إن معرفة أسباب المشكلة، أي مشكلة كانت، تساعد بشكل كبير على حل تلك المشكلة ولهذا يتحتم علينا قبل معرفة طرق معالجة ظاهرة القلق والإضطراب عند الأبناء أن نعرف أولاً الأسباب والعوامل التي تؤدي إلى تورّط الأبناء حالة القلق والإضطراب النفسي.
في الواقع أن هناك العديد من الأسباب التي يمكن أن تسبب للطفل حالة القلق والإضطراب وسنشير هنا إلى أهم تلك الأسباب:
الأول: فقدان الوالدين
يعد فقدان أحد الوالدين أو كليهما من أهم العوامل وأكثرها تأثيراً في حصول حالة القلق والإضطراب في الأبناء، وسيتعرض الطفل الذي يشعر بعدم وجود الأبوين إلى بعض حالات التوتر وعدم الإستقرار، وسيصاب ببعض المشاكل السلوكية مثل الإكتئاب عدم التركيز في أفعاله، العنف والسلوك العدواني مع أصدقائه وأفراد أسرته وغيرها من العلائم التي ستظهر على سلوك الطفل في مختلف أبعاد حياته الإجتماعية والفردية.
الثاني: إنهيار شخصية الطفل
إنَّ النقد المستمر الموجه من قبل الأبوين لطفلهما يتسبب في وجود حالة القلق والإضطراب، وكذا التصرفات العنيفة التي يقوم بها الآباء أو المعلمون في المدرسة مثل ضرب الطفل، مخاطبته بكلمات قاسية وبذيئة أو تهديده بعقوبات عنيفة أو الإستهزاء به وغيرها من التصرفات غير اللائقة مع شخصه. كل ذلك سيترك في نفسه الشعور بالإحباط وعدم الثقة بالنفس وهذا يدفع الطفل الى أن يشعر بالقلق والإضطراب في داخله وسيترك الكثير من الإختلالات النفسية الأخرى فيه.
يقول الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام): ((الإفراط في الملامة يشب نار اللجاجة))(1).
وعنه (عليه السلام): ((إذا عاتبت الحدث فاترك له موضعا من ذنبه لئلا يحمله الإخراج على المكابرة))(2).
الثالث: الخلافات الاسرية
يعتبر عدم الاستقرار في الحياة الأسرية ووجود الخلاف بين أفرادها، من أهم الأسباب التي تؤدي إلى معاناة الطفل من القلق.
إن النزاعات بين الوالدين والتصرفات العدوانية والإصطدامية التي تدور بينهما لاسيما إذا كان حدوث تلك التصرفات أمام الطفل وبمرأى ومسمع منه، فلاشك أنها ستترك حالة التوتر والصدمة النفسية داخل الطفل، وستجعله يعيش حالة الخوف والقلق.
ولذلك حذر الإسلام من وقوع أي تشنج وخلاف بين الزوجين، وحثّ على لزوم الوقاية من حدوث الخلافات بين الزوجين أو معالجتها اذا ما حدثت بينهما فعن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه قال: ((خير الرجال من أُمتي الذين لا يتطاولون على أهليهم ويحنون عليهم ولا يظلمونهم))(3).
وشجّع الامام محمد الباقر (عليه السلام) على تحمّل الإساءة، لان ردّ الاساءة بالاساءة يوسع دائرة الخلافات والتشنجات، فقال (عليه السلام) ((من احتمل من امرأته ولو كلمة واحدة أعتق الله رقبته من النار وأوجب له الجنّة))(4).
الرابع: الإنتقال إلى منزل آخر
من الأسباب التي تؤدي بالطفل إلى حالة القلق والإضطراب هو تغيير المنزل والإنتقال إلى محل آخر للعيش.
إن الإنتقال من منزل إلى منزل آخر يغير الكثير من الأمور لدى الطفل ومنها البيئة التي عاش فيها سنوات عديدة وقد تعود عليها وهكذا سيفقد الولد أصدقاءه وزملاءه الذين إعتاد عليهم وعلى معاشرتهم ودأب على اللعب معهم وو سيخسر الألفة مع أبناء منطقته، والمدرسة التي لازمها سنين متعددة، وغير ذلك من الأمور التي كسبها على مدى أعوام عديدة من خلال تواجده في ذلك المنزل وتلك المنطقة التي عاش فيها، وهذا ما لا يطيقه الطفل أو يتحمله، وربّما يترك في داخله الشعور بالقلق والإضطراب النفسي، لاسيما وهو لا يعرف المنزل الجديد الذي نزل فيه وماذا سيحدث له، ومن سيكون صديقه في تلك المنطقة والمحلة التي سيستقر فيها، وفي أية مدرسة سيواصل دراسته، وكيف يكون تعامل المعلمين معه، وغيرها من التساؤلات التي تبقى دون إجابة واضحة، إنّ ذلك كله يجعل الطفل يعيش حالة من الابهام ممّا يؤدي به إلى التشويش والقلق في نفسه.
الخامس: الشعور بالإحباط
يعد الشعور بالإحباط المتزايد من الأسباب المهمة التي تجعل الطفل يشعر بحالة من القلق والإضطراب. وهذا ينشأ من أسباب مختلفة:
فقد يكون الشعور بالإحباط من المعاملة السيئة أو اللوم والانتقاد الموجه الى تصرفاته من قبل المعنيين في المدرسة، مثل المعلم أو المدير أو غيرهما وبما أنه لم يستطع أن يردّ على القسوة التي لاقاها من قبل هؤلاء، ولم يستطيع أن يعبّر عن غضبه فحينئذ يتعرض لحالة من القلق والإضطراب.
وقد يكون الإحباط، ناشئ من الطموح والأهداف التي رسمها لنفسه والتي يتطلع الى بلوغها، ولكن كلما حاول ذلك لم يجد في نفسه تلك القدرة على إنجازها ولم يستطع تحقيقها ونيلها، فحينئذ تتغير أحواله ويتحول إلى إنسان كئيب لا يرغب بالمبادرة لعمل آخر فتسيطر عليه حالة من اليأس والقنوط ثم يصاب بالقلق والإضطراب.
السادس: ابتعاد الأم عن الطفل
إن قلق وإضطراب الطفل لاسيما الصغار منهم، قد يتولد من إبتعاد الأم وهجرانها له ذلك أنّ العلاقة الشديدة التي أودعها الله تعالى بين الام وطفلها هي التي تسكن روعه وتمنحه السكينة والطمأنينة وكذا الحال في الأم، فإنّها لا تطيق أن تتحمل إبتعاد طفلها ولم يكن بوسعها مفارقته حتى في أشد الحالات وأصعبها وقد أشار الله تعالى إلى هذه العلاقة في قوله {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [القصص: 10].
فإن الطفل خاصة إذا كان دون الثالثة من عمره، بحاجة ماسة إلى وجود أمه وحضورها بين يديه ولا يستطيع أن يتحمل غيابها ولو لساعات قليلة فإن أحس بغيابها ستبدو عليه حالة من القلق والإضطراب ولذلك تنصح الأمهات اللاتي لهن مولود صغير أن يتركن عملهن خارج المنزل إذا كان ذلك العمل يستمر لساعات طويلة، وأن يقمن برعاية أولادهن إلى حين اكتمال نموهم فقد فرض الله عليهن حفظ أولادهن والقيام برعايتهم مهما كلف الأمر. قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) ((كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته))(5).
وقد ورد عن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) في فضل من قام برعاية أولاده ما لا يتوقعه الإنسان فقال ((مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى كَانَ لَهُ مِنْ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورٍ مَنْ تَبِعَهُ لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا))(6).
فكل شيء تلقنه الأم لولدها فيعمل به فإن لها مثل أجره اذا ما عمل به، وأي فضل أعظم من هذا.
ولكن للأسف أن الكثير من الآباء في عصرنا الحاضر قد تركوا أولادهم حيث يخرجون من أول النهار من المنزل فلا يعودون إلا بعد ذهاب شطر من الليل ولا يعرفون شيئاً عنهم ولا يداعبونهم ولا يلاعبونهم بل ربما لا يعرفون أن إبنهم في أي صف أو مرحلة من الدراسة وهل نجح في نهاية السنة الدراسية أم أنه رسب، وعندما تدعوهم إدارة المدرسة الى أن يتواصلوا مع أساتذة أولادهم ليتعرفوا على سعي وجهد أطفالهم في الدروس اليومية أو إهمالهم لذلك، أو ربما تدعوهم ليحضروا في المدرسة ليتعرفوا مدى مشكلات ومعاناة أولادهم نراهم لا يستجيبون.
فمثل هؤلاء الآباء لا يهمهم من الأولاد إلا أن يأتوا لهم بالطعام والشراب وأن يكسوهم وإذا سألتهم عن مدى رعايتهم للأولاد فيجيبون: أننا مشغولون بالعمل ولكن قمنا بتوفير سيارة وسائق يقضي حوائجه ويوصله إلى المدرسة وأستخدمنا له خادمة تقوم برعايته وتؤدي له جميع مطالبه.
وفي الحقيقة أنّ إستخدام الخادمة بإستمرار لأداء أعمال المنزل من أهم المعضلات التي تعانيها بعض العوائل المسلمة في عصرنا الراهن، حيث تخرج الأم من المنزل للعمل ولا تهتم بأطفالها بل تتركهم للخادمة وتنسى واجبها الشرعي والإنساني الذي فرض عليها من رعاية طفلها وحمايته جسدياً وروحياً.
نعم ربما الخادمة تستطيع أن تقوم بإطعام الطفل أو تبديل ثيابه ولكنها غير قادرة من أن تلعب دور الأم كما هو، فتقوم بإشباع ما تحتاجه روح الطفل من الرحمة والمودة والشفقة فإنّ هذا ما لن يحصل للطفل إلا من قبل الأم.
السابع: التوقعات الخاطئة
إن رغبة الأبوين بالكمال والمثالية للطفل: من المصادر التي تشكل القلق والإضطراب عند الطفل، فهي توقعات عسيرة قد لا يستطيع الطفل أن يحققها من قبيل إذا أرسل الأب طفله ويريد منه أن يحقق إنجازا عظيما مثل عقد صفقة مع فرد آخر أو يطلب منه أن يخطب بين الجموع الغفيرة من الناس ويريد منه أن يحسن الخطاب ويتجنب الأخطاء اللغوية والمعنوية، أو إذا توقع الآباء من أولادهم في المدرسة أن ينالوا في جميع المواد الدراسية الدرجة المثالية وأن يسبق الطفل جميع زملائه في الصف وهكذا طلبات وتوقعات أخرى خارجة عن قدرته وطاقته الجسدية والنفسية والفكرية فإنّ ذلك يورث القلق والتوتر في قلب الطفل لأنّ الطفل عندما يرى نفسه أنه لا يستطيع أن يلبي طلبات الأبوين وتوقعاتهم سوف يحتقر نفسه ويستصغرها وسوف يشعر بالضعة والدونية وهذا ما يؤثر على حالاته النفسية ويجعله خائفا ومضطربا.
ولعل من الأسباب الأساسية التي أسقطت التكليف والعمل الشاق هو قوله تعالى {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، أي أن العمل الشاق الذي هو خارج عن طاقة الإنسان والذي يؤدي به إلى الفشل، سوف يترك فيه آثار من القلق والاضطراب، وهكذا الأولاد إن كلّفوا بأعمال شاقه سوف يؤدي بهم الأمر إلى القلق والاضطرابات النفسية، ولذلك لا ينبغي أن يجعلوا أولادهم في هذا المأزق وقد ورد عن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) ((رَحِمَ اللَّهُ مَنْ أَعَانَ وَلَدَهُ عَلَى بِرِّهِ قَالَ قُلْتُ كَيْفَ يُعِينُهُ عَلَى بِرِّهِ قَالَ يَقْبَلُ مَيْسُورَهُ وَيَتَجَاوَزُ عَنْ مَعْسُورِهِ وَلَا يُرْهِقُهُ وَلَا يَخْرَقُ بِه))(7).
فليعلم الأبوان أن تكليف الطفل بما هو خارج عن وسعه وقدرته، أو ثقتهما به كما لو كان شخصاً بالغاً راشداً مدركاً نتيجة تصرفاته وأفعاله، يسبب حدوث حالة القلق لديه وذلك لما تقتضيه حالة نضوج الولد قبل الأوان.
الثامن: افتقاد الأمان
يُعد إنعدام الشعور الداخلي بالأمان لدى الإنسان سبباً مهماً في معاناته من القلق، وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا العامل في قصة خوف موسى من فرعون وتآمره على قتله فقال سبحانه وتعالى: {وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ} [الشعراء: 14].
وقد تحدث في موضع آخر عن قلق إبراهيم حينما زاره عدد من الملائكة وتصور أنهم بشر يأكلون ويشربون ولكن بعدما قدم لهم الطعام وشاهد إمتناعهم عن أكل الطعام، إنكشف له أنّهم ليسوا من البشر، فلما جهل حقيقة أمرهم دخل في قلبه الرعب والخوف والقلق وقد أشار الله تعالى إلى قصتهم في سورة هود فقال سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ * فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ} [هود: 69، 70].
هذا فيما يرتبط بكبار السن وأمّا الأطفال وصغار السن فقد يزداد عندهم القلق والاضطراب عندما يفقدون الأمان ويشعرون بالخوف والوجل، ولاشك أن ذلك سيؤثر سلباً على نموهم العقلي والانفعالي والفسيولوجي وذلك لأن الشعور بالأمن والاستقرار من أقوى الدوافع والحاجات النفسية التي يحتاج اليها الطفل.
التاسع: العامل المدرسي
من العوامل المهمة والشائعة للإضطرابات النفسية عند الأبناء هو المدرسة وممارسة الدروس اليومية والوظائف التي يكلف الطالب والتلميذ بأدائها من قبل المعلمين والأساتذة.
إن الأبناء الذين يمارسون وظائفهم المدرسية ولاسيما الناشئين منهم وطلاب الصف الأول الإبتدائي الذين لم يعهد حضورهم في المدرسة فإن أغلب هؤلاء التلاميذ معرضون لحالة القلق والاضطراب.
فقد يكون قلقهم من عدم تحضيرهم الدروس اليومية فإن الطالب الذي لم يؤد واجبه المدرسي والمطلوب منه يعيش حالة قلق وإضطراب، خوفاً من أن يسأله الأستاذ عن واجبه الذي كلف به أو أن يفحص حاله الدراسي فينكشف أمره أمام أصدقائه وزملائه فيخجل لتقصيره في أداء واجبه وغيرها من الأفكار والتصورات التي تدور في ذهنه. فيعيش الطالب في تلك الساعات واللحظات التي يقضيها في المدرسة في حالة قلق واضطراب حتى ينتهي وقت الدوام في المدرسة.
وقد يكون قلقه وإضطرابه بسبب الإمتحان والإختبار الذي تم تعيينه فيأتي الطالب إلى جلسة الإختبار وهو غير مستعد له فيصاب بحالة من القلق والاضطراب خوفاً من عدم النجاح في تلك المادة التي امتحن فيها.
____________________________
(1) غرر الحكم ودرر الكلم ص 94.
(2) شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد: ج 20 ص 333.
(3) مكارم الأخلاق: ص 216.
(4) مكارم الأخلاق: ص 216.
(5) إرشاد القلوب: ج 1 ص 184.
(6) منية المريد: ص 102.
(7) الكافي: ج 6 ص 50.
الاكثر قراءة في مشاكل و حلول
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة