ألقى وكيلُ المرجعيّة الدينيّة العُليا في النجف الأشرف سماحة السيّد أحمد الصافي (دام عزّه) بيانَ المرجعيّة الدينيّة العُليا لمناسبة الذكرى الخامسة لفتوى الدّفاع الكفائيّ، جاء ذلك خلال الخطبة الثانية من صلاة الجمعة المباركة ليوم (10شوال 1440هـ) الموافق لـ(14 حزيران 2019م)، التي أُقيمت في الصحن الحسينيّ الطاهر.
نصّ البيان:
(أيّها الإخوة والأخوات... أقرأ عليكم نصّ ما ورد من مكتب سماحة السيد المرجع الأعلى(دام ظلّه) في النجف الاشرف بمناسبة ذكرى فتوى الدّفاع الكفائي):
في مثل يوم أمس الثالث عشر من حزيران من عام 2014م -أي قبل خمسة أعوام- انطلق من هذا المكان المقدّس نداءُ المرجعيّة الدينيّة العُليا وفتواها الشهيرة بوجوب الدّفاع الكفائيّ، حيث دعت العراقيّين القادرين على حمل السلاح للانخراط في القوّات الأمنيّة للدّفاع عن العراق وشعبه ومقدّساته أمام هجمة الإرهابيّين الدواعش، الذين كانوا قد اجتاحوا مساحاتٍ شاسعة في عددٍ من المحافظات وباتوا يهدّدون العاصمة بغداد ومحافظات أخرى أيضاً، فهبّ رجالُ العراق الأبطال شيباً وشبّاناً ومن مختلف الشرائح الاجتماعيّة، واندفعوا الى ساحات القتال بحماسٍ منقطع النظير وهمّةٍ لا توصف، وخاضوا لأزيد من ثلاثة أعوام عشرات المعارك الضارية بكفاءة عالية، تجلّت فيها البطولة بأروع صورها وأسمى معانيها، وقد قدّموا في هذا الطريق عشرات الآلاف من الشهداء وأضعاف ذلك من الجرحى والمصابين إنقاذاً للوطن الغالي وفداءً للحرمات والمقدّسات، حتّى منّ الله عليهم بالنصر المؤزّر وتمكّنوا من دحر الإرهابيّين وتخليص الأراضي المغتصبة من رجس المعتدين والقضاء على دولتهم المزعومة.
ولم يكن ليتحقّق هذا الإنجاز التاريخيّ العظيم لولا تكاتف العراقيّين وتلاحمهم وتوحيد صفوفهم، وتجاوز القوى السياسيّة لخلافاتهم وصراعاتهم، وتعاليهم على المصالح الشخصيّة والفئويّة والقوميّة والمناطقيّة أمام المصلحة العُليا للوطن والمواطنين من مختلف المكونات. بالإضافة الى تعاون الدول الشقيقة والصديقة ومساهمتهم الفاعلة في مساعدة العراق على دحر الإرهاب الداعشيّ.
ولكن بعد أن وضعت الحرب أوزارها وتحقّق الانتصارُ المبين وتمّ تطهير مختلف المناطق من دنس الإرهابيّين دبّ الخلاف من جديد -مُعلَناً تارةً وخُفْياً تارةً أخرى- في صفوف الأطراف التي تُمسك بزمام الأمور، وتفاقم الصراع بين قوى تريد الحفاظ على مواقعها السابقة وقوى أخرى برزت خلال الحرب مع داعش تسعى لتكريس حضورها والحصول على مكتسبات معيّنة، ولا يزال التكالب على المناصب والمواقع -ومنها وزارتا الدّفاع والداخلية- والمحاصصة المقيتة يمنعان من استكمال التشكيلة الوزاريّة، ولا يزال الفساد المستشري في مؤسّسات الدولة لم يُقابلْ بخطواتٍ عمليّة واضحة للحدّ منه ومحاسبة المتورّطين به، ولا تزال البيروقراطيّة الإداريّة وقلّة فرص العمل والنقص الحادّ في الخدمات الأساسيّة -باستثناء ما حصل مؤخّراً من تحسّنٍ في البعض منها- تتسبّب في معاناة المواطنين وتنغّص عليهم حياتهم، ولا تزال القوانين التي منحت امتيازاتٍ مجحفة لفئاتٍ معيّنة على حساب سائر الشعب سارية المفعول ولم يتمّ تعديلُها، كلّ ذلك في ظلّ أوضاعٍ بالغة الخطورة في هذه المنطقة الحسّاسة، وتصاعد التوتر فيها بعد فترةٍ من الهدوء النسبيّ لانشغال الجميع بالحرب على داعش.
إنّ استمرار الصراع على المغانم والمكاسب وإثارة المشاكل الأمنيّة والعشائريّة والطائفيّة هنا أو هناك لأغراضٍ معيّنة، وعدم الإسراع في معالجة مشاكل المناطق المتضرّرة بالحرب على الإرهاب، تمنح فلول داعش فرصةً مناسبة للقيام ببعض الاعتداءات المخلّة بالأمن والاستقرار، وربّما يجدون حواضن لهم لدى بعض الناقمين والمتذمّرين فيزداد الأمر تعقيداً.
إنّ تطبيع الأوضاع في تلك المناطق وتوفير الأمن فيها على أسسٍ مهنيّة تراعي حرمة المواطن وتمنحه فرصة العيش بعزّ وكرامة وتمنع من التعدّي والتجاوز على حقوقه القانونيّة يتّسم بالضرورة القصوى، وبخلاف ذلك تزداد مخاطر العود بالبلد الى الظروف التي لا تُنسى آلامها ومآسيها.
إنّ على الجهات المعنيّة بالملفّ الأمني أن تكون حذرةً جدّاً ممّا يُمكن أن يحدث نتيجةً للعوامل المشار إليها، وأن تتعامل بمهنيّةٍ تامّة مع هذا الملفّ المهمّ، وتولي عنايةً خاصّة للجهد الاستخباريّ لإحباط مخطّطات الإرهابيّين قبل تنفيذها، وتوفّر مراقبةً دقيقة للمناطق التي يُمكن أن تكون محطّةً لتحرّكاتهم، ولا تسمح بأيّ إهمالٍ أو تقصير في هذا المجال.
تحيّة إجلالٍ وإكبار للشهداء العِظام، وللأحبّة في أسرهم وعوائلهم، وللأعزّاء من المقاتلين الجرحى والمعاقين، وللرجال الأبطال في مختلف صنوف القوّات المسلّحة والأجهزة الأمنيّة الذين يسهرون على أمن الوطن واستقراره وحماية المواطنين والمقيمين.. نسأل الله تعالى أن يحفظهم ويسدّد خطاهم، ويأخذ بيد الجميع الى ما فيه خير البلاد والعباد إنّه أرحمُ الراحمين.