مع اقتراب حلول شهر محرّمٍ الحرام أوصت المرجعيّةُ الدينيّة العُليا متمثّلةً بسماحة آية الله العظمى السيد علي الحسيني السيستانيّ(دام ظلّه الوارف) بجملةٍ من الوصايا لخطباء المنبر الحسينيّ في شهر محرّم الحرام للعام (1440هـ)، ونقل الموقع الرسميّ التابع لمكتب سماحته هذه الوصايا التي تابعتها شبكة الكفيل العالمية وفيما يلي نصّها:
الأولى: في بيان دور المنبر الحسينيّ وخصوصاً في أيّام موسم محرّم الحرام، وأفاد أنّ رسالة المنبر تتلخّص بالإضافة الى ذكر ما جرى على أهل البيت(عليهم السلام) في نشر الدين وترسيخه في عقول المسلمين وقلوبهم من خلال بيان المعارف القرآنيّة ودفع الشبهات بالأدلّة الوافية المقنعة وتربية نفوس المؤمنين على الورع والفضيلة والقيم المثلى.
وهذا بعينه هو الدور الذي أناطه الله (عزّ وجل) برسوله(صلّى الله عليه وآله) الذي هو أوّل من ارتقى المنبر في الإسلام، وقد شرح القرآن لنا دوره في قوله (عزّ وجل): ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ﴾ حيثُ أشارت الآية الكريمة الى أنّ الرسالة النبويّة -التي كان المنبر أداة فاعلة لتبليغها- ترتكز على ترسيخ الدين بتزكية النفوس وتنقيتها من أدران الظلمات والأمراض الروحية والأخلاقية وعرض معارفه القرآنيّة وغرس الحكمة في القلوب بمصاديقها المتنوّعة علماً وعملاً.
كما أنّ الهدف الأسمى للحركة الإصلاحيّة التي قام بها سيّد الشهداء(سلام الله عليه) هو حفظ الدين وترسيخه مقابل المنهج الأمويّ الذي كان قائماً على هدم ركائز الإسلام وقيمه، كما يظهر من شواهد كثيرة تعرف بمراجعة النصوص التاريخيّة. فقد قامت نهضته (صلوات الله عليه) في مواجهة ذلك المنهج الخطير، وكانت رسالته وتضحيته من أجل أسمى هدف وهو حفظ الدين عن الزوال والانحراف، وفي اعتقادي أنّه لولا تضحية الإمام الحسين(عليه السلام) بتلك الصورة العظيمة في تلك المرحلة العصيبة لم يبق للإسلام أثرٌ يذكر، لأنّ المخطّط الأمويّ كان متقناً ويقرب من الوصول الى أهدافه، وبما أنّ المنبر الحسينيّ هو امتدادٌ ليوم الحسين(عليه السلام) فدوره ووظيفته تتمحور حول الدين ترسيخاً ودفاعاً وتعليماً وتربيةً.
الثانية: إنّ من أجلى مصاديق حفظ الدين وترسيخه في العصر الحاضر هو التصدّي لدفع الشبهات المطروحة في مقابل الدين ومعارفه الأصيلة وقيمه الأخلاقيّة، ولكن ينبغي رعاية عدّة أمور في هذا المجال:
الأمرُ الأوّل:أن يكون الخطيبُ المتصدّي لدفع الشبهات متضلّعاً في هذا الباب متسلّحاً بالخبرة ووفرة المعلومات، وإلّا فإنّ ما يفسده بتصدّيه ربّما يكون أكثر ممّا يصلحه. والمنبر هو من أهمّ الوسائل المتاحة لدفع الشبهات عن العقيدة الحقّة، وقد كان النبيّ(صلّى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين(عليه السلام) مضافاً الى التصدّي لبيان المعارف والتعاليم الدينيّة يقومان على المنبر بدفع الشبهات التي كانت في أذهان بعض المسلمين، لقرب عهدهم بالجاهليّة، أو كانت تطرأ على أذهان البعض منهم تأثّراً بأفكارٍ دخيلة على المجتمع الإسلاميّ، ومن هنا تتبيّن أهميّة دور المنبر الحسينيّ من حيث أنّه امتدادٌ واستمرارٌ لرسالة المصطفى والمرتضى(صلوات الله عليهما وآلهما) ممّا يقتضي أن يكون مرتقي المنبر ذا كفاءة وجدارة وأهليّة علميّة.
الأمرُ الثاني:إنّ الشبهات على نوعين: فبعضها رائجٌ ومشهور، وبعضها مطروح ولكن ليس بمتداول إلّا في نطاق محدود، ومن المناسب بل اللازم التصدّي بشكلٍ مباشر لدفع الشُبَه المعروفة في أوساط الناس، وأمّا الشُبَه غير المتداولة على نطاق واسع فليس من الحكمة استعراضُها وشرحها في أوساط العامّة، بل الصواب في علاجها أن يؤسّس المبلّغ الدينيّ بصورةٍ محكمة للمضمون الذي به تندفع الشبهة عن أذهان من وقفوا عليها، من غير حاجةٍ لذكرها والتعليق عليها.
الأمرُ الثالث:إنّ من المعلوم أنّ لكلّ مقامٍ مقالاً، ولذا فإنّ على الخطيب أن يلاحظ المستوى الذهني والثقافيّ للمتلقّين للخطاب بالمباشرة أو بالواسطة، فلا يطرح من المعارف الدينيّة إلّا ما ينسجم مع المستويات الذهنيّة للمستمعين، ويعتني بصياغة الشبهات وتوضيح الجواب عنها بمقدار نفوذها في أذهانهم، وقد ورد عن الرسول الأعظم(صلّى الله عليه وآله): (إِنَّا مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ أُمِرْنَا أَنْ نُكَلِّمَ النَّاسَ عَلَى قَدْرِ عُقُولِهِمْ).
الأمرُ الرابع:لا بُدّ من أقصى الاستفادة من معين علوم أهل البيت(سلام الله عليهم) المأثور عنهم بالطرق المعتبرة والمصادر الموثوقة، وقد ورد عنهم (سلام الله عليهم): (إِنَّ النَّاسَ لَوْ عَلِمُوا مَحَاسِنَ كَلَامِنَا لَاتَّبَعُونَا)، وتشتمل محاسنُ كلامهم على منظومة فكريّة متكاملة متنوّعة المضمون كالقرآن الكريم، ففيها من روائع الحكم ومعالم الأخلاق وإثارة دفائن العقول ودفع الشبهات ما يُنير الإنسان المسلم ويجعله واثقاً بعقيدته ودينه، وذلك هو مقتضى كونهم الثقل الثاني للقرآن بصريح حديث الثقلين وغيره. فعلى الخطيب الحسينيّ أن يهتمّ بهذا الجانب في خطابته، كما عليه أن يهتمّ بذكر مصائب أهل البيت(عليهم السلام) وما جرى عليهم في فاجعة كربلاء لما لذلك من تأثير بالغ في بقاء هذه القضيّة حيّةً في النفوس.