في زمنٍ تتداخلُ فيه الأصوات حتى تغدو الحقيقةُ همسًا خافتًا في سوقٍ صاخب، تشهدُ خباتُ أربيل معاركَ تتقاذف شررها على رؤوس الأهالي، بينما تتراصفُ قنواتُ الفتنة على خطٍّ واحد: خطُّ التعمية، والتضليل، وصناعة الغبار في وجه الشمس. كأنّ مهمتها الكبرى ليست نقل ما يجري، بل دفنُه تحت ركامٍ من الأخبار المتهافتة التي لا تقوى على حمل وزن جملةٍ واحدة من الواقع.
ها هي قناة الشرّ وما أدقّ الاسم إن كان للقدر حسٌّ ساخر تلوّح بعاجلٍ أحمر يفيد بمقتل رجلٍ بسبب لفة فلافل في الناصرية وتدعم الأمر بخبرٍ آخر عن بردة مطبخ هوت على رأس مواطنٍ في جنوب العراق، ثم لا تخجل من إلحاق الخبر بتوصيةٍ رصينة: "على الأهالي تهدئة الأجواء وعدم تضخيم الحادثة". كأنّ القناة تخشى على السِّلم المجتمعي من فوضى البردات، لا من انفجارات السياسة
أما قناة (د) فاختارت الحديث عن نزاعاتٍ عشائرية في ميسان، مؤكدةً بثقة المتنبّي أنها تشهد نزاع يوميً. لا مصادر، لا سياق، لا ضرورة. المهم أن تنزاح عدسة الوعي عن المكان الذي ينبغي أن تتجه إليه.
والأغرب، بل الأشدّ مرارةً، أن وجوهًا كانت ذات يومٍ ظلًّا باهتًا لجرائم الأنفال وحلبچة والمقابر الجماعية، تُستدعى اليوم إلى الشاشة نفسها التي كانت بالأمس تهرب من ظهورهم. يخرج البعثيُّ القديم مستعيرًا جلد الحمل، ناطقًا بلسانٍ مزيَّنٍ بمفردات الوطن، مدافعًا لا عن الحقيقة، بل عن سلطات أربيل ، ومبيّضًا صفحةً سوداء لا يجفّ حبرها مهما طال الزمن.
وفي زحمة هذا التهريج الإعلامي، هناك بقعة ضوء لا تكاد تلك القنوات تراها؛ ربما لأن الضوء يُزعج من اعتاد أن يعيش في الكهوف. إنها استجابة الحشد الشعبي لدعوة إعادة تأهيل مستشفى الشماعية، خطوةٌ إنسانية جليلة لا مكان لها في نشرات أولئك الذين لا يسمعون إلا وقعَ الفوضى ولا يبثون إلا ما ينفخ في رماد الخلاف.
هكذا تتشكل صورة المشهد:
إعلامٌ يجعل من السقوط الأخلاقي نشرةً جوية، ومن التفاهات عناوين، ومن العناوين سُحبًا تحجب السماء.
ومشهدٌ آخر يصرُّ على البقاء نقيًا، يرمم ما تهدّم، ويلملم ما تفرّق، ويمدّ يده إلى الناس لا إلى الفتنة.
إنها معركة الوعي قبل أن تكون معركة جغرافيا:
معركةٌ يُقاتل فيها الشعب بحثًا عن حقيقةٍ تُرمى عمدًا خارج الكادر،
بينما تُصقَل الأكاذيب وتُلمَّع حتى تظنها لوهلةٍ حقائقَ نزلت من السماء.
لكن للأرض ذاكرة، وللناس عيون، وللحقيقة عادةٌ قديمة:
أنها لا تموت، حتى لو غُطِّيت بآلاف البردات،
وحتى لو حاولوا إخفاءها خلف ألف لفة فلافل.







وائل الوائلي
منذ 30 دقيقة
"المهمة".. إصدار قصصي يوثّق القصص الفائزة في مسابقة فتوى الدفاع المقدسة للقصة القصيرة
(نوافذ).. إصدار أدبي يوثق القصص الفائزة في مسابقة الإمام العسكري (عليه السلام)
قسم الشؤون الفكرية يصدر مجموعة قصصية بعنوان (قلوب بلا مأوى)
EN