أقرأ أيضاً
التاريخ: 13-1-2017
2530
التاريخ: 24-10-2016
7508
التاريخ: 20-7-2018
4959
التاريخ: 24-10-2016
1933
|
الامبراطورية الآشورية الثانية
ثجلاثبليزر الثالث:
تولى الملك "ثجلاثبليزر" الثالث الحكم (727 – 744 ق.م) على أثر ثورة داخلية كما ذكرنا، فكان الاضطراب والتدهور يعمان البلاد، ولكن الملك الجديد برهن على أنه كفوء في إنقاذ البلاد محنتها، وإلى ذلك استطاع ان يعيدها إلى سالف قوتها وكيانها باسترجاع سلطتها في كثير في الأقاليم التي كانت خاضعة لها. وقد مهد لذلك بالقيام بإصلاحات واسعة في الجيش ونظام إدارة الدولة. ولهذه الأسباب جعلنا حكم هذا الملك بداية دور جديد من العصر الآشوري الحديث، هو الذي أطلقنا عليه اسم الامبراطورية الآشورية الثانية (612 – 744 ق.م). وقد تميزت هذه الامبراطورية بالقوة واتساع الرقعة، وقد شملت إصلاحات الملك الجديد الإدارية أموراً أساسية في نظام إدارة الدولة، وفي مقدمتها تقوية سلطة الملك والتقليل من نفوذ النبلاء وأمراء الإقطاع والحد من سلطاتهم، وضاعف في عدد الوحدات الإدارية والولايات وقلص من سعتها لتسهل إدارتها. وبالنسبة إلى الأقاليم المفتوحة عزل معظم ملوكها وحكامها وحول الكثير منها إلى ولايات يدير شؤونها حكام أو ولاة يعينهم الملك. وفي حالة الأقاليم التي لم يتم دمجها بالامبراطورية عين الملك مع حكامها الوطنيين مراقبين آشوريين (اسم الواحد منهم قيفو qeru)، يضاف إلى ذلك وسائل منتظمة للمواصلات والاتصال ما بين البلاط وبين الولايات المختلفة، مثل السعاة أو الرسل الذين كانوا على اتصال دائم بينها وبين العاصمة يحملون رسائل الحكام وأوامر الملك، وكثيراً ما كان الملك يرسل مبعوثاً خاصاً عنه في الحالات المهمة.
اما الإصلاحات التي أحدتها في نظام الجيش فإنه عدل عن النظام السالف في تجنيد الفلاحين والعبيد الذين كان يجزهم نبلاء المملكة ومالكو الأراضي أبان الحملات الحربية السنوية، فأدخل بدلاً من ذلك نظاماً أشبه ما يكون بنظام التجميد الإجباري بحيث أصبح الجيش جيشاً قائماً وبالمصطلح الآشوري (Kisir Sharruti) ودخل أهل الأقاليم التابعة في سلك الجيش، فازداد عدد الجيوش القائمة، وأعفى الفلاحون الآشوريون من التجنيد فانصرفوا إلى شؤونهم الزراعية. ومن الأمور الجديدة التي أدخلها هذا الملك السياسة التي انتجها إزاء الأقاليم المفتوحة التي تتكرر ثورتها، فصار يهجر سكانها وينقلهم بالجملة إلى أقاليم اخرى، وإسكان أقوام أخرى في بلدانهم. وقد سار على هذه السياسة الملوك الذين خلفوا ثجلاثبليزر. وكانت هذه خطة عجيبة عملت على خط شعوب الشرق الادنى وأحلت البؤس والشقاء في بوعها، وكثيراً ما صورت تلك المشاهد المؤلمة في المنحوتات الآشورية، ولنا أن نتصور مبلغ الشقاء والعذاب اللذين كانت تقاسيهما تلك الجموع البائسة وهي تساق مسافات طويلة مع شيوخها وأطفالها ومرضاها. على ان تلك السياسة القاسية التي بدأ بها هذا الملك لم تحقق الأهداف التي قصدت من ورائها، فإن ثورات الشعوب لم تنقطع، ولم تدفع هذه الأساليب القاسية الظالمة حلول النهاية الحتمية بالظالم.
إما إصلاحات "ثجلاثبليزر" الحربية فإنها تدل على حسن تنظيم وبراعة في القيادة، وكانت أولى أعماله العسكرية الحملة التي سيرها إلى جنوبي العراق ضرب الآراميين، كما جدد الملك البابلي "نبو ناصر"، مؤسس السلالة البابلية التاسعة ولاءه لملك آشور. ووجه حملة حربية كبيرة إلى سورية للقضاء على الدول المتنامية التي قامت فيها. وجدد ملوك هذه البلاد وأمراؤها ولاءهم وخضوعهم وقدموا الجزية والأتاوة. ثم غزا من بعد ذلك النواحي الشرقية من جبال "زاجروس"، وأوغل في الأراضي الإيرانية وفي بلاد الماديين في منطقة جبال "هماوند" (وهي الجبال التي ورد ذكرها في المصادر الآشورية باسم "بكيني"). وأعاد الكرة في توجيه حملة إلى بلاد الشام في عام 734 ق.م، وكان مسرح عملياتها الحربية الأجزاء الساحلية وبلاد فلسطين وشرقي الأردن. واتصل في أثناء حملاته على بلاد الشام ببعض القبائل العربية، فقد جاء في أخباره أن الملكة العربية "شمسي" ادت له الجزية. وفتح دمشق عنوة وازال الدويلة الآرامية فيها من الوجود في عام 732 ق.م، كما ضم نصف مملكة إسرائيل إلى الدولة الآشورية، وعين "هوشع" ملكاً على السامرة بصفته تابعاً له.
وبعد ان ثارت بلاد بابل على السلطة الآشورية بزعامة احد شيوخ الآراميين المسمى "أوكن ــ زير"، مؤسس سلالة بابل العاشرة (730 – 732 ق.م) ارسل ثجلاثبليزر حمله عليها وقضى على حكم هذه السلالة، وقرر أن يحكم بلاد بابل حكماً مباشراً فتوج نفسه ملكاً على بابل في عيد رأس السنة الجديدة (729 ق.م) وعرف باسم "بولو" (Pulu). وكان هذا خاتمة أعماله حيث توفي من بعد عامين (727 ق.م)، وخلفه على العرش الآشوري أبنه "شليمنصر" الخامس (722 – 726 ق.م)، الذي لم يحكم سوى فترة قصيرة دامت خمس سنوات لا نعرف عن أحداثها إلا أشياء قليلة، واهمها خلع الملك الإسرائيلي (هوشع" الطاعة وثورته على الآشوريين بتحريض الدولة المصرية فحاصر شليمنصر مدينة السامرة مدة ثلاث سنوات، ولكن لا يعلم بوجه التأكيد هل فتحت في عهد هذا الملك او في عهد الملك الذي خلفه، وهو سرجون الشهير الذي سيأتي الكلام عنه (1). وبالنسبة إلى بلاد بابل سار شليمنصر الخامس على سياسة أبيه حيث توج نفسه ملكاً عليها وعرف لدى البابليين باسم "اولولو".
الســـلالة السرجونيــــة
حكم من بعد شليمنصر الخامس الملك الشهير "سرجون" الذي لا يعرف اسمه الحقيقي ولا أصله، فإنه انتحل الاسم التأريخي المشهور "سرجون" (Sharru-Kin) أي "الملك الصادق "، الذي كان، كما مر بنا، أول من تسمى به سرجون الآكدي قبل أكثر من ألف وستمائة عام، ثم تسمى به أحد الملوك الآشوريين من العصر الآشوري القديم (في مطلق الألف الثاني ق.م). وكذلك لا تعرف علاقته بالملك السابق شليمنصر الخامس، هل كان احد أبنائه أو من ذوي قرباه أو أنه اغتصب العرش عن طريق الانقلاب. ومهما كان الامر فأن سرجون أسس سلالة حاكمة من الملوك كان حكمها آخر عهود التاريخ الآشوري، حيث حكم من بعده أبناؤه وأحفاده، هم سنحارب وأسرحدون وآشور بانيبال. وعلى هذا تسمى هذه السلالة الحاكمة باسم الأسرة أو السلالة السرجونية.
حكم سرجون ثمانية عشر عاماً (705 – 721ق.م)، وقضى السنة الأولى من حكمه في إخماد بعض الاضطرابات التي ظهرت في بلاد آشور، نفسها، ولا تعلم ماهية تلك القلاقل سوى ان سرجون نفسه يخبرنا بأنه، حرر أهل آشور من التجنيد القسري ومن جباة الضرائب"، وهي العبارة الي وردت في النص التاريخي الذي اصطلح عليه اسم "براءة او ميثاق آشور" (2). وتفرع من بعد ذلك لمعالجة قضايا مهمة في الأقاليم التابعة (3)، نشأ البعض منها من جراء تبدل الحكم، ونتج البعض الآخر، وهو الأهم، عن فتوحات الملك السابق ثجلاثبليزر البعيدة في بلاد إيران وتضييق الخناق على الدولة العيلامية. كما ان الاستيلاء على سورية وفينيقية وفلسطين انتزع من الدولة المصرية اهم مصادر مواردها الاقتصادية واتصالاتها البرية والبحرية، مضافاً إلى كل ذلك أن الدولة الأرمينية كانت تتحين الفرص للتخلص من النفوذ الآشوري. كل هذا جعل من هذه الدول الثلاث حلفاء طبيعيين ضد الآشوريين. وبدات بوادر ذلك في تدحل الدولة العيلامية في شؤون بلاد بابل، وتدخل الدولة المصرية في بلاد سورية الساحلية بتحريض أهلها على الثورة، وقد أثمرت سياسة التدخل والتحريض ثمارها، الأمر الذي جعل من حكم سرجون سلسلة متتابعة من الحملات الحربية لإخماد ثورات الأقاليم التابعة إلى الدولة الآشورية.
ففي بلاد بابل استطاع أحد زعمائها المدعو "مردوخ ــ ابلاــ ادنا" (مردوخ بلادان المذكور في التوراة) أن يستقل في مملكة بابل بتحريض العيلاميين ومساعدتهم، واعتلى العرش البابلي في العام الذي جاء فيه سرجون إلى الحكم (721 ق.م)، فصمم سرجون على ضرب هذا الثائر، وبدأ بغزو بلاد عيلام نفسها في العام 720 ق.م، ولكن تشير مجريات الأحداث إلى أن نتيجة المعركة التي نشبت عند مدينة "دير"، (عند الحدود العراقية الإيرانية بالقرب من بلدة بدرة) لم تكن في صالح سرجون رغم ادعاء المصادر الآشورية خلاف ذلك، وكذلك التناقض ما بين الرواية البابلية الواردة في كتابة مردوخ بلادان وبين الرواية الآشورية. وقد عثر على نص مردوخ بلادان في أثناء التنقيبات الحديثة التي تمت في كالح "نمرود" (4). والطريف ذكره بهذا الصدد أن سبب وجود نص مردوخ بلادان مرده إلى تزوير التأريخي متعمد من جانب الملك الآشوري سرجون نفسه، فإنه تقل ذلك النص الذي وجده في مدينة الوركاء إلى مدينة نمرود ووضع بدلاً منه نصاً آخر يختلف تمام الاختلاف عن النص الذي نقله إلى نمرود. ومما يؤيد ذلك أن مردوخ بلادان استمر في الحكم في بلاد بابل زهاء أحد عشر عاماً (711 – 721 ق.م). والمرجح كثيراً أن سرجون اضطر إلى الانسحاب من بلاد بابل لمعالجة الموقف الناجم من الثورات التي اندلعت في سورية، إذ بادر بإرسال حملة ضخمة في عام 720 ق.م إلى تلك الجبهة، واستطاع أن يسحق حلفاً عسكرياً بزعامة ملك حماة المسمى (ابلو ــ بعدي) واشتراك جيش مصري.
وجرد سرجون في عام 713 ق.م حملة أخرى إلى بلاد إيران فاستولى على جملة أقاليم ومدن مهمة في إقليم "كرمنشاه" و "همذان". وفي حدود ذلك الزمن ثارت القبائل الإيرانية بتحريض الدولة الأرمينية ومساعدتها في عهد ملكها المسمى "روساس". فقاد سرجون بنفسه في عام 714 ق.م حملة كبيرة على تلك الأقاليم ونال نصراً كبيراً، وهذه هي الحملة التي عرفت باسم حملة سرجون الثامنة (في عام حكمه الثامن). وقد دنت اخبارها المفصلة وجاءت على هيئة رسالة أرسلها الملك إلى الإله آشور والآلهة الاخرى على انها تقرير حربي من سرجون بصفته القائد الأعلى لجيوش الإله آشور. وتعد هذه الرسالة على قدر كبير من علو الأسباب الأدبي، كما يتجلى ذلك بوجه خاص في الوصف الشعري الرائع للجبال والأنهار والغابات التي مرت بها جيوش سرجون وما لاقته هذه الجيوش من أهوال ومصاعب (5).
ومن الحملات العسكرية المهمة تلك التي أرسلها في العام 717 ق.م على دولة "كركميش" (جرابلس) وقضى على استقلالها، كما أرسل في خلال الخمس سنوات التالية جيوشاً إلى آسية الصغرى وقضى على استقلال جملة دويلات فيها مثل كيليكية (قوئي (Que) في المصادر الآشورية) وفريجية (موسكي (Muski) في الأخبار الآشورية) وجاء اسم ملكها على هيئة "ميتا" (وهو ميداس في المصادر الكلاسيكية). والمرجح ان سرجون تسلم، وهو في آسية الصغرى، هدايا من ملوك "ياتنانا" السبعة، أي من أمراء جزيرة قبرص على ما يرى الباحثون، ولعل مما يؤيد ذلك المسلة العائدة لعذا الملك التي وجدت في"لرناكا" (Larnaka) (في قبرص).
وخلاصة القول أصبح سرجون في العام 710 ق.م سيد الموقف من بعد انتصاراته في مختلف الميادين، وخضعت له بلاد الشام وازال دولة إسرائيل من الوجود ونقل الكثير من اهلها أسرى وأسكنهم في بلاد ماذى، وجلب بدلاً منهم جماعات من بلاد بابل ولا سيما من منطقة "كوثي". كما تغلب على "مردوخ بلادان" وأعاد بلاد بابل إلى سلطة الدولة الآشورية.
دور ــ شروكين (خرسباد):
لم يستقر سرجون في عاصمة واحدة من العواصم الآشورية، فقد اتخذ في أول حكمه مدينة آشور القديمة مركز الحكمة ثم انتقل إلى نينوى، بالإضافة إلى العاصمة العسكرية "كالح" (نمرود) حيث جدد فيها بناء القصر الذي شيده "آشور ناصر بال". ثم اتجه أخيراً إلى تأسيس مدينة جديدة فأختار لذلك موضعاً بكراً، عند قرية قديمة اسمها "مكانبا"، على بعد نحو 15 ميلاً شمال شرقي نينوى، بالقرب من القرية المسماة "خرسباد"، فشرع في وضع أسس المدينة الجديدة في عام 717 ق.م، وقد سماها باسمه أي" دور ــ شروكين"، وجعل شكلها مربعاً تقريباً، كل ضلع منه زهاء الميل الواحد (ومساحتها بالضبط 1760×1675 متراً مربعاً) وسورها بسور ضخم جعل له سبعة أبواب، كل منها سمي باسم إله آشوري على غرار بوابات، وتزينها منحوتات من الثيران المجنحة ذات الرؤوس البشرية، وكانت هذه بمثابة الملاك الحارس (Lamassu)، وجعلت شوارع المدينة مستقيمة متعامدة على نظام الـ (Grid) المتبع في المدن الرومانية. وشيد قصره فوق دكة او مصطبة ارتفاعها (50) قدماً، وهو قصر واسع يحتوي على نحو مائتي حجرة وثلاثين ساحة، كما شيد في المدينة معابد للآلهة وبرجاً مدرجاً ذا سبعة طوابق، كل طابق منها ملون بلون خاص، ويرقى إليه بسلم حلزوني بدور حوله على غرار سلم المأذنة في سامراء التي يرجح اقتباسها من برج "خرسباد". وزين القصر الملكي بأنواع الزخارف مثل القاشاني المزجج الأزرق، والمزخرف بالصور والرموز المقدسة، بالإضافة إلى الثيران المجنحة التي كانت تزين المداخل، وألواح المنحوتات الحجرية الكثيرة المنحوتة بالمشاهد المختلفة والمنقوشة بالكتابات المسمارية. وقد قدر طول هذه المحوتات، لو صفت الواحدة إلى جنب الأخرى، زهاء الميل ونصف الميل (6).
إن ما اكتشف في مدينة سرجون أضاف أشياء مهمة إلى معرفتنا بما بلغه في فن البناء والعمارة وخطط المدن وفن النحت وسبك المعادن وصناعة التزجيج، أي الاجر المزجج. ويكفي ان نورد للتدليل على البذخ في تشييد هذه المدينة أن (26) ثوراً مجنحاً وجدت فيها، يزن كل منها معدل أربعين طناً، وتوجد نماذج جميلة منها في المتاحف العالمية. وقد بلغت المهارة في سبك المعادن وصبها درجة كبيرة، ولا سيما سيك معدن البرونز الذي صنعت منه الأسود والثيران. وعثر في مخازن القصر على آلات وادوات حربية من الحديد تبلغ زنتها زهاء (200) طن. وقد أكمل بناء المدينة في مدة عشر سنوات، ولكن لم يتمتع بانيها بالسكن فيها اماً طويلاً، إذ إنه توفي من بعد إتمام بنائها بعام واحد (705 ق.م)، والمرجح ان سرجون لم يستطع السكنى فيها، كما أنه لم ينتقل إليها أحد من أبنائه الملوك الذي خلقوه، بل هجروها، ولعل بعضهم نقل جزءاً من منحوتاتها إلى قصورهم. اما نهاية سرجون فلا نعلم على وجه التأكيد، والمرجح انه اغتيل، وحكم من بعده خلفاؤه من أسرته، وقد دامت السلالة التي أسسها زهاء القرن الواحد. ونوجز فيما يأتي أحداث التأريخ الآشوري في عهود خلفاء سرجون.
خلفـــاء سرجون
1ـ سنحاريب:
خلف سنحاريب أباه سرجون في عام 709 ق.م، وحكم إلى عام 681 ق.م. وقد وجه نشاطه الحربي بالدرجة الاولى إلى الجبهة الغربية (بلاد الشام) وبلاد بابل. اما في الجبهتين الشمالية والشرقية اللتين صرف فيهما أبوه جهوداً كبيرة فقد سادهما شيء من الهدوء والاستقرار النسبيين في عهد سنحاريب. فاقتصر الأمر على إرسال حملات حربية ليست كبيرة إلى جبال "زاجروس" وآسية الصغرى ولا سيما إقليم "كيليكية". وجاء ذلك اليونان، وبوجه خاص اليونان الأيونيين، لأول مرة في أخبار الدولة الآشوري في كتابات سنحاريب (7).
وظهرت في زمن سنحاريب أقوام جديدة اندفعت من الانحاء الجنوبية من روسية، وهم "الكميريون" (Cimmerians) الذين ورد ذكرهم في أخبار هذا الملك بهيئة "كميرايا" (Gimirrai). وقد عبرت هذه القبائل جبال القوقاس في نهاية القرن الثامن ق.م إلى آسية الغريبة وبلاد الأناضول. وفي بلاد فينيقية وفلسطين اظهرت جملة دويلات العصيان والثورة على السلطة الآشورية، وقد جاء في هذه المرة جيش مصري لمساعدتها، وكان من بينها مملكة "يهوذا" في عهد ملكها المسمى "حزقياً"، فبادر سنحاريب إلى ضرب هذه الدويلات في عام حكمه الرابع (701 ق.م). ولما ان تم له إخضاعها نصب بدلاً من الحكام والأمراء السابقين حكاماً جدداً. وضيق الخناق على مملكة يهوذا وحاصر عاصمتها أورشليم، وترك على حصارها كبير قواده الذي ذكر في التوراة باسم الـ "ابشاقة" (معناه كبير السقاة). وروت التوراة الحوار الطريف (8) الذي جرى بين اليهود المحاصرين وبين قادة الجيش الآشوري. وقد أبى الملك "حزقياً" الخضوع والاستسلام بتحريض النبي "اشعيا". ولا تعلم نتيجة الحصار بوجه اليقين، فتروي التوراة ان الجيش الآشوري حل فيه الوباء وفتك به، ولكن المرجح ان الجيش رفع الحصار عن أورشليم مقابل دفع جزية كبيرة من الفضة والذهب والنساء، من بينهن بنات الملك، كما جاء في حوليات سنحاريب (9).
ويبدو ان سنحاريب وضع الخطط وهو في فلسطين لغزو بلاد مصر، وشرع بالزحف في الطريق البري التأريخي من فلسطين حتى بلغ موضع العريش أو "رفح"، على بعد نحو (30) ميلاً شرقي القناة الآن ولكن هذه الحملة لم تحرز النجاح بسبب العواصف والزوابع الترابية التي حالت دون مواصلتها السير إلى داخل الأراضي المصرية، اما التوراة فتنسب إخفاء الحملة إلى التدخل الإلهي حيث إن "ملاك الرب خرج ليلاً وضرب مائة وثمانين ألف وخمسة آلاف". ويروي هيرودوتس رواية طريفة عن الموضوع إذ يعزو الإخفاق إلى أن حشوداً من الجرذان قضمت الجلود والحبال في سلاح الجيش، على أن المصادر الآشورية لم تذكر شيئاً عن ذلك الحدث.
وفي بلاد بابل اظهر سنحاريب القسوة البالغة إزاءها بسبب ظهور الثائر القديم مردوخ بلادان الذي ثار في عهد أبيه واستقل في بلاد بابل فترة طويلة على نحو ما مر بنا. فعاجله سنحاريب في العام 703 ق.م وقضى على جموعه، ولكنه استطاع الإفلات من الأسر. ونصب سنحاريب على بابل احد أتباعه من البابليين المسمى "بيل ــ انبي" الذي نشأ وترى في نينوى، على أن مردوخ ــ بلادان ظهر مرة اخرى من بعد ثلاث سنوات، ولكنه أخفق في مسعاه. وبعد ستة أعوام على هذه الأحداث صمم سنحاريب على غزو المدن العيلامية في سواحل الخليج، فجهز لهذا الغرض حملة بحرية وبرية ضخمة في عام 696 ق.م وطهر الأجزاء الجنوبية من الثوار من أنصار الثائر "مردوخ بلادان" والتقى من بعد ذلك الجيش البري بالأسطول الذي سبره الملك من نينوى إلى مدينة "اويس" وعندها نقله إلى الفرات، وكان موضع الالتقاء المدينة المسماة" باب ساليميتي" القريبة من مصب الفرات بالخليج (10)، حيث كان النهران يصبان في الخليج منفردين. ونجح سنحاريب في غزو المدن العيلامية الساحلية، ورجع يحمل الغنائم وأسلوب الحرب الكثيرة، ولكن هذه الضربة لم تفض على تجدد الأطماع العيلامية ببلاد بابل، إذ إنها استمرت من بعد ذلك في تحريضها على العصيان، فثار البابليون في عام 689 ق.م، وعندئذ صب سنحاريب جام غضبه على بلاد بابل فدمر المدينة المقدسة ودك حصونها وقصورها وسلط ماء الفرات على أنقاضها وأقسم أن بابل لن تقوم قائمة طوال 70 عاماً (11). ولما ترك البلاد عين ابنه أسرحدود والياً عليها بالنيابة عنه.
طرف من أعمال سنحاريب العمرانية:
حكم سنحاريب ثلاثة وعشرين عاماً (681 – 704 ق.م)، وقد مر بنا موجز بأبرز أعماله الحربية ولكنه إلى جانب ذلك اشتهر بنشاط كبير في حقل البناء والتعمير ومشاريع الري الزراعية في بلاد آشور. واول ما نذكر من أعماله العمرانية أنه جعل نينوى العاصمة الرئيسية للامبراطورية، ومن اجل ذلك وجه الشطر الأكبر من نشاطه العمراني إلى تجديد أبنيتها وتجميلها وتوسيعها وتحصينها. فقد زينها بإقامة المعابد والقصور الجديدة وغرس الحدائق الباسقة، وجعلنا عاصمة تليق بالامبراطورية الواسعة التي تطورت إليها المملكة الآشورية. فمن ناحية سعتها حولها من مدينة ذات محيط لا يتجاوز الميلين إلى مدينة بلغ محيطها زهاء ثمانية أميال، وضمت قسمين جديدين خصصهما الملك سنحاريب للقصور والمعابد، وهما الموضعان المعروفان الآن باسم تل "قوينجق" وهو القسم الشمالي من المدينة، تل النبي يونس، في الجانب الثاني من المدينة على يمين الطريق الحديث من الموصل إلى بغداد.
وقد اقتصرت التنقيبات القديمة على الموضع الاول، أي تل قوينجق. اما منطقة تل النبي يونس فلم تمسه معاول المنقبين بعد.
وقد جعل في سور المدينة الداخلي خمس عشرة بوابة تحرسها الثيران المجنحة، وكل منها سمي باسم خاص منسوب على الأكثر إلى اسم أحد الآلهة المشهورة. وكان سنحاريب مولعاً بغرس الحدائق والبساتين فجلب لتجميل عاصمته الأشجار النادرة من أقطار مختلفة إلى حدائق نينوى. والمرجح أنه كان أول من ادخل زراعة القطن إلى العراق، وقد سماه الشجرة التي تحمل الصوف. وجلب إلى العاصمة ماءً عذباً من المنابع الخاصة بنهر الكومل بطريق قناة شيدها بأحجار الكلس، وهي تعبر المرتفعات والوديان فشيد لها القناطر في بعض الوديان مما لا تزال آثارها باقية. وتبدأ تلك القناة من الموضع المسمى "جروانة"، مسافة خمسين ميلاً عن نينوى (12). ونحتث عند صدر القناة (عند القرية المسماة خنس) على وجه حجرة شاهقة منحوتات تمثل الآلهة المختلفة مع كتابة موجزة عن هذا المشروع. ومما يجدر ذكره بهذا الصدد أن سنحاريب خلف جملة منحوتات جبلية اخرى، مثل منحوتات "معلثاي"، في مدخل وادي دهوك، وفي جبل "جو دي داغ" عند الحدود العراقية ــ التركية (13).
أســرحدون :
تروي التوراة (سفر الملك الثاني 37 – 36:19) أن سنحاريب اغتاله احد أبنائه. والمرجح أن نزاعاً أو حرباً أهلية نشبت على أثر ذلك، إلى ان استطاع ولي العهد "أسرحدون" وهو أصغر أبناء سنحاريب، إخمادها. ولعل مما يؤيد ذلك ما جاء في فاتحة حوليات أسرحدون نفسه (14) إذ يقول إن اتهامات إخوته ووشايتهم به أوغرت صدر أبيه عليه، بحيث إنه اضطر إلى الهرب والاختفاء. ومع أنه لم يذكر حادثة قتل أبيه إلا أن المحتمل، كما جاء في التوراة، أن أحد إخوته اغتاله، ويروي أسرحدون بهذا الصدد عنهم أنهم صاروا من بعد ذلك "يناطح احدهم الآخر كالتيوس لأخذ الملوكية". ومهما كان الامر فإنه تغلب عليهم، واعتلى العرش الآشوري في عام 681 ق.م. وبعد أن استقامت له الأمور واستتبت احوال المملكة كانت فاتحة أعماله إعادة بناء مدينة بابل من بعد تدمير أبيه لها كما مر بنا ولعله كان مدفوعاً باعتقاده أن ما أصاب أباه كان بسبب غضب آلهة بلاد بابل لانتهاك حرماتها. وقد استخدم أسرحدون اهل بابل في تجديد أبنيتها. وقد عثر في المدينة على نصوص مدونة وبقايا بنائية من عهد أسرحدون. بيد أن أعمال التجديد الجسيمة استغرقت وقتاً طويلاً استمر إلى بداية حكم ابنه وخليفته آشور لحكمه، فاستقامت له الأمور في بلاد بابل وعمها الاستقرار باستثناء ثورة جهيضة قام بها في عام 680 ق.م ابن الثائر القديم "مردوخ بلادان" للاستيلاء على منطقة "أور".
ونشبت في الجبهة الغربية (بلاد الشام) ثورات لطرح النير الآشوري، ولكن أسرحدون استطاع ان يخمدها، نخص بالذكر منها الثورة التي قام بها ملك "صيدا" المسمى عبد ملكوتي في عام 677 ق.م فكان مصيره الأسر والقتل ودمرت مدينته و "ألقيت في البحر" على حد تعبير حوليات هذا الملك، واجلى سكانها إلى بلاد آشور؛ وأعطيت أراضيهم إلى أهل مدينة "صور" (15).
وبالنظر إلى هدوء الأحوال في بلاد بابل وفي بلاد الشام وجه "أسرحدون" نشاطه إلى الجبهتين الشمالية والشرقية. فإن الكميريين الذين رأيناهم يندفعون في عهد أبيه من جنوبي روسية ويعبرون القوقاز إلى آسية الصغرى وأرمينية وإيران قد التحقت بهم جماعات أخرى من أقربائهم جاءت من المهد نفسه في السنوات الاولى من حكم "أسرحدون"، وقد ذكر هؤلاء الأقوام الجدد في الأخبار الآشورية باسم أشكوزيين (Ishkuzai) وسكيثين (Scythians) في المصادر الكلاسيكية، وإن القاء هؤلاء الاشكوزيين مع الكميريين جعل منهم عظمى أخذت تهدد الولايات الآشورية وحامياتها في إقليم كيليكية وغيره (آسية الصغرى) في عام 679 ق.م، وقد سبق لسرجون أن طرد الكميريين إلى ما وراء نهر "قزل ارمق" بيد أن أولئك الأقوام انقضوا على إقليم "فريجية" وقضوا على المملكة الحاكمة فيه بمساعدة الدولة الأرمينية. اما أسرحدون فقد اتبع سياسة المصالحة والتحالف مع تلك الأقوام، وقد أبرم معهده معاهدة سلم تزوج بموجبها أحد زعمائهم المسمى "بارتاتوا" من أميرة آشورية.
واستطاعت القبائل المادية المتمركزة في الهضبة الإيرانية، جنوب شرقي بحيرة أورمية، ان تستقل في عهد أسرحدون بزعامة أحد قوادها المسمى فرهارطس (Phraortes) في عام 680 ق.م، وكانت سابقاً تابعة إلى الأمبراطورية الآشورية، فوجه أسرحدون عدة حملات حربية ولكنها لم تحرز النجاح التام.
فتح مصر:
نجح أسرحدون مرة بالحرب ومرة بالدبلوماسية أن يوطد الأمور في أرجاء امبراطوريته الواسعة ــ في بلاد بابل وبلاد الشام، وفينيقية، وفي تخومها الشمالية والشمالية الشرقية المترامية، البالغة زهاء 1200 ميل. ولما استقامت له الأمور أخذ يعد العدة للبدء بمشروع حربي جسيم، سبق أن شرع فيه أبوه سنحاريب ولكنه لم يفلح، ونعني بذلك غزو مصر وضمها إلى الأمبراطورية الآشورية. ومهد لذلك بضمان ولاء القبائل العربية في بوادي الشام لسلامة مرور جيوشه الضخمة إلى سوريا ومنها إلى مصر، فعقد العهود من بعض أمراء بادية الشام ومشايخها، مثل "دومة الجندل" (أدمو أو أدمومتو في الأخبار الآشورية). وسار بجيوشه الجرارة في عام 679 ق.م واستولى على المدينة التي ورد ذكرها باسم ارزاني في وادي العريش، وبلغ رفح (Rapihu) جنوب غزة، عبر صحراء سيناء. ويخبرنا في حولياته انه لاقى الأهوال والعجائب في هذه الصحراء المخيفة، من أفاع "ذوات رأسين" وحوانات غريبة خضراء تفتك بضربات أجنحتها. وبعد مسيرة خمسة عشر يوماً بلغ حدود "مصر الخضراء"، وكان يحكمها تهارفاً أو "طهراقا" الحبشي (663 – 688 ق.م) الذي لم يستطع صد الغزو الآشوري فهرب إلى جنوبي البلاد. ولعله من الطريف ان نورد جزءاً من نص أسرحدون عن غزو مصر: "من مدينة اشحفري (Ishupri) إلى العاصمة منفس (Mempi) وهي مسافة 15 يوماً قاتلت قتالاً متواصلاً جيش "طرقو" ملك مصر والحبشة، الملعون من جميع الآلهة. لقد أصبته خمس مرات بسهامي محدثاً به جراحاً لم يشف منها، ثم حاصرت ممفي، عاصمته وفتحتها في نصف يوم. . وغنمت الملكة وحرم قصره، وولى عهده وأولاده الآخرين، وجميع امواله وخيوله وماشيته، وأخذت غنائم كثيرة إلى بلاد آشور، واجليت جميع الأحباش عن أرض مصر، وعينت ملوكاً على أقاليم مصر، وحكاماً وموظفين ومراقبين للموانئ . . وفرضت عليهم الجزية السنوية تدفع إلي بصفتي سيدهم" (16).
وعلى الرغم من تبجح أسرحدون لم يكن فتحه لمصر فتحاً دائماً، إذ عاد طهراقا من موضع اختبائه بعد عامين، واستعاد العاصمة "منفس" وشن الحرب على الحاميات الآشورية في الدلتا فأسرع أسرحدون بعد العدة للقضاء على طهراقاً وسار بنفسه على رأس الجيش عبر سورية، ولكن عاجلته المنية وهو في حران في عام 669 ق.م، فترك أمر مصر إلى خليفته في الحكم "آشور بانيبال"، الذي أعاد فتحها في 667 ق.م مما سنذكره في كلامنا على حكمه.
قضية ولاية العهد:
قبل أن يتوفى أسرحدون بثلاثة أعوام رتب أمر ولاية العهد بين أبنائه، ولا سيما بين ولديه "شمش ــ شم ــ أوكن"، وهو الابن الأكبر، وابنه الأصغر "أشور بانيبال" الذي اختاره لتولي العرش. وعين الأول ملكاً على عشر بلاد بابل. وقد تمت هذه التسوية في اجتماع رسمي حضره الأمراء وقواد الجيش والسفراء وممثلون عن الأقاليم التابعة للإمبراطورية، وأخذ البيعة منهم في ولائهم لولي العهد آشور بانيبال، وأبرمت بهذا الشأن مع رؤساء الأقاليم التابعة معاهدة وجدت نسخة منها في نمرود في أثناء الموسم السادس من تنقيبات البعثة البريطانية 1955(17). ويبدو أن ولي العهد المختار آشور بانيبال كان محبوباً مفضلاً من جانب جدته لأبيه الآرامية الأصل واسمها "نقية ــ زكوتو"، فحصلت من البابليين ومن حفيدها الثاني "شمش ــ شم ــ أوكن" على الولاء لآشور بانيبال.
ومع ان أسرحدون لم يقصد من وراء عمله ذلك تقسيم الامبراطورية الآشورية بين ولديه، إلا أنه ضمن ولاء البابليين بتنصيب مالك عليهم ومنحه الثاني ــ آشور بانيبال ــ بجعله ملكاً على بلاد آشور وسائر الأقاليم والولايات التابعة لها.
آشـــور بانيبــال:
وهكذا تبوأ آشور بانيبال عرش المملكة الآشورية (627 – 668 ق.م) وتولى في الوقت نفسه اخوه "شمش ــ شم ــ أوكن" السالف الذكر عرش بلاد بابل، واستقامت الأمور ما بين الأخوين طوال سبعة عشر عاماً. وسنرى كيف آل الأمر ما بين الأخوين من بعد ذلك.
كانت اولى الأعمال التي اضطلع بإنجازها آشور بانيبال إعادة فتح مصر التي سبق أن راينا كيف أنها ثارت من بعد عامين على فتحها من جانب أبيه الذي قلنا إنه جهز حملة لفتحها مرة اخرى ولكنه توفي في مدينة حران عام 699 ق.م وكان أول ما شرع به آشور بانيبال في سبيل إنجاز هذه المهمة الحربية أن أرسل قائد الجيش الأعلى إلى سورية لاستنفار الجيوش وتعبئتها، فجمع جيشاً كبيراً أمده به الملوك والأمراء التابعون، وسار من بعد ذلك إلى حدود مصر وأوقع الهزيمة بجيش الفرعون "طهراقاً" فهرب من العاصمة "منفس" إلى طيبة، فلاحقه الجيش الآشوري وفتح هذه المدينة. وهكذا حقق الآشوريون في عهد آشور بانيبال عملاً عسكرياً يعد فريداً من نوعه بالنسبة إلى ذلك العصر، إذ إنهم فتحوا بلاداً نائباً تبعد اكثر من 1300 ميل عن موطنهم، تختلف عنهم في عاداتها وأوضاعها ويجهلون لغتها، الأمر الذي تعذر فيه حكمها حكماً مباشراً، ولذلك حذا آشور بانيبال حذو أبيه في تعيين ملوك وولاة من اهل البلاد من المناوئين لحكم الملك الحبشي "طهراقاً" وإلى ذلك وضعت حاميات آشورية قوية في طيبة وفي منطقة الدلتا. بيد أن كل هذا لم يحقق الغرض، إذ ظهرت بوادر الثورة بعد فترة غير طويلة من جانب الكثير من أولئك الأمراء والملوك بالاتفاق مع طهراقاً على اقتسام السلطة في البلاد. فأسرع القواد الآشوريون بمهاجمة المنشقين وأسروا الكثير منهم وأسلوهم مكبلين إلى نينوى فقتلوا فيها. وأبقى الملك الآشوري على "نيخو" أحد ملوك الدلتا، إذ عفا عنه واعادة إلى عاصمته في الدلتا، "سايس" (صار الحجر)، فاستعاد عرشه. ومع ذلك فقد تجددت الثورة في عام 655 بقيادة أحد أقرباء الملك الحبشي طهراقاً الذي مات في أثناء هذه الحوادث. فجردت حملة آشورية أخرى ودخل الجيش الآشوري إلى طيبة للمرة الثانية ودمرت المدينة، واخذت منها غنائم كثيرة من بينها مسلتان مغلفتان البرونز وانتهى الاحتلال الآشوري لمصر بظهور الملك الجديد المسمى "بسماتيك" الأول، الذي يرجح أنه كان ابن الملك نيخو، فأعلن هذا الاستقلال وطرد الحاميات الآشورية من الدلتا بمساعدة جند من مرتزقة الإغريق الآيونيين، وأسس الأسرة السادسة والعشرين (525 – 663 ق.م). على ان المصادر الآشورية لا تذكر هذه الأحداث، بل مصدرنا عنها رواية هيرودوتس. اما الآشور بانيبال فإنه لم يفعل شيئاً إزاء ذلك لأنه كان مشغولاً بحرب طاحنة في بلاد عيلام، وهكذا فإن الاحتلال الآشوري لمصر لم يدم سوى فترة قصيرة لم تتجاوز الخمسة عشر عاماً (655 – 670 ق.م).
الجبهات الأخرى:
كان للحملات العسكرية التي أرسلها آشور بانيبال إلى مصر ردود فعل من عدة جهات من الامبراطورية الآشورية. فإن انشغال جزء غير قليل من الجيوش الآشورية في ميدان يبعد كما قلنا زهاء 1300 ميل سبب الضعف والوهن في القوات الآشورية وسرعان ما ظهرت بوادر العصيان والثورة في عدة ولايات مثل فينيقية وغيرها. ومع ان تسلسل الاحداث في السنوات الأخيرة من حكم آشور بانيبال غير مضبوط تماماً غير أنه يمكن تخمين ما وقع ما بين عام 665 وعام 655 ق. ومع ذلك تحالف هذا الملك مع الأشكوزيين (السكيتين)، والحرب في بلاد عيلام، واندحار الملك العيلامي المسمى "تيومان" الذي قتل في المعركة وقطع رأسه وأخذ إلى نينوى وعلق فوق شجرة في الحدائق الملكية، وقد جاء ذلك ممثلاً في إحدى المنحوتات من عهد الملك آشور بانيبال (18).
ونشبت في بلاد بابل ثورة عارمة قام بها أخو الملك نفسه، أي "شمش ــ شم ــ أوكن" الذي كان قد عين ملكاً على بلاد بابل من جانب أبيه، على ما ذكرنا. ولعل انشغال أخيه الملك في عدة جبهات أثارت أطماعه الكامنة بعد ان ظل موالياً له في الظاهر زهاء 17 عاماً. ولكن يضمن النجاح لثورته سعى بالمفاوضات السرية إل الحصول على تحالف لمساعدته دخلت فيه بلاد فينيقية ومملكة يهوذا وبعض القبائل العربية في بادية الشام والكلدانيين الآراميين في الأجزاء الجنوبية من العراق والعيلاميين وحتى مصر وليديو (إحدى الولايات الشرقية في آسية الصغرى) وكان من المؤكد ان يوقع هؤلاء المتحالفون الضربة القاضية بالدول الآشورية لم أنهم بدؤوا العمل في وقت واحد، ولكن عيون الملك اكتشفت المؤامرة. وبعد أن انذر البابليين لردهم إلى الطاعة (19)، ولما لم يأبه بإنذاره البابليون نشبت الحرب الطاحنة بين الأخوين. وظلت المعارك تدور زهاء ثلاثة أعوام. ولما أدرك أخوك شمش ــ شم أوكن الموقف الميؤوس منه أضرب النار في قصره في بابل وقضى نحبه محترقاً وسط النيران، عام 648 ق.م وحاول آشور بانيبال تهدئة بلاد بابل فعين احد الزعماء الكلدانيين المسمى "قندلانو" نائباً للملك على عرش بابل (627 – 647 ق.م).
وبعد الانتهاء من حرب بابل وتسوية قضية الحكم فيها على الوجه السابق جرد آشور بانيبال حملات على بعض القبائل العربية التي ساعدت أخاه في الحرب. ومما لا شك فيه أن جيوش الملك لم تستطع تحقيق النجاح التام في هذه الحملات، على أن الأخبار الآشورية تعدد جملة انتصارات مثل دحر رئيس القبيلة التي ورد ذكرها باسم "بني قيدار" ورئيسها أبي عاطي، وأنها غنمت أعداداً كبيرة من الجمال وجاءت بها إلى بلاد آشور وصار الجمل يباع بأقل من شيقل واحد من الفضة. وحصل حتى العمال والصناع والعبيد على هدايا من الجمال (20).
ووجهت حملة على ملك بلاد عيلام الذي وقف إلى جانب أخيه ودامت الحرب في عيلام زمناً طويلاً، انتهت بانتصار الجيش الآشوري في عام 639 ق.م، ودمرت البلاد ونهبت العاصمة "سوسة"، وانتهكت حرمة معابدها وحطمت تماثيل آلهتها، ورميت بالنار، كما نبشت قبور ملوكها ونقلت عظامهم إلى بلاد آشور، لكي يحرم أشباح الموتى من الاستقرار فتنكل بالاحياء من أهل عيلام، ونثر الملح على أنقاض المدن المخربة. وبحسب تعبير الأخبار الرسمية "احل الدمار في بلاد عيلام مسافة شهر و 25 يوماً" وأخذت غنائم كثيرة من الذهب والفضة. وكانت هذه في الوقائع ضربة ماحقة لم تقم من بعدها لبلاد عيلام قائمة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) التوراة ــ سفر الملك الثاني 6-4 :17، وعن قضية فتح السامرة راجع البحث المنشور في مجلة : JCS, (1958), 22 ff.
(2) ARAB, II, 132-5.
(3) فيما يلي المصادر الأساسية عن حكم سرجون:
(1) ARAB, II, I – 230.
(2) Gadd, in IRAQ, XVI (1954). 172 ff.
(3) Lie, The Inscriptions of sargon… The Annals (1929).
(4) Tadmor,"The Campaigns of Sargon" in JNES, (1958).
(5) Thureau – Dangin, Une relation de la Huiteme capagne de Sargon.
(4) انظر: IRAQ, XV (1953), 123 ff
(5) حول الترجمة راجع المصدر الخامس في الهامش رقم (30)، والتعليق على الحملة في:
Wright, in JNES, (1943), 173 ff
(6) كانت خرسباد كما ذكرنا في تاريخ التنقيبات والتحريات من أولى المواقع التي تحرى فيها أوائل المنقبين (من جابن الفرنسيين) في منتصف القرن التاسع عشر:
Bota, Flandin, Les Monuments de Ninive (1949-50).
V. Place, Ninive et LAssyrie (1867-70).
Loud, Khorsabad, (1936-8).
(7) حول اخبار سنحاريب ونصوصه الرسمية راجع:
(1) Luckenbill, The Annals of Sennacherib, (1924).
(2) ARAB, II, 231-496.
(3) A. Heidel, in SUMER, IX (1953), 117 ff.
(4) Waterman, Royal Correspondence.
(8) راجع سفر الملوك الثاني 24: 19 , 13:18، وسفر الأيام الثاني، 2-1 :32 وسفر أشعيا 37-1 :36.
(9) ARAB, II, 240.
(10) حول "باب ساليميتي" وموضعي النهرين قبل اتصالهما بالقرنة في الأزمان المتاخرة، راجع الفصل الخاص بالمقدمة.
(11) ومن الطريف ذكره بصدد هذا القسم أن "أسرحدون" لما خلف أباه في الحكم وعزم على إعادة بناء بابل، ولكي لا يحنث بقسم أبيه، فسر الرقم (70) بأنه رقم (11)، وكلا الرقمين يكتب بطريقة العدد الستينية بعلامتين مسماريتين متطابقتين مع تغيير مرتبتهما العددية.
(12) حول قناة سنحاريب التي تحراها جماعة من الآثاريين من جامعة شيكاغو انظر:
Jacobsen and Lloyd, Sennacerib Aqueduct at Jerwan (1935).
وعن المنحوتات الجبلية من عهد سنحاريب وغيره من الملوك الأشوريين:
W. Bachmanm, Felsreliefs in Assyrien, (1927).
(13) حول قناة سنحاريب التي تحراها جماعة من الآثاريين من جامعة شيكاغو انظر:
Jacohsen and Lloyd, Sennacerib Aqueduct at Jerwan (1935).
وعن المنحوتات الجبلية من عهد سنحاريب وغيره من الملوك الآشوريين:
W. Bachmanm, Felsreliefs in Assyrien, (1927).
(14) عن النصوص الخاصة بحكم أسرحدون بالإضافة إلى المرجع الأساسي المرموز له ARAB, I انظر المراجع الآتية:
(1) C.Thompson, The Annals of Esarhaddon and Ashur – banipal (1931).
(2) A. Heidel, in SUMER, XII (1956), g ff.
(3) R. Borgar, Die Inschriften Asarhaddons (1956).
(4) S. Smith, Bab, Historical Texts, (1924).
(5) King. Bab. Chronical, IV, 34-37.
(15) حول المعاهدة التي أبرمت مع ملك صور المسمى "بعلو" انظر:
R. Borgar, Ibid., 107 ff.
(16) وجدت مديرية الآثار العراقية في نينوى عام 1955 في تل النبي يونس حيث بقايا قصر الملك أسرحدون، كسراً كثيرة من تمثال أو تماثيل الفرعون طهراقاً، كما تدل على ذلك الكتابة الهيروغليفية المنقوشة على بعض تلك الأجزاء، ووجدت كذلك كسراً من تمثال الآلهة المصرية أنوقت (Anuqpet). ومما لا شك فيه أن تكون هذه البقايا وغيرها من بين الغنائم الحربية التي جلبها أسرحدون من مصر (انظر مجلة سومر، المجلد 11، 1955 والمجلد 12 ؛ 1956 وعن النصوص المتعلقة بفتح مصر، ولا سيما نصوص مسلة زنجرلي، انظر:
(ANET, 293 ff.)
(17) راجع نص المعاهدة في:
Wiseman, in IRAQ, XX (1958), g ff.
(18) Franfort, AAO, pl. 114.
(19) انظر الرسالة رقم 301 المنشورة في : Waterman, op, cit,
(20) ANET, 299
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
مدرسة دار العلم.. صرح علميّ متميز في كربلاء لنشر علوم أهل البيت (عليهم السلام)
|
|
|