في ظل الأوضاع والأزمات السياسية والاقتصادية المتفاقمة، كان يشير البعض ان المرجعية الدينية العليا كانت بعد توقف خطبتها السياسية في الخامس شباط 2016 بانها "لن تكون أسبوعية بعد الآن"، وانها ستطرح بحسب ما يستجد من الأمور وتقتضيه المناسبات، أنها قد يئست من قضية الإصلاح ووعود السياسيين، وبالتالي تولدت لديها القناعة بعدم جدوى الإصلاح، وتوجهت بخطاباتها الى المواطن بالتوجيه والنصح والارشاد في كيفية بناء الفرد والعائلة والمجتمع وفق نظم واسس الاسرة الصالحة، بعد ان وصلت الأمور الى حد التمرد والاستهجان بكل الدعوات التي وجهتها المرجعية العليا بتغيير المسار من خلال إيجاد الحلول لهذه التراكمات السلبية في الأداء الحكومي الفاشل وتفشي الفساد، اضافة الى طرحها المعالجات..
وبعد جمعة الترقب وبيان المرجعية الدينية العليا الذي بدت تظهر آثاره على الشارع العراقي، اثيرت تساؤلات كثيرة في الوسط السياسي، منها هل ما ورد في البيان يتناسب مع خطورة الموقف الانتخابي. وهل ازال اللبس الواقع في مقولة المجرب لا يجرب؟ التي اتخذتها الاحزاب السياسية بين شعاراتها الرنانة في حملاتها الانتخابية؟.
جاء الرد لدى الكثير من المحللين السياسيين ان البيان جاء بمثابة البيان الديمقراطي الاول، يؤسس لمرحلة ديمقراطية تسابق الديمقراطية البرلمانية في الغرب، حيث اعلن ان المسؤولية ليست مسؤولية كتل او حكومة؛ انما هي مسؤولية الفرد العراقي، وقد رسم البيان للفرد خارطة طريق توضح له التحرر من قيد العشيرة والتكتل والحزب والطائفية، ووصف الكثير من المحللين ان البيان كان خطابا سياسيا رائعا مستوعبا للتجارب الديمقراطية في العالم.. وبذلك يتضح ان المرجعية العليا تسعى ان يحلّ نظام يعتمد على التعددية السياسية والتداول السلمي للسلطة، في انتخابات دورية حرّة ونزيهة، ايماناً منها بانه لا بديل عن سلوك هذا المسار في حكم البلد.. وربَّ تساؤل يسأل من هو الخاسر الاكبر في هذا البيان؟ يعرف البيان ذلك بأصحاب التجارب الانتخابية الماضية ـ من سوء استغلال السلطة من قبل كثيرٍ ممن انتخبوا او تسنّموا المناصب العليا في الحكومة، ومساهمتهم في نشر الفساد وتضييع المال العام بصورة غير مسبوقة، وتمييز أنفسهم برواتب ومخصصات كبيرة، وفشلهم في اداء واجباتهم في خدمة الشعب وتوفير الحياة الكريمة لأبنائه.
ولا شك ان الناخب العراقي مرَّ على مسامعه او أمامه الكثيرُ من العبارات والصور لقوائم انتخابية رفعت شعار المجرب لا يجرب، الذي استخدمته الحركات الدينية وكثير من الاحزاب السياسية والكثير من رؤساء العشائر ممن جيّر ابناء العشيرة لمرشح ما او لقائمة تعمل بآفة الاختيارات المنحازة على اساس القرابة او القومية او اي مستند غير النزاهة والكفاءة والموضوعية، وهنا صرحت المرجعية بانها لا علاقة لها باي طرف مؤكدة بان وقوفها على مسافة واحدة من جميع المرشحين ومن كافة القوائم الانتخابية، بمعنى أنها لا تساند أيّ شخص أو جهة أو قائمة على الاطلاق، كما انها حذرت من ان يتم استغلال اي رمز ديني او وطني لتوظيفه في تضليل الناس.
والمتتبع لخطب المرجعية العليا لا شك انه وجد في امتعاضها من الاداء السيء والوعود الكاذبة والفشل في ايجاد برامج ناجحة واستشراء الفساد كمقدمات وضعتها امام اعين الجمهور ليستند لها في تصويته الانتخابي، والحر تكفيه الاشارة، فكلُّ من تسنم المسؤولية في الحكومة والبرلمان وفشلَ وافسدَ واتخذَ الاصلاح والتغيير مجرد شعار دونما ان يهتم بخدماته للمواطنين وقام بالتصويت على امتيازاته في البرلمان، وترك كل القوانين التي تهمُّ الشعب الذي اصبح مسلوب الارادة ويتطلع الى من يقوم بإنقاذه من الواقع المؤلم والمرير في كل الميادين خاصة الحياتية والمعيشية والامنية والخدمية.
والمرجعية الدينية العليا كانت ولا تزال صمان الأمان في الكثير من المنعطفات السياسية فهي في بيانها في جمعة الترقب في (17 من شهر شعبان المعظم) وضعت اسسا متينة لمنهج ديمقراطي عراقي، حيث حددت الطريق الامثل لغرض تشخيص الاصلح من خلال المتابعة الدقيقة للسيرة العلمية والذاتية الصحيحة للمرشحين ورؤساء قوائمهم وخصوصا من كانت لهم سيرة سابقة مشار لهم بالمجربين.
كما لا يخفى على العراقيين ان صناعة القرار السياسي باتت محكومة بإرادات سياسية إقليمية ودولية لا يمكن تجاوزها، وان المرجعية الدينية العليا بعدم استجابة المسؤولين في الحكومات المتعاقبة والسياسيين العراقيين لنصائحها، قد "بح صوتها دون جدوى" من تكرار دعوتها للسياسيين إلى رعاية التعايش السلمي، ونبذ الخلافات الشخصية والفئوية.. وقد ورد في بيانها منع التدخل الخارجي في أمر الانتخابات سواء بالدعم المالي أو غيره، وتُشدّد العقوبة على ذلك.
واليوم بعد توجهها للمجتمع طيلة عاميين بآليات وكيفيات بناء الفرد والمجتمع الصالح، يجدرُ بالشعب ان يحسن الاختيار وان يبادر افراده بإصلاح انفسهم ومجتمعهم بعد الفساد والانحراف وسيادة الرذيلة والفاحشة فيه، التي نتجَ عنها برلمان سيئ يغلّب مصلحته الشخصية على المصلحة العامة، وبالتالي حكومة فاسدة تحكم الشعب، والعكس صحيح فالمجتمع الصالح تكون ثماره صالحة.. فعلى الناخبين اليوم الوعي بقيمة اصواتهم ودورها المهم في رسم مستقبل البلد فلا يمنحونها لأناس غير مؤهلين ازاء ثمن بخس ولا اتّباعاً للأهواء والعواطف او رعايةً للمصالح الشخصية او النزعات القَبلية او نحو.
كما لا يفوتنا ان المرجعية شخصت الظواهر السلبية في النظم العشائرية التي ينتج عنها مخاطر غير محمودة العواقب، وتضرُّ بأفراد المجتمع الواحد، فحذّرت منها وأعطت لها الحلول والمعالجات، وكان بينها مخالفة العشيرة في بعض أحكامها وأعرافها، للقواعد الشرعية، والضوابط القانونية التي أقرّت من اجل المصلحة العامة، وهذه المخالفة تهدد التعايش السلمي بين افراد المجتمع، فتقع بينهم الخصومات والنزاعات، فأن وقعت يجب حلها بالحكمة والحوار والتصالح.
ومن هنا الإصلاح الذي تنشده المرجعية يبدأ من الفرد، ثم الأسرة، والعشيرة، وهذه الدعوة للصلاح مبنية على اسس تغيير الذات للأفضل لتغيير الواقع الاجتماعي للأفضل، وفي تنويهها عن حسن الاختيار تريد المرجعية للجميع ان يختاروا الافضل، فهي نوهت في مواطن عديدة خلال خطبتها في 17 من شعبان المعظم 1439 عن اهمية الانتخاب واختيار من ينبغي ان نؤمن بانه هو الخيار الاصلح لمسار العملية السياسية.