حسن الهاشمي
العلاقات الوطيدة بين أفراد المجتمع الاسلامي ما أجملها، ما أحلاها، ما أبهاها إنها علاقات تؤسس لمتلازمة ذاتية متأصلة في النفوس، لا تنال منها المصالح، ولا تقوضها المشاكل والنوائب والمصائب مهما بلغت ومهما تصاعدت حدتها وأوارها، إنها متلازمة الدين والمثل والفضائل، متلازمة الأنا في الكل والكل في الأنا، وهكذا يبنى النسيج الاجتماعي المتراص في مواقفه والمحكم في كل حركاته وسكناته.
تكريس روح المحبة للجنس البشري، وانتزاع روح الغل والإفك والإحن والعدوان من النفوس، هو ما تطمح اليه جميع الأديان السماوية ولاسيما ديننا الاسلامي الحنيف؛ لأنها تؤمن وايمانها حق بتقديس النوع البشري وحرمته وعظمته، لما ينطوي فيه من نوازع الخير والتقوى، فإنها تنمو وتترعرع وتتسامى في كبح جماح نوازع الشر التي تحاول بين الفينة والأخرى أن تعكر صفو الحياة الطيبة الرائقة، وطالما ترنوا اليها أفئدة العاشقين لها ولمفرداتها المتألقة تألق النجوم في السماء المتلبدة.
الامام جعفر بن محمد الصادق عليهما السلام يؤسس لتلك المتلازمة الروحية النموذجية التي تتخطى عقبات الأنا الكأداء وتقاوم الرياح الصفراء التي لا خير فيها ولا صفاء بقوله الرائع: (للمؤمن على المؤمن سبعة حقوق واجبة له من الله عز وجل والله سائله عما صنع فيها: الإجلال له في عينه، والود له في صدره، والمواساة له في ماله، وأن يحب له ما يحب لنفسه، وأن يحرم غيبته، وأن يعوده في مرضه، ويشيع جنازته، ولا يقول فيه بعد موته إلا خيرا) الخصال للشيخ الصدوق ج2 ص351.
العلاقات التأصيلية المتجذرة والتي هي بعيدة عن علاقات المكاشرة والمفاكهة والمساطحة، هي علاقات موجودة أصلا في الذات البشرية، بيد أن الأهواء والإغواء والالتواء قد تحجبها عن الظهور والتفتق والانبلاج، فهي بحاجة الى ان تصقل بين الفينة والأخرى، فالإمام يدلنا هنا على المادة الصاقلة لإزالة صدأ الدواهي التي تراكمت وتتراكم على كاهلنا بكرور الليالي والأيام، وذلك بإيجاب تلك الحقوق على المؤمن والسؤال عنها لما تضخ فيه روح المداولة بما تحمل بين جنباتها ثمار علاقات طيبة في الدنيا وعواقب حميدة في الآخرة، وهذا يكفي لضخ الانسان بهالة معنوية فاعلة لتقمصها والانسجام التام معها ومع معطياتها التي تجلب السعادة للفرد والمجتمع على حد سواء.
أن تحترم الآخرين وتجلهم وتقدرهم وتحترمهم وترتب الأثر على ذلك، أي أن لا تنظر بعين الريبة والاستهزاء والاستحقار لأحد من خلق الله تعالى ولا سيما المؤمنين منهم، هذه خصلة عظيمة تنمي في الفرد احترام الآخرين واحترام أفكارهم ومتبنياتهم، وتدوس على رذيلة الأنا الماحقة لكل جميل في حياتنا الهادفة.
أن تحمل في صدرك كل الود والاحترام والتقدير لجميع البشرية ولاسيما المسالمين ومن ضمنهم المؤمنين الصادقين الذين بحبهم نلتمس حياة طيبة ملؤها التفاؤل والانشراح، بعيدا عن كل غل وإفك ونائبة وانتقام، واذا ما اعتمل الصدر روح المحبة انقشعت عنه روح المعاداة من دون رجعة، وأضحى واحة جميلة تحوم في اجوائها الطيور النوارس وتبتعد عنها الجوارح والكواسر والنواحس.
أن تواسي الآخرين بما وهب الله تعالى لك من مال وثروة وعطاء، هذا في قمة الايثار والمواساة، وهي لعمري خصلة لا يتحلى بها الا من امتحن الله قلبه للإيمان فوجده لما وهبه صابرا محتسبا بل متلذذا بما يعطي لإسعاد الآخرين وتشاطرهم الهم والغم وكسرة الخبز وكسوة الشتاء.
الحب للغير ما تحب للنفس هي تجرد عن الأنانية والمصالح الشخصية وتقمص الجمعية والمصالح العامة، ربما تكون هذه الحالة سهلة على اللسان ولكن صعبة المراس اذا ما اريد لها ان تتحقق على أرض الواقع، فالذي يتحلى بهكذا خصال عليه ان ينتفع بالقليل من حطام الدنيا وهمه الأكبر إيصال المنفعة التي بحوزته الى أكبر عدد من الناس ليشاطرهم السعادة التي يتمتع بها، ولذة العطاء عند النفوس الراقية أعلى وأغنى من لذة الأخذ، إذ أنها تشعر صاحبها براحة الضمير والوجدان وابراء ذمته من متعلقات الدنيا الفانية التي قد تودي بالكثيرين ممن ينخدعون بملذاتها وزبارجها الخداعة.
ومن الخصال الحميدة التي يتصف بها المؤمن الحقيقي أن يحفظ غيبة أخيه المؤمن فلا ينهش لحمه بغيبة أو انتقاص أو ابداء رأي فيه مثلبة أو عيب أو فحش أو هراء، بل يدافع عنه غائلة الحاقدين المستهزئين ويردعهم عن غيهم وتطاولهم على الغير، بل يستذكر محاسنه ويعوده في مرضه، كم ينتشي فرحا ذلك المؤمن الذي يذكره المؤمنون بخير في غيبته ويتواصلون معه في مرضه ومحنته، تلك هي الحصانة التي يوفرها الاسلام الى معتنقيه بل الانسانية جمعاء؛ لأنه منهاج رسالي مهمته اسعاد المجتمعات وايصالها الى قمة الرقي والتطور والازدهار.
حتى بعد الممات فانه يوصي المؤمنين بالتواصل مع المؤمن في تشييع جنازته، وتقديم واجب العزاء لأهله وذويه، والمشاركة في الأتراح يسبب تخفيف ألم المصاب وتطييب الخواطر وترطيب الأجواء المتلبدة التي طالما يعشها أهل الفقيد وهم بأمس الحاجة الى هكذا تواصل لكيلا يستوحشوا دهاليز الوحشة التي اخطفت منهم الأعزة على حين غرة، ولا يكتفي الاسلام بكل ذلك بل ألزم المؤمن ألا يقول في أخيه المؤمن بعد موته إلا خيرا، وهكذا فهو في مأمن من ألسنة الشر في حياته وبعد مماته.
انها حقوق سبعة يتمتع بها المؤمن ليعيش حياة حرة كريمة تتكافأ فيها الفرص وهي خالية تماما من كل غش واحتيال ومكر وخداع، إذ انها تمهد للمجتمع الايماني ان يشق طريقه في عمارة الأرض وعبادة الله المتعال في رقابة ذاتية نابعة من الايمان الغيبي وطامحة في الحصول على الأجر المادي في الزيادة والبركة والمعنوي في الأجر والثواب، وهذا بدوره يؤطر السبل للوصول الى مرفأ النجاة بأقصر الطرق وبأقل الخسائر، وهي تجارة رابحة لن تبور ولا يعرف قدرها الا العارفون.







وائل الوائلي
منذ يومين
"المهمة".. إصدار قصصي يوثّق القصص الفائزة في مسابقة فتوى الدفاع المقدسة للقصة القصيرة
(نوافذ).. إصدار أدبي يوثق القصص الفائزة في مسابقة الإمام العسكري (عليه السلام)
قسم الشؤون الفكرية يصدر مجموعة قصصية بعنوان (قلوب بلا مأوى)
EN