جهات خطأ منهج الاعتزال
المؤلف:
السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ
المصدر:
معرفة الله
الجزء والصفحة:
ج3/ ص223-228
2025-08-21
386
المعتزلة هم اصحاب واصل بن عطاء تلميذ الحسن البصريّ. ولهؤلاء عقائد خاصّة في كثير من المسائل. فالمعتزلة تقول: أن طريق لقاء الله مسدود تماماً بوجه غير الله. اي أنّه ليس بإمكان أيّ موجود أن يلقي الله بأيّ شكل من الأشكال، سواء أكان في الدنيا أم في الآخرة، وسواء أ كان بعين البصر أم البصيرة أم كان ذلك ظاهراً أم باطناً.
ويقولون كذلك بتأويل جميع الآيات والروايات التي تشير إلى لقاء الله، وذلك بسلسلة من المعارف تكون مناسبة مع الله. مثل لقاء أسماء الله ونِعَمِه وصفاته ورضوانه وما شابه ذلك.
ومن جملة عقائد المعتزلة قولهم: أن الله خالق الخير وأن الإنسان خالق الشرور والسيّئات، بمعنى أن الشرّ مصدره الإنسان والخير مصدره الله. وأن في العالم مبدءيْنِ خالقينِ: أحدهما الله وهو خالق الخيرات، والآخر هو الإنسان خالق الشرور.
ومن عقائد المعتزلة الأخرى: أن الله سبحانه وتعالى لمّا خلق الإنسان جعله مستقلًّا وحرّاً في أفعاله بكلّ معنى الكلمة. مثله كمثل الساعة التي تُملأ من قِبل الإنسان ثمّ تقوم بالعمل كذلك لوحدها فتُدير عجلاتها المسنّنة وعقاربها وتدفع جَرسها على الدقّ في وقت مُعيّن. وكذا الحال مع الإنسان الذي خُلِقَ مِن قِبَل الله، فهو يُؤدّي أفعاله باختياره وحرّيّته التامّة. أن الإنسان هو الفاعل لأفعاله لا غير. ليس لله سبحانه أيّ دَخلٍ في أفعال الإنسان بأيّ شكل من الأشكال.
وهذه مدرسة ومذهب الآخرين، إذ ليس أحد من الشيعة معتزليّ؛ وما يتوهّم به البعض بإدراج الشيعة في قائمة المُعتزلة أو اعتبار المُعتزلة شعبة منهم، هو خطاٌ محض.
فالمُعتزلة هم من أهل السنّة، مَثَلهم كمَثل الأشعريّة، وكلاهما يقفان في الصفّ المخالف للشيعة.
وبالجملة، فإنّ مذهب الاعتزال غير صحيح كذلك.
أوّلًا: أن لقاء الله سبحانه مفتوح على مصراعَيْه للجميع، وهناك آياتٌ وروايات لا تُعَدّ ولا تُحصى تدلّ كلّها على أن طريق لقاء الله ممكن لكلّ البشر. فالإنسان قادر على لقاء الله وزيارته والتشرّف بمقابلته؛ كلّ ما في الأمر أنّه لا يمكنه رؤيته بحاسّة بصره، لأنّه تعالى ليس بجسم. وعلى هذا فأفراد البشر قادرون على رؤية الله سبحانه والتشرّف بلقائه بعين الفؤاد والحقيقة والبصيرة والإيمان الباطن؛ وهم القادرون على ذلك كما ذكرنا نتيجة تزكية النفس الأمّارة بالسوء؛ وبعد اجتيازهم للمراحل الأربع المذكورة والمدوّنة في كتب الأخلاق المعروفة وهي: التجلية؛ التخلية؛ التحلية؛ الفَناء، ولن يقتصر الأمر على لقائهم الله تعالى وحسب، بل سيستقرّون في رحاب حرمه الآمن والمأمون، ولن يُحرَموا طَرفة عين من شرف الحضور واللقاء والزيارة والفَناء والاندكاك في ذاته المقدّسة أبداً.
وليس هناك سند أمتن ومستند أوثق على ما ندّعي من الروايات المتواترة بهذا الخصوص، وأدعية سيّد الموحّدين أمير المؤمنين، ومناجاة الإمام زين العابدين، والأخبار الواردة عن صادق آل البيت، والإمام أبي الحسن الرضا عليهم آلاف التحية والسلام وغاية الصلوات والإكرام.
ثانياً، أن ما ذكروه من أن الله سبحانه خالق الخير والإنسان هو خالق الشرّ مغلوط هو الآخر، لقبح تصوير مَبدأيْن في عالَم الخَلق، ولا اختلاف في هذا القُبح سواء أعتقد الإنسان بمبدأيْن هما «أهورا مزدا» و«أهريمن» وبالتالى الاعتقاد بمَبدأيْن في عالَم الوجود، أم بالقول أن الله هو خالِق الخيرات والحسنات وأن الإنسان هو خالق الشرور والسيّئات؛ فكِلا القولين يُشيران إلى وجود مَبدأيْن. أن الطريق الأمثل والأوحد لحلّ مسألة ومعضلة الشرور هو ما فصّلناه في بحثنا لهذا الموضوع إلى الآن، وما أجبنا فيه من بين الطرق الثلاثة التي كان أحدها مسألة عدميّة الشرور.
ثالثاً، قولهم أن الله خلق الإنسان وأن الإنسان هو الموجِد لأفعاله، خَطاٌ كذلك. ما كان الإنسان ولن يكون خالِق أفعاله مطلقاً، قد يكون له دَخل في تعيين عنوان الفعل أو وضع حدود معيّنة له، إلّا أن أصل الإيجاد في الفعل بِيَدِ الله سبحانه. ولو كان الإنسان فاعلًا مستقلًّا (لِفعله) وقادراً على أداء ذلك الفعل فهذا سيعني التفويض وهو أن الله خلق الإنسان ثمّ فَوّضَ أو وكّلَ أمرَ فِعله إليه. وعلى هذا لن تكون لحياة الله وعلمه وقدرته وحكمته وبصيرته وبالتالى ذاته سبحانه أيّ دخل في أفعال الإنسان التي يقوم بأدائها. فما ذا يعني ذلك؟ إن هذا الكلام يشير إلى انعزاليّة الله وعزلته وحبسه حاشا له في زاويّة من زوايا الكون.
لا شكّ أن هذا الكلام مخالف لمذهب التوحيد الذي يقول: إنَّ أيّة ذرّة من ذرّات عالَم الوجود، في أيّة لحظة من اللحظات تكون، وفي أيّ مكان من الأمكنة تعيش، ليست منفصلة وبعيدة عن الله؛ لا في أصل خِلقتها لا في بقاء واستدامة وجودها؛ لا في الذات ولا في الاسم والصفة ولا في الفعل. أن أيّ فعل يصدر عن أيّ من الموجودات يكون تحت سيطرة الحقّ تعالى وتقدّس، وهيمنته ومعيّته الوجوديّة والاسميّة في نفس تلك اللحظة التي يصدر فيها ذلك الفعل. أن عِلم ذلك الموجود وقدرته وحياته، كلّ ذلك مُندَكٌّ في عِلم الله وقدرته وحياته. ولن يكون بإمكاننا إيجاد أيّ مكان لأيّة ذرّة، لا في جميع عوالم الوجود ولا في المُلك والملكوت ولا في السماء أو الأرض ولا في السماوات السبع والأرضين السبع مستثنى من هذه القاعدة الكلّيّة أو خارجاً عنها.
إن هذا الكلام مخالف، كما قلنا، لمذهب التوحيد وتلك الراية التي رفرفتْ بِيَدِ سيّدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام واهتزّت بيمينه، وهو ما استند عليه دين سائر الأنبياء خصوصاً الرسول الأعظم محمّد بن عبد الله صلى الله عليه وآله ورسالتهم وعقيدتهم وبُنيَ عليه أساسها، حيث أكّدوا أن لا موجود غير الذات المقدّسة للواحِد الأحد والقاهر الصمد مُؤثّر في عالَم الوجود والخِلقة بأيّ شكل من الأشكال.
وبناءً على هذا فإنّ مذهب المعتزلة باطل كذلك.
إن مَثَل هذه الفرقة كمثل الأعمى الذي يُغلق عَينَيْه ويقول مع نفسه: إنّنا ندور حول الأرض؛ وقد وهبنا الله القدرة والفعل الاختياريَّيْنِ؛ فعلينا أن نعمل ولا شأن لنا مع الله. لنا أمرنا وللّه أمره! لاحظوا ذلك وتأمّلوا جيّداً! ولا تعتقدوا أن هذه المذاهب التي نبحث عقائدها ونُطالع تعاليمها هي مذاهب مُنقَرِضة وبائدة، أو هي مذاهب انفرطَ عِقدها، كما يقال، وصار أمرها فُرُطاً؛ إنّها مذاهب لا تزال تعمل بنشاط ولها مَن يؤمن بها ويسير على طبق منهجها.
إن جُلّ المساعي التي يبذلها حكماء الإسلام وفلاسفته الكبار تنصبّ في مجال استئصال هذه العقائد وقطع شريانها الحيويّ، وهي مساع حميدة يُشكَرون عليها. إلّا أنّنا نرى أن السواد الأعظم من الناس وخصوصاً الحشويّة من العلماء ومن الذين لا يفقهون معقولات الامور والقائلين: أن الرجوع إلى العقل في جميع الامور مغلوط، وأن على الناس التمسّك بظواهر الأخبار وآثار التعبُّد؛ ساقطون في هذه الحفرة المُهلِكة وغارقون في وحلها حتى قمّة رأسهم. وهم يقودون الناس نحو هذه العقيدة بصورة عمليّة قائلين: أن هذه هي عقيدة العوامّ ولسنا مُكَلّفون بما هو فوق ذلك.
وقال بعض علماء الحديث والرواية، لا أهلُ الحِكمة والدراية: إنّنا نمتلك القدرة ونحوز العِلم، وتصدر عنّا أعمال تقع جميعها على عاتقنا ومسؤوليّتنا، دون دخل للحقّ تعالى وتقدّس في ذلك؛ ونحن إذ نقوم بهذه الأعمال لا سبيل لنا للقاء الله؛ أن هذا الاعتقاد هو ما يؤمن به المعتزلة، وإن ادّعى هؤلاء بأنّهم شيعة اثنا عشريّة، فهم يوالون عقائد المعتزلة ويؤمنون بها طبعاً وعملًا، وقد اشرِبوا في قلوبهم تلك العقيدة.
لذلك يتوجّب علينا مهاجرة هذه العقيدة عمليّاً وأن لا نكتفي في فعل ذلك شفهيّاً! أن الواجب يُحتّم علينا الانضمام تحت لواء التوحيد بالعمل لا باللفظ واللسان وحسب، والسير على هَدى خُطَب مولى الموحّدين أمير المؤمنين عليه أفضل صلوات المصلين، وأقوال الإمام الصادق وكلمات الإمام الرضا عليهما السلام والبحوث التوحيديّة التي كانت له في مجلس المأمون وكانت بحقّ مَوضع فخر واعتزاز! علينا أن نتّخذ المنهج الذي انتهجه فخر الفلاسفة المتقدّمين والمتأخّرين الملّا صدرا الشيرازيّ قدوةً في الحوزة العِلميّة وصفوف التدريس حتى يتسنّى لنا تقوية الآصرة الموجودة بين الشرع من جهة والعقل والشهود من جهة أخرى، وبالتالى الخَطو نحو مرتبة الكمال بمصاحبة القوى العالية الثلاث وهي العِلم والوجدان والتعبُّد؛ وإلّا فإنّ رَكبنا- يا عزيزي- سيظلّ متأخِّراً عن الركبان الأخرى إلى يوم الحشر؛ وإنّي لأخشى ممّا هو أكبر من ذلك وأعظم مصيبة؛ وهو أن يبقى رَكبنا هذا متأخّراً حتى بعد الحشر! علينا أن نخطو في طريق الأدعية والسلوك والمنهاج والخُطَب والكلمات التي خطى فيها السابقون في الدين والأئمّة المعصومون، ونلاحظ كيفيّة معاملتهم مع المذاهب الباطلة المختلفة وقدرتهم على محوها وإزالتها فعملوا جاهدين مخلصين على إخراج الامّة من جميع مراتب الشرك، وسلّموا أنفسهم بِيَدِ الله تعالى وتوكّلوا عليه، ولم يكلوا أنفسهم أو يستمدّوا قوّتهم من غير الله سبحانه؛ فلنكن نحن كما كان اولئك!.
الاكثر قراءة في فرق واديان ومذاهب
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة