بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أكرم أولياءه المصطَفَيْن بالشهادة، وختم لهم بالسعادة، والصلاة والسلام على من له على الكائنات السيادة، محمد المصطفى وعلى آله الأئمة القادة، أولي التقوى والعبادة.
السلام على الحسين وعلى علي بن الحسين وعلى أولاد الحسين وعلى أصحاب الحسين
السلام على الإمامين الكاظمين الجوادين ورحمة الله وبركاته
نعزّي الإمام صاحب العصر والزمان (عجل الله فرجه) ومراجعنا الكرام والعالم الإنساني في ذكرى شهادة الإمام الحسين عليه السلام وأهل بيته وأصحابه.
الحضور الحزين... مع حفظ الألقاب والمقامات ... السلام عليكم ورحمة الله وبركاته...
في مثل هذه الليلة من كل عام، يقف خدّام الإمامين الكاظمين عليهما السلام هذا الموقف ونشهد هذا التجمع، إيذاناً بموعد ذكرى حدث تاريخي حصل قبل حوالي 1400 عام، ألا وهو يوم عاشوراء.
عليكَ سلامُ الله يا ابن محمد *** سلامَ محبٍّ بالولا لك يشهدُ
تعهّدَ ذكراك الإلهُ بلطفه *** فمن لطفه مُدّت لتخليدها يدُ
مضت هذه الذكرى بخير وإنما *** تعودُ لنا ذكراك والعَودُ أحمدُ
ليس من قبيل الصدفة أن يتجدد في أذهان الناس، بعد هذه القرون الأربع عشرة، حدثٌ استغرق ساعتين من نهار أحد أيام محرم عام 61هـ، أو أن يحصل ذلك اتفاقاً، إذ، وفقاً للمقاييس الطبيعية، وتتبعاً لنواميس التاريخ، لا نجد لأحداث كهذه في صفحات التاريخ إلا ذكراً سريعاً، ولا يقف عليها المؤرخون إلا لِماماً.
لقد أصرّت واقعة كربلاء، دون سائر أحداث التاريخ، أن تبقى ماثلةً ما دار الجديدان، تجرّ الدهر من ناصيته، فشُغلت بها الليالي والأيام، وضاقت بعظم مأساتها الأرضُ على رُحْبها. حادثة أقامت العالم وأقعدته من يومها الى يومنا، ومن يومنا الى ما شاء الله من أيام الدهر.
ونقول: لا غرابة في خلود ما تعهدته يد الغيب وتبنّته الإرادة الإلهية، فقد خصصت يدُ الغيب مأساة أبي الشهداء الحسين (عليه السلام) لتكون مفصلاً من مفاصل التأريخ، ومحطّة من محطّات الرحلة البشرية التي انطلقت لتصحب الإنسان من الفوضوية والضلال لتنتهي به إلى النظام والهداية عبر مدارج التكامل.
وإذا ما ذكر اسم الحسين عليه السلام تبادرت الى الذهن مترادفاته من تشييد لمعالم الدين وشرف وإباء وتضحية كبرى، ولا عجب إذا أن يردد الدهر اسمه وأن تخلد الأجيال ذكراه. صرخ ضمير الحسين عليه السلام فكانت ثورة كأنها زلزلة وقعت في التاريخ تنتصر للحق من الباطل، وللدين من الكفر، وللأخلاق من السفالة.
لقد صافحت كفُّ الحسين عليه السلام المُثل العليا، وعانقت يداه علياءَ مجد الحياة، وقبّلت شفتاه ثغر الخلود، وباستشهاده تنطوي من سجل الوجود صفحة مجيدة زاهرة وتُفتح في سجل الخلود صفحات أنضر وأنصع
هي نفسٌ سمتْ فعزّت منالا*** وكساها الإلهُ منه جلالا
هي نفسُ الحسين بل نفسُ طه *** بل هي النورُ من سناه تعالى
هي نفسٌ قدسيةٌ قد تسامت*** حيث أضفت على الكمالِ كمالا
هي نفسُ الحسين نفسُ أبيٍّ*** طلب المجدَ فاشتراه وغالى
وإذا كان للحق معنى في فقه الوجود فنهضة الحسين عليه السلام هي ذلك المعنى، وإذا كان للمبدأ ثبات في التاريخ فصمود الحسين عليه السلام كالطود الأشم بوجه الطاغوت هو ذلك الثبات، وإذا كان للعدل قسطاس مبين في سوق الدهر فسيف الحسين عليه السلام المنقض انقضاض الصاعقة على رأس الباطل هو ميزان العدل، وإذا كان للدين راية حمراء تلتهب مقابل ظلام الظُلم فتثير الحمية والنخوة والشهامة والمروءة والتضحية والنجدة فدم الحسين عليه السلام المطلول على جبين الأجيال هو تلك الراية الحمراء.
لقد كانت واقعة كربلاء حصيلة من حصائل الانحراف الذي حصل بعد وفاة الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) ونبذ الأمة عهد الغدير وراء ظهرها. وكلّنا يعلم أن الخطّ الذي يبدأ حيوده عن الطريق المستقيم يواصل انحرافه عنه ويبتعد حتى يصل إلى درجة قلب الموازين والتعرض للأسس الذي قام عليه النظام. وهذا ما حصل في زمن سيد الشهداء أبي عبد الله الحسين (عليه السلام) حيث رأى أن الدنيا قد تغيرت وتنكرت وأدبر معروفها، ولم يبق منها إلا صُبابة كصُبابة الإناء، وأن الحق لا يُعمل به والباطل لا يُتناهى عنه، ورأى أن السكوت على تلك الأوضاع مدعاة لمزيد من الانحراف عن الخطّ الرسالي الذي ائتمنه رسول الله (صلى الله عليه وآله) الأئمة الهادين (عليهم السلام) من بعده، وتشجيعاً لطغاة عصره للإيغال في غيّهم وانحرافهم وظلمهم للرعية، ورأى أن الأمة سكرى لا تدري أين يُراد بها، فكان لا بدّ من هزة عنيفة توقظ الأمة من سباتها، ومن صفعة في وجه الاستكبار تثبت لهم أن قيادة الأمة الحقيقية - حتى وإن غاب دورها الفاعل في الساحة - يقِظة متنبهة للخطر الذي يحيق بالأمة ويكاد يدهمها. فاتخذ قراره (عليه السلام) في إحداث تلك الهزة للأمة وتوجيه تلك الصفعة للطغاة، حتى وإن كلّفه ذلك حياته وأرواح أهل بيته وأصحابه الأوفياء، إذ أن التضحيات تلك كلّها، في حسابات الربح والخسارة، ستؤتي أكُلَها ولو بعد حين من الزمن، على ما بلغه من الوعد الإلهي على لسان سيد المرسلين (صلى الله عليه وآله). ففعل الدم المقدس فعله، وهدم عروش الظالمين، وظل يواصل فعله إلى يومنا هذا، فلا تجد ثورة للمظلومين والمحرومين إلا والحسين شعارها، ودماؤه وقوداً لاستعارها، وذكراه تُقلق الطغاة وتقضّ مضاجع المستكبرين في الأرض.
أيها الحفل الحزين، سنرفع اليوم الراية السوداء لنعلن تجدّد الحداد على سيد الشهداء وأهل بيته وأصحابه، ونجدد - مع تجديد الحداد- عهدنا لحفيده الإمام الحجة (عليه السلام) بالثبات على المبادئ التي قام لأجلها جدّه الحسين (عليه السلام)، وانتفض في وجه الظلم من أجل تحقيقها على أرض الواقع. وليكن إعلاننا تجديد العهد من القلب، فهو وحده الذي سيعجل لنا بظهوره المبارك ليرفع عنا الظلام الذي خيّم على العالم من مشرقه إلى مغربه، وليحقق الأمل الذي نصبه الإمام الحسين (عليه السلام) غرضاً لانتفاضته المباركة على الظلم.
نسأل الله تعالى أن يرزقنا زيارة الحسين (عليه السلام) في الدنيا وشفاعته في الآخرة، وأن يكتب لنا التوفيق في نصرة حفيده الإمام المهدي (عليه السلام) ونيل الشهادة تحت رايته، فذلك قمة السعادة في الدنيا والآخرة...
اللهم ارحم البلاد والعباد والشهداء، وانصرنا على من يريد بنا سوءا، وأصلح كل فاسد من أمور المسلمين، وغيّر سوء حالنا بحُسن حالك.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين...