أقرأ أيضاً
التاريخ: 15-4-2016
2091
التاريخ: 2024-04-14
787
التاريخ: 22-11-2016
4371
التاريخ: 30-8-2022
1949
|
تحت استهداف هذه الغاية العظمى التي جعلها الإسلام مقصداً من المقاصد الشرعية حين عمل على حماية النشء وتربيتهم وعمل على الحيلولة دون وقوعهم في الانحراف تتجلى عظمة الشريعة الإسلامية باعتبارها نظاما في التربية يقوم على هذا الوحي الإلهي ؛ ذلك أن تربية النشء وحمايته في الإسلام تدريبا وإعدادا لترسيخ عقيدة (الحرية) وفق عقيدة (الحق) التي ينفرد بها الإسلام . فمبادئ الحرية والحق والعدل التي دعا إليها الإسلام ضمن مختلف الأحكام بالنسبة لكل ما سنه للناس من عقائد ونظم وتشريع ، كما توسع في إقرارها فوضع مبادئ تكفل سعادة البشر وحرياتهم , ولم يعمد إلى تقييدها إلا ضمن حدود ضيقة يقتضيها الصالح العام والمصالح المشتركة , بل عمد إلى كل نظام يناقض المبادئ فألغاه مرة واحدة حين لم تترتب على إلغائه مرة واحدة أية زلزلة في الحياة الاجتماعية التي ألفها الناس دهورا وعلى مر الأجيال . قال الله تعالى:{وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ}[الأعراف: 157]، في حين أنه كانت هناك نظم تناقض مبدأ الحرية , ولكن اقتضي واقع الجماعات البشرية حينئذ إلغاءها على مراحل وبالتدريج – كنظام الرق – فراعى الإسلام واقع البشر وظروف حياتهم ، فعمد في البداية إلى وضع القيود على تلك النظم بشكل يمكن من احتوائها وحصرها .
وعلى أنقاض تلك النظم وفي مواجهتها وضع الإسلام مبادئ الحرية والعدل والمساواة التي تقتضي كرامة الإنسان أن يؤخذ بها في مختلف نواحي الحياة المدنية والسياسية والدينية والاجتماعية ، ووصل بالإنسان في كل ناحية من هذه النواحي إلى شأن رفيع لم تصل إلى مثله شريعة أخرى من شرائع العالم قديمه وحديثه (1) .
وعلى الرغم من أن تلك المبادئ التي قررها الإسلام , وأرساها على أنقاض النظم المختلفة لم ترد في التشريع الإسلامي ومصادره ، بمسمياتها التي عرفت بها في الفقه على واقع المسلمين وخصوصا في الصدر الأول وما تلاه مباشرة من العهود بشكل لم تعرف الإنسانية له مثيلا .
وقد اعتبر الإسلام إقراره للحريات إقرارا منه لإنسانية الإنسان , بدليل أنه أقر التمتع بالحريات للمسلمين وغير المسلمين ، الذين كانوا يعيشون في ظل دولة الإسلام , مما يؤكد أن الإسلام هو دين الحرية , وأن الحرية لم تعرف معناها الإنساني إلا في كنف الإسلام , وواقع تطبيقه (2) .
مما يتأكد معه القول : إن الإسلام عرف الحرية ووضع قواعدها وضوابطها بعد أن طبقت في مجتمعات المؤمنين .
وترجع الأحكام الشرعية في أصل وضعها إلى حفظ مقاصدها في الخليقة ، وتحقيق مصالح العباد في الدنيا والآخرة , على أتم الوجوه وأكملها ، وقد اتفقت الأمة الإسلامية – بل سائر الأمم – على أن الشرائع السماوية قد وضعت للمحافظة على مصالح العباد (3) ومنها الشريعة الإسلامية .
وانكر (الرازي) أن تكون أحكام الله وأفعاله معللة بعلة (4) .
ولا يلزم من ذلك اعتبار كل مصلحة ، سواء وافقت مقصد الشارع أو خالفته ، موافقة لقصد الشارع ؛ ذلك لأن المصالح إنما اعتبرت مصالح لأن الشارع وضعها كذلك ، ولان مقصد الشارع من وضع الشريعة ،هو :(إخراج المكلف من دعاية هواه حتى يكون عبدا لله اختيارا كما
هو عبد لله اضطرارا) ويستدل الأصليون على ذلك بأمور :
أولها : النص الصريح الذي يدل على أن العباد خلقوا للتعبد لله , والدخول تحت أمره ونهيه كقوله تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ}[الذاريات: 56، 57] . وقوله تعالى:{وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ}[طه: 132]. وقوله تعالى:{وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا}[النساء: 36]. إلى غير ذلك من الآيات الآمرة بالعبادة على الإطلاق ، وتفاصيلها على العموم , فكل ذلك يدل على وجوب المرجع إلى أمر الله تعالى في جميع الأحوال , والانقياد لأوامره في كل وقت وذلك هو معنى التعبد لله .
ثانيها : إن الله سبحانه قد حذر من اتباع الهوى , ومخالفة أمر الله , وذم المعرضين عنه سبحانه باتباعهم لهواهم , متوعدا إياهم بالعذاب العاجل بالنسبة لبعض الذنوب وبالآجل بالنسبة لجميع الذنوب ؛ لان أتباع الهوى مضاد للحق ،وقصيم له ، كما في قوله تعالى:{يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}[ص: 26] . فجعل إتباع الهوى مضادا للحكم بين الناس بالحق ، كما جعل سبحانه اتباع الهوى أو عدم اتباعه – مع صدق مشيئته – قاعدة تفصل في استحقاق الجنة أو الجحيم , كما في قوله تعالى:{وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى}[النازعات:40،41] . وقوله سبحانه:{فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 37 - 39] . فجعل هذا قصيما لذاك .
وعلى ذلك فلا يخرج الباعث على الفعل أو ترك الفعل عن أحد أمرين : الوحي (وهو الشريعة) أو الهوى , ولا ثالث لهما . قال تعالى:{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3، 4] . فالوحي والهوى أمران متضادان , وحين تعين الحق في الوحي توجه للهوى ضده لأن الحق والهوى ضدان لا يجتمعان . قال تعالى:{أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ}[الجاثية: 23]. وقال سبحانه : {أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} [محمد: 16] .فحيث ذكر الهوى في الآيات اتبع بالذم والتقبيح ,وقد قال (ابن عباس):(ما ذكر الله الهوى في كتابه إلا ذمه)(5) ، مما يوضح أن قصد الشارع الحكيم هو الخروج بالإنسان عن اتباع الهوى , والدخول به تحت التعبد لله سبحانه .
ثالثها : ما عرف عقلا بالتجارب والعادات ، من أن المصالح الدينية والدنيوية لا تحسن من الاسترسال في اتباع الهوى ، وموافقة الأغراض ، لما يترتب عليها من الفوضى والاضطراب والتقاتل والهلاك , وكل ذلك مضاد لتلك المصالح ولذا نجد أن العقلاء متفقون على ذم مشبع الشهوات , والمسترسل مع الملذات ، بدليل أن الأمم التي لا شرائع لها ، أو تلك التي لها شريعة درست كانوا يقضون في المصالح الدنيوية بكف كل من اتبع هواه عن النظر العقلي , ما اتفقوا على ذلك إلا بعد ثبات صحة ذلك المفهوم لديه عقلا وتجربة (6) . فالشرائع موضوعة لمصالح العباد وفق أمر الشارع الحكيم , وعلى الحد الذي أوجبه لا على مقتضيات الشهوة والهوى .
فمنزل الشريعة (سبحانه) على العباد هو خالق العباد والعالم بمصالحهم وبجملة ما ينفعهم في دنياهم وأخراهم على الحقيقة ، فإذا ثبت لدينا أن الشريعة قد أقرت أحكامها وفق مصالح العباد ، وأن هذه المصالح جاءت وفق ما شرع الله لمنفعة العباد ، فقد آن لنا أن نبين منه هذه المصالح (7) .
فتكاليف الشريعة إنما ترجع إلى حفظ مقاصدها فيمن نزلت فيهم , وهذه المقاصد لا تعدو ثلاثة أقسام :
مقاصد ضرورية , ومقاصد خارجية ، ومقاصد تحسينية ، وهي كلها مقاصد تحول دون وقوع ، وسواء في ذلك النشء أم غيرهم . إنها تلك الامور التي لا بد منها لقيام مصالح الدين والدنيا فلا تستقيم أمور الناس ومصالحهم إلا بها , فإذا فقدت اختل نظام حياتهم , وانقلبت شؤونهم من صحة إلى فساد وفوات لمصالح الدنيا ، وفي الآخرة فوت النجاة والنعيم , والرجوع بالخسران والخيبة , هذه الضروريات خمس :
الدين ، النفس ، العقل ، المال ، النسل .
والحفظ لهذه الضروريات يكون بحمايتها من الاعتداء عليها ، ويكون ضمانها بأمرين:
1ـ بتقرير ما يقيم أركانها ويثبت دعائمها – ويكفل إيجادها .
2- بتقرير جميع التدابير التي تدرأ كل اختلال واقع أو متوقع فيها . وذلك عبارة عن مراعاتها من حيث العدم .
فالدين : وقد شرعت لتقريره وحفظه أحكام العبادات والمعاملات ، فهو يشتمل على مفهومي العقيدة , والعبادة , فقد أرسل الله رسله وأنزل كتبه وبعث أنبياءه بدينه لينظم به علاقة الناس بربهم, وعلاقتهم ببعضهم، وعلاقتهم بمجتمعهم, وقرره بمراتبه الإسلام والإيمان والإحسان(8).
هذا الدين لا يصلح أمر العباد إلا باتباع أحكامه , فذلك أقره الحق سبحانه وأوجب على المسلمين الدعوة إليه، وتأمين تلك الدعوة والدعاة إليها من الاعتداء ، وإزاحة من يقف في سبيلها ، والعلم على إيصالها إلى كل من طلعت عليه الشمس بعد مبعث محمد (صلى الله عليه وآله) بالحق (9) .
ولضمان حفظ الدين فقد شرع الله الجهاد في سبيله لقتال من يتصدى للدعوة أو يعطل انتشارها في العالمين . ولحفظ الدين في أهله قرر عقوبة المرتد عن الإسلام وعقوبة صاحب الفتنة والبدعة ، قال (صلى الله عليه وآله) فيما روته السيدة عائشة:(من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)(10) . هذا وقد شرع الإسلام النكاح لإيجاد التناسل وبقاء النوع ما رضيه الله لعباده وحث عليه النبي (صلى الله عليه وآله) فقال:(تزوجوا الولود فإنني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة). وفي سبيل حفظ النفس وكفالة حياتها فقد حرم الإسلام القتل وجعل قتل النفس موجبا للقصاص، ومن كبائر الذنوب المقرونة بالشرك منزلة وجزاء بنص القرآن ، ولأجل الحفاظ على النفس كذلك قررت الشريعة مبدأ التكافل ، وأوجبت سد رمق المضطر مخافة هلاكه , وشرعت الصدقة والنفقة على الأقارب , وقررت نصب الحكام والقضاة والملوك لذلك ، كما ترتب الأجناد لقتال من رام قتل النفس ، وأوجب على المضطر سد رمقه ولو بما حرم من طعام أو شراب خشية هلاكه , ولضمان حياته .
وهكذا فقد شرعت أحكام كثيرة تجل عن الحصر لحماية النفس ، كما شرعت أحكام أخرى لكفالة حياتها ودوام استمرارها (11) .
وللحفاظ على العقل : فقد حرم الإسلام شرب الخمر , لان في شربها تعطيلا للعقل . قال تعالى :{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ}[المائدة: 90] . كما حرم الحشيشة واستعمال كل مسكر (12) .
وفي سبيل إقرار الكسب فقد شرع الإسلام العلم ، وأقر حرية التجارة والصناعة والزراعة
وأوجب السعي لطلب الرزق:{فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ}[الملك: 15]. وأتاح المعاملات والمبادلات والعقود ونظلها الأسس والأحكام .
وشرع لحفظ المال وحمياته عددا من الأحكام ، منها أحكام الحدود والعقوبات كحد السارق والسارقة ، وعقوبة قاطع الطريق ، وحرم الغش والخيانة , وأكل أموال الناس بالباطل كما شرع التضمين والحجر على السفيه ، ودفع الضرر بتحريم الربا .
وهكذا فقد شرع الإسلام أحكاما في مختلف أبواب العبادات والمعاملات والعقوبات قصد بها كفالة الضروريات الخمس ، بتثبيت قواعدها وأركانها وضمان ما يدفع عنها الاختلاف الواقع أو المتوقع فيها ، من حيث الإيجاد والحفظ والحماية (13) .
وأما المقاصد الحاجية فهي حاجية من حيث إنه يفتقر إليها للتوسعة , ورفع الضيق الذي يؤدي غالبا إلى الحرج والمشقة التي تلحق الناس بفوات المطلوب فإذا لم تراع دخل على المكلفين الحرج والمشقة ، وإن كان الفساد فيها لا يبلغ مبلغ الضرر المتوقع في المصالح العامة .
والمقاصد الحاجية في كل العبادات والمعاملات والجنايات والعادات ، ففي العبادات شرع الإسلام الرخص تخفيفا على المكلفين , فيما إذا ترتب على العزيمة مشقة وعنت , فأباح الفطر في رمضان لمن كان مريضا أو على سفر كما أباح القصر والجمع في السفر ، والتيمم عند العجز عن استعمال الماء وغيرها من الرخص .
وفي العقوبات قرر الإسلام بعض الأحكام تخفيفا على المكلفين ، كضرب الدية على العاقلة (أقرباء الجاني) تيسيرا على من قتل خطأ يدفعها , وقاعدة درء الحدود بالشبهات , وإباحة العفو لولي المقتول .
وفي العادات كإباحة الصيد , والتمتع بالطيبات مما حلل أكله وشربه ولبسه وركوبه وسكناه .
وأما المقاصد التحسينية وهي المتممة لمكارم الأخلاق ، وضبط الالتزام المسلكي ، بتقرير كل ما يحسن من حال المكلف ، ويتوافق مع مقتضيات المروءة والخلق الكريم وتجنب الأحوال التي تأنفها العقول السليمة .
وهي جارية فيما جرت فيه سابقتها من أحكام العبادات والمعاملات والعقوبات .
ففي العبادات شرع الطهارة للبدن ، والمكان وستر العورة ، وأخذ الزينة عند كل مسجد والتقرب بفواضل الخيرات من الصدقات والقربات وأشباه ذلك من الآداب التي شرعت لتهذيب العباد وتعويدهم أحسن العبادات .
وفي المعاملات أيضا حرم الغش والتدليس والإسراف والبخل , ومهر البغي , وثمن الكلب وبيع فضل الماء والكلأ , ونهى عن تلقي الركبان , النجش (وهو إضرار المشتري بأخيه بزيادته على ثمن سلعة لا يريد شراءها) وغير ذلك من الأحكام التي تمنع الفرقة والتباغض بين الناس وتعودهم على أحسن الخلال وأرقى ضروب التعامل .
وفي العقوبات كتحريم قتل الرهبان ، والنساء والصبيان في الجهاد , وقتل الأعزل والمثلة وإحراق ميت أو حي من الناس ، وسن الشفرة عند الذبح .
وفي العادات كآداب الأكل والشرب واللبس , ومجانبة المستخبثات والمستقذرات .
وهكذا فقد قرر الإسلام كل ما يهذب الفرد والمجتمع ، ويقوم منهج السلوك الشخصي والاجتماعي ، فهذه الأمور – التحسينية – راجعة إلى محاسن زائدة على أصل المصالح الضرورية والحاجية ، وهي لذلك تخل عند فقدانها بأمر ضروري أو حاجي ، وإذا كان فيها إخلال بأحدهما فلا تراعي , ولا يراعي حاجي إذا كان اعتباره مخلا بضروري ؛ لان المقاصد ليست على درجة واحدة ، فأهمها الضروري الذي يترتب على فقده الإخلال بأمر ضروري لازم لنظام الحياة تترتب عليه مصلحة حقيقة أجل عن التغاضي والمساومة .
ثم تلي الضرورة الحاجية , والتي يترتب على فقدها العسر والمشقة .
ثم تلي الحاجية التحسينية : والتي لا تبلغ في الأهمية مبلغ المقاصد الحاجية ولا الضرورية ولكن يترتب على فقدها الكمال في الأمور وما تستحسنه العقول . وهناك أمور تكميلية تدخل على الأنواع الثلاثة من المقاصد :
فمما يكمل الضروري : كالمماثلة في القصاص فإنه لا تدعو إليه ضرورة , ولا تبلغ المماثلة في الأهمية مبلغ عقوبة القصاص نفسها. فحكم المماثلة تكميلي , ومثله حكم زكاة الفطر فهو ضروري , ودفعها طعاما – عند من قال بأفضليته – تكميلي .
وما يكمل الحاجي : كمهر المثل في الصغيرة , فالمماثلة مما لا تدعو إليه حاجة ولا يبلغ مبلغ الحاجة إلى أصل النكاح .
وما يكمل التحسيني : فكمندوبات الطهارات ,واختيار غير ذات عيب من الأضاحي والعقيقة وغيرها .
ومثل هذه الامور التكميلية والتي تدخل على المقاصد الثلاثة هي من باب التتمة والتكملة تماما كوضع الحاجيات مع الضروريات ، فإن الحاجيات كالتتمة للضروريات ، والتحسينات كالتتمة للحاجيات .
فكل تكملة من حيث إنها لما قبلها ليست شرطا في أصل وضعها ، بحيث تبطل ببطلان ذلك الشرط (بمعنى ألا يفضي اعتبار التكملة إلى رفض الأصل) أدت التتمة إلى بطلان ضروري أو حاجي من المقاصد بطلت .
مثاله : حفظ النفس ضروري ، وحفظ المروءة تكميلي مستحسن فحرمت النجاسات حفظا للمروءات وتعويدا لأهلها على محاسن العادات ، فإذا دعت ضرورة لإحياء نفس بتناول النجس كان تناوله أولي ، حفظا للنفس من الهلاك ، فلو ترك تناوله حفظا للمروءة ومحاسن الصفات مع تعرضه لبطلان الأصل الضروري كالموت جوعا لم يصح اعتبار التكميلي ، لان اعتبارها أدي بطلان الأصل الضروري وهو حفظ النفس .
تعليل ذلك بأمرين :
أ- إن إبطال الأصل للتكملة ، لأن التكملة مع الأصل كالصفة مع الموصوف ، فإذا سقط الموصوف سقطت الصفة , وإذا أدى اعتبار التكملة إلى إبطال الأصل ألغيت التكملة واعتبر الأصل من غير مزيد .
ب- إننا لو فرضنا أن المصلحة التكميلية يمكن حصولها مع فوات الأصل – وهي المصلحة الضرورية – لكان حصول الضروري الأصلي أولى من التكميلي لما بينهما من التفاوت (14).
ويترتب على ذلك أن الضروري من المقاصد أصل للحاجي والتحسيني ، فلا يجوز لذلك أن يراعي حكم حاجي أو تكميلي مع إخلال في حكم ضروري .
والأحكام الشرعية بما ورد فيها من أمور العبادات والمعاملات والعقوبات ، وما شرع فيها من قواعد الأخلاق ، وضبط المسلك الفردي والجماعي ، إنما جاءت تستهدف الحفاظ على المقاصد الشرعية بأنواعها الثلاثة : الضرورية والحاجية أو التكميلية ، وأن هذه المقاصد هي مما اتفقت مدارك العقلاء على وجوب حفظها تحقيقا للذات الإنسان وحريته وسعادته ، فكل مقصد من تلك المقاصد يتضمن أنواعا من الحريات التي شقيت البشرية وما زالت تشقي للوصول إلى إقرارها.
وشريعة الإسلام قد أقرت تلك المقاصد ، ووضعت الأحكام الكفيلة بضمان تقريرها وضمان ثباتها ، وضمان حمايتها ، وبذلك تكون شريعة الإسلام هي شريعة الحريات وأحكامها هي قواعد للحريات , من تطبق فيهم أحرار بمعنى الكلمة .
وأما الأحكام الشرعية وما تضمنته من عقوبات كالحدود والقصاص والتعزير إلا ضمانات حقيقة تكفل تمتع الأفراد بالحريات , وتضمن عدم التناقض معها لا على مستوى السلطة , لأن التزام الأفراد بتلك الأحكام التزام تمليه العقيدة والتزام السلطة بها التزام تمليه العقيدة أيضا ، مما يكفل حمايتها بالوازع .
وعلى ذلك فإن منطق الحرية في الإسلام يأخذ الاعتبار الآتي : إن الإنسان المسلم له الحرية في فعل ما يشاء على ألا يصطدم بأحد تلك الضوابط التي يمكن حصرها في كلمتين (الحق) و (الحد) أو في قول النبي (صلى الله عليه وآله) :(لا ضرر ولا ضرار)(15) .
______________
1ـ د . على عبد الواحد وافي : الحرية في الإسلام ، 1968 ، ص 5 .
2- الشيخ محمد الشيرازي : الحريات الإسلامية , صحيفة يريد الشرق الألمانية ، العدد الخامس , مايو 1974 .
3- الشاطبي : الموافقات ، الجزء الأول ، ص 14 .
4- ولما اضطر في علم أصول الفقه إلى إثبات العلل للأحكام الشرعية – ادعى أن العلل فيها بمعنى العلامات ، وليست مبنية على اعتبار المصلحة أو غيرها (الشاطبي : الموافقات – الجزء الثاني ص 3) .
5- الشاطبي : الموافقات الجزء الثاني ص 121 .
6- الشاطبي : الموافقات ، الجزء الثاني ، ص 120 – 123 ، طبعة 1389 هـ .
7- وباستقراء المراجع التي توقعت إلمامها بموضوع مقاصد التشريع من كتب أصول الفقه وغيرها فلم أجد فيمن أطلعت على مراجعهم وكتاباتهم أحدا قد صادف التوفيق الذي تفضل الله به على الإمام أبي إسحاق الشاطبي بما لا يزيد عليه وكثير من الفقهاء المحدثين والقدماء الذين طرقوا هذا الباب كانوا ضيوفا على مائدة الشاطبي في الموافقات .
8- ولقد ورد النص في بيان تعريف هذه المراتب وأركانها في حديث جبريل عن عمر بن الخطاب حيث قال : (بينما نحن جلوس عند رسول الله (صلى الله عليه وآله) إذ أقبل علينا رجل شديد بياض الثياب سواد الشعر ، لا يرى عليه أثر السفر ، ولا يعرفه منا أحد حتى جلس إلى النبي (صلى الله عليه وآله) فأسند ركبتيه إلى ركبتيه ، ووضع كفيه على فخذيه وقال: يا محمد أخبرني عن الإسلام الحديث رواه مسلم النووي : شرح الأربعين النووية ، وفي الشرع ، إقرار باللسان ، وتصديق بالجنان ، وعمل بالجوارح , والإحسان : وهو أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك (الشيخ محمد بن عبد الوهاب) : الأصول الثلاثة ودلالتها ، ص 17 .
9- الشيخ عبد الوهاب خلاف ، علم أصول الفقه ، 390 هـ ص 200 – 201 والشيخ محمد أبو زهرة تنظيم الإسلام للمجتمع ، ص 62 .
10- رواه مسلم النووي : المرجع السابق ص 30 ..
11- الشيخ محمد أبو زهرة : المرجع السابق ، ص 59 .
12- والحشيشة مادة مصنوعة من ورق القنب ، وحكمها أنها محرمة يجد عليها كالخمر شيخ الإسلام ابن تيمية : السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية 1387 هـ ص 59 ، والشيخ
أو زهرة : المرجع السابق : ص 60 .
13- الشاطبي :الجزء الثاني ، ص 4 – 5 والشيخ عبد الوهاب خلاف :علم أصول الفقه، الطبعة التاسعة ، ص 202 . وما بعدها .
14- الشاطبي : الموافقات : الجزء الثاني ، ص 6 – 8 , والشيخ عبد الوهاب ، خلاف المرجع السابق ، ص 203 وما عبدها .
15- عن أبي سعيد سيد بن مالك بن سنان الخدري ، رواه ابن ماجه والدار قطني مسندا ورواه مالك في الموطأ مرسلا , وله طرق يقوي بعضها بعضا . النووي (المتوفي عام 676 هـ) : شرح الأربعين ، ص 87 .
|
|
دراسة يابانية لتقليل مخاطر أمراض المواليد منخفضي الوزن
|
|
|
|
|
اكتشاف أكبر مرجان في العالم قبالة سواحل جزر سليمان
|
|
|
|
|
اتحاد كليات الطب الملكية البريطانية يشيد بالمستوى العلمي لطلبة جامعة العميد وبيئتها التعليمية
|
|
|