المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

العقائد الاسلامية
عدد المواضيع في هذا القسم 4876 موضوعاً
التوحيد
العدل
النبوة
الامامة
المعاد
فرق و أديان
شبهات و ردود
أسئلة وأجوبة عقائدية
الحوار العقائدي

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر المرجع الالكتروني للمعلوماتية
القيمة الغذائية للثوم Garlic
2024-11-20
العيوب الفسيولوجية التي تصيب الثوم
2024-11-20
التربة المناسبة لزراعة الثوم
2024-11-20
البنجر (الشوندر) Garden Beet (من الزراعة الى الحصاد)
2024-11-20
الصحافة العسكرية ووظائفها
2024-11-19
الصحافة العسكرية
2024-11-19



تنزيه إبراهيم عليه السلام  
  
1048   08:23 صباحاً   التاريخ: 12-12-2017
المؤلف : أبو القاسم علي بن الحسين الموسوي (الشريف المرتضى)
الكتاب أو المصدر : تنزيه الانبياء
الجزء والصفحة : 20 - 40
القسم : العقائد الاسلامية / النبوة / الانبياء /

إن قال قائل : فما معنى قوله تعالى حاكيا عن ابراهيم عليه السلام : {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} [الأنعام: 76 - 78] أوليس ظاهر هذه الآية يقتضي انه عليه السلام كان يعتقد في وقت من الاوقات الالهية للكواكب ، وهذا مما قلتم انه لا يجوز على الانبياء عليهم السلام.

(الجواب) : قيل له في هذه الآية جوابان : احدهما ان ابراهيم عليه السلام انما قال ذلك في زمان مهلة النظر ، وعند كمال عقله وحضور ما يوجب عليه النظر بقلبه وتحريك الدواعي على الفكر والتأمل له ، لان ابراهيم (عليه السلام) لم يخلق عارفا بالله تعالى ، وإنما اكتسب المعرفة لما اكمل الله تعالى عقله وخوفه من ترك النظر بالخواطر والدواعي ، فلما رأى الكواكب : وقد روي في التفسير أنه رأى الزهرة واعظمه ما رآها عليه من النور وعجيب الخلق ، وقد كان قومه يعبدون الكواكب ويزعمون انها آلهة. قال هذا ربي على سبيل الفكر والتأمل لذلك ، فلما غابت وأفلت وعلم ان الافول لا يجوز على الاله ، علم انها محدثة متغيرة منتقلة.

وكذلك كانت حالته في رؤية القمر والشمس ، وانه لما رأى ان افولهما قطع على حدوثهما واستحالة الهيتهما ، وقال في آخر الكلام : «يا قوم اني برئ مما تشركون ، اني وجهت وجي للذي فطر السموات والارض حنيفا مسلما وما أنا من المشركين». وكان هذا القول منه عقيب معرفته بالله تعالى ، وعلمه بأن صفات المحدثين لا يجوز عليه تعالى.

فان قيل : كيف يجوز ان يقول عليه السلام هذا ربي ، مخبرا ، وهو غير عالم بما يخبر به ، والاخبار بما لا يأمن المخبر ان يكون كاذبا فيه قبيح. وفي حال كمال عقله ولزوم النظر لابد من ان يلزمه التحرز من الكذب ، وما جرى مجراه من القبح.

قلنا عن هذا جوابان : احدهما : انه لم يقل ذلك مخبرا ، وإنما قال فارضا ومقدرا على سبيل الفكر والتأمل ، ألا ترى انه قد يحسن من احدنا إذا كان ناظرا في شيئ ومتأملا بين كونه على احدى صفتيه ، ان يفرضه على احداهما لينظر فيما يؤدي ذلك الفرض إليه من صحة أو فساد ، ولا يكون بذلك مخبرا في الحقيقة. ولهذا يصح من احدنا إذا نظر في حدوث الاجسام وقدمها ان يفرض كونها قديمة ، ليتبين ما يؤدي إليه ذلك الفرض من الفساد.

والجواب الآخر : أنه أخبر عن ظنه ، وقد يجوز أنه يظن المفكر والمتأمل في حال نظره وفكره مالا أصل له ، ثم يرجع عنه بالأدلة والعقل ، ولا يكون ذلك منه قبيحا.

فإن قيل الآية تدل على ان ابراهيم عليه السلام ما كان رأى هذه الكواكب قبل ذلك ، لان تعجبه منها تعجب من لم يكن رآها ، فكيف يجوز ان يكون إلى مدة كمال عقله لم يشاهد السماء وما فيها من النجوم؟

قلنا لا يمتنع أن يكون ما رأى السماء إلا في ذلك الوقت ، لأنه على ما روي كان قد ولدته امه في مغارة خوفا من ان يقتله النمرود ، ومن يكون في المغارة لا يرى السماء فلما قارب البلوغ وبلغ حد التكليف خرج من المغارة ورأى السماء وفكر فيها ، وقد يجوز أيضا ان يكون قد رأى السماء قبل ذلك إلا أنه لم يفكر في اعلامها ، لان الفكر لم يكن واجبا عليه ، وحين كمل عقله وحركته الخواطر فكر في الشئ الذي كان يراه قبل ذلك ولم يكن مفكرا فيه.

والوجه الآخر في اصل المسألة : هو ان ابراهيم عليه السلام لم يقل ما تضمنته الآيات على طريق الشك ، ولا في زمان مهلة النظر والفكر ، بل كان في تلك الحال موقنا عالما بأن ربه تعالى لا يجوز ان يكون بصفة شئ من الكواكب ، وإنما قال ذلك على سبيل الانكار على قومه والتنبيه لهم على أن ما يغيب ويأفل لا يجوز ان يكون إلها معبودا ، ويكون قوله : (هذا ربي) محمولا على أحد وجهين : أي هو كذلك عندكم وعلى مذاهبكم. كما يقول احدنا للمشبه على سبيل الانكار لقوله هذا ربه جسم يتحرك ويسكن. والوجه الآخر : ان يكون قال ذلك مستفهما ، واسقط حرف الاستفهام للاستغناء عنه ، وقد جاء في الشعر ذلك كثيرا : قال الاخطل :

كذبتك عينك ام رأيت بواسط * غلس الظلام من الرباب خيالا.

وقال الآخر :

لعمرك ما ادري وان كنت داريا * بسبع رمين الجمر أم بثمان .

وانشدوا قول الهذلي :

وقوني وقالوا يا خويلد لم ترع * فقلت وانكرت الوجوه . يعني أهم هم؟

وقال ابن ابي ربيعة :

ثم قالوا تحبها قلت بهرا * عدد الرمل والحصى والتراب .

فإن قيل : حذف حرف الاستفهام انما يحسن إذا كان في الكلام دلالة عليه وعوض عنه ، وليس تستعمل مع فقد العوض. وما انشدتموه فيه عوض عن حرف الاستفهام المتقدم. والآية ليس فيها ذلك.

قلنا قد يحذف حرف الاستفهام مع اثبات العوض عنه ومع فقده إذا زال اللبس في معنى الاستفهام ، وبيت ابن أبي ربيعة خال من حرف الاستفهام ومن العوض عنه.

وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنه في قوله تعالى : {فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ} [البلد: 11] قال هو أفلا اقتحم العقبة. فألقيت الف الاستفهام.

وبعد فإذا جاز ان يلقوا الف الاستفهام لدلالة الخطاب عليها فهلا جاز أن يلقوها لدلالة العقول عليها ، لان دلالة العقل اقوى من دلالة غيره.

تنزيه ابراهيم (عليه السلام) عن الكذب :

(مسألة) : فإن قيل فما معنى قوله تعالى مخبرا عن ابراهيم عليه السلام لما قال له قومه {أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ} [الأنبياء: 62، 63] وإنما عنى بالكبير الصنم الكبير. وهذا كذب لاشك فيه ، لان ابراهيم (عليه السلام) هو الذي كسر الاصنام ، فاضافته تكسيرها إلى غيره مما لا يجوز ان يفعل شيئا لا يكون الا كذبا.

(الجواب) : قيل له الخبر مشروط غير مطلق ، لأنه قال ان كانوا ينطقون ومعلوم ان الاصنام لا تنطق ، وان النطق مستحيل عليها. فما علق بهذا المستحيل من الفعل أيضا مستحيل ، وإنما أراد ابراهيم بهذا القول تنبيه القوم وتوبيخهم وتعنيفهم بعبادة من لا يسمع ولا يبصر ولا ينطق ولا يقدر ان يخبر عن نفسه بشئ.

فقال إن كانت هذه الاصنام تنطق فهي الفاعلة للتكسير ، لان من يجوز ان ينطق يجوز ان يفعل ، وإذا علم استحالة النطق عليها علم استحالة الفعل عليها ، وعلم باستحالة الامرين أنها لا يجوز أن تكون آلهة معبودة ، وان من عبدها ضال مضل ، ولا فرق بين قوله انهم فعلوا ذلك ان كانوا ينطقون ، وبين قوله انهم ما فعلوا ذلك ولا غيره لانهم لا ينطقون ولا يقدرون.

وأما قوله (عليه السلام) فاسألوهم ان كانوا ينطقون ، فإنما هو أمر بسؤالهم ايضا على شرط ، والنطق منهم شرط في الامرين ، فكأنه قال : ان كانوا ينطقون فاسألوهم ، فإنه لا يمتنع ان يكونوا فعلوه. وهذا يجري مجرى قول احدنا لغيره : من فعل هذا الفعل؟ فيقول زيد. إن كان فعل كذا وكذا. ويشير إلى فعل يضيفه السائل إلى زيد ، وليس في الحقيقة من فعله. ويكون غرض المسؤول نفي الامرين جميعا عن زيد ، وتنبيه السائل على خطئه في إضافة ما أضافه إلى زيد ، وقد قرأ بعض القراء وهو محمد بن علي السهيفع اليماني : فعله كبيرهم بتشديد اللام ، والمعنى فلعله ، اي فلعل فاعل ذلك كبيرهم.

وقد جرت عادة العرب بحذف اللام الاولى من لعل فيقولون عل ، قال الشاعر :

عل صروف الدهر أو دولاتها * تديلنا اللمة من لماتها فتستريح النفس من زفراتها

أي لعل صروف الدهر.

وقال الآخر : يا أبتا علك أو عساكا * يسقيني الماء الذي سقاكا .

فإن قيل : فأي فايدة في ان يستفهم عن امر يعلم استحالته ، وأي فرق في المعنى بين القراءتين؟.

قلنا : لم يستفهم ولا شك في الحقيقة ، وإنما نبههم بهذا القول على خطيئتهم في عبادة الاصنام.

فكأنه قال لهم إن كانت هذه الاصنام تضر وتنفع وتعطي وتمنع ، فلعلها هي الفاعلة لذلك التكسير ، لان من جاز منه ضرب من الافعال جاز منه ضرب آخر ، وإذا كان ذلك الفعل الذي هو التكسير لا يجوز على الاصنام عند القوم ، فما هو أعظم منه أولى بأن لا يجوز عليها وان لا يضاف إليها ، والفرق بين القراءتين ظاهر ، لان القراءة الاولى لها ظاهر الخبر ، فاحتجنا إلى تعليقه بالشرط ليخرج من ان يكون كذبا.

والقراءة الثانية تتضمن حرف الشك والاستفهام ، فهما مختلفان على ما ترى.

فإن قيل : اليس قد روى بشر بن مفضل عن عوف عن الحسن قال : «بلغني ان رسول الله صلى الله عليه وآله قال ان ابراهيم عليه السلام ما كذب متعمدا قط إلا ثلاث مرات كلهن يجادل بهن عن دينه قوله { إِنِّي سَقِيمٌ } [الصافات: 89] ، وإنما تمارض عليهم لان القوم خرجوا من قريتهم لعيدهم وتخلف هو ليفعل بآلهتهم ما فعل. وقوله { بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ} [الأنبياء: 63] ، وقوله لسارة انها اختي لجبار من الجبابرة لما أراد اخذها».

قلنا : قد بينا بالأدلة العقلية التي لا يجوز فيها الاحتمال ولا خلاف الظاهر ، ان الانبياء عليهم السلام لا يجوز عليهم الكذب. فما ورد بخلاف ذلك من الاخبار لا يلتفت إليه ، ويقطع على كذبه إن كان لا يحتمل تأويلا صحيحا لا يقا بأدلة العقل ، فإن احتمل تأويلا يطابقها تأولناه ووفقنا بينه وبينها.

وهكذا نفعل فيما يروى من الاخبار التي تتضمن ظواهرها الجبر والتشبيه.

فأما قوله (عليه السلام) إني سقيم ، فسنبين بعد هذه المسالة بلا فصل وجه ذلك ، وأنه ليس بكذب. وقوله بل فعله كبيرهم قد بينا معناه وأوضحنا عنه.

وأما قوله (عليه السلام) لسارة أنها اختي ، فإن صح فمعناه أنها اختي في الدين ، ولم يرد اخوة النسب.

واما ادعائهم على النبي صلى الله عليه وآله أنه قال : ما كذب ابراهيم (عليه السلام) إلا ثلاث مرات ، فالأولى ان يكون كذبا عليه (عليه السلام) لانه صلى الله عليه وآله كان اعرف بما يجوز على الانبياء (عليهم السلام) وما لا يجوز عليهم ، ويحتمل ان كان صحيحا ان يريد ما اخبر بما ظاهره الكذب الا ثلاث دفعات ، فاطلق عليه اسم الكذب لاجل الظاهر ، وان لم يكن على الحقيقة كذلك.

تنزيه ابراهيم عن الشك في الله :

(مسألة) : فإن قيل فما معنى قوله تعالى مخبرا عن ابراهيم عليه السلام : {فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ * فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ } [الصافات: 88، 89] والسؤال عليكم في هذه الآية من وجهين : أحدهما انه حكي عن نبيه النظر في النجوم ، وعندكم ان الذي يفعله المنجمون من ذلك ضلال ، والآخر قوله (عليه السلام) إني سقيم. وذلك كذب.

(الجواب) : قيل له في هذه الآية وجوه :

(منها) : أن ابراهيم (عليه السلام) كانت به علة تأتيه في أوقات مخصوصة ، فلما دعوه إلى الخروج معهم نظر إلى النجوم ليعرف منها قرب نوبة علته فقال : اني سقيم. وأراد أنه قد حضر وقت العلة وزمان نوبتها وشارف الدخول فيها. وقد تسمي العرب المشارف للشئ باسم الداخل فيه ، ولهذا يقولون فيمن ادنفه المرض وخيف عليه الموت هو ميت. وقال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وآله : {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر: 30] .

فان قيل : فلو أراد ما ذكرتموه لقال : فنظر نظرة إلى النجوم ولم يقل في النجوم ، لان لفظة في لا تستعمل إلا فيمن ينظر كما ينظر المنجم.

قلنا ليس يمتنع ان يريد بقوله في النجوم ، أنه نظر إليها لان حروف الصفات يقوم بعضها مقام بعض ، قال الله تعالى : {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه: 71] وانما أراد على جذوعها ، وقال الشاعر :

اسهري ما سهرت أم حكيم * واقعدي مرة لذاك وقومي

وافتحي الباب وانظري في النجوم * كم علينا من قطع ليل بهيم

وإنما أراد انظري إليها لتعرفي الوقت.

(ومنها) : أنه يجوز ان يكون الله تعالى اعلمه بالوحي أنه سيمتحنه بالمرض في وقت مستقبل ، وإن لم يكن قد جرت بذلك المرض عادته ، وجعل تعالى العلامة على ذلك ظاهرة له من قبل النجوم ، إما بطلوع نجم على وجه مخصوص أو افول نجم على وجه مخصوص أو اقترانه بآخر على وجه مخصوص. فلما نظر ابراهيم في الامارة التي نصبت له من النجوم قال اني سقيم ، تصديقا بما أخبره الله تعالى.

(ومنها) قومه على عبادة الاصنام. وهي لا تسمع ولا تبصر. ويكون قوله فنظر نظرة في النجوم على هذا المعنى ، معناه أنه نظر وفكر في انها محدثه مدبرة مصرفة مخلوقة. وعجب كيف يذهب على العقلاء ذلك من حالها حتى يعبدوها. ويجوز أيضا ان يكون قوله تعالى : فنظر نظرة في النجوم ، معناه أنه شخص ببصره إلى السماء كما يفعل المفكر المتأمل ، فإنه ربما أطرق إلى الارض وربما نظر إلى السماء استعانة في فكره. وقد قيل ان النجوم هاهنا هي نجوم النبت، لانه يقال لكل ما خرج من الارض وغيرها وطلع ، انه نجم ناجم ، وقد نجم ، ويقال للجميع نجوم ، ويقولون نجم قرن الظبى ، ونجم ثدي المرأة ، وعلى هذا الوجه يكون انما نظر في حال الفكر والاطراق إلى الارض ، فرأى ما نجم منها ، وقيل ايضا انه اراد بالنجوم ما نجم له من رأيه وظهر له بعد أن لم يكن ظاهرا.

وهذا وإن كان يحتمله الكلام ، فالظاهر بخلافه ، لان الاطلاق من قول القائل : نجوم ، لا يفهم من ظاهره إلا نجوم السماء دون نجوم الارض ، ونجوم الرأي ، وليس كلما قيل فيه انه نجم ، وهو ناجم على الحقيقة ، يصلح ان يقال فيه نجوم بالإطلاق والمرجع في هذا إلى تعارف أهل اللسان.

وقد قال ابو مسلم محمد بن بحر الاصفهاني : ان معنى قوله تعالى : فنظر نظرة في النجوم. اراد في القمر والشمس ، لما ظن أنهما آلهة في حال مهلة النظر على ما قصه الله تعالى في قصته في سورة الانعام.

ولما استدل بأفولهما وغروبهما على انهما محدثان غير قديمين ، ولا ألهين. وأراد بقوله إني سقيم. اني لست على يقين من الامر ولا شفاء من العلم ، وقد يسمى الشك بأنه سقيم كما يسمى العلم بانه شفاء.

قال وإنما زال عنه هذا السقم عند زوال الشك وكمال المعرفة.

وهذا الوجه يضعف من جهة ان القصة التي حكاها عن ابراهيم فيها هذا الكلام يشهد ظاهره بأنها غير القصة المذكورة في سورة الانعام ، وان القصة مختلفة لان الله تعالى قال : {وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ * إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ * إِذْ قَالَ  لأبيه وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ * أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ * فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ * فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ } [الصافات: 83 - 89] فبين تعالى كما ترى أنه جاء ربه بقلب سليم ، وإنما أراد أنه كان سليما من الشك وخالصا للمعرفة واليقين. ثم ذكر انه عاتب قومه على عبادة الاصنام ، فقال ماذا تعبدون؟ وسمى عبادتهم بأنها افك وباطل. ثم قال فما ظنكم برب العالمين؟ وهذا قول عارف بالله تعالى مثبت له على صفاته غير ناظر ممثل ولا شاك ، فكيف يجوز ان يكون قوله من بعد ذلك. فنظر نظرة في النجوم ، انه ظنها اربابا وآلهة وكيف يكون قوله إني سقيم؟ اي لست على يقين ولا شفاء ، والمعتمد في تأويل ذلك ما قدمناه.

تنزيه ابراهيم (عليه السلام) عن العجز :

(مسألة) : فإن قال قائل فما قولكم في قوله تعالى : {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} [البقرة: 258] وهذا يدل على انقطاع ابراهيم (عليه السلام) وعجزه عن نصرة دليله الاول ولهذا انتقل إلى حجة اخرى ، وليس ينتقل المحتج من شئ إلى غيره إلا على وجه القصور عن نصرته.

(الجواب) : قلنا ليس هذا بانقطاع من ابراهيم عليه السلام ولا عجز عن نصرة حجته الاولى ، وقد كان ابراهيم (عليه السلام) قادرا لما قال له الجبار الكافر أنا احيي واميت في جواب قوله ربي الذي يحيي ويميت ، ويقال انه دعا رجلين فقتل احدهما واستحى الآخر ، فقال عند ذلك انا احيي واميت. وموه بذلك على من بحضرته على ان يقول له : ما أردت بقولي ان ربي الذي يحيي ويميت ما ظننته من استبقاء حي. وإنما أردت به انه يحيي الميت الذي لا حياة فيه.

إلا ان ابراهيم (عليه السلام) علم أنه إن أورد ذلك عليه التبس الامر على الحاضرين وقويت الشبهة ، لاجل اشتراك الاسم ، فعدل إلى ما هو أوضح ، واكشف وأبين وأبعد من الشبهة ، فقال : فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب ، فبهت الذي كفر ولم يبق عنده شبهة. ومن كان قصده البيان والايضاح فله ان يعدل من طريق إلى آخر لوضوحه وبعده عن الشبهة ، وإن كان كلا الطريقين يفضي إلى الحق. على انه بالكلام الثاني ناصر للحجة الاولى وغير خارج عن سنن نصرتها ، لانه لما قال ربي الذي يحيي ويميت ، فقال له في الجواب أنا احيي واميت ، فقال له ابراهيم : من شأن هذا الذي يحيي ويميت أن يقدر على أن يأتي بالشمس من المشرق ويصرفها كيف يشاء.

فإن ادعيت أنت القادر على ما يقدر الرب عليه فائت بالشمس من المغرب كما يأتي هو بها من المشرق ، فإذا عجزت عن ذلك علمنا انك عاجز عن الحياة والموت ومدع فيهما ما لا أصل له .

فإن قيل : فلو قال له في جواب هذا الكلام : وربك لا يقدر أن يأتي بالشمس من المغرب ، فكيف تلزمني ان آتي بها من المغرب؟

قلنا : لو قال له ذلك لكان إبراهيم (عليه السلام) يدعو الله أن يأتي بالشمس من المغرب فيجيبه إلى ذلك ، وإن كان معجزا خارقا للعادة.

ولعل الخصم إنما عدل عن أن يقول له ذلك علما بأنه إذا سأل الله تعالى فيه أجابه إليه.

تنزيه إبراهيم عن الشك في قدرة الله :

(مسألة) : فإن قال قائل : فما معنى قوله تعالى حاكيا عن ابراهيم :

{رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260] أو ليس هذا الكلام والطلب من ابراهيم (عليه السلام) يدلان على أنه لم يكن موقنا بأن الله تعالى يحيي الموتى؟ وكيف يكون نبيا من يشك في ذلك؟ أو ليس قد روى المفسرون ان ابراهيم (عليه السلام) مر بحوت نصفه في البر ونصفه في البحر ، ودواب البر والبحر تأكل منه ، فأخطر الشيطان بباله استبعاد رجوع ذلك حيا مؤلفا ، مع تفرق اجزائه وانقسام أعضائه في بطون حيوان البر والبحر؟ فشك فسأل الله تعالى ما تضمنته الآية ، وروى ابو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وآله انه قال : نحن احق بالشك من ابراهيم (عليه السلام).

(الجواب) : قيل له ليس في الآية دلالة على شك ابراهيم في احياء الموتى ، وقد يجوز ان يكون (عليه السلام) إنما سأل الله تعالى ذلك ليعلمه على وجه يبعد عن الشبهة ، ولا يعترض فيه شك ولا ارتياب. وإن كان من قبل قد علمه على وجه للشبهة فيه مجال ، ونحن نعلم ان في مشاهدة ما شاهده ابراهيم من كون الطير حيا ثم تفرقه وتقطعه وتباين اجزائه ثم رجوعه حيا كما كان في الحال الاولى ، من الوضوح وقوة العلم ونفي الشبهة ما ليس لغيره من وجوه الاستدلالات ، وللنبي (عليه السلام) أن يسأل ربه تخفيف محنته وتسهيل تكليفه. والذي يبين صحة ما ذكرناه قوله تعالى : (أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي).

فقد أجاب ابراهيم بمعنى جوابنا بعينه ، لانه بين أنه لم يسأل ذلك لشك فيه وفقد ايمان به ، وإنما أراد الطمأنينة ، وهي ما أشرنا إليه من سكون النفس وانتفاء الخواطر والوساوس والبعد عن اعتراض الشبهة.

ووجه آخر : وهو انه قد قيل انه الله تعالى لما بشر ابراهيم عليه السلام بخلته واصطفائه واجتبائه ، سأل الله تعالى ان يريه احياء الموتى ليطمئن قلبه بالخلة ، لان الانبياء عليهم السلام لا يعلمون صحة ما تضمنه الوحي إلا بالاستدلال ، فسأل احياء الموتى لهذا الوجه لا للشك في قدرة الله تعالى على ذلك.

ووجه آخر : وهو أن نمرود بن كنعان لما قال لإبراهيم عليه السلام : انك تزعم ان ربك يحيي الموتى ، وأنه قد قال : ارسلك الي لتدعوني إلى عبادته ، فاسأله ان يحيي لنا ميتا ان كان على ذلك قادرا ، فإن لم يفعل قتلتك. قال ابراهيم (عليه السلام) : (رب ارني كيف تحيي الموتى) فيكون معنى قوله : (ولكن ليطمئن قلبي) على هذا الوجه ، أي لآمن من القتل ويطمئن قلبي بزوال الروع والخوف.

وهذا الوجه الذي ذكرناه وإن لم يكن مرويا على هذا الوجه فهو مجوز ، وإن اجاز صلح ان يكون وجها في تأويل الآية مستأنفا متابعا.

ووجه آخر : وهو أنه يجوز ان يكون ابراهيم انما سأل احياء الموتى لقومه ليزول شكهم في ذلك وشبهتهم ويجري مجرى سؤال موسى (عليه السلام) الرؤية لقومه ، ليصدر منه تعالى الجواب على وجه يزيل منه شبهتهم في جواز الرؤية عليه تعالى ، ويكون قوله ليطمئن قلبي على هذا الوجه ، معناه ان نفسي تسكن إلى زوال شكهم وشبهتهم ، أو ليطمئن قلبي إلى اجابتك إياي فيما اسألك فيه.

وكل هذا جائز ، وليس في الظاهر ما يمنع منه ، لان قوله : (ولكن ليطمئن قلبي) ما تعلق في ظاهر الآية بأمر لا يسوغ العدول عنه مع التمسك بالظاهر ، وما تعلقت هذه الطمأنينة به غير مصرح بذكره ، قلنا ان تعلقه بكل امر يجوز ان يتعلق به.

فإن قيل : فما معنى قوله تعالى اولم تؤمن؟ وهذا اللفظ استقبال. وعندكم أنه كان مؤمنا فيما مضى.

قلنا معنى ذلك أولم تكن قد آمنت؟ والعرب تأتي بهذا اللفظ ، وان كان في ظاهره الاستقبال ، وتريد به الماضي. فيقول احدهم لصاحبه : أولم تعاهدني على كذا وكذا ، وتعاقدني على ان لا تفعل كذا وكذا؟ وإنما يريد الماضي دون المستقبل.

فإن قيل : فما معنى قوله تعالى : {فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: 260] ؟

قلنا قد اختلف اهل العلم في معنى قوله تعالى (فصرهن اليك) ، فقال قوم : معنى قوله فصرهن : ادنهن واملهن.

قال الشاعر في وصف الابل :

تظل معقلات السوق خرصا * تصور انوفها ريح الجنوب

أراد ان ريح الجنوب تميل انوفها وتعطفها.

وقال الطرماح :

عفايف اذيال أوان يصرها * هوى والهوى للعاشقين صؤر

ويقول القائل لغيره : صر وجهك الي ، أي اقبل به علي.

ومن حمل الآية على هذا الوجه لابد ان يقدر محذوفا في الكلام يدل عليه سياق اللفظ ، ويكون تقدير الكلام : خذ اربعة من الطير فأملهن اليك ثم قطعهن ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا.

وقال قوم ان معنى صرهن اي قطعهن وفرقهن ، واستشهدوا بقول توبة بن الحمير :

فلما جذبت الحبل لطت نسوعه * بأطراف عيدان شديد أسورها

فادنت لي الاسباب حتى بلغتها * بنهضي وقد كاد ارتقائي يصورها

وقال الآخر :

يقولون أن الشام يقتل اهله * فمن لي ان لم آته بخلود

تغرب آبائي فهلا صراهم * من الموت ان لم يذهبوا وجدودي

اراد : قطعهم.

والاصل صرى يصري صريا ، من قولهم يأت يصري في حوضه إذا استسقى ثم قطع ، والاصل صرى ، فقدمت اللام وأخرت العين.

هذا قول الكوفيين ، وأما البصريون فإنهم يقولون ان صار يصير ، ويصور بمعنى واحد ، أي قطع.

ويستشهدون بالأبيات التي تقدمت ، وبقول الخنساء : «فظلت الشم منها وهي تنصار» وعلى هذا الوجه لابد في الكلام من تقديم وتأخير ، ويكون التقدير : فخذ اربعة من الطير إليك فصرهن اي قطعهن.

فإليك من صلة خذلان التقطيع لا يعدى بإلى.

فإن قيل : فما معنى قوله تعالى : (ثم ادعهن يأتينك سعيا) وهل أمره بدعائهن وهن احياء أو اموات؟ وعلى كل حال فدعاؤهن قبيح ، لان أمر البهائم التي لا تعقل ولا تفهم قبيح. وكذلك امرهن وهن اعضاء متفرقة اظهر في القبح.

قلنا : لم يرد ذلك إلا حال الحياة دون التفرق والتمزق.

فأراد بالدعاء الاشارة إلى تلك الطيور. فإن الانسان قد يشير إلى البهيمة بالمجئ أو الذهاب فتفهم عنه. ويجوز ان يسمي ذلك دعاء. اما على الحقيقة أو على المجاز. وقد قال ابو جعفر الطبري أن ذلك ليس بأمر ولا دعاء ، ولكنه عبارة عن تكوين الشئ ووجوده ، كما قال تعالى في الذين مسخهم : {كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [البقرة: 65] وانما أخبر عن تكوينهم كذلك من غير امر ولاء دعاء ، فيكون المعنى على هذا التأويل. ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ، فإن الله تعالى يؤلف تلك الاجزاء ويعيد الحياة فيها ، فيأتينك سعيا ، وهذا وجه قريب فإن قيل على الوجه الاول : كيف يصح ان يدعوها وهي احياء؟ وظاهر الآية يشهد بخلاف ذلك ، لانه تعالى قال : (ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا). وقال عقيب هذا الكلام من غير فصل : (ثم ادعهن يأتينك سعيا). فدل ذلك على ان الدعاء توجه اليهن وهن اجزاء متفرقة. قلنا ليس الامر على ما ذكر في السؤال ، لان قوله : (ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا) لابد من تقدير محذوف بعده ، وهو : (فإن الله يؤلفهن ويحييهن ثم ادعهن يأتينك سعيا). ولابد لمن حمل الدعاء لهن في حال التفرق وانتفاء الحياة من تقدير محذوف في الكلام عقيب قوله :(ثم ادعهن) لانا نعلم ان تلك الاجزاء والاعضاء لا تأتي عقيب الدعاء بلا فصل ، ولابد من ان يقدر في الكلام عقيب قوله ثم ادعهن ، فإن الله تعالى يؤلفهن ويحييهن فيأتينك سعيا.

فأما ابو مسلم الاصفهاني فإنه فرارا من هذا السؤال حمل الكلام على وجه ظاهر الفساد. لانه قال ان الله تعالى أمر ابراهيم (عليه السلام) بأن يأخذ اربعة من الطيور ، ويجعل على كل جبل طيرا ، وعبر بالجزء عن الواحد من الاربعة ، ثم امره بأن يدعوهن وهن احياء من غير اماتة تقدمت ولا تفرق من الاعضاء ، ويمرنهن على الاستجابة لدعائه ، والمجئ إليه في كل وقت يدعوها فيه. ونبه ذلك على انه تعالى إذا أراد احياء الموتى وحشرهم اتوه من الجهات كلها مستجيبين غير ممتنعين كما تأتي هذه الطيور بالتمرين والتعويد.

وهذا الجواب ليس بشئ لان ابراهيم عليه السلام انما سأل الله ان يريه كيف يحيي الموتى ، وليس في مجئ الطيور وهن احياء بالعادة والتمرين ، دلالة على ما سئل عنه ولا حجة فيه. وإنما يكون في ذلك بيانا لمسألته إذا كان على الوجه الذي ذكرناه.

فان قيل إذا كان انما امره بدعائهن بعد حال التأليف والحياة ، فأي فايدة في الدعاء وهو قد علم لما رآها تتألف أعضاءها من بعد وتتركب انها قد عادت إلى حال الحياة؟ فلا معنى في الدعاء إلا أن يكون متناولا لها وهي متفرقة.

قلنا للدعاء فائدة بينة ، لانه لا يتحقق من بعد رجوع الحياة إلى الطيور وان شاهدها متألفة ، وإنما يتحقق ذلك بأن تسعى إليه وتقرب منه.

تنزيه ابراهيم عن الاستغفار للكفار :

(مسألة) : فان قال قائل : فما معنى قوله تعالى : {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ  لأبيه إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ} [التوبة: 114] وكيف يجوز ان يستغفر لكافر أو أن يعده بالاستغفار؟

(الجواب) : قلنا : معنى هذه الآية ان اباه كان وعده بأن يؤمن واظهر له الايمان على سبيل النفاق ، حتى ظن انه الخير ، فاستغفر له الله تعالى على هذا الظن. فلما تبين له أنه مقيم على كفره رجع عن الاستغفار له وتبرأ منه على ما نطق به القرآن.

فكيف يجوز ان يجعل ذلك ذنبا لإبراهيم (عليه السلام) وقد عذره الله تعالى في ان استغفاره إنما كان لاجل موعده ، وبأنه تبرأ منه لما تبين له منه المقام على عداوة الله تعالى.

فإن قيل : فإن لم تكن هذه الآية دالة على اضافة الذنب إليه ، فالآية التي في صورة الممتحنة تدل على ذلك لانه تعالى قال : {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ  لأبيه لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} [الممتحنة: 4] فأمر بالتأسي والاقتداء به ، إلا في هذا الفعل.

وهذا يقتضي انه قبيح.

قلنا : ليس يجب ما ذكر في السؤال ، بل وجه استثناء إبراهيم عليه السلام  لأبيه عن جملة ما أمر الله تعالى بالتأسي به فيه ، أنه لو اطلق الكلام لاوهم الامر بالتأسي به في ظاهر الاستغفار من غير علم بوجهه ، والموعدة السابقة من ابيه له بالايمان ، وأدى ذلك إلى حسن الاستغفار للكفار.

فاستثنى الاستغفار من جملة الكلام لهذا الوجه ، ولأنه لم يكن ما اظهره ابوه من الايمان ووعده به معلوما لكل احد ، فيزول الاشكال في انه استغفر لكافر مصر على كفره.

ويمكن أيضا ان يكون قوله تعالى : (إلا قول ابراهيم  لأبيه) استثناء من غير التأسي ، بل من الجملة الثانية التي تعقبها. هذا القول بلا فصل وهي قوله (إذ قالوا لقومهم انا برآء منكم) إلى قوله (وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء) ابدا ، لانه لما كان استغفار ابراهيم (عليه السلام)  لأبيه مخالفا لما تضمنته هذه الجملة ، وجب استثناءه.

ولا نوهم بظاهر الكلام انه عامل اباه من العداوة والبراءة بما عامل به غيره من الناس.

فأما قوله تعالى : (الا عن موعدة وعدها اياه) فقد قيل ان الموعدة انما كانت من الاب بالايمان للابن ، وهو الذي قدمناه. وقيل انها كانت من الابن بالاستغفار للاب في قوله : لاستغفرن لك. والاولى أن تكون الموعدة هي من الاب بالايمان للابن ، لانا إن حملناه على الوجه الثاني كانت المسألة قائمة. ولقائل ان يقول : ولم أراد ان يعده بالاستغفار وهو كافر؟ وعند ذلك لابد ان يقال إنه أظهر له الايمان حتى ظنه به. فيعود إلى معنى الجواب الاول.

فإن قيل : فما تنكرون من ذلك ، ولعل الوعد كان من الابن للاب بالاستغفار ، وإنما وعده به لانه اظهر له الايمان؟ قلنا ظاهر الآية منع من ذلك ، لانه تعالى قال : (وما كان استغفار ابراهيم  لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه) فعلل حسن الاستغفار بالموعدة ، ولا يكون الموعدة مؤثرة في حسن الاستغفار إلا بأن يكون من الاب للابن بالإيمان ، لأنها إذا كانت من الابن لم يحسن له لها الاستغفار ، لانه ان قيل انما وعده الاستغفار لإظهاره له الايمان ، فالمؤثر في حسن الاستغفار هو اظهار الايمان لا الموعدة.

فإن قيل : أفليس اسقاط عقاب الكفر والغفران لمرتكبه كانا جائزين من طريق العقل ، وانما منع منه السمع ، وإلا جاز ان يكون ابراهيم عليه السلام انما استغفر  لأبيه لان السمع لم يقطع له على عقاب الكفار.

وكان باقيا على حكم العقل ، وليس يمكن ان يدعي ان ما في شرعنا من القطع على عقاب الكفار كان في شرعه لان هذا لا سبيل إليه قلنا : هذا الوجه كان جائزا لولا ما نطق به القرآن من خلافه ، لانه تعالى لما قال : {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ } [التوبة: 113] قال عاطفا على ذلك :(وما كان استغفار ابراهيم  لأبيه الا عن موعدة وعدها اياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه) فصرح بعلة حسن استغفاره ، وأنها الموعدة. وكان الوجه في حسن الاستغفار على ما تضمنه السؤال ، لوجب أن يعلل استغفاره  لأبيه بأنه لم يعلم أنه من أهل النار لا محالة ، ولم يقطع في شرعه على عقاب الكفار.

والكلام يقتضي خلاف هذا ، ويوجب أنه ليس لإبراهيم (عليه السلام) من ذلك ما ليس لنا ، وأن عذره فيه هو الموعدة دون غيرها.

وقد قال أبو علي بن محمد بن عبد الوهاب الجبائي في تأويل الآية التي في التوبة ، ما نحن ذاكروه ومنبهون على خلافه. قال بعد أن ذكر أن الاستغفار انما كان لاجل الموعدة من الاب بالايمان : ان الله تعالى انما ذكر قصة إبراهيم (عليه السلام) بعد قوله (ما كان للنبي والذين آمنوا معه أن يستغفروا للمشركين) لئلا يتوهم احد ان الله عز وجل كان جعل لابراهيم عليه السلام من ذلك ما لم يجعله للنبي صلى الله عليه وآله ، لان هذا الذي لم يجعله للنبي صلى الله عليه وآله لا يجوز ان يجعله لاحد ، لانه ترك الرضا بأفعال الله تعالى وأحكامه.

وهذا الذي ذكره غير صحيح على ظاهره ، لانه يجوز ان يجعل لغير نبينا صلى الله عليه وآله ممن لم يقطع له ، على ان الكفار معاقبون لا محالة ، ان يستغفر للكفار ، لان العقل لا يمنع من ذلك ، وإنما يمنع السمع الذي فرضنا ارتفاعه.

فان قال : اردت انه ليس لاحد ذلك مع القطع على العقاب ، قلنا : ليس هكذا يقتضي ظاهر كلامك. وقد كان يجب إذا أردت هذا المعنى ان تبينه وتزيل الابهام عنه ، وإنما لم يجز أن يستغفر للكفار مع ورود الوعيد القاطع على عقابهم ، زايدا على ما ذكره ابو علي من انه ترك الرضا بأحكام الله ، أن فيه سؤالا له تعالى ان يكذب في اخباره ، وان يفعل القبيح من حيث أخبر بأنه لا يغفر للكفار مع الاصرار.

تكريم ابراهيم باستجابة دعائه :

(مسألة) : فان قال : إذا كان من مذهبكم ان دعاء الانبياء (عليهم السلام) لا يكون إلا مستجابا ، وقد دعا ابراهيم عليه السلام ربه فقال : {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} [إبراهيم: 35] ، وقد عبد كثير من بنيه الاصنام وكذلك السؤال عليكم في قوله : {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} [إبراهيم: 40].

(الجواب) : قيل له اما المفسرون فإنهم حملوا هذا الدعاء على الخصوص وجعلوه متناولا لمن اعلمه الله تعالى انه يؤمن ولا يعبد الاصنام حتى يكون الدعاء مستجابا ، وبينوا ان العدول عن ظاهره المقتضى للعموم إلى الخصوص بالدلالة واجب ، وهذا الجواب صحيح ويمكن في الآية وجه آخر : وهو أن يريد بقوله : (واجنبني وبني أن نعبد الاصنام) أي افعل بي وبهم من الالطاف ما يباعدنا عن عبادة الاصنام ويصرف دواعينا عنها.

وقد يقال فيمن حذر من الشئ ورغب في تركه وقويت صوارفه عن فعله : أنه قد جنبه.

ألا ترى ان الوالد قد يقول لولده إذا كان قد حذره من بعض الافعال وبين له قبحه وما فيه من الضرر ، وزين له تركه وكشف له عما فيه من النفع : انني قد جنبتك كذا وكذا ومنعتك منه. وإنما يريد ما ذكرناه.

وليس لاحد ان يقول كيف يدعو ابراهيم (عليه السلام) بذلك وهو يعلم ان الله تعالى لابد ان يفعل هذا اللطف المقوى لدواعي الايمان ، لان هذا السؤال اولا يتوجه على الجوابين جميعا ، لانه تعالى لابد ان يفعل هذا للطف الذي يقع الطاعة عنده لا محالة كما لابد ان يفعل ما يقوي الداعي إلى الطاعات. والجواب عن هذه الشبهة ان النبي صلى الله عليه وآله لا يمتنع ان يدعو بما يعلم ان الله تعالى سيفعله على كل حال ، على سبيل الانقطاع إلى الله تعالى والتذلل له والتعبد.

فاما قوله (رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي) فالشبهة تقل فيه ، لان ظاهر الكلام يقتضي الخصوص في ذريته الكثير ممن اقام الصلاة.

تنزيه إبراهيم عن المجادلة :

(مسألة) : فان قيل فما معنى قوله تعالى : {وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ } [هود: 69] ، وكيف يحضر ابراهيم عليه السلام للملائكة الطعام وهو يعلم انها لا تطعم؟ ومن أي شئ كانت مخافته منهم لما امتنعوا من تناول الطعام؟ وكيف يجوز ان يجادل ربه فيما قضاه وأمر به؟

(الجواب) : قلنا أما وجه تقديم الطعام فلانه (عليه السلام) لم يعلم في الحال انهم ملائكة لانهم كانوا في صورة البشر فظنهم أضيافا ، وكان من عادته (عليه السلام) أقراء الضيف ، فدعاهم إلى الطعام ليستأنسوا به وينبسطوا ، فلما امتنعوا أنكر ذلك منهم ، وظن ان الامتناع لسوء يريدونه ، حتى خبروه بأنهم رسل الله تعالى انفذهم لإهلاك قوم لوط عليه السلام.

وأما الحنيذ : فهو المشوي بالأحجار.

وقيل ان الحنيذ الذي يقطر ماؤه ودسمه. وقد قيل ان الحنيذ هو النضيج.

وأنشد ابو العباس :

إذا ما اختبطنا اللحم للطالب القرى * حنذناه حتى يمكن اللحم آكله

فإن قيل : فكيف صدقهم في دعواهم انهم ملائكة؟

قلنا : لابد من ان يقترن بهذه الدعوى علم يقتضي التصديق. ويقال انهم دعوا الله بإحياء العجل الذي كان ذبحه وشواه لهم ، فصار حيا يرعى.

وأما قوله : يجادلنا [في قوله تعالى : {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ} ( هود: 74)] ، فقيل معناه يجادل رسلنا ، وعلق المجادلة به تعالى من حيث كانت لرسله ، وإنما جادلهم مستفهما منهم ، هل العذاب نازل على سبيل الاستيصال أو على سبيل التخويف؟ وهل هو عام للقوم أو خاص؟ وعن طريق نجاة لوط (عليه السلام) وأهله المؤمنين بما لحق القوم؟ وسمى ذلك جدالا لما كانت فيه من المراجعة والاستثبات على سبيل المجاز ، وقيل ان معنى قوله يجادلنا في قوم لوط (عليه السلام) : يسائلنا أن تؤخر عذابهم رجاء أن يؤمنوا أو أن يستأنفوا الصلاح.

فخبره الله تعالى بأن المصلحة في إهلاكهم ، وأن كلمة العذاب قد حقت عليهم ، وسمى المسألة جدالا على سبيل المجاز. فإن قيل : فما معنى قوله تعالى : {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ} فأتى بفعل مستقبل بعد لما ، ومن شأن ما يأتي بعدها ان يكون ماضيا.

قلنا عن ذلك جوابان. احدهما أن في الكلام محذوفا ، والمعنى : أقبل يجادلنا أو جعل يجادلنا ، وانما حذفه لدلالة الكلام عليه واقتضائه له. والجواب الآخر : أن لفظه (لما) يطلب في جوابها الماضي ، كطلب لفظه (إن) في جوابها المستقبل. فلما استحسنوا ان يأتوا في جواب (إن) بالماضي ، ومعناه الاستقبال ، لدلالة (أن) عليه ، استحسنوا ان يأتوا بعد (لما) الاستقبال تعويلا على ان اللفظة تدل على مضيه. فكما قالوا إن زرتني زرتك ، وهم يريدون إن تزرني ازرك. قالوا ولما تزرني ازرك ، وهم يريدون لما زرتني زرتك.

وانشدوا في دخول الماضي في جواب إن قول الشاعر :

إن يسمعوا ريبة طاروا بها فرحا * مني وما سمعوا من صالح دفنوا

وفي قول الآخر في دخول المستقبل جوابا بالماضي :

وميعاد قوم إن ارادوا لقاءنا * بجمع منى إن كان للناس مجمع

يروا خارجيا لم ير الناس مثله * تشير لهم عين إليه واصبع

ويمكن في هذا جواب آخر ، هو أن يجعل (يجادلنا) حالا لاجوابا للفظة لما ، ويكون المعنى ان البشرى جاءته في حال الجدال للرسل.

فإن قيل : فاين جواب (لما) على هذا الوجه ؟ قلنا يمكن ان نقدره في احد موضعين : إما في قوله تعالى : {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ} [هود: 75] ويكون التقدير : قلنا ان ابراهيم كذلك. والموضع الآخر أن يكون أراد تعالى (فلما ذهب عن ابراهيم الروع وجاءته البشرى يجادلنا في قوم لوط) ناديناه يا إبراهيم. فجواب (لما) هو ناديناه ، وإن كان محذوفا ودل عليه لفظة النداء. وكل هذا جايز.

تنزيه ابراهيم عن القول بخلق الله للأفعال :

(مسألة) : فإن قيل أليس قد حكى الله تعالى عن ابراهيم (عليه السلام) قوله إذ قال لقومه : {أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 95، 96] وظاهر هذا القول يقتضي انه تعالى خلق اعمال العباد ، فما الوجه فيما وما عذر ابراهيم عليه السلام في اطلاقه؟

(الجواب) : قلنا من تأمل هذه الآية حق التأمل ، علم ان معناها بخلاف ما يظنه المجبرة ، لان قوله تعالى خبر عن ابراهيم (عليه السلام) بأنه غير قومه بعبادة الاصنام واتخاذها آلهة من دون الله تعالى ، بقوله (أتعبدون ما تنحتون) ، وانما اراد منحوت وما حمله النحت دون عملهم الذي هو النحت لان القوم لم يكونوا يعبدون النحت الذي هو فعلهم في الاجسام ، وإنما كانوا يعبدون الاجسام انفسها.

ثم قال : (والله خلقكم وما تعملون) وهذا الكلام لابد من ان يكون متعلقا بالاول ومتضمنا لما يقتضي المنع من عباده الاصنام ، ولا يكون بهذه الصفة الا والمراد بقوله : وما تعملون الاصنام التي كانوا ينحتونها. فكأنه تعالى قال : كيف تعبدون ما خلقه الله تعالى كما خلقكم. وليس لهم ان يقولوا ان الكلام الثاني قد يتعلق بالكلام الاول على خلاف ما قدرتموه ، لانه إذا أراد ان الله خلقكم وخلق اعمالكم ، فقد تعلق الثاني بالاول ، لان من خلقه الله لا يجوز ان يعبد غيره. وذلك أنه لو اراد ما ظنوه ، لكفى ان يقول الله تعالى : والله خلقكم. ويصير ما ضمنه إلى ذلك من قوله : (وما تعملون) لغوا ولا فائدة فيه ، ولا تعلق له بالاول ولا تأثير له في المنع من عبادة الاصنام. فصح أنه أراد ما ذكرناه من المعمول فيه ، ليطابق قوله : (اتعبدون ما تنحتون). فإن قالوا هذا عدول عن الظاهر ، لقوله تعالى : (وما تعملون) لان هذه اللفظة لا تستعمل على سبيل الحقيقة إلا في العمل دون المعمول فيه. ولهذا يقولون : اعجبني ما تعمل وما تفعل ، مكان قولهم : اعجبني عملك وفعلك.

قيل لهم : ليس نسلم لكم ان الظاهر ما ادعيتموه ، لان هذه اللفظه قد تستعمل في المعمول فيه ، والعمل عل حد واحد. بل استعمالها في المعمول فيه اظهر واكثر. ألا ترى انه تعالى قال في العصا { تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ} [الأعراف: 117] وفي آية اخرى : {وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا} [طه: 69] ومعلوم أنه لم يرد أنها تلقف اعمالهم التي هي الحركات واعتمادات ، وإنما أراد انها تلقف الحبال وغيرها مما حله الافك و قد قال تنبيه قد وقع في ص 36 س 9 هكذا (مجاوريهم) و صوابه (بناويهم) ...

وههنا مواضع لا يستعمل فيها (ما) مع الفعل الا والمراد بها الاجسام دون الاعراض التي هي فعلنا. لان القائل إذا قال : اعجبني ما تأكل وما تشرب وما تلبس ، لم يجز حمله إلا على المأكول والمشروب والملبوس دون الاكل والشرب واللبس.

فصح ان لفظة (ما) فيما ذكرناه أشبه بأن تكون حقيقة ، وفيما ذكروه اشبه بأن تكون مجازا. ولو لم يثبت فيها إلا انها مشتركة بين الامرين ، وحقيقة فيهما ، لكان كافيا في اخراج الظاهر من ايديهم ، وابطال ما تعلقوا به. وليس لهم ان يقولوا أن كل موضع استعملت فيه لفظة (ما) مع الفعل ، واريد بها المفعول فيه ، إنما علم بدليل ، والظاهر بخلافه. وذلك أنه لا فرق بينهم في هذه الدعوى وبين من عكسها ، فادعى ان لفظة (ما) إذا استعملت مع الفعل واريد بها المصدر دون المفعول فيه كانت محمولة على ذلك بالدليل ، وعلى سبيل المجاز. والظاهر بخلافه ، على ان التعليل وتعلق الكلام الثاني بالاول على ما بيناه ايضا ظاهر ، فيجب ان يكون مراعى. وقد بينا ايضا انه متى حمل الكلام على ما ظنوه لم يكن الثاني متعلقا بالاول ولا تعليلا فيه ، والظاهر يقتضي ذلك. فقد صار فيما ادعوه عدول عن الظاهر الذي ذكرناه في معنى الآية ، فلو سلم ما ادعوه من الظاهر في معنى اللفظة معه لتعارضتا ، فكيف وقد بينا أنه غير سليم ولا صحيح؟

وبعد : فإن قوله : (وما تعملون) لا يستقل بالفائدة بنفسه ، ولابد من أن يقدر محذوف ، ويرجع إلى (ما) التي بمعنى (الذي) ، وليس لهم ان يقدروا الهاء ليسلم ما ادعوه بأولى منا إذا قدرنا لفظة فيه ، لان كلا الامرين محذوف ، وليس تقدير احدهما بأولى من الآخر ، إلا بدليل هذا.

على انا قد بينا ان مع تقدير الهاء يكون الكلام محتملا لما ذكرناه ، كاحتماله لما ذكروه. ومع تقديرنا الذي بيناه يكون الكلام مختصا غير مشترك ، فصرنا بالظاهر اولى منهم ، وصار للمعنى الذي ذهبنا إليه الرجحان على معناهم. على أن معنى الآية والمقصود منها يدلان على ما ذكرناه ، حتى أنا لو قدرنا ما ظنه المخالف لكان ناقضا للغرض في الآية ومبطلا لفايدتها ، لانه تعالى خبر عن إبراهيم (عليه السلام) بأنه قرعهم ووبخهم بعبادة الاصنام ، واحتج عليهم بما يقتضي العدول عن عبادته. ولو كان مراده بالآية ما ظنوه من انه تعالى خلقهم وخلق اعمالهم ، وقد علمنا ان عبادتهم للأصنام من جملة اعمالهم ، فكأنه قال الله تعالى : والله خلقكم وخلق عبادة اصنامكم. لوجب ان يكون عاذرا لهم ومزيلا للوم عنهم ، لان الانسان لا يذم على ما خلق فيه ولا يعاتب ولا يوبخ.

وبعد فلو حملنا الآية على ما توهموه لكان الكلام متناقضا من وجه آخر ، لانه قد أضاف العمل إليهم بقوله (وما تعملون). وذلك يمنع من كونه خلقا لله تعالى ، لان العامل للشئ هو من احدثه واخرجه من العدم إلى الوجود. والخلق في هذا الوجه لا يفيد إلا هذا المعنى ، فكيف يكون خالقا ومحدثا لما احدثه غيره وعمله؟ على ان الخلق إذا كان هو التقدير في اللغة ، فقد يكون الخالق خالقا لفعل غيره إذا كان مقدرا له ومدبرا.

ولهذا يقولون خلق الاديم فيمن قدره ودبره ، وإن كان ما احدث الاديم نفسه فلو حملنا قوله: (وما تعملون) على افعالهم دون ما فعلوا فيه من الاجسام ، لكان الكلام على هذا الوجه صحيحا. ويكون المعنى : والله دبركم ودبر أعمالكم. وان لم يكن محدثا لها وفاعلا. وكل هذه الوجوه واضح لا إشكال فيه بحمد الله تعالى ومنه.

 




مقام الهي وليس مقاماً بشرياً، اي من صنع البشر، هي كالنبوة في هذه الحقيقة ولا تختلف عنها، الا ان هنالك فوارق دقيقة، وفق هذا المفهوم لا يحق للبشر ان ينتخبوا ويعينوا لهم اماماً للمقام الديني، وهذا المصطلح يعرف عند المسلمين وهم فيه على طوائف تختصر بطائفتين: طائفة عموم المسلمين التي تقول بالإمامة بانها فرع من فروع الديني والناس تختار الامام الذي يقودها، وطائفة تقول نقيض ذلك فترى الحق واضح وصريح من خلال ادلة الاسلام وهي تختلف اشد الاختلاف في مفهوم الامامة عن بقية الطوائف الاخرى، فالشيعة الامامية يعتقدون بان الامامة منصب الهي مستدلين بقوله تعالى: (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) وبهذا الدليل تثبت ان الامامة مقام الهي وليس من شأن البشر تحديدها، وفي السنة الشريفة احاديث متواترة ومستفيضة في هذا الشأن، فقد روى المسلمون جميعاً احاديث تؤكد على حصر الامامة بأشخاص محددين ، وقد عين النبي الاكرم(صلى الله عليه واله) خليفته قد قبل فاخرج احمد في مسنده عن البراء بن عازب قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فنزلنا بغدير خم فنودي فينا الصلاة جامعة وكسح لرسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرتين فصلى الظهر وأخذ بيد علي رضى الله تعالى عنه فقال ألستم تعلمون اني أولى بالمؤمنين من أنفسهم قالوا بلى قال ألستم تعلمون انى أولى بكل مؤمن من نفسه قالوا بلى قال فأخذ بيد علي فقال من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه قال فلقيه عمر بعد ذلك فقال له هنيئا يا ابن أبي طالب أصبحت وأمسيت مولى كل مؤمن ومؤمنة


مصطلح اسلامي مفاده ان الله تعالى لا يظلم أحداً، فهو من كتب على نفسه ذلك وليس استحقاق البشر ان يعاملهم كذلك، ولم تختلف الفرق الدينية بهذه النظرة الاولية وهذا المعنى فهو صريح القران والآيات الكريمة، ( فلا يظن بمسلم ان ينسب لله عز وجل ظلم العباد، ولو وسوست له نفسه بذلك لأمرين:
1ـ تأكيد الكتاب المجيد والسنة الشريفة على تنزيه الله سبحانه عن الظلم في آيات كثيرة واحاديث مستفيضة.
2ـ ما ارتكز في العقول وجبلت عليه النفوس من كمال الله عز وجل المطلق وحكمته واستغنائه عن الظلم وكونه منزهاً عنه وعن كل رذيلة).
وانما وقع الخلاف بين المسلمين بمسألتين خطرتين، يصل النقاش حولها الى الوقوع في مسألة العدل الالهي ، حتى تكون من اعقد المسائل الاسلامية، والنقاش حول هذين المسألتين أمر مشكل وعويص، الاولى مسالة التحسين والتقبيح العقليين والثانية الجبر والاختيار، والتي من خلالهما يقع القائل بهما بنحو الالتزام بنفي العدالة الالهية، وقد صرح الكتاب المجيد بان الله تعالى لا يظلم الانسان ابداً، كما في قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا * فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا).

مصطلح عقائدي، تجده واضحاً في المؤلفات الكلامية التي تختص بدراسة العقائد الاسلامية، ويعني الاعتقاد باليوم الاخر المسمى بيوم الحساب ويوم القيامة، كما نص بذلك القران الحكيم، وتفصيلاً هو الاعتقاد بان هنالك حياة أخرى يعيشها الانسان هي امتداد لحياة الانسان المطلقة، وليست اياماً خاصة يموت الانسان وينتهي كل شيء، وتعدّت الآيات في ذكر المعاد ويوم القيامة الالف اية، ما يعني ان هذه العقيدة في غاية الاهمية لما لها الاثر الواضح في حياة الانسان، وجاء ذكر المعاد بعناوين مختلفة كلها تشير بوضوح الى حقيقته منها: قوله تعالى: (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ) ،وهنالك آيات كثيرة اعطت ليوم القيامة اسماء أخرى كيوم القيامة ويوم البعث ويوم النشور ويوم الحساب ، وكل هذه الاشياء جزء من الاعتقاد وليس كل الاعتقاد فالمعاد اسم يشمل كل هذه الاسماء وكذلك الجنة والنار ايضاً، فالإيمان بالآخرة ضرورة لا يُترك الاعتقاد بها مجملاً، فهي الحقيقة التي تبعث في النفوس الخوف من الله تعالى، والتي تعتبر عاملاً مهماً من عوامل التربية الاصلاحية التي تقوي الجانب السلوكي والانضباطي لدى الانسان المؤمن.