علم الحديث
تعريف علم الحديث وتاريخه
أقسام الحديث
الجرح والتعديل
الأصول الأربعمائة
الجوامع الحديثيّة المتقدّمة
الجوامع الحديثيّة المتأخّرة
مقالات متفرقة في علم الحديث
أحاديث وروايات مختارة
علم الرجال
تعريف علم الرجال واصوله
الحاجة إلى علم الرجال
التوثيقات الخاصة
التوثيقات العامة
مقالات متفرقة في علم الرجال
أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله)
اصحاب الائمة من التابعين
اصحاب الائمة من علماء القرن الثاني
اصحاب الائمة من علماء القرن الثالث
علماء القرن الرابع الهجري
علماء القرن الخامس الهجري
علماء القرن السادس الهجري
علماء القرن السابع الهجري
علماء القرن الثامن الهجري
علماء القرن التاسع الهجري
علماء القرن العاشر الهجري
علماء القرن الحادي عشر الهجري
علماء القرن الثاني عشر الهجري
علماء القرن الثالث عشر الهجري
علماء القرن الرابع عشر الهجري
علماء القرن الخامس عشر الهجري
بين الرسول الأعظم (ص) والمقداد (رض).
المؤلف: الشيخ محمّد جواد آل الفقيه.
المصدر: المقداد ابن الأسود الكندي أول فارس في الإسلام.
الجزء والصفحة: ص 51 ـ 56.
2023-10-07
882
في خلال السنة الأولى للهجرة كان المقداد لا يزال ـ هو وبعض المستضعفين ـ في مكة، وليس من السهل أن يغادرها إلى المدينة سيما وانّه حليف للأسود بن عبد يغوث ـ كما قدّمنا ـ فإنّه لو فعل لكان مصيره إلى القتل بلا أدنى شك، لذلك كان يترقّب فرصةً سانحةً يمكنه معها الفرار إلى يثرب واللقاء بالرسول والالتحاق بركبه، حتى كانت سريّة حمزة بن عبد المطلب وكان معها الخلاص، فقد خرج مع المشركين يوهمهم أنّه يريد القتال معهم، وهكذا انحاز إلى سريّة حمزة ورجع معه الى المدينة.
وكان نزوله في المدينة على رسول الله (صلى الله عليه وآله) في ضيافته، ولم يكن وحده بل كانوا جماعة، ومن الواضح أنّ وضع المسلمين الاقتصادي ـ في تلك الفترة ـ كان متردّياً إلى درجةٍ بعيدة، بل يظهر أنّهم كانوا يعانون الفقر المدقع ـ لولا مساعدة الأنصار لهم ـ فقد تركوا كل ما لديهم من مال في مكة وخرجوا منها صفر اليدين، لا يملكون إلا أبدانهم وثيابهم، ورواحلهم، وليس من الوارد أن يكونوا في خلال ستة أشهر، أو تسعة، في وضع اقتصادي مريح على الأقل، سيما وأنّ النفقة ـ الصادر ـ اكثر من الوارد، فبناء المسجد، وبناء الدور ـ وان كانت من جريد النخل مغروساً بالطين ـ تتطلب بذل مالٍ كثير نسبةً لذلك الوقت وتلك الظروف .
وقوافل المسلمين الجدد الذين كانوا يأتون المدينة لم تقف عند حد الهجرة، هجرة النبي، بل توالت، فكان على الرسول (صلى الله عليه وآله) والمسلمين أن يستقبلوا ضيوفهم، وأن يهيّئوا لهم ما يحتاجون من متطلبات الحياة الضروريّة على الأقل.
فكان إذا هاجر بعض المسلمين، وزّعهم رسول الله، اثنان اثنان، أو ثلاثة ثلاثة، أو حسب العدد على إخوانهم المهاجرين الذين استقرّت بهم الدار في المدينة وأصبحوا قادرين على النهوض بأنفسهم وعوائلهم.
والذي يظهر، أنّ المقداد كان من جملة أولئك الوافدين المهاجرين الجدد، وكان في عدد لا يستهان به، كما يلحظ ذلك في مطاوي كلامه، فقد ذكر أحمد بن حنبل بسنده عن المقداد، قال: لمّا نزلنا المدينة، عشّرنا رسول الله (صلى الله عليه وآله) عشرةً عشرةً في كل بيت! قال: فكنت في العشرة الذين كانوا مع رسول الله صلّى الله عليه وآله(1).
إلا أنّ هذه الإِقامة في بيت الرسول لا تكون طويلةً بحسب العادة، إذ يتخلّلها بعوثٌ وسرايا وغزوات، قد يطول أمدها، وعند العودة يتبدّلُ المكان، سيّما إذا اخذنا بعين الاعتبار ما لرسول الله (صلى الله عليه وآله) من هيبةٍ في نفوس المسلمين تزرع في نفوسهم الخجل من أن يكلّموه في النزول عليه وفي ضيافته.
يستفاد ذلك من حديث آخر مروي عن المقداد، حيث قال: أقبلتُ أنا وصاحبان لي وقد ذهبتْ أسماعُنا وأبصارُنا من الجَهْد (2) فجعلنا نعرض أنفسنا على أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) فليس أحد منهم يقبلنا، لا لبخل فيهم، بل لأنّهم كانوا مقلّين ليس عندهم شيء، فأتينا النبي (صلى الله عليه وآله)، فانطلق بنا إلى أهله فإذا ثلاثة أعنز. فقال النبي (صلى الله عليه وآله): احتلبوا هذا اللبن بيننا. قال: فكنا نحتلب، فيشرب كل انسان منا نصيبه، ونرفع للنبي (صلى الله عليه وآله) نصيبه. فيجيئ (صلى الله عليه وآله) ليلاً فيسلّم تسليماً لا يوقظ نائماً، ويسمع اليقظان، ثم يأتي المسجد فيصلّي، ثم يأتي شرابه فيشرب (3).
وفي هذه الأثناء تحصل مواقف نادرة بينه (صلى الله عليه وآله) من جهة وبين اصحابه من جهةٍ أخرى، وهي بالإِضافة إلى ما تنطوي عليه من اقتباس الحكمة منه صلوات الله عليه والتوجيه الرفيع، فإنّها لا تخلو من ظرف وخفة روح من جانب بعض أصحابه أحياناً ونجده في هذه الحالات يعاملهم معاملة الأب لأبنائه دون قسوةٍ او غلظة وربما أنبههم إلى الخطأ أو الغلط بأسلوب هادئ مقنع لا يملك معه مستمعوه إلا الإِذعان والانقياد ولوم النفس على التفريط إن كان هناك تفريط أو تسامح، كما حصل للمقداد حين كان في ضيافته (صلّى الله عليه وآله) على ما جاء في تتمة الرواية .
قال: فأتاني الشيطان ذات ليلةٍ، وقد شربتُ نصيبي ـ من اللبن ـ فقال: محمدٌ يأتي الأنصارَ فيتحفونه، ويصيب عندهم، ما به حاجة إلى هذه الجرعة. فأتيتها فشربتها، فلمّا أن وغلت (4) في بطني، وعلمتُ أنّه ليس إليها سبيل، ندّمني الشيطان، فقال: ويحك؟ ما صنعتَ؟ أشربتَ شرابَ محمد فيجيء فلا يجده، فيدعو عليك فتهلك، فتذهب دنياك وآخرتك، وعليّ شملة، إذا وضعتها على قدمي خرج رأسي، وإذا وضعتها على رأسي خرج قدماي. وجعل لا يجيئني النوم، وأمّا صاحباي فناما ولم يصنعا ما صنعت. قال: فجاء النبي (صلى الله عليه وآله) فسلّم كما كان يُسلّم، ثم أتى المسجد، فصلّى ثم أتى شرابه فكشف عنه فلم يجد فيه شيئاً، فرفع رأسه الى السماء.
فقلت: الآن يدعو عليّ فأهلك، فقال: اللهمّ أطعم من أطعمني، واسقِ من سقاني قال: فعمدت الى الشملة فشددتها عليّ، وأخذت الشفرة، فانطلقت الى الأعنز أيّها أسمن فأذبحها لرسول الله (صلى الله عليه وآله)، فإذا هي حافلة (5) وإذا هنّ حفل كلهن، فعمدت الى إناءٍ لآل محمد (صلى الله عليه وآله) ما كانوا يطمعون أن يحتلبوا فيه. قال: فحلبت فيه حتى علته رغوة، فجئت إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: أشربتم شرابكم الليلة؟ قال: قلت: يا رسول الله؟ اشرب. فشرب، ثم ناولني، فقلت: يا رسول الله، اشرب. فشرب، ثم ناولني. فلمّا عرفت أنّ النبي قد روي، وأصبتُ دعوته، ضحكتُ حتى ألقيت إلى الأرض.
قال: فقال النبي (ص): احد سوآتك (6) يا مقداد.
فقلت: يا رسول الله، كان من أمري كذا وكذا، وفعلت كذا.
فقال (صلى الله عليه وآله): ما هذه إلا رحمةٌ من الله (7) آفلا كنتَ آذنتني فنوقظ صاحبينا فيصيبان منها. قال: فقلت: والذي بعثك بالحق؛ ما أبالي إذا أصبتَها وأصبتُها معك من أصابها من الناس (8).
وهذا موقف لأبي معبد ينطوي على شيء من الظرف وخفّة الروح، بالإِضافة إلى استشعاره الخطيئة حين عمد إلى شراب محمد (صلى الله عليه وآله) فشربه، ولاحظنا أنّ موقف النبي منه كان موقف الشفيق العطوف الرحيم الذي ينظر إلى أصحابه بميزان خاص يتلاءم مع عقولهم ونفوسهم، وربّما تلاحظ معي أنّ الرسول الكريم ـ كما يظهر من الحديث ـ تمنّى لو أنّ المقداد أيقض صاحبيه ليصيبا معهما الشراب، شراب ذلك اللبن المبارك. وموقف آخر لأبي معبد مع الرسول، تتجلّى فيه عظمة الإِسلام، ونبي الإسلام، كان من جملة المواقف التي خلدت على الزمان بما تحمل من نبل كلمة وسمو خلق، ورفيع مستوى في التوجيه والتهذيب، بل وغرس الروح الانضباطيّة لدى المسلم. فقد سأله ذات مرة: يا رسول الله، أرأيتَ إن لقيتُ رجلاً من الكفّار، فقاتلني فضرب إحدى يدي بالسيف، فقطعها ثم لاذ منّي بشجرة، فقال: أسلمت لله؛ أفأقتله ـ يا رسول الله ـ بعد أن قالها ؟! قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): لا تقتله. قال: فقلت: يا رسول الله، انّه قطع يدي! ثم قال ذلك بعد أن قطعها، أفأقتله؟
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): لا تقتله. فإنّ قتلته فإنّه بمنزلتك قبل أن تقتله! وإنّك بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قال! (9).
ويلاحظ هنا مدى ارتقاء الإِسلام بالنفس البشرية إلى أعالي قمم الكرامة والإنسانية، كلمة واحدة فقط من لسانٍ صادق كفيلة بإنقاذ حياة صاحبها من موتٍ محتم.
أي عمق هذا في تعزيز الروح الإِنسانية، وأي صيانةٍ لها؟؟ هكذا الإِسلام دائماً يهتم بصيانة النوع وحمايته، فكلمة صادقة، كفيلة في ان تقلب الموازين وكلمة صادقة، هي مرآة للنفس تعكس آلامها وآمالها، وليس للحقد في دنيا الإِسلام مكان، انّه موقفٌ شواهد الحكمة فيه، ومعه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الاستيعاب: (على هامش الإِصابة) 3 / 476.
(2) الجهد: الجوع والتعب والمشقة.
(3) للرواية تتمة تأتي.
(4) وغلت: أي استقرت وتمكنت في بطنه.
(5) حافلة: أي أن ضرعها ملآن باللبن.
(6) احد سوآتك: أي أنّك فعلت سوآة من الفعلات، فما هي؟
(7) اي أنّ احداث هذا اللبن في غير وقته وخلاف عادته، رحمة من الله.
(8) صحيح مسلم ج 3 ك 36 ص 1625 ـ 1626 ح 174.
(9) صحيح مسلم ج 1 ك 1 ص 96 ح 155 ـ 156 ـ 157.