مصبا- بلاه اللّه بخير أو شرّ يبلوه بلوا ، وأبلاه وابتلاه ابتلاء : امتحنه ، والاسم بلاء مثل سلام ، والبلوى والبليّة : مثله ، ولا اباليه ولا أبالي به : لا اهتمّ به ولا اكترث له.
مقا- بلو : الأصل فيه نوع من الاختبار ويحمل عليه الإخبار أيضا. بلى الإنسان وابتلى : من الامتحان وهو الاختبار ، ويكون البلاء في الخير والشرّ ، واللّه يبلى العبد بلاء حسنا وبلاء سيّئا ، وهو يرجع الى هذا ، لأنّ بذلك يختبر في صبره وشكره. وممّا يحمل على هذا الباب قولهم : أبليت فلانا عذرا ، أي أعلمته وبيّنته فيما بيني وبينه فلا لوم علىّ بعد. ويبليك : يخبرك.
صحا- بلوته بلوا : جرّبته واختبرته ، وبلاه اللّه بلاء ، وأبلاه إبلاء حسنا ، وابتلاه : اختبره. والتبالي : الاختبار.
لسا- بلوت الرجل بلوا وبلاء وابتليته : اختبرته ، وبلاه يبلوه بلوا : جرّبه واختبره. وقد ابتليته فأبلاني : استخبرته فأخبرني. وابتلاه اللّه : امتحنه ، والاسم البلوى والبلوة والبلاء.
والتحقيق
أنّ الأصل الواحد فيها هو إيجاد التحوّل ، أي التقلب والتحويل لتحصيل نتيجة منظورة ، وهذا المعنى ينطبق على جميع مواردها ومصاديقها ، من دون أن يتجوّز أو يتكلّف فيها. وأمّا الامتحان والاختبار والابتلاء والتجربة والتبيين والأعلام والتعريف : فكلّ هذه معان مجازيّة ومن لوازم الأصل وآثاره بحسب الموارد ، إلّا أن يلاحظ فيها قيود الأصل ، من التحويل وتحصيل النتيجة.
وبهذا يندفع التأويل والتكلّف في تفسير مشتقّات هذه المادّة.
{يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} [الطارق : 9].
تتقلّب وتتحوّل وتظهر خصوصيّاتها وما فيها.
{خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ } [الإنسان : 2].
أي نحوّله ونقلّبه الى حالات ومراتب مختلفة الى أن نجعله سميعا وبصيرا.
{تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ} [يونس : 30].
أي تتحوّل وتريد أن تحوّله الى صور حسنة.
{ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} [البقرة : 124].
أي أوجد تحوّلا في حاله وقلّب برنامج أمره بسبب توجيه كلمات ، فأخذ بها وامتثل فيها.
{وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ} [محمد : 4].
أي ليحول بعضكم الى أحسن حال أو يقلّب الى أدنى مرتبة بسبب التماسّ والمقابلة مع بعض آخر.
{ بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ } [القلم : 17].
أي حوّلنا نظم أمورهم وقلبّنا برنامج امور معاشهم ، كما حوّلنا نظم معاش أصحاب الجنّة.
{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ} [البقرة : 155].
أي نوجد تحوّلًا في حالاتهم واختلالا في امور معاشهم بعوارض الخوف أو الجوع أو غيرهما.
{لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا } [الكهف : 7].
أي نوجد تحوّلات في امور معاشهم ، وفي نظم امور حياتهم ، حتّى يظهر الّذى هو أحسن عملا- وذلك كما في- {يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ } [الفاتحة : 44].
أي لينظروا ، أو ليعلموا ، أيّهم يكفل مريم كما في الكشّاف. وهذا البلو والتحوّلات في اثر اختلافات السماء والأرض وما فيهما.
{لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ} [المائدة : 94].
أي يحوّل نيّاتكم وثبات أقدامكم وحالاتكم بتوجّه الصيد اليهم وكثرتهم عام الحديبيّة.
{وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ } [البقرة : 49].
أي تحوّل وتقليب عظيم فيكم.
والفرق بين البلو والإبلاء والمبالاة والابتلاء : هو اختلاف مقتضيات صيغها ، فانّ في الإبلاء توجّه مخصوص الى جهة صدور التحويل من الفاعل ونظر خاصّ الى قيامه به- {وَ لِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ}. وفي المبالاة توجّه مخصوص الى استمرار الفعل وإدامته- وهو لا يبالى بهذا الأمر. وفي الابتلاء توجّه مخصوص الى صدور الفعل بالطّوع والرغبة والارادة الخاصة. {وَ إِذِ ابْتَلىٰ إبراهيم رَبُّهُ} ... ، { فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ} [الفجر : 15] ... ، {مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ } [الإنسان : 2] ... ، {هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ} [الأحزاب : 11]... ، {وَ ابْتَلُوا اليتامى}.
ففي التحويل في هذه الموارد نظر خاصّ وتوجّه مخصوص الى صدور الفعل ، وقد صدر التحويل على جهة رغبة واختيار وميل خاصّ.
والفرق بين البلو والتحويل : انّ البلو إيجاد تحوّل يلازم المضيقة والمحدوديّة ولو بتوجّه تكليف أو حكم. بخلاف التحويل فانّه أعمّ من أن توجد حالة منبسطة أو منقبضة.
ثمّ إنّ التحقيق في مفاهيم كلمات- بلى يبلى- بل- بلى : يقتضى أن تكون هذه الكلمات مأخوذة من البلو ، فإنّ إيجاد التحول منظور في هذه الألفاظ بزيادة خصوصيّة في كلّ واحد منها ، وكذلك البال.
أمّا كلمة بلى : فهي بمناسبة الكسرة في العين تدلّ على التحوّل الى جهة السفل ، فيقال بلى الثوب إذا خلق.
وفي مصبا- بلى الثوب يبلى من باب تعب بلى بالقصر والكسر وبلاء بالفتح والمدّ : خلق ، فهو بال ، وبلى الميّت : أفنته الأرض.
{هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى} [طه : 120].
أي لا يزول ولا يضعف.
وأمّا كلمة بلى : فهي تدلّ على التصديق وتحويل النفي الى الإثبات وذلك بمناسبة الفتحة والألف.
وفي مصبا- وبلى : حرف إيجاب ، ومعناه التقرير والإثبات ، ولا تكون إلّا بعد نفى ، فهو دائما يرفع حكم النفي ويوجب نقيضه.
{أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى} [الأنعام : 30].
أي نعم هو حقّ.
{أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف : 172].
أي نعم هو ربّنا.
وأمّا كلمة بل : فلمّا كانت مجرّدة عن حركة اللام والألف في الآخر ، فتدلّ على الاعراض فقط ، وهو مطلق التحوّل عن الحكم السابق.
{وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ} [الأنبياء : 26].
إبطال للسابق وإضراب عنه.
{أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ} [المؤمنون : 70].
إضراب وإعراض.
{قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} [الأعلى : 14] ... {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [الأعلى : 16].
انتقال عن السابق وإثبات أنّهم ليسوا من المفلحين.
هذا ما حقّقنا بتأييد اللّه المتعال في معنى مادّة البلو فخذه واغتنم.
_____________
- مصبا = مصباح المنير للفيومي ، طبع مصر 1313 هـ .
- مقا = معجم مقاييس اللغة لابن فارس ، ٦ مجلدات ، طبع مصر ١٣٩ هـ .
- صحا = صحاح اللغة للجوهري ، طبع ايران ، ١٢٧٠ هـ .
- لسا = لسان العرب لابن منظور ، 15 مجلداً ، طبع بيروت 1376 هـ .