جاءَ في كتابِ (عقائدِ الإماميةِ) للعلامّةِ الشيخ مُحمّد رضا المُظفَّر
إنَّ الأئمةَ مِن آلِ البيتِ ـ عليهِمُ السّلامُ ـ لم تَكُنْ لهُم هِمَّةٌ ـ بعدَ أنْ انصرَفُوا عَن أنْ يرجِعَ أمرُ الأُمّةِ إليهِم ـ إلّا تهذيبَ المسلمينَ وتربيتَهُم تربيةً صالحةً كما يُريدُها اللهُ تعالى مِنهُم، فكانُوا معَ كُلِّ مَن يواليهِم ويأتمنونَهُ على سِرِّهِم يبذلونَ قُصارى جُهدَهُم في تعليمِهِ الأحكامَ الشرعيّةَ وتلقينِهِ المعارفَ المحمّديّةَ، ويُعرِّفونَهُ ما لَهُ وما عليهِ.
ولا يعتبرونَ الرَّجُلَ تابِعاً وشيعةً لَهُم إلّا إذا كانَ مُطيعاً لأمرِ اللهِ مُجانِباً لهواهُ آخِذاً بتعاليمِهِم وإرشاداتِهِم. ولا يعتبرونَ حُبَّهُم وحدَهُ كافياً للنّجاةِ كما قد يُمَنِّي نفسَهُ بعضُ مَن يسكُنُ إلى الدِّعَةِ والشَّهواتِ ويلتَمِسُ عُذراً في التَّمَرُّدِ على طاعَةِ اللهِ سُبحانَهُ. إنَّهُم لا يعتبرونَ حُبَّهُم وولاءَهُم مَنجَاةً إلّا إذا اقترنَ بالأعمالِ الصالحةِ وتحلّى الموالي لهُم بالصّدقِ والأمانةِ والوَرَعِ والتَّقوى.
«يَا خَيْثَمَةُ: أَبْلِغْ مَوَالِيَنَا أَنَّا لَا نُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِلَّا بِعَمَلٍ، وأَنَّهُمْ لَنْ يَنَالُوا وَلَايَتَنَا إِلَّا بِالْوَرَعِ، وإنَّ أَشَدَّ النَّاسِ حَسْرَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ وَصَفَ عَدْلًا ثُمَّ خَالَفَهُ إِلَى غَيْرِهِ».
بَل هُم يُريدونَ مِن أتباعِهِم أنْ يكونوا دُعاةً للحقِّ وأَدِلّاءَ على الخيرِ والرَّشادِ، ويَرونَ أنَّ الدَّعوةَ بالعملِ أبلغُ مِنَ الدَّعوةِ باللّسانِ: «كُونُوا دُعَاةً لِلنَّاسِ بِالْخَيْرِ بِغَيْرِ أَلْسِنَتِكُمْ، لِيَرَوْا مِنْكُمُ الِاجْتِهَادَ وَالصِّدْقَ وَالْوَرَعَ».
ونحنُ نذكُرُ لكَ الآنَ بعضَ المحاوراتِ التي جَرَتْ لهُم معَ بعض أتباعِهِم، لتعرِفَ مَدى تشديدِهِم وحِرصِهم على تهذيبِ أخلاقِ النّاسِ:
أولاً ـ محاورةُ أبي جعفرِ الباقرِ ـ عليهِ السَّلامُ ـ معَ جابرِ الجُعفيّ:
«يَا جَابِرُ، أَيَكْتَفِي مَنِ انْتَحَلَ التَّشَيُّعَ أَنْ يَقُولَ بِحُبِّنَا أَهْلَ الْبَيْتِ؟ فَوَ اللهِ، مَا شِيعَتُنَا إِلَّا مَنِ اتَّقَى اللهَ وَأَطَاعَهُ».
«ومَا كَانُوا يُعْرَفُونَ يَا جَابِرُ إِلَّا بِالتَّوَاضُعِ، والتَّخَشُّعِ، والْأَمَانَةِ، وكَثْرَةِ ذِكْرِ اللَّهِ، والصَّوْمِ، والصَّلَاةِ، والْبِرِّ بِالْوَالِدَيْنِ، والتَّعَاهُدِ لِلْجِيرَانِ مِنَ الْفُقَرَاءِ وأَهْلِ الْمَسْكَنَةِ والْغَارِمِينَ والْأَيْتَامِ، وصِدْقِ الْحَدِيثِ، وتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ، وكَفِّ الْأَلْسُنِ عَنِ النَّاسِ إِلَّا مِنْ خَيْرٍ، وكَانُوا أُمَنَاءَ عَشَائِرِهِمْ فِي الْأَشْيَاءِ».
«فَاتَّقُوا اللهَ واعْمَلُوا لِمَا عِنْدَ اللهِ، لَيْسَ بَيْنَ اللهِ وبَيْنَ أَحَدٍ قَرَابَةٌ أَحَبُّ الْعِبَادِ إِلَى اللهِ عَزَّ وجَلَّ وأَكْرَمُهُمْ عَلَيْهِ أَتْقَاهُمْ وأَعْمَلُهُمْ بِطَاعَتِهِ».
«يَا جَابِرُ، وَاللَّهِ مَا يُتَقَرَّبُ إِلَى اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِلَّا بِالطَّاعَةِ، وَمَا مَعَنَا بَرَاءَةٌ مِنَ النَّارِ، وَلَا عَلَى اللَّهِ لِأَحَدٍ مِنْ حُجَّةٍ. مَنْ كَانَ لِلَّهِ مُطِيعاً، فَهُوَ لَنَا وَلِيٌّ، وَمَنْ كَانَ لِلَّهِ عَاصِياً، فَهُوَ لَنَا عَدُوٌّ وَمَا تُنَالُ وَلَايَتُنَا إِلَّا بِالْعَمَلِ وَالْوَرَعِ».
ثانياً ـ محاورةُ أبي جعفرٍ أيضاً معَ سعيدِ بنِ الحَسن:
قالَ أبو جَعفَرٍ عليه السّلام: أيَجيءُ أحَدُكُم إلى أخيهِ فَيُدخِلُ يَدَهُ في كيسِهِ فَيَأخُذُ حاجَتَهُ فَلا يَدفَعُهُ؟
فقال سعيد: ما أعرِفُ ذلِكَ فينا.
فَقالَ أبو جَعفَرٍ عليه السّلام: فَلا شَيءَ إذن.
قال سعيد: فَالهَلاكُ إذن!
فقال أبو جعفر عليه السّلام: إنَّ القَومَ لَم يُعطَوا أحلامَهُم بَعدُ.
ثالثاً ـ محاورةُ أبي عبدِ اللهِ الصّادقِ ـ عليهِ السّلامُ ـ معَ أبي الصباحِ الكِنانيّ:
-الكنانيُّ لأبي عبدِ اللهِ: ما نَلقى مِنَ النّاسِ فيكَ؟!
-أبو عبدِ اللهِ: وما الذي تَلقى مِنَ النّاسِ؟
-الكنانيُّ: لا يزالُ يكونُ بينَنا وبينَ الرَّجُلِ الكلامُ، فيقولُ: جعفريٌّ خبيثٌ.
-أبو عبدِ اللهِ: يُعيِّرُكُم النّاسُ بي؟!
-الكنانيُّ: نَعم!
-أبو عبدِ اللهِ: ما أقَلُّ واللهِ من يتَّبِعُ جعفراً مِنكُم! إنَّما أصحابي مَن اشتدَّ ورَعُهُ، وعملَ لخالقِهِ، ورجا ثوابَهُ. هؤلاءِ أصحابي!
رابعاً ـ ولأبي عبدِ اللهِ ـ عليهِ السَّلامُ ـ كلماتٌ في هذا البابِ نقتَطِفُ مِنها ما يلي:
ـ «لَيْسَ مِنَّا وَلا كَرَامَةَ مَنْ كَانَ فِي مِصْرٍ فِيهِ مِئَةُ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ وَكَانَ فِي ذَلِكَ الْمِصْرِ أَحَدٌ أَوْرَعَ مِنْهُ».
ـ «إِنَّا لاَ نَعُدُّ الرَّجُلَ مُؤْمِناً حَتَّى يَكُونَ لِجَمِيعِ أَمْرِنَا مُتَّبِعاً مُرِيداً أَلاَ وإِنَّ مِنِ اتِّبَاعِ أَمْرِنَا وإِرَادَتِهِ الْوَرَعَ فَتَزَيَّنُوا بِهِ يَرْحَمْكُمُ اللهُ».
ـ «لَيْسَ مِنْ شِيعَتِنَا مَنْ لَا تَتَحَدَّثُ الْمُخَدَّرَاتُ بِوَرَعِه فِي خُدُورِهِنَّ ولَيْسَ مِنْ أَوْلِيَائِنَا مَنْ هُوَ فِي قَرْيَةٍ فِيهَا عَشَرَةُ آلَافِ رَجُلٍ فِيهِمْ مِنْ خَلْقِ اللَّه أَوْرَعُ مِنْه».
ـ «إِنَّمَا شِيعَةُ جَعفَرٍ مَنْ عَفَّ بَطْنُه وفَرْجُه واشْتَدَّ جِهَادُه وعَمِلَ لِخَالِقِه ورَجَا ثَوَابَه وخَافَ عِقَابَه فَإِذَا رَأَيْتَ أُولَئِكَ فَأُولَئِكَ شِيعَةُ جَعفَر».