اختلاف الشيعة مع العامّة في الفروع
المؤلف:
السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ
المصدر:
معرفة الإمام
الجزء والصفحة:
ج3/ص112-124
2025-12-02
169
سبب اختلاف الشيعة مع العامّة في الفروع هو أنَّ العامّة يقولون بوجوب اتّباع أحد رؤساء المذاهب الأربعة في العمل بالأحكام، أمّا اتّباع أبي حنيفة، أو الشافعيّ، أو مالك، أو أحمد بن حنبل. ولا تجزي آراء غيرهم.
امّا الشيعة فيقولون: نزل القرآن لجميع الناس، ولهم جميعاً حقّ الإفادة منه، ونبيّنا الأكرم هو واسطة الوحي من أجل إفادة الناس. قال تعالى: {وَأَنْزَلْنا إليكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إليهِمْ ولَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}[1].
كلام الرسول والسنّة النبوّية الشريفة أيضاً حجّة على كلّ إنسان عاقل. فما هو السبب الذي يجعل المسلمين غير قادرين على الرجوع إلى الكتاب والسنّة والإفادة منهما في الحكم الشرعيّ، ومن ثمّ يظلّ باب الاجتهاد موصداً؟ أ ليس الدين الإسلاميّ هو دين العلم؟ هل وجب التقليد على جميع الناس إلّا على هؤلاء الأربعة؟ أ ليس من الممكن أن يرتقي أحد المسلمين في مدارج العلم أكثر من كلّ واحد من هؤلاء الأربعة، وذلك من خلال السعي الجادّ في طلب العلم والتنقيب في الآيات القرآنيّة والسيرة النبويّة للظفر بالمطلوب! ما هو المجوّز العقليّ الذي يدعو هذا الإنسان إلى تقليد هؤلاء فقط، ويحرم من حقّ الإفتاء خلاف فتاواهم، ويطوّق نفسه والآخرين بفتاواهم دون غيرهم؟ هذا المنطق هو خلاف منطق الفطرة وحكم العقل حكم مستقلّ.
إنَّ الاقتصار على هذه المذاهب الأربعة فقط يعني أنَّ على كلّ مسلم أن يسأل أيّ واحد منهم عن معنى قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} وأن يجعل كلام كلّ واحد منهم معياراً في العمل بكلّ آية من الآيات القرآنيّة وكلّ كلمة من كلمات الرسول الأعظم، فهل هؤلاء الأربعة معصومون، ولا خطأ في كلامهم؟ ولو كان الأمر كذلك، فلما ذا صارت المذاهب أربعة وتفرّقت الكلمة الواحدة إلى أربع؟ الدين دين واحد، وهذا الاختلاف خير دليل على عدم عصمتهم. مضافاً إلى ذلك فبالعلم الإجمالي القطعيّ يتّضح أنَّ هذه الآراء والفتاوى إمّا باطلة جميعها أو بعضها، ووجوب اتّباع أحدها يعني اتّباع أمر محتمل الخطأ، وهذا حكم معارض لحكم العقل. وكلّ شخص يمكنه اتّباع كتاب الله وسنّة رسوله بعقله وعلمه على نحو مستقلّ. وأنَّ عدم جواز الاجتهاد بشكل مطلق وحصره في نطاق أحد المذاهب الأربعة يعني الحكم بوجوب اتّباع الخطأ. ولمّا كانوا هؤلاء الأربعة غير معصومين من الخطأ، ولم يقل أحد بعصمتهم، لذلك فإنَّ باب الاجتهاد المطلق- بدون أن يكون محدوداً بآراء هؤلاء الأربعة وفتاواهم- مفتوح للمسلمين كافّة حتى يوم القيامة. وهذا هو الكلام الصريح الذي قاله الشيعة، وليس فيه أيّ مجال للإشكال والإبهام، وليس بمقدور أحد من العامّة دحضه وتفنيده.
إنَّ الكتاب المعروف الذي ألّفه علّامة العصر السيّد عبد الحسين شرف الدين تحت عنوان: «النَّصّ والاجتهاد»[2] من الكتب النفيسة والقيّمة جدّاً. ولعلّ مطالعة هذا الكتاب مقرونة بجهود المرحوم آية الله البروجرديّ، هي التي دفعت المفتي الأعظم في مصر ورئيس جامعة الأزهر الشيخ محمود شلتوت أن يصدر فتواه العالميّة الشهيرة بجواز التعبّد بفقه الشيعة الإماميّة، وفيما يلي نصّ الفتوى: بسم الله الرَّحمن الرَّحيم: متن الفتوى التي أصدرها السيِّد صاحب الفضيلة الاستاذ الأكبر الشيخ محمود شلتوت شيخ الجامع الأزهر في شأن جواز التعبّد بمذهب الشيعة الإماميّة قيل لفضيلته: إنَّ بعض الناس يرى أنَّه يجب على المسلم لكي تقع عباداته ومعاملاته على وجه صحيح أن يقلّد أحد المذاهب الأربعة المعروفة وليس من بينها مذهب الشيعة الإماميّة ولا الشيعة الزيديّة، فهل توافقون فضيلتكم على هذا الرأي على إطلاقه فتمنعون تقليد الشيعة الإماميّة الاثني عشريّة مثلًا.
فأجاب فضيلته: 1- إنَّ الإسلام لا يوجب على أحد من أتباعه اتّباع مذهب معيّن. بل نقول: إنَّ لكلّ مسلمٍ الحقَّ في أن يقلّد بادئ ذي بدءٍ أيّ مذهب من المذاهب المنقولة نقلًا صحيحاً والمدوّنة أحكامها في كتبها الخاصّة، ولمن قلّد مذهباً من هذه المذاهب أن ينتقل إلى غيره أيّ مذهب كان ولا حرج عليه في شيءٍ من ذلك.
2- إنَّ مذهب الجعفريّة المعروف بمذهب الشيعة الإماميّة الاثني عشريّة مذهب يجوز التعبّد به شرعاً كسائر مذاهب أهل السنّة.
فينبغي للمسلمين أن يعرفوا ذلك وأن يتخلَّصوا من العصبيّة بغير الحقّ لمذاهب معيّنة. فما كان دين الله وما كانت شريعته بتابعة لمذهب أو مقصورة على مذهب. فالكلّ مجتهدون مقبولون عند الله تعالى، يجوز لمن ليس أهلًا للنظر والاجتهاد تقليدهم والعمل بما يقرّرونه في فقههم ولا فرق في ذلك بين العبادات والمعاملات. محمود شلتوت.
السيّد صاحب السماحة العلّامة الجليل الاستاذ محمّد تقي القمّيّ السّكرتير العامّ لجماعة التقريب بين المذاهب الإسلاميّة! سلام الله عليكم ورحمته.
أمّا بعد فيسرّني أن أبعث إلى سماحتكم بصورة موقّع عليها إمضائي من الفتوى التي أصدرتها في شأن جواز التّعبّد بمذهب الشيعة الإماميّة راجياً أن تحفظوها في سجلّات دار التقريب بين المذاهب الإسلاميّة التي أسهَمنا معكم في تأسيسها ووفّقنا الله لتحقيق رسالتها، والسلام عليكم ورحمة الله. شيخ الجامع الأزهر، محمود شلتوت.
هذه صورة الفتوى واذيعت من دار التقريب بالقاهرة في 17 ربيع الأوّل 1378 هـ[3].
أيّ عاقل يمكن أن يظلّ مصرّاً على اتّباع أحد المذاهب الأربعة فقط! مع أنَّ فتاوى هؤلاء الأئمّة الأربعة المعروفين1 وبعضها قد بلغ في عدم القبول درجة لا يمكن أن يقرّ به كلّ إنسان له ذوق سليم. فعند ما يجيز مالك وطء الغلام، ويبيح الشافعيّ الشطرنج، ويجيز الزواج من البنت المخلوقة من ماء الزنا، ويجيز أبو حنيفة شرب النبيذ. ولا يوجب إقامة الحدّ على اللواط، وكذلك لا يوجب حدّ الزنا على مَن جامع امّه، أو بنته التي عقد عليها، وكان عقده باطلًا. وعند ما لا يرى أحمد بن حنبل مانعاً من استعمال الحشيش وغيره من المخدِّرات، فعلى الإسلام السلام!
العجيب أنَّ العامّة يقولون: لا يمكن أن نتجاوز فتاوى هؤلاء الأربعة وحقيقة هذا الكلام هي القول بعصمتهم. بَيدَ أنَّهم لا يقولون بعصمة الأئمّة الطاهرين وهم معدن العلم وأهل بيت الوحي. يقول البخاريّ: كنت أصلي ركعتين قبل أن أدوّن كلّ رواية في صحيحي. بَيدَ أنَّه لم ينقل في صحيحه المفصّل والضخم رواية واحدة عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام. ويقول في هذا المجال: لم أنقل رواية عن جعفر بن محمّد لأنَّ في النفس شيئاً منه. أي: يخامرني شكّ فيه.
هذا الاسلوب قد لفت أنظار الناس شيئاً فشيئاً إلى حقيقة معيّنة، وزاد العامّة نفوراً من المذهب غير الصحيح، وقرّبهم إلى مذهب أهل البيت أكثر ينبغي مراجعة الكتب المعتبرة لأهل السنّة للوقوف على مستمسك ذي بال لهذه الفتاوى، إذ نستبعد أنَّهم أفتوا بهذه المسائل بصراحة. كما أنَّه يبدو بعد التدقيق في أصلها إجمالًا أنَّ الناقدين قد اخذوهم على هذه الفتاوى مستندين إلى لوازم بعض الفتاوى الاخرى كعموم إحدى الفتاوى أو إطلاقها. والحال أنَّ صاحب الفتوى لم يتقيّد بذلك العموم أو الإطلاق. وفي مثل هذه الحالة فإنَّ الإشكال على عموم الفتوى أو إطلاقها التي تشمل مثل هذه المواضيع.
فأكثر. ونأمل أن يسمح ذوو العلاقة بدخول كتب الشيعة إلى المناطق السنّية، فيعود الجميع إلى دين الحقّ، ويقرّوا بهذا المذهب الطاهر. ولو انكشف الحقّ فإنَّ النزيهين الباحثين عن الحقيقة سوف يقرّون به بكلّ رغبة ورحب، كما أقرّ السلطان محمّد خدابنده بمذهب الشيعة بعد أن كان حنفيّاً وذلك على أثر مناظرات العلّامة الحلّيّ مع نظام الدين عبد الملك الشافعي. فعرف الحقّ واستبصر مذهب أهل البيت في تلك الجلسات التي جرت فيها المناظرات.
وخلاصة هذه القصّة هي بالشكل التالي: كان غازان خان بن أرغون خان بن آباقا خان بن هولاكو خان بن تولي خان بن جنگيز خان المعروف ببغداد سند 702 هـ. فاتّفق أنَّ سيّداً علوّياً صلّى الجمعة في يوم الجمعة في الجامع ببغداد مع أهل السنّة، ثمّ قام وصلّى الظهر منفرداً، فتفطّنوا أنَّه شيعيّ فقتلوه. فشكا أقاربه إلى السلطان، فانكسر خاطره وأظهر الملالة من أنَّه لمجرّد إعادة الصلاة يُقتل رجل من أولاد الرسول صلّى الله عليه وآله. ولم يكن له علم بالمذاهب الإسلاميّة فقام يتفحّص عنها.
وكان في امرائه جماعة متشيّعون منهم أمير طرمطار بن مانجوبخشي، وكان في خدمة السلطان من صغره، وكان له وجه عنده. وكان يستنصر مذهب التشيّع. ولمّا رآه مغضباً على أهل السنّة، انتهز الفرصة ورغّبه في مذهب التشيّع، فمال إلىه، وقام في تربية السادة، وعمارة مشاهد الأئمّة عليهم السلام إلى أن توفي. وقام بالسلطنة أخوه السلطان محمّد المعروف بشاه خدابنده، وكان اسمه في السابق الجايتو. وصار مائلًا إلى الحنفيّة بإغواء جمع من علمائهم، فكان يكرّمهم ويوقّرهم. فكانوا يتعصّبون لمذهبهم وكان وزيره خواجه رشيد الدين الشافعيّ ملولًا من ذلك، ولكن لم يكن قادراً على التكلّم بشيء مقابل السلطان.
إلى أن جاء قاضي نظام الدين عبد الملك من مراغة إلى خدمة السلطان. وكان ماهراً في المعقول والمنقول. فجعله قاضي القضاة لتمام ممالكه. فجعل يناظر علماء الحنفيّة في محضر السلطان في مجالس عديدة، فيُعجزهم. فمال السلطان إلى مذهب الشافعيّة. ونقل الحكاية المشهورة لقتل السيّد العلويّ لإعادته الصلاة لمحضر السلطان في الصلاة. فسأل السلطان العلّامة قطب الدين الشيرازيّ- وهو أحد علماء الشافعيّة- إن أراد الحنفيّ أن يصير شافعيّاً فما له أن يفعل؟ فقال: هذا سهل، يقول: لَا إلَهَ إلَّا اللهُ، مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ.
وفي سنة 709 أتى ابن صدر جهان الحنفيّ من بخارى إلى خدمة السلطان وهو من العلماء المشهورين فشكا إلىه حنفيّةُ بغداد من القاضي نظام الدين وأنَّه أذلّنا عند السلطان وامرائه. فألطف بهم ووعدهم إن كان في يوم الجمعة في محضر السلطان، سأل القاضي مستهزئاً عن جواز نكاح البنت المخلوقة من ماء الزنا على مذهب الشافعيّ. فعند مجيء يوم الجمعة سأله عن تلك المسألة. فقال القاضي بلا مهل أنَّه معارض بمسألة نكاح الاخت والامّ في مذهب الحنفيّة. فطال بحثهما وآل إلى الافتضاح. وأنكر ابن صدر الحنفيّ ذلك، فقرأ القاضي من منظمة أبي حنيفة:
وَلَيْسَ في لِواطِهِ مِن حَدِّ *** وَلَا بِوَطءِ الاختِ بَعْدَ الْعَقدِ
فافحموا وسكتوا، وملّ السلطان وامراؤه وندموا على أخذهم دين الإسلام وقام السلطان مغضباً. وكان الامراء يقول بعضهم لبعض. ما فعلنا بأنفسنا؟ تركنا مذهب آبائنا وأخذنا دين العرب المنشعب إلى مذاهب وفيها نكاح الامّ والاخت والبنت، فكان لنا أن نرجع إلى دين أسلافنا.
وانتشر الخبر في ممالك السلطان، كان الناس إذا رأوا عالماً أو مشتغلًا يسخرون منه ويستهزؤن به ويسألونه عن هذه المسائل. فلمّا رأي أمير طرمطار تحيّر السلطان في أمره، قال له: إنَّ السّلطان غازان خان كان أعقل الناس وأكملهم، ولمّا وقف على قبائح أهل السنّة، مال إلى مذهب التشيّع ولا بدّ أن يختاره السلطان. فقال: ما مذهب الشيعة! قال أمير طرمطار: المذهب المشهور بالرفض. فصاح عليه السلطان: يا شقيّ، تريد أن تجعلني رافضيّاً؟ فأقبل الأمير يزيّن مذهب الشيعة ويذكر محاسنه له إلى أن مال السلطان إلى التشيّع بعد ثلاثة أشهر من التشتّت والاضطراب وسافر إلى النجف الأشرف. وتفقّد وضع السادة والعلماء هناك ممّا زاد في محبّته. وكتب إلى وزيره رشيد الدين من هناك يطلب منه إحضار أئمّة الشيعة. فأحضر رشيد الدين العلّامة الحلّيّ جمال الدين الحسن بن يوسف بن عليّ بن المطهّر، وولده فخر المحقّقين إلى بغداد وكان مع العلّامة من تاليفاته كتاب «نهج الحقّ وكشف الصدق» وكتاب «منهاج الكرامة» فأهداهما إلى السلطان، وصار مورداً للألطاف والمراحم، فأمر السلطان قاضي القضاة نظام الدين عبد الملك، وهو أفضل علماء زمانهم، أن يناظر آية الله العلّامة. وهيّأ مجلساً عظيماً مشحوناً بالعلماء والفضلاء فأثبت العلّامة بالبراهين القاطعة والدلائل الساطعة خلافة أمير المؤمنين عليه السلام بعد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بلا فصل، وأبطل خلافة الخلفاء الثلاثة بحيث لم يبق للقاضي مجال مدافعة وإنكار، بل شرع في مدح العلّامة واستحسن أدلّته وقال في آخر الكلام: غير أنَّه لمّا سلك السّلف سبيلًا، فاللازم على الخلف أن يسلكوا سبيلهم لإلجام العوامّ ودفع تفرّق كلمة الإسلام، ويستر زلّاتهم (الصحابة) ويسكت في الظاهر من الطعن عليهم. وعلى أثر هذه المناظرة ووهن دلائل السنّة وقوّة أدلّة العلّامة لإثبات مذهب الحقّ دخل السلطانُ وأكثر امرائه في ذلك المجلس في مذهب الإماميّة بلا مهل، وتابوا من البدع التي كانوا عليها. وأمر السلطان في تمام ممالكه بتغيير الخطبة وإسقاط أسامي الخلفاء الثلاثة عنها، وبذكر أسامي أمير المؤمنين وسائر الأئمّة عليهم السلام على المنابر وبذكر حَيّ على خَيْرِ الْعَمَلِ في الأذان، وبتغيير السكّة ونقش الأسامي المباركة عليها.
ولمّا انقضى مجلس المناظرة، خطب العلّامة خطبة بليغة شافية وحمد الله تعالى وأثنى عليه، وصلّى على النبيّ المصطفى صلّى الله عليه وآله وسلّم وعلى عليّ المرتضى وأولاده المعصومين من آل النبيّ. فقال السيّد ركن الدين الموصليّ الذي كان ينتظر عثرة منه، ولم يعثر عليها: ما الدليل على جواز الصلاة على غير الأنبياء، فقرأ العلّامة قوله تعالى: {الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وإِنَّا إلىهِ راجِعُونَ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ ورَحْمَةٌ وأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}[4]. فقال السيّد الموصليّ: ما الذي أصاب عليّاً وأولاده من المصيبة حتى استوجبوا الصلاة عليهم. فعدّ العلّامة بعض مصائبهم، ثمّ قال: أيّ مصيبة أعظم عليهم من أن يكون مثلك تدّعي أنَّك من أولادهم، ثمّ تسلك سبيل مخالفيهم وتفضّل بعض المنافقين عليهم، وتزعم الكمال في شرذمة من الجهّال. فاستحسنه الحاضرون وضحكوا على السيّد الموصليّ. فأنشد بعضُ من حضر:
إذَا الْعَلَويّ تابَعَ ناصِبيّاً *** لِمَذهَبِهِ فَما هُوَ مِن أبيهِ
وَكانَ الْكَلْبُ خَيْراً مِنْهُ طَبْعاً *** لأنَّ الْكَلْبَ طَبْعُ أبيهِ فيه[5]
[1] الآية 44، من السورة 16: النحل.
[2] إنَّ موضوع هذا الكتاب الكريم هو أنَّنا معشر الشيعة نلتزم بالنصوص النبويّة، بَيدَ أنَّ العامّة يجتهدون ويطرحون آراءهم في مقابل تلك النصوص، كما مرّ بنا في هذا الكتاب. وقد تمّ في ذلك الكتاب النفيس استقصاء جميع تلك النماذج، ونماذج اخرى كثيرة غيرها.
[3] نقلًا عن مجلّة «تاريخ الإسلام».
[4] الآيتان 156 و157، من السورة 2: البقرة.
[5] ذكر المرحوم النوريّ هذه القصة في خاتمة كتابه «مستدرك الوسائل» في الفائدة الثالثة ص 460، وقد نقلنا هنا ملخّصها. ويبدو أنَّ النّوريّ رضوان الله عليه نقلها عن «مجمع التواريخ» لحافظ أبرو، كما نقلها الدكتور خان بابا بياني عن حافظ أبرو في «مجمع التواريخ» (نسخة السيّد ملك، الجزء الثالث، الورقة 237) في التعليقة المذكورة على الصفحات 101 حتى 104 عن ذيل «جامع التواريخ» لرشيدي. وهذا الكتاب أيضاً من تاليف حافظ أبرو. وأمّا في ذيل «جامع التواريخ» نفسه، فقد ذكر حافظ أبرو السبب الذي دفع الجايتو إلى قبول مذهب الشيعة في غاية الإيجاز، وذلك على الصفحات 100- إلى- 103 من كتابه يقول: وفي أيّام نفوذ الخواجه سعد الدين آوجي، كان للسيّد تاج الدين آوجي المنحدر من آوه والمولود في كونه والمترعرع عند مشهد أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام. نفوذ تامّ عند السلطان وكان يحثّ السلطان على اعتناق المذهب الشيعيّ؛ وقد قبل السلطان هذا المذهب طوعاً له؛ وقد بلغ به درجة ترك فيها ذكر الشيخين وعثمان في الخطبة مدّة مديدة مقتصراً على ذكر عليّ عليه السلام دون غيره من الخلفاء. وجاء في تاريخ «حَبيبُ السير» في الجزء الثالث ص 191، طباعة خيّام سنة 1374 الهجريّة، لمؤلّفه غياث الدين بن همام الدين الحسينيّ المعروف ب (خواند أمير) قوله: [هذا الكتاب التاريخيّ باللغة الفارسيّة]. تربّع السلطان محمّد بن أرغون خان المعروف ب «اولجايتو خان» على العرش وعمره ثلاث وعشرون سنة. وقد بذل جهوده في تشييد قواعد الإسلام وتمهيد الاسس لُامّة خير الأنام عليه الصلاة والسلام موصداً أبواب الظلم والاجحاف. وفوّض منصب الوزراة للخواجة رشيد الدين فضل الله، والخواجة سعد الدين محمّد بأمر أخيه (غازان خان). وزيّن القلوب بزينة العترة الطاهرة لرسول الله عليه السلام والتحيّة؛ وسكّ النقود بأسماء الأئمّة المعصومين. وهو أوّل ملك من آل جنگيز خان حظي بسعادة اعتناق المذهب الإماميّ الساميّ، وأمر بذكر أسماء الأئمّة الاثني عشر عليهم السلام في الخطبة والنقود. ويقول في ص 197: كان الشيخ جمال الدين المطهّر الحلّيّ معاصراً للسلطان محمّد خدابنده. واعتنق هذا السلطان مذهب الإماميّة بتوجيهه وإرشاده. وللشيخ جمال الدين المطهّر فضائل وكمالات ومناقب وصفات كريمة جمّة. وله تصنيفات وإفادات لا تحصى في العلوم الدينيّة والفنون النقليّة منها كتابه «نهج الحقّ» المشتمل على الأدلّة التي تثبت صحّة المذهب الاثني عشريّ، ومنها «القواعد» و«شرح التجريد». رحمة الله عليه رحمة واسعة. انتهى. ونقل المرحوم محمّد بن تقيّ المجلسيّ مناظرات العلّامة الحلّيّ مع علماء المذاهب الأربعة، واستبصار السلطان محمّد خدابنده مذهب الإماميّة في كتاب «روضة المتّقين» الذي ألّفه في شرح «من لا يحضره الفقيه»، في الجزء التاسع منه، نشر (بنياد فرهنگ إسلامي كوشانپور)، في كتاب الطلاق ضمن ذكر الأدلّة على بطلان الطلقات الثلاث في مجلس واحد، من ص 30إلى ص 33. وفيما يلي كلامه في هذا المجال: كما أنَّه (بطلان طلقات الثلاث في مجلس واحد) كان سبب إيمان سلطان محمّد جايلتو رحمه الله أنَّه غضب على امرأته، وقال لها: أنتِ طالق ثلاثاً. ثمّ ندم وجمع العلماء. فقالوا: لا بدّ من المحلّل! فقال: عندكم في كلّ مسألة أقاويل مختلفة. أ فليس لكم هنا اختلاف! فقالوا: لا. وقال أحد وزرائه: إنَّ عالماً بالحلّة وهو يقول ببطلان هذا الطلاق. فبعث كتابه إلى العلّامة وأحضره. ولمّا بعث إلىه، قال علماء العامّة: إنَّ له مذهباً باطلًا ولا عقل للروافض. ولا يليق بالملك أن يبعث إلى طلب رجل خفيف العقل. قال الملك: حتى يحضر. فلمّا حضر العلّامة، بعث الملك إلى جميع علماء المذاهب الأربعة وجمعهم. فلمّا دخل العلّامة، أخذ نعليه بيده، ودخل المجلس، وقال: السلام عليكم. وجلس عند الملك. فقالوا للملك: أ لم نقل لك إنَّهم ضعفاء العقول؟ فقال الملك: اسألوه عن كلّ ما فعل! فقالوا له: لم ما سجدت للملك، وتركتَ الآداب؟ فقال: إنَّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم كان ملكاً، وكان يُسلّم عليه فقط. وقال الله تعالى: {فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً} (الآية 61، من السورة 24: النور) ولا خلاف بيننا وبينكم أنَّه لا يجوز السجود لغير الله! قالوا له: لِمَ جلستَ عند الملك؟ قال: لم يكن مكان غيره. وكلّ ما يقوله العلّامة بالعربيّ كان يترجم المترجم للملك. قالوا له: لأيّ شيء أخذت نعلك معك؛ وهذا ممّا لا يليق بعاقل، بل بإنسان؟ قال: خفتُ أن يسرقه الحنفيّة كما سرق أبو حنيفة نعل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم. فصاحت الحنفيّة: حاشا وكلّا، متى كان أبو حنيفة في زمن رسول الله صلّى» عليه [و آله] وسلّم؟ بل كان تولّده بعد المائة من وفاة رسول الله.
فقال: نسيت، لعلّه كان السارق الشافعيّ. فصاحت الشافعيّة، وقالوا: كان تولّد الشافعيّ في يوم وفاة أبي حنيفة، وكان أربع سنين في بطن امّه ولم يخرج رعاية لحرمة أبي حنيفة! فلمّا مات، خرج. وكان نشؤه في المائتين من وفاة رسول الله. فقال العلّامة: لعلّه كان مالكاً. فقالت المالكيّة بمثل ما قالته الحنفيّة. فتوجّه العلّامة إلى الملك، فقال: أيّها الملك، علمتَ أنَّ رؤساء المذاهب الأربعة لم يكن أحدهم في زمان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ولا في زمان الصحابة. فهذا أحد بدعهم، أنَّهم اختاروا من مجتهديهم هؤلاء الأربعة. ولو كان منهم من كان أفضل منهم بمرّات، لا يجوّزون أن يجتهد بخلاف ما أفتاه واحد منهم. فقال الملك: ما كان واحد منهم في زمان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم والصحابة؟ فقال الجميع: لا. فقال العلّامة: ونحن معاشر الشيعة تابعون لأمير المؤمنين عليه السلام نفس رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وأخيه وابن عمّه، ووصيّه. وعلى أيّ حال، فالطلاق الذي أوقعه الملك باطل، لأنَّه لم يتحقّق شروطه، ومنها: العدلان. فهل قال الملك بمحضرهما؟ قال: لا. وشرع في البحث مع علماء العامّة حتى ألزمهم جميعاً. فتشيّع الملك، وبعث إلى البلاد والأقإلىم حتى يخطبوا للأئمّة الاثني عشر في الخطبة، ويكتبوا أساميهم في المساجد والمعابد. والذي في أصبهان موجود الآن في الجامع القديم الذي كتب في زمانه في ثلاثة مواضع؛ وعلى منارة دار السيادة التي تمّمها سلطان محمّد بعد ما أحدثها أخوه غازان أيضاً موجود. وفي محاسن أصفهان موجود، إنَّ ابتداء الخطبة كان بسعي بعض السادات، اسمه (ميرزا قلندر) ومن المعابد التي رأيتُ، معبد (پير بكران) الذي في لنجان، وبني في زمانه وأسماء الأئمّة الاثني عشر موجودة الآن. وكذا في معبد قطب العارفين نور الدين عبد الصمد النطنزي الذي لي نسبة إليه من جانب الامّ، موجود الآن. والحمد لله ربّ العالمين على هذه النعمة أنَّ أصبهان بعد ما كانت أبعد البلاد من التشيّع، صارت بحيث لا يوجد في البلد ولا في قراه (والمشهور أنَّه ألف قرية وذكر أكثرها الفيروز آباديّ في قاموسه) من خلاف المذهب الحقّ أحد، حتى أنَّه لا يتّهم بالتسنن إلّا واحد، وهو محض الاتّهام. وقلّما توجد بلدة أن تكون هكذا من البلاد التي كانت على التشيّع في زمن الأئمّة عليه السلام إلى الآن، كبلاد جبل عامل، وتون، وأستر آباد، وسبزوار، وطوس، وتبريز وقم، والكوفة، ومازندران، وكاشان، وكشمير، والتبت، وحيدر آباد، وآبه، وتستر، والبحرين، والحويزة، ونصف الشام، وغيرها ممّا ذكره الفاضل السيّد نور الله الشوشتريّ في «مجالس المؤمنين» فإنَّه يوجد في أكثرها أو في قراها من هو على خلاف المذهب الحقّ. والحمد الله ربّ العالمين على شيوع التشيّع في جميع البلاد سيّما في بلاد إيران قاطبة؛ وحتى في الحرمين الشريفين: مكّة المعظّمة، والمدينة المنوّرة، وقزوين، وجيلان، وهمدان، وبلاد فارس، ويزد، ونواحيها، وحتى البصرة. ونرجو من الله تعالى أن يعجّل ظهور قائم آل محمّد صلوات الله عليهم حتى يصير العالم على الطريقة الحقّة البيضاء، وهي حكومة الحقّ، وولاية آل محمّد، كما وعد الله في كتابه الكريم إذ قال: {وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا مِنكُمْ وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ في الأرْضِ كَما استَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ولَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الذي ارْتَضَى لَهُمْ ولَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً}.(الآية 55، من السورة 24: النور.). ونقل المرحوم محمّد على مدرّس في كتابه «ريحانة الأدب» [فارسيّ] تشيّع السلطان محمّد خدابنده، الجايتو كما بيّناه هنا مع إضافات اخرى، وذلك ضمن شرحه أحوال العلّامة الحلّيّ (من ص 167 إلى ص 179 من الجزء الرابع، الطبعة الثانية، مطبعة شفق تبريز) إذ فصّل في أحوال هذا العالم العظيم، نقلًا عن شرح كتاب «من لا يحضره للمجلسيّ الأوّل [والد العلّامة محمّد باقر المجلسيّ] بالواسطة، ولكنّه لمّا كان مشتملًا على إضافات غير موجودة في متن الشرح، لذلك نقلنا هنا عبارات المجلسيّ الأوّل بالنصّ مراعاة للأمانة.
الاكثر قراءة في فرق واديان ومذاهب
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة