع كفرهم ، فاسق في دينه ، غير لازم لمذهبه ، ناقض للعهد ، وقليل الوفاء بالوعد .
________________________________
1 . تفسير مجمع البيان ، ج4 ، ص 316-318 .
2 . صدأ الحديد والنحاس ونحوهما : وسخه .
{تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها} . تلك القرى إشارة إلى أهل القرى الخمس ، وهم قوم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب ، والخطاب في نقص عليك موجه إلى رسول اللَّه محمد (صلى الله عليه وآله) ، والقصد منه أن يخبر المسلمين بأحوال الغابرين ليعتبروا ويحذروا {ولَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ} .
ذكر الرازي ثلاثة وجوه لتفسير هذا المقطع من الآية ، وزاد الطبرسي رابعا ، ولم يرجحا وجها منها ، وتركا القارئ العادي في تيه ، مع ان المعنى واضح لا غموض فيه ، ويتلخص بأن أهل تلك القرى كانوا قبل أن يرسل اللَّه إليهم رسله على الشرك والضلال ، وانهم استمروا في شركهم وضلالهم بعد أن جاءتهم الرسل بالدلائل والمعجزات ، ولم تؤثر فيهم شيئا ، حتى كأن اللَّه لم يرسل إليهم بشيرا ونذيرا ، ويدل على هذا المعنى قوله تعالى : {كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ} ، والطبع هنا كناية عن قسوة قلوبهم ، وانها لا ترعوي عن ضلالها ، ولا يرجى خيرها .
{وما وَجَدْنا لأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ} . فلا يؤمنون بدين اللَّه ، ولا يلتزمون بشيء يمت إلى الإنسانية بصلة . . أجل ، لهم عهد واحد يلتزمون به ، ولا يحيدون عنه ، وهو اتباع المصالح والأهواء . {وإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ} . أي وانّا وجدنا أكثرهم منحرفين عن قصد السبيل .
__________________________
1. تفسير الكاشف ، ج4 ، ص 369-370 .
قوله تعالى : ﴿تلك القرى نقص عليك من أنبائها﴾ إلى آخر الآية تلخيص ثان لقصصهم المقصوصة سابقا بعد التلخيص الذي مر في قوله : ﴿وما أرسلنا في قرية من نبي﴾ إلى آخر الآيتين أو الآيات الثلاث .
والفرق بين التلخيصين أن الأول تلخيص من جهة صنع الله من أخذهم بالبأساء والضراء ثم تبديل السيئة حسنة ثم الأخذ بغتة وهم لا يشعرون ، والثاني تلخيص من جهة حالهم في أنفسهم قبال الدعوة الإلهية ، وهو أنهم وإن جاءتهم رسلهم بالبينات لكنهم لم يؤمنوا لتكذيبهم من قبل وما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل ، وهذا من طبع الله على قلوبهم .
وقوله : ﴿فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل﴾ ظاهر الآية أن قوله ﴿بما﴾ متعلق بقوله ﴿ليؤمنوا﴾ ولازم ذلك أن تكون ﴿ما﴾ موصولة ويؤيده قوله تعالى في موضع آخر ﴿فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل﴾ يونس : 74 فإنه أظهر في كون ﴿ما﴾ موصولة لمكان ضمير ﴿به﴾ ويؤول المعنى إلى أنهم كذبوا بما دعوا إليه أولا ثم لم يؤمنوا به عند الدعوة النبوية ثانيا .
ويؤيده ظاهر قوله ﴿فما كانوا ليؤمنوا﴾ فإن هذا التركيب يدل على نفي التهيؤ القبلي يقال : ما كنت لآتي فلانا ؛ و ما كنت لأكرم فلانا وقد فعل كذا أي لم يكن من شأني كذا ولم أكن بمتهيئ لكذا ، وفي التنزيل : ﴿ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب﴾ آل عمران : 179 ، أي كان في إرادته التمييز من قبل .
وقال تعالى : ﴿لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا﴾ النساء : 137 . ويؤيده أيضا قوله في الآية التالية :﴿وما وجدنا لأكثرهم من عهد وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين﴾ فإن ظاهر السياق أن هذه الآية معطوفة عطف تفسير على قوله : ﴿فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل﴾ فيتبين بها أنهم كانوا عهد إليهم بعهد ففسقوا عنه وكذبوا به حين عهد إليهم ثم إذا جاءتهم الرسل بالبينات كذبوهم ولم يؤمنوا بهم ، وما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل .
والآية أعني قوله : ﴿ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل﴾ مذيلة بقوله : ﴿وكذلك يطبع الله على قلوب الكافرين﴾ فدل ذلك على أن ما وصفه من مجيء الرسل بالبينات وعدم إيمانهم لتكذيبهم بذلك قبلا هو من مصاديق الطبع المذكور ، وحقيقته أن الله ثبت التكذيب في قلوبهم ومكنه من نفوسهم حتى إذا جاءتهم الرسل بالبينات لم يكن محل لقبول دعوتهم لكون المحل مشغولا بضده .
فتنطبق هاتان الآيتان بحسب المعنى على الآيتين الأوليين أعني قوله : وما أرسلنا في قرية من نبي إلا أخذنا أهلها إلى آخر الآيتين حيث تصفان سنة الله أنه يرسل آيات دالة على حقية أصول الدعوة من التوحيد وغيره بأخذهم بالبأساء والضراء ثم تبديل السيئة حسنة ثم يطبع على قلوبهم جزاء لجرمهم .
وعلى هذا فالمعنى في الآية : لقد جاءتهم رسلهم بالبينات لكنهم لما لم يؤمنوا بالآيات المرسلة إليهم الداعية لهم إلى التضرع إلى الله والشكر لإحسانه بل شكوا فيها بل حملوها على عادة الدهر وتصريف الأيام وتقليبها الإنسان من حال إلى حال فكذبوا بهذه الآيات ، واستقر التكذيب في قلوبهم فلما دعاهم الأنبياء إلى الدين الحق لم يؤمنوا بما كانوا يدعون إليه من الحق وبما كانوا يذكرونهم بها من الآيات لأنهم كذبوا بها من قبل وما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل فإن الله عز وجل طبع على قلوبهم فهم لا يسمعون .
فعدم إيمانهم أثر الطبع الإلهي ، والطبع أثر تكذيبهم بدلالة الابتلاء بالبأساء والضراء ثم تبديل السيئة حسنة ثانيا ، ومن الدليل عليه قوله : ﴿ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا وجاءتهم رسلهم بالبينات وما كانوا ليؤمنوا كذلك نجزي القوم المجرمين﴾ يونس : 13 ، وقوله : ﴿ثم بعثنا من بعده - يعني نوحا - رسلا إلى قومهم فجاءوهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل كذلك نطبع على قلوب المعتدين﴾ يونس : 74 ، وعلى هذا فقوله : ﴿فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل﴾ تفريع على قوله : ﴿ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات﴾ ، والمراد بما كذبوا به الآيات البينات التي ذكرتهم بها الأنبياء من آيات الآفاق والأنفس وما جاءوا به من الآيات المعجزة فالجميع آياته ، والمراد بتكذيبهم بها من قبل ، تكذيبهم بها من حيث دلالة عقولهم بمشاهدتها أنهم مربوبون لله لا رب سواه ، وبعدم إيمانهم ثانيا عدم إيمانهم بها حين يذكرهم بها الأنبياء .
فالمعنى فما كانوا ليؤمنوا بما يذكرهم به ويأتي به الأنبياء من الآيات التي كذبوا بها حين ذكرتهم بها عقولهم ، وأرسلها الله إليهم ليذكروا ويتضرعوا إليه ويشكروا له .
وعلى هذا فالمراد بالعهد في قوله في الآية التالية : ﴿وما وجدنا لأكثرهم من عهد وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين﴾ هو العهد الذي عهده الله سبحانه إليهم من طريق العقل بلسان الآيات : أن لا يعبدوا إلا إياه ، والمراد بالفسق خروجهم عن ذلك العهد بعدم الوفاء به .
ولهذا العهد تحقق سابق على هذا التحقق وهو أن الله سبحانه أخذه بعينه منهم حين خلقهم وسواهم بخلق أبيهم آدم وتسويته ثم جعله مثالا للإنسانية العامة فأسجد له الملائكة وأدخله الجنة ثم عهد إليه حين أمر بهبوطه الأرض أن يعبده هو وذريته ولا يشركوا به شيئا .
وقد قدر الله سبحانه هنالك ما قدر فهدى بحسب تقديره قوما ولم يهد آخرين ثم إذا وردوا الدنيا وأخذوا في سيرهم في مسير الحياة اهتدى الأولون ، وفسق عن عهده الآخرون حتى طبع الله على قلوبهم وحقت عليهم الضلالة في الدنيا بعد أعمالهم السيئة كما تقدم بيانه في تفسير قوله : ﴿كما بدأكم تعودون فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة الآية 30 من السورة .
فمعنى الآية على هذا : فما كانوا ليؤمنوا عند دعوة الأنبياء بما كذبوا به ولم يقبلوه عند أخذ العهد الأول ، وما وجدنا لأكثرهم من وفاء في الدنيا بالعهد الذي عهدناه هناك وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين خارجين عن حكم ذلك العهد .
فهذا معنى لكنه غير مناف للمعنى السابق فإن أحد المعنيين في طول الآخر وليسا بمتعارضين فإن تعين طريق الإنسان وغايته من سعادة وشقاوة بحسب القدر لا ينافي إمكان سعادته وشقاوته في الدنيا ، وإناطة تحقق كل منهما باختياره ذلك وانتخابه وللقوم في تفسير الآية أقوال أخر :
1- أن المراد بتكذيبهم من قبل ، تكذيبهم من حين مجيء الرسل إلى حين الإصرار والعناد وبقوله : ﴿فما كانوا ليؤمنوا﴾ إلخ ، كفرهم حين الإصرار ، والمعنى فما كانوا ليؤمنوا حين العناد بما كذبوا به من أول الدعوة إلى ذلك الحين ، وهذا وجه سخيف لا شاهد له من جهة اللفظ البتة .
2- أن المراد بتكذيبهم قبلا ، تكذيبهم بأصول الشرائع الإلهية التي لا يختلف في شيء منها كالتوحيد والمعاد ، ومسألة حسن العدل وقبح الظلم مثلا مما يستقل به العقل ، وبتكذيبهم بعدا تكذيبهم بتفاصيل الشرائع ، والمعنى فما كانوا ليؤمنوا بهذه الشرائع المفصلة وهي التي كذبوا بها قبلا إجمالا قبل الدعوة التفصيلية ، وفيه أنه خلاف ظاهر الآية فلا يقال للكفر بالله وبسائر ما ثبوته فطري عند العقل أنه تكذيب .
على أن ما تقدم من القرائن على خلافه يكذبه .
3- أن الآية على حد قوله تعالى : ﴿ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه﴾ فالمعنى : ما كانوا لو أهلكناهم ثم أحييناهم ليؤمنوا بما كذبوا به قبل إهلاكهم ، هذا .
وهو أسخف ما قيل في تفسير الآية .
4- أن ضمير ﴿كذبوا﴾ راجع إلى أسلافهم كما أن ضمير ﴿ليؤمنوا﴾ للأخلاف والمعنى : فما كانوا ليؤمنوا بما كذب به أسلافهم ، وفيه : أنه قول من غير دليل وظاهر سياق قوله : ﴿فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا﴾ أن مرجع الثلاثة جميعا واحد ، ومن الممكن أن يقرر هذا الوجه بما يرجع إلى الوجه الآتي .
5- أن الكلام مبني على أخذ عامة أهل القرى من أسلافهم وأخلافهم واحدا بعث إليه الرسل ، وهم مأخوذون كالشخص الواحد فيكون تكذيب الأسلاف لأنبيائهم تكذيبا من الأخلاف لهم ، وعدم إيمان الأخلاف أيضا عدم إيمان من الأسلاف وهذا كما يذكر القرآن أهل الكتاب وخاصة اليهود ثم يؤاخذ أخلافهم بما قدمته أيدي أسلافهم ، وتنسب إلى لاحقيهم مظالم سابقيهم في آيات كثيرة فيكون المعنى : هو ذا البشر منذ خلقوا إلى اليوم جاءتهم رسلهم بالبينات فما كان يؤمن آخرهم بما كذب به أولهم .
وفيه : أنه وإن كان في نفسه معنى صحيحا لكن السياق لا يلائمه فالكلام مسوق لبيان حال الأمم الغابرة كما يدل عليه قوله : ﴿تلك القرى نقص عليك من أنبائها﴾ ولو كانوا مأخوذين على نعت الوحدة الممتدة بامتداد أعصارهم حتى يكون لها أول وآخر وصدر وذيل تكفر بآخرها وذيلها بما كذبت به بأولها وصدرها كان من حق الكلام أن يدل على مثل هذا الاستمرار في قوله : ﴿جاءتهم رسلهم بالبينات﴾ فيقال : كانت تأتيهم رسلهم بالبينات أو ما يؤدي هذا المعنى لا بمثل قوله : ﴿جاءتهم﴾ الظاهر في اعتبار الدفعة والمرة فافهم ذلك .
وذلك كما في قوله تعالى : ﴿كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم فريقا كذبوا وفريقا يقتلون﴾ المائدة : 70 ، فمن المعلوم أنه ربما كان المكذبون غير القاتلين ، وقد نسب الجميع إلى مجتمع واحد لكن دل على استمرار مجيء الرسول ، ونظيره قوله : ﴿ذلك بأنه كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فقالوا أبشر يهدوننا فكفروا وتولوا واستغنى الله﴾ التغابن : 6 ، وكذا قوله في قصص الأنبياء بعد نوح : ﴿ثم بعثنا من بعده رسلا إلى قومهم فجاءوهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل﴾ يونس : 14 ، فإن مفاد قوله ﴿بعثنا من بعده رسلا إلى قومهم﴾ بعثنا كل رسول إلى قومه .
6- أن الباء في قوله : ﴿بما كذبوا﴾ سببية وما مصدرية ، والمراد بتكذيبهم من قبل ما اعتادوه من تكذيب الرسل أو كل حق واجههم ، والمعنى : فما كانوا ليؤمنوا بسبب التكذيب الذي تقدم منهم للرسل أو لكل حق ، بربهم .
وفيه : أنه محجوج بنظير الآية وهو قوله : ﴿فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل﴾ فإن وجود ضمير ﴿به﴾ فيه دليل على أن ما موصولة .
على أن ظاهر الآية أن الباء للتعدية ، و﴿بما﴾ متعلقة بقوله : ﴿ليؤمنوا﴾ على أنه بوجه راجع إلى الوجه الأول .
7 - أن المراد بما أشير إليه آخرا تكذيبهم الذي أسروه يوم الميثاق والمعنى : فما كانوا ليؤمنوا عند دعوة الأنبياء في الدنيا بما كذبوا به قبله يوم الميثاق .
وفيه : أنه معنى صحيح في نفسه غير أنه من البطن دون الظهر الذي عليه يدور التفسير ، والدليل عليه قوله بعده : ﴿كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين﴾ فإنه يصرح بأن عدم إيمانهم كذلك إنما كان بالطبع على قلوبهم ، وأن الله طبع على قلوبهم بتكذيبهم السابق فلم يؤمنوا به عند الدعوة اللاحقة ، والطبع لا يكون ابتدائيا في الدنيا بل لجرم سابق فيها ، وهذا أحسن شاهد على أن هذا التكذيب الذي أورث لهم الطبع على قلوبهم كان في الدنيا ثم الطبع أوجب لهم أن لا يؤمنوا بما كذبوا به من قبل .
وفي هذا المعنى آيات أخر تدل على أن الطبع والختم الإلهي إنما هو عن جرم سابق دنيوي ، وليس مجرد سبق التكذيب في الميثاق ينتج الطبع الابتدائي في الدنيا فإنه مما لا يليق به سبحانه البتة ، وقد قال : ﴿يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضل به إلا الفاسقين﴾ البقرة : 26 .
قوله تعالى : وما وجدنا لأكثرهم من عهد إلى آخر الآية ، قال في المجمع ، : من عهد أي من وفاء بعهد كما يقال : فلان لا عهد له أي لا وفاء له بالعهد ، وليس بحافظ للعهد .
ومن الجائز أن يراد بالعهد عهد الله الذي عهده إليهم من ناحية آياته أو عهدهم الذي عاهدوا الله عليه أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا ومن ناحية حاجة أنفسهم ودلالة عقولهم ، وقد ظهر معنى الآية مما تقدم .
___________________________
1 . تفسير الميزان ، ج8 ، ص 207-213 .
في هاتين الآيتين ركّز القرآن الكريم على العبر المستفادة من بيان قصص الماضين ، والخطاب متوجه هنا إلى الرّسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم إلّا أن الهدف هو الجميع ، يقول القرآن الكريم أوّلا : هذه هي القرى والأقوام التي نقص عليك قصصهم : {تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها} (2) .
ثمّ يقول : لم يكن إهلاكهم قبل إتمام الحجة عليهم ، بل لقد جاءهم الأنبياء أوّلا بالبراهين الجلية وبذلوا قصارى جهدهم في إيقاظهم وإرشادهم {وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ} .
ولكنّهم قاوموا الأنبياء وخالفوا دعوتهم ، وأصروا ولجّوا في عنادهم ، ولم يكونوا على استعداد لأن يؤمنوا بما كذبوا به من قبل ، بل استمروا على تكذيبهم حتى مع مشاهدتهم البينات : {فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ}.
من هذه الجملة يستفاد أنّ الأنبياء الإلهيين قاموا بدعوتهم وإرشادهم مرارا وتكرارا ، ولكن المشركين لجوا في عنادهم ، وبقوا متصلبين في مواقفهم المتعنتة الرافضة ، وأعرضوا عن قبول دعوة الأنبياء حتى بعد وضوح الكثير من الحقائق.
وفي العبارة اللاحقة يبيّن تعالى علّة هذا التعنت واللجاج : {كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ} .
يعني أنّ الذين يسيرون في درب خاطئ ، ويستمرون في السير في ذلك الطريق ، ينتقش الانحراف والكفر على قلوبهم نتيجة تكرار العمل السيء .
ويتجذر الفساد في نفوسهم ، كما يثبت النقش على السكة (والطبع في اللغة نقش صورة على شيء كالسكة) وهذا في الحقيقة هو أثر العمل وخاصيته .
وقد نسب إلى الله هو تعالى مسبب الأسباب ، وهو منشأ تأثير كل مؤثر ، فهو يهب الفعل هذه الخاصية عند تكراره ، حيث يجعله «ملكة» في نفس الشخص .
ولكن من الواضح والبيّن أن مثل الضلال ليس له أي صفة جبرية وقهرية ، بل إنّ موجد الأسباب هو الإنسان وإن كان التأثير بأمر الله تعالى (فتأمل) .
وفي الآية اللاحقة بيّن تعالى قسمين آخرين من نقاط الضعف الأخلاقي لدى هذه الجماعات ، والتي تسببت في ضلالها وهلاكها .
في البداية يقول : إنّهم كانوا لا يحترمون العهود والمواثيق بل ينقضونها {وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ} .
وهذا العهد يمكن أن يكون إشارة إلى «العهد الفطري» الذي أخذه الله على جميع عباده بحكم الجبلة والفطرة ، لأنّه عند ما أعطاهم العقل والذكاء والقابلية ، كان مفهوم ذلك هو أخذ العهد الميثاق منهم بأن يفتحوا عيونهم وآذانهم ، ويروا الحقائق ويسمعوها ، وهذا هو ما أشارت إليه الآيات الأخيرة من هذه السورة (أي الآية 173) وهو المعروف بـ «عالم الذّر» الذي سنشرحه بإذن الله في ذيل تلك الآيات .
كما أنّه يمكن أن يكون إشارة إلى العهد الذي كان الأنبياء الإلهيون يأخذونه من الناس ، وكان أكثر الناس يقبلونه ، ولكنّهم ينقضونه .
أو يكون إشارة إلى جميع المواثيق «الفطرية» و «التشريعية» .
وعلى كل حال فإنّ روح نقض الميثاق كان من أسباب معارضة الأنبياء والإصرار على سلوك طريق الكفر والنفاق ، والابتلاء بعواقبها المشؤومة .
ثمّ يشير القرآن الكريم إلى عامل آخر إذ يقول : {وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ} .
يعني أن روح التمرد والتجاوز على القانون ، والخروج عن نظام الخلقة والقوانين الإلهية ، كان عاملا آخر من عوامل استمرارهم على الكفر ، وإصرارهم على مخالفة الدعوة الإلهية .
ويجب الانتباه إلى أن الضمير في «أكثرهم» يرجع إلى جميع الأقوام والجماعات السالفة .
وما ورد في الآية من أن أكثرهم ينقضون العهد إنّما هو من باب رعاية حال الأقليات التي آمنت بالأنبياء السابقين ، وبقيت وفيّه لهم ، وهذه الجماعات المؤمنة وإن كانت قليلة وضئيلة العدد جدّا بحيث أنّها ما كانت تتجاوز أحيانا أسرة واحدة. ولكن روح الواقعية وتحري الحق المتجلّية في كل آيات القرآن أوجبت أن لا يتجاهل القرآن الكريم حق هذه الجماعات القليلة أو الأفراد المعدودين ، بل يراعيها فلا يصف جميع الأفراد في المجتمعات السالفة بالانحراف والضلال ونقض العهد والفسق .
وهذا موضوع جميل جدّا ، وجدير بالاهتمام ، وهو ما نشاهده ونلحظه في آيات القرآن كثيرا .
_________________________
1. تفسير الأمثل ، ج4 ، ص 444-446 .
2. «نقصّ» من مادة «قص» وقد مر شرحها في ذيل الآية 7 .
|
|
مخاطر عدم علاج ارتفاع ضغط الدم
|
|
|
|
|
اختراق جديد في علاج سرطان البروستات العدواني
|
|
|
|
|
مدرسة دار العلم.. صرح علميّ متميز في كربلاء لنشر علوم أهل البيت (عليهم السلام)
|
|
|