بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم النبيين محمد المصطفى وآله الطاهرين.
السلام على الإمامين الجوادين موسى الكاظِم ومحمد الجواد ورحمة الله وبركاته.
السيد رئيس مجلس الوزراء – القائد العام للقوات المسلحة المحترم
السيد رئيس ديوان الوقف الشيعي المحترم
الحضور الأكارم مع حفظ الألقاب والمقامات
السلام عليكم جميعاً ورحمة الله وبركاته
تتعاقبُ الأجيالُ على أنماطٍ مختلفةٍ من الحياةِ في هذه الدنيا البسيطة، التي ما تزال صوراً، صورةُ اليوم تدفعُ التي قبلها، ونحن فيها نسير بخطى مضطربة نحو نهاية الصور، تاركين صورَنا إلى من يخْلفُنا، جميلةً كانت أم قبيحة، تتخلل تلك الصور صيحاتٌ باطلةٌ ينعقُ بها أهلُ الباطل لغرض تحقيق أهداف وغايات تخدمُ الشيطان وحزبه، تسعى في خراب النفوس والديار، فحوّلت طرقَ الحق إلى الباطل، والصحيحَ إلى الفاسد، حتى عملَ بعض الناسِ بالباطل ظناً منهم أنه الحق، وامتنعوا عن الحق ظناً منهم أنه الباطل. حينها يرتفع مستوى الشعور بالمسؤولية (مسؤولية الأمة والمجتمع)، وتظهرُ الطاقاتُ على قدر المسؤولية، ولسمو الغاية وحاجتها إلى مقوماتٍ وتضحيات تكون التضحيةُ بأقصى حدودها، وإنْ تطلّب ذلك تقديمَ النفوسِ والدماء لتعادلَ التضحيةُ مستوى الغاية وليكون الإقدامُ دليلاً هادياً للآخرين، وكما قال المتنبي:
لا يَسلَمُ الشّرَفُ الرّفيعُ منَ الأذى حتى يُرَاقَ عَلى جَوَانِبِهِ الدّمُ
فكان لزاماً أن يقوم المصلح الحكيم بدوره. وهذا ما شعر به المرجع الأعلى آية الله العظمى السيد علي الحسيني السيستاني (دام ظله الوارف) حين أطلق فتواه الجهادية لمواجهة الباطل، حتى يهزمه، فجاءت كلماتُه لتَجلي رينَ القلوب، وترفعُ وقرَ الأسماع، وتفتحُ آفاقَ البصيرة، ويقولُ أهلُ الحق قولَهم ويملأُ الأرضَ فِعلُهم، ويحافظُ على شرعة الإسلام الحقيقي، وصيانةِ الحُرمات، وردعِ الباطل أينما حلّ، فكان النداء مدوّياً مُفزعاُ الباطلَ وأهلَه حتى انحسر شيئاً فشيئاً ثم انتهى. قال تعالى: (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ).
وكان معلوماً لدى الشرفاء أن هزيمة العدو واضحة منذ صدور فتوى الجهاد الكفائي أي قبل أن يواجهَهم أبطالُنا؛ لأن الهزيمةَ بدأت بانهزام النفوس، وذلك لأنهم لا يؤمنون بقضية بل جاؤوا للعبث بمقدّرات الأمة وبثِّ الرعبِ في أرجاء العراق العظيم. أما المقاتلون العراقيون بالخصوص فقد حملوا المبادئ العظيمة التي تحمي الفرد من الانحراف وتبعثُ الطمأنينةَ والأمانَ والعيشَ الرغيد. وأيُّ موقف عظيم ذاك الذي اتخذه المقاتلون العراقيون في تلبيةِ النداء والاستجابةِ للفتوى وصاحبِها ( دام ظله الوارف) وإشغالِ ساحة الشرف والمجد، وبذلِ كلَّ نفيس!
ولذا احترمهم القدرُ وانحنى اجلالاً لهم الصعب العسِر، ثم إنه من جهة قولِ الحقيقة دون المبالغة أن نقولَ إن قلةً من الرجال في العالم أجمع مَن قاتل أو يقاتل مثل المقاتلين العراقيين، فإنهم أعادوا بإيمانهم وشجاعتهم واقتدارهم ملاحم بدر وحُنين وصفين والنهروان، فانطلقت الحشودُ تتسارعُ لتسبق الزمن وتمضي للجهاد، لتحقق النصر أو النصر، حينها انقلبت المعادلةُ التي كان يراهن عليها العدو ومَن وراءَه، واندحرت قوى الشر، وتمزقت راياتُه السوداء، وأشرقت شمسُ النصر العظيم على أرض عراقنا الحبيب، وانتعشت أرواحُ المجاهدين، وارتفعت راية النصر عالية، خفّاقة سامية.
لقد سخّرت المرجعية الدينية العليا صاحبة فتوى الدفاع الكفائي كلَّ امكانياتها وطاقاتها في سبيل اسناد المقاتلين وتقديم العون لهم، ورعاية النازحين، وبعثت بخيرة ابنائها من أساتذة الحوزة العلمية وطلّابها الى الجبهات، وقدّمت العشرات منهم شهداء في هذا الطريق، وعلى هذه الخُطى سار خدم العتبات المقدسة حيث كانت لهم تشكيلات عسكرية مقاتلة وقدّموا الدعم المادي والمعنوي للمقاتلين والنازحين.
وأما النصر الذي كتبه العراقيون فلم يأت من فراغ أو جاهزاً يتقمّصُه أبطالُنا، بل جاء ثمناً للدماء الطاهرة الزكية التي أُريقت في ساحات الوغى، وتقديم الشهيد تلو الشهيد حتى تحقق النصر النهائي. أما كلامُنا عن الشهيد فنعجزُ أن نقدّم صورةً له، فالشهادةُ نعمةُ الله عزّ وجلّ العظيمة يهبها لمن يختارُه مِن عباده حتى يصبحَ شهيداً، كما قال تعالى: ( ... وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ). وليست الصدفة هي التي تصنعُ الشهيد كما يتوهم البعض.
فالشهادةُ هي إحدى المعالم الكبرى في مسيرة الإنسان الهادفة للكمال وذلك لما فيها من الحب والإيثار والوفاء، وما فيها من أخلاقٍ وأفعال تتجاوزُ بالشهيد من المحيط الضيق إلى محيط الإنسانية الأوسع وفضائها، بل هي أقصى ما يمكن أن يصل إليه الإنسان في نموه الروحي وتكاملِه لأن الشهيد يهبُ كلَّ ما يملك إلى الآخرين ويحرمُ نفسَه من متعة مباحة ليوفّرها لغيره. فالإنسان إما أن يكون منشغلاً بحياته الخاصة (الضيقة) دون أن يكون له عمق وصِلة بالآخرين في محيطه، أو يكون متصلاً بهم متعاوناً ينظر إلى مصالحه الشخصية ومنافعها، أو أن يكونَ ذا صلةٍ حقيقية بالآخرين بعمق ومنسجماً مع قضيته العادلة التي آمن بها وشربتها نفسُه وإظهار الحقيقة في الصراع بين الحق والباطل. فوهب جهوده وحياته من أجلها والتحق بركب الشهداء السعداء بعد أن أذاق أعداء العراق العذاب الأليم، وباستشهاده أكّد انتماءه إلى مدرسة سيد الشهداء الإمام الحسين (عليه السلام) التي يفخر بالانتماء إليها كلُّ مؤمن آمن بقضيته وأيقن أنها الحق الذي لا بد من نصرته.
اليوم من حقنا أن نفخر بالانتصارات السريعة التي دمّرت حصون الظلام، ومن حقنا أن نفخر بقواتنا البطلة، ونفخر بحشدنا الشعبي، ونفخر بأبناء العراق الغيارى وهم يرفعون رأس العراق عالياً، نفخر بشهيدنا الشجاع المغوار الذي أراق دمَه ليروّي أرض الحضارات. سنبقى نردّد مدى الدهر: أنتم فخرُنا وعزُّنا ومَن نباهي به سائر الأمم، ونعجز أن نوفّي بعض حقكم ولكن الله تعالى سيوفّيكم الجزاء الأوفى.
شهداءُنا!... دماؤُكم فيضُ وجودِنا، وأرواحُكم أنارت دروبَنا، إنكم معنا ولا زلتم فينا، أنتم في حدقات عيوننا، كنا معكم في كل لحظة وفي كل همسة وفي كل صولة، بل إن الله معكم، ولذا ستكون دماؤكم الطاهرة فجراً جديداً للأمة يضيء لها طريق الحرية والعدالة ونصرة المظلومين في جميع أرجاء المعمورة، ودروساً بليغة في بناء الحضارات الراقية الهادفة إلى بناء الأمم الواعية الداعية إلى السلام والمحبة والوئام.
من حقنا أن نفخر بجريحنا الذي رفض الإخلاء من أرض الشرف والكرامة طالباً النصرَ أو الشهادة، ومن حقنا أن نفخر بأم الشهيد وهي تزفّ ولدَها إلى المنيّة، إلى الفردوس. ومن حقنا أن نفخر بالأب المجاهد وهو يقاتل إلى جنب ولده في خندق واحد. ومن حقنا أن نفخر بأننا عراقيون.
وفي الختام لا يسعنا إلا نرفع أزكى آيات التهاني و التبريكات لقائد مسيرتنا وملاذنا سماحة آية الله العظمى السيد علي الحسيني السيستاني( دام ظله الوارف)، وجميع العراقيين وبالخصوص عوائل المقاتلين والشهداء لمناسبة تحقيق النصر النهائي على الكيان الإرهابي وتحطيم معاقله.
أتوجه بالشكر والثناء إلى السيد رئيس مجلس الوزراء – القائد العام للقوات المسلحة، وإلى ممثلية المرجعية الدينية ومعتمديها، وإليكم حضورنا الأفاضل على تشريفكم بالحضور، وإلى خدمِ الإمامين الجوادين (عليهما السلام) الذين هيّئوا متطلبات إقامة هذا الحفل، ومن هذا المكان المقدّس ندعو اللهَ سبحانه أن يرحمَ العبادَ والبلاد، ويرحمَ الشهداءَ السعداء ويُعين أهليهم على ما هم فيه، ويمنَّ على الجرحى والمرضى بالشفاءِ العاجل، ويردَّ النازحين إلى مساكنِهم، ويعمَّ بلدَنا الأمن والأمانِ إنه سميعٌ مجيبٌ، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصلّى اللهُ على محمدٍ وآلِ محمدٍ الطيبين الطاهرين.