استعرض ممثل المرجعية الدينية العليا في الخطبة الأولى من صلاة الجمعة في الصحن الحسيني الشريف بتاريخ (11/8/2017م) الوصايا التربوية والاخلاقية لأمير المؤمنين (عليه السلام) في كتابه الى الحارث الهمداني الذي ورد فيه "وَاعْلَمْ أَنَّ أَفْضَلَ الْمُؤْمِنِينَ أَفْضَلُهُمْ تَقْدِمَةً مِنْ نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ وَمَالِهِ، فَإِنَّكَ مَا تُقَدِّمْ مِنْ خَيْر يَبْقَ لَكَ ذُخْرُهُ، وَمَا تُؤخِّرْهُ يَكُنْ لِغَيْرِكَ خَيْرُهُ، وَاحْذَرْ صَحَابَةَ مَنْ يَفِيلُ رَأْيهُ، وَيُنْكَرُ عَمَلُهُ، فَإِنَّ الصَّاحِبَ مَعْتَبَرٌ بِصَاحِبِهِ...وَاقْصُرْ رَأْيَكَ عَلَى مَا يَعْنِيكَ...وَأَكْثِرْ أَنْ تَنْظُرَ إِلَى مَنْ فُضِّلْتَ عَلَيْهِ، فإِنَّ ذلِكَ مِنْ أَبْوَابِ الشُّكْرِ".
وقال الشيخ عبد المهدي الكربلائي ان عبارة (أَفْضَلُهُمْ تَقْدِمَةً) لها تفاسير عدة منها افضلهم صدقة وكذلك تعني الانسان المؤمن الذي يقدم نفسه للجهاد، فضلا عن افضلهم في الطاعات والعبادات من قبيل الصلاة والصوم وبقية الافعال، كما يقصد منها الانسان المؤمن الذي يحج بأهله وولده وياخذهم الى الحج او العمرة ويصرف عليهم ويحثهم على اداء العبادات والطاعات والقربات والخيرات.
واضاف ان التقدمة في الخيرات تارة تكون من نفسه كالطاعات والعبادات من قبيل الصلاة والصوم والجهاد وامثالها مما يستلزم تحمّل المشاق، واخرى من اهله وعياله كما اذا ادبّ زوجته واولاده بالتأديبات الشرعية وواظبهم على الخيرات والحسنات، وثالثة من ماله بان ما يقدمه من خير في الحياة الدنيا سيكون له باقيا ً في الاخرة، في حين ان الانسان الذي يدخر ماله ولا يصرفه ولا ينفقه فان خير هذا المال سيكون لغيره من الورثة.
وتابع الشيخ الكربلائي انه ورد في تفسير اخر في ان المقصود من هذا التقديم لا يختص بالجهاد في سبيل الله بالمال والنفس، بل يشمل كل نوع من الخدمة التي يستطيع الانسان تقديمها الى عباد الله والدين ويبذل في سبيل ذلك من ماله ونفسه واسرته، من قبيل اصلاح ذات البين والشفاعة عند الظالمين والاهتمام بالمرضى والمحتاجين وتعليم الناس وتربيتهم.
واوضح ان الامام (عليه السلام) يقدم دليلا ً واضحاً على كلامه في قوله: (فَإِنَّكَ مَا تُقَدِّمْ مِنْ خَيْر يَبْقَ لَكَ ذُخْرُهُ، وَمَا تُؤخِّرْهُ يَكُنْ لِغَيْرِكَ خَيْرُهُ)، مشيرا الى ان العاقل هو الذي يستخدم هذه المواهب والنعم الالهية لما ينفعه في حياته الاخروية وتحصيل السعادة الابدية لا ان يدّخرها للاخرين بعد وفاته، مستشهدا بقوله تعالى (وما تقدّموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيراً واعظم اجراً).
واردف انه ورد عنه (عليه السلام) "وَاحْذَرْ صَحَابَةَ مَنْ يَفِيلُ رَأْيهُ، وَيُنْكَرُ عَمَلُهُ، فَإِنَّ الصَّاحِبَ مَعْتَبَرٌ بِصَاحِبِهِ..."، موضحا ان المقصود بعبارة ان يحذر من صحابة من يفيل رأيه هو الضعف، او ان ينكر عمله لسوئه، وعلل ذلك الحذر بقوله "فَإِنَّ الصَّاحِبَ مَعْتَبَرٌ بِصَاحِبِهِ..."، أي انه يقاس بتنسيب فعل الصاحب الى فعله.
واوضح ممثل المرجعية العليا ان الامام (عليه السلام) نهى عن صحبة ضعيف الرأي ومنكر العمل، واستدل على ما ذكره بان اعتبار الصاحب يكون بصاحبه الذي اتخذه لنفسه رفيقاً وصاحباً، مبينا ان الصاحب العاقل اذا كان في رأيه قاطعاً وفي عمله بريئاً عن القبائح والمنكرات ينفع صاحبه لا محالة حسن عمله وقوة رأيه، بينما اذا كان ضعيف الرأي سيء العمل فانه يضرّ صاحبه، فضلا عن ذلك ان ضعف رأي الصاحب يوجب ضعف رأي صاحبه كما ان اعماله القبيحة السيئة توجب التهمة في حق صاحبه، مستشهدا بحديث النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) (المرءُ على دين خليله فلينظر احدكم مَنْ يُخالِل)، كما ورد عن احد الشعراء قوله (عن المرء لا تَسئَلْ وسَل عن قرينه...فكُلُّ قرين ٍ بالمُقارن يقتدى).
واستدرك عند قول الامام علي (عليه السلام) "وَاقْصُرْ رَأْيَكَ عَلَى مَا يَعْنِيكَ"، مبينا ان المقصود في هذه العبارة اقصر رأيك وعزمك على ما يفيدك في الدارين من الافعال الحسنة والاعمال الصالحة، واما الامور التي لا نفع فيها تعد من العبث فلا تضييع بسببها الوقت لانه ورد في الاثر من حسن اسلام المرء تركه ما لا يعنيه أي ما لا ينتفع به، مشيرا الى وجدود بعض الافراد الفضوليين في المجتمع الذين يتدخلون في كل شيء يخص الاخرين، منوها ان هذا التدخل يترتب عليه ضرران مهمان، الاول انه يجعل الانسان غافلا ً عن الامور المهمة التي تخصه وتخصهم، والآخر انه يثير العداوات مع الاشخاص الذين يتدخل في شؤونهم الخاصة.
ودعا ممثل المرجعية الدينية العليا الى ضرورة ان ينظر الانسان الى من هو دونه وليس الى من هو فوقه، مستشهدا بما ورد عن الامام علي (عليه السلام): (وَأَكْثِرْ أَنْ تَنْظُرَ إِلَى مَنْ فُضِّلْتَ عَلَيْهِ، فإِنَّ ذلِكَ مِنْ أَبْوَابِ الشُّكْرِ)، موضحا ان النظر الى من هو فوق في النعمة يوجب الحسرة على فوات تلك النعمة ويوجب الهم والحزن على ما فاته منها وهذا بخلاف النظر الى من دون كونه يوجب القناعة والرضى والابتهاج والسرور الباعث على الشكر، مبينا انه مثل هذا الكلام ورد في وصايا النبي الاكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) الى ابي ذر الغفاري (رضوان الله تعالى عليه): (انظر الى من هو تحتك ولا تنظر الى من هو فوقك فانه اجدر ألاّ تزدري نعمة الله عليك).
وقال الشيخ الكربلائي انه مما يؤسف له ان اغلب الناس يتحركون بخلاف هذا الاتجاه وينظرون دوماً الى من فوقهم وتتحرك السنتهم بكلمات الاعتراض وينسون شكر الله تعالى، مبينا ان ذلك لايترتب عليه عدم تأدية وظيفتهم امام الله تعالى فقط بل ان هذا الامر يتسبب في سلب راحتهم واثارة التوتر والانفعال في نفوسهم وكلما حصلوا على امكانات اكثر فانهم سيعيشون عدم الرضا والقناعة اكثر ولا يرون انفسهم سعداء فيما يعيشون ويملكون من خيرات، وهذا بلاء عظيم يعيشه الانسان في واقع الحياة.