استكمالا لما بدأه في خطب سابقة ، يواصل ممثل المرجعية الدينية العليا وإمام جمعتها في كربلاء المقدسة سماحة الشيخ عبد المهدي الكربلائي شرح خطبة النبي الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمعروفة بالخطبة الشعبانية ، كون الكثير من مضامينها يتعلق بصيام شهر رمضان .
حيث بين الكربلائي في الخطبة الأولى لصلاة الجمعة التي أمّ فيها جمع غفير من المؤمنين في الصحن الحسيني الشريف يوم الجمعة 11 رمضان 1437 هـ الموافق 17 حزيران 2016 م ، غاية الصوم العظمى والمتمثلة في التقوى ، والتي عدّها وسيلة مهمة لمن ينشد بلوغ ما يريده الباري عز وجل من عباده ، نافيا في الوقت ذاته أن تكون الغاية من ذلك هو تعريضنا لألم وعذاب الجوع والعطش والحرمان من اللذة والشهوة .
وقال سماحته ان الله : " أراد من الصوم ان يربطنا بالآخرة وجوعها وعطشها ، كي نستشعر أهوال تلك المواقف ، حتى نستعد ونتهيأ لها ، كما انه أراد منا ان نطّهر أرواحنا ونهذب سلوكنا ونزكي انفسنا ونرتقي بأخلاقنا ونطوّع إرادتنا ونمرنّها لكي نتخلص من أسر الشهوات والغرائز والعادات السيئة ، ونحرّر نفوسنا من العبودية للشياطين ونروض قلوبنا على استشعار الرحمة والعطف والحنان للأيتام والفقراء والمساكين " .
وفي مورد شرحه لما قاله الرسول الأكرم في خطبته الشعبانية المباركة ، والتحديد المقطع " وتَصَدَّقُوا عَلَى فُقَرَائِكُمْ وَمَسَاكِينِكُمْ " ، بيّن الكربلائي اهتمام الإسلام بالبذل والإنفاق بشكل كبير وبالأخص تشريعه للصدقات الواجبة والمستحبة ، كما بين ضرورة ان لا يستصغر الصائم صدقته مهما كانت صغيرة فقد تكون عند الله كبيرة ، خصوصا اذا ما أبقى على أثرها من خلال عدم الإخلال بها بمّن او أذى او إشعار للمسكين والفقير بها بكلام قد يجرحه ، مع تأكيده على ان تكون بالسر موظفا بذلك ما قاله ابي عبد الله عليه السلام " صدقة الليل تطفئ غضب الرب، وتمحو الذنب العظيم، وتهون الحساب، وصدقة النهار تزيد العمر وتثمر المال .
وبخصوص صلة الرحم ، وفي مورد من يجيب على كيفية إدامة صلة الرحم ، بيّن إمام جمعة كربلاء المقدسة " ان أدنى مرتبة لصلة الرحم هو السلام ، وهو قد يكون بزيارته شخصياً في داره او محله او من خلال الهاتف او الرسالة بالسؤال عنه وعن أحواله وبالسلام عليه والدعاء له ومساعدته في قضاء حوائجه وجلب المنفعة له وإرشاده ونصيحته " .
وكشف سماحته عن اشد ما يبتلى به الصائم وينافي به صيامه الحقيقي ما يسمى بـ " معاصي الجوارح وآفات اللسان " ، مطالبا بضرورة ان يكون الصائم على حذر من مزالق لسانه وآفاته كونها الأشد ضرراً في دنياه وأخرته ومنها آفة الغيبة والنميمة والبهتان والافتراء والكذب وقول الزور والسب والشتم والخوض في الباطل والافتخار بالباطل والبذاء والمزاح والسخرية والاستهزاء وإفشاء السر، مذكرا بما قاله رسول الرحمة صلى الله عليه وآله لرجل طلب وصيته ، فقال صلى الله عليه وآله وسلم : " أحفظ لسانك" ، قال : " يا رسول الله أوصني " ، قال صلى الله عليه وآله وسلم : " أحفظ لسانك " ، قال : " يا رسول الله أوصني " ، قال صلى الله عليه وآله وسلم " أحفظ لسانك ، ويحك وهل يكبُّ الناس على مناخرهم في النار الا حصائد ألسنتهم " .
معللا ما يبتلى به المؤمن اليوم في خضم حياتنا العصرية بداعي مساوئ وسائل الاتصال الحديثة واجهزة الهاتف النقال كونها أكثر خطورة من غيرها خصوصا اذا افتقدت للرقيب ، وهو ما يحتّم على الإباء والأمهات مراقبة أولادهم وبناتهم بخصوص ذلك .
وفيما يلي النص الكامل للخطبة الاولى لصلاة الجمعة بإمامة الشيخ عبد المهدي الكربلائي في 11/ شهر رمضان/ 1437هـ الموافق 17 /6 /2016م :
تكملة فقرات الخطبة الشعبانية للنبي الاعظم (صلى الله عليه وآله وسلم):
(وَ اذْكُرُوا بِجُوعِكُمْ وَ عَطَشِكُمْ فِيهِ جُوعَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَ عَطَشَهُ ، وَ تَصَدَّقُوا عَلَى فُقَرَائِكُمْ وَ مَسَاكِينِكُمْ ، وَ وَقِّرُوا كِبَارَكُمْ ، وَ ارْحَمُوا صِغَارَكُمْ ، وَ صِلُوا أَرْحَامَكُمْ ، وَ احْفَظُوا أَلْسِنَتَكُمْ ، وَ غُضُّوا عَمَّا لَا يَحِلُّ النَّظَرُ إِلَيْهِ أَبْصَارَكُمْ ).
ما زلنا في تذكرة وتبصرة لما اراده الله تعالى من صيامه لهذا الشهر المبارك..
فللصوم غاية عظيمة وسامية ألا وهي التقوى ... وهو وسيلة لبلوغ اهداف وثمار ارادها الله تعالى منا ولم يرد ان يعرضنا لألم وعذاب الجوع والعطش والحرمان من اللذة والشهوة ... بل أراد من الصوم ان يربطنا بالآخرة وجوعها وعطشها فنستشعر اهوال تلك المواقف حتى نستعد ونتهيأ لها .. واراد منا ان نطهر ارواحنا ونهذب سلوكنا ونزكي انفسنا ونرتقي باخلاقنا ونطوّع ارادتنا ونمرنها لكي نتخلص من أسر الشهوات والغرائز والعادات السيئة ونحرّر نفوسنا من العبودية للشياطين ونروض قلوبنا على استشعار الرحمة والعطف والحنان للأيتام والفقراء والمساكين..
(وَ اذْكُرُوا بِجُوعِكُمْ وَ عَطَشِكُمْ فِيهِ جُوعَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَ عَطَشَهُ)
شرع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في خطبته المباركة ببيان علل الصوم ومنها التذكير بمواقف سوف تأتي على الانسان في عالم الحساب والاخرة، وان لعالم الاخرة صعوبات ومشقات ومواقف مهولة أقلها الجوع والعطش فمن اجل معالجة الغفلة التي يكون عليها الانسان بسبب تعلق بالدنيا جاء الصوم ليكون منبهاً له وليجعله موقفا مصغرا من مواقف يوم القيامة يعيشه الصائم ويتحسسه حتى تترسخ لديه الرقابة الالهية ويحافظ على حالة الخشية والخوف من عذاب الله تعالى فيردعه عن المعاصي فقد ورد في بعض الاحاديث : عن الامام الصادق (عليه السلام) : ألا فحاسبوا أنفسكم قبل ان تحاسبوا، فان في القيامة خمسين موقفا، كُلُّ موقف مثل ألف سنة مما تعدّون، ثم تلا هذه الآية : (في يوم ٍ كان مقداره خمسين ألفَ سنة ٍ..).
ومن جملة ما يلزم الصائم في جوعه وعطشه ان يتذكر جوع وعطش الفقراء والمساكين حتى يرق قلبه لهم ويعطف عليهم فينفق من ماله وطعامه عليهم.. عن الامام الصادق (عليه السلام) : "انما فرض الله الصيام ليستوي به الغني والفقير وذلك ان الغني لم يكن ليجد مسّ الجوع فيرحم الفقير، لأن الغني كلما اراد شيئاً قدر عليه فأراد الله (تعالى) ان يسوّي بين خلقه وان يذيق الغني مَسَّ الجوع والألم ليرق على الضعيف ويرحم الجائع.
(وَ تَصَدَّقُوا عَلَى فُقَرَائِكُمْ وَ مَسَاكِينِكُمْ)
- اهتم الاسلام كثيراً بالبذل والانفاق وشرع لذلك صدقات واجبة ومستحبة.
-لا يستصغر الصائم الصدقة ولو كانت ببضع تمرات او اقراص من خبر فربما تكون كبيرة عند الله تعالى.
- الابقاء على اثر الصدقة وعدم الاتيان بعمل يبطلها كالمن والاذى واشعار المسكين والفقير بالبذل والمنّة عليه وايذائه ببعض الكلمات..نحن اعطيناك كذا.. ألم نعطك؟ الم نحسن اليك ؟
- الصدقة بالسر والصدقة بالعلانية ، عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : عليكم بصدقة السر فانها تطفئ غضب الرب، عن ابي عبدالله (عليه السلام) : (صدقة الليل تطفئ غضب الرب، وتمحو الذنب العظيم، وتهون الحساب، وصدقة النهار تزيد العمر وتثمر المال).
(وَ وَقِّرُوا كِبَارَكُمْ)
اراد الاسلام للمجتمع الاسلامي ان يكون راقياً في اخلاقه ومن ذلك ان يعطي للكبير وقاره ومنزلته ويحافظ على مكانته الاجتماعية باحترامه وتوقيره وتعظيمه – والكبير صفة لمن هم فوق الاربعين وكذلك للكبير من حيث منزلته الدينية او الاجتماعية.. كالمعلمين والمربين ورجال الدين ..
روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : البركة مع أكابركم، وعنه (صلى الله عليه وآله وسلم) : من عرف فضل شيخ كبير فوقره لسنه، آمنه الله من فزع يوم القيامة.
فالاسلام أمر باجلال الكبير وتوقيره وتعظيمه بالسلام وحسن المعاشرة معه والمعاملة والمعاونة والمداراة والمحبة وترك كل ما يؤذن من المخاصمة والمناقشة والتمادي ولا يسميه بل يكنيه بكنيته، ولا يوجه له النقد بصورة مباشرة بل يلفت نظره بصيغة المستفهم او السائل ولا يتحدث بأي حديث او كلام يشعره بالامتهان والنقص..
(وَ ارْحَمُوا صِغَارَكُمْ)
واما الرحمة بالصغير فهي خلق الهي فالصغير يحتاج الى مد يد العون والعطف عليه حتى يتجاوز نقصه وقلة خبرته في الحياة، فكما يطلب من الصغير ان يحترم الكبير ويوقره ويبدي له الاحترام والتبجيل فكذلك يطلب من الكبير ان يحنو على الصغير ويعطف عليه ويرحمه ويتعاهده بالمساعدة فلا يكون قاسياً وشديداً معه بل حانياً عاطفاً رحيماً..
ومن جملة موارد الرحمة بالصغير العناية به بتعليمه مبادئ التربية والاخلاق وتعليمه القران الكريم وتعليمهم الصلاة وتعريفهم على الصوم ومحاسن الاخلاق..
وحمايتهم من الانحراف والاختلاط الضار ودخول الاماكن المفسدة لاخلاقهم.. وبمناسبة شهر رمضان الكريم نوصي الاباء بالاعتناء باولادهم واصطحابهم الى المجالس والاماكن الدينية وعدم اثقالهم بأمور اكثر من طاقتهم..
عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : "أدبوا اولادكم على ثلاث خصال: حُبِّ نبيكم، وحُبِّ أهل بيته، وقراءة القرآن".
(وَ صِلُوا أَرْحَامَكُمْ)
وردت الكثير من الايات القرانية والاحاديث الشريفة التي تؤكد على صلة الرحم حرصاً من الاسلام على الحفاظ على قوة الروابط والاواصر بين افراد المجتمع المجتمع خصوصا اولي القرابة..
عن ابي عبدالله (عليه السلام) : ان رجلا ً اتى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: يا رسول الله ان اهل بيتي أبوا إلا توثباً عليَّ، وقطيعة لي وشتيمة، أفأرفضهم؟ قال: اذن يرفضكم الله جميعاً، قال : كيف اصنع؟ قال : تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك، فانك اذا فعلت ذلك كان لك من الله عليهم ظهيراً.
وقد يسأل البعض: كيف نصل ارحامنا ؟
جوابه : ان ادنى مرتبة لصلة الرحم هو السلام وهو قد يكون بزيارته شخصياً في داره او محله او من خلال الهاتف او الرسالة بالسؤال عنه وعن احواله وبالسلام عليه والدعاء له ومساعدته في قضاء حوائجه وجلب المنفعة له وارشاده ونصيحته.
(وَ احْفَظُوا أَلْسِنَتَكُمْ)
وهذه سلسلة اجتماعية اخلاقية للصائم ولعل من اشد ابتلاءات الصائم بمنافيات الصيام الحقيقي هو معاصي الجوارح وآفات اللسان بالخصوص.. ولذلك على الصائم ان يكون حذراً جداً ومنتبهاً لمزالق اللسان وآفاته.. فهي اشدها ضرراً في الدنيا والاخرة..
ومن جملة آفاته : الغيبة والنميمة والبهتان والافتراء والكذب وقول الزور والسب والشتم والخوض في الباطل والافتخار بالباطل والبذاء والمزاح والسخرية والاستهزاء وافشاء السر، ولذلك ورد التأكيد الشديد على حفظ اللسان وصونه من المحرمات :
جاء رجل الى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال له : اوصني يا رسول الله ، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): احفظ لسانك، قال: يا رسول الله اوصني ، قال (صلى الله عليه وآله وسلم) : احفظ لسانك ، قال : يا رسول الله اوصني قال (صلى الله عليه وآله وسلم) : احفظ لسانك ، ويحك وهل يكبُّ الناس على مناخرهم في النار الا حصائد ألسنتهم.
(وَ غُضُّوا عَمَّا لَا يَحِلُّ النَّظَرُ إِلَيْهِ أَبْصَارَكُمْ)
لا يخفى ما للنظر من دور خطير في تحريك غرائز الانسان وشهواته واحاسيسه فالبصر والسمع هما اللذان يحركان الغرائز والشهوات والتي بدورها تحرك البدن للطلب، وخصوصاً غريزة الجنس التي هي اخطرها وفي حال تحريك هذه الغريزة الجنسية فانه لا يقف بوجهها شيء فهي كالبركان المتفجر الذي ينثر حممه في كل مكان، والاسلام يريد ان يقتلع المشكلة من جذورها وقبل حدوثها فيأمر بغض البصر ويأمر المرأة بعدم ابداء زينتها، وهكذا جاء الصوم ليهذب هذه الغريزة ويجعله تمرين لنفسه وبصره على الغض عن الحرمات..
وفي عصرنا الحاضر فان وسائل الاتصال الحديثة واجهزة الهاتف النقال اصبحت من اكثر الوسائل خطراً في هذا المجال فلابد من مراقبة الاباء والامهات لأولادهم وبناتهم وعدم تركهم يمارسون بحرية ومن دون رقيب استعمال هذه الوسائل..
عن امير المؤمنين (عليه السلام) : لكل عضو حظ من الزنا فالعين زناها النظر.
وعنه (عليه السلام) : العيون مصائد الشيطان.
وعلى الانسان المؤمن ان يتأمل في المسألة التالية : هل يرضى ان ينظر الى نسائه من امه واخته او ابنته او زوجته..
وعلى النساء العناية بحفظ عفتهن وحجابهن وتسترهن من الاجنبي ومن ذلك امام اشقاء الزوج وارحامها من غير المحارم ونحو ذلك .