أقرأ أيضاً
التاريخ: 28-2-2017
16561
التاريخ: 16-10-2017
25866
التاريخ: 16-10-2017
10754
التاريخ: 19-10-2017
8130
|
قال تعالى : {إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112) قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ (113) قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114) قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ} [المائدة : 112 - 115].
قال تعالى : {إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ} [المائدة : 112-113] .
أخبر سبحانه عن الحواريين وسؤالهم ، فقال {إذ قال الحواريون} والعامل في إذ قوله : أوجبت . ويحتمل أن يكون معناه واذكر إذ قال الحواريون {يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء} . قيل فيه أقوال أحدها : أن يكون معناه : هل يفعل ربك ذلك بمسألتك إياه ، ليكون علما على صدقك ، ولا يجوز أن يكونوا شكوا في قدرة الله تعالى ، على ذلك ، لأنهم كانوا عارفين مؤمنين ، وكأنهم سألوه ذلك ، ليعرفوا صدقه ، وصحة أمره ، من حيث لا يعرض عليهم فيه إشكال ولا شبهة . ومن ثم قالوا {وتطمئن قلوبنا} كما قال إبراهيم {ولكن ليطمئن قلبي} ، عن أبي علي الفارسي . وثانيها : إن المراد هل يقدر ربك وكان هذا في ابتداء أمرهم قبل أن تستحكم معرفتهم بالله ، ولذلك أنكر عليهم عيسى عليه السلام ، فقال {اتقوا الله إن كنتم مؤمنين} لأنهم لم يستكمل إيمانهم في ذاك الوقت . وثالثها : أن يكون معناه هل يستجيب لك ربك ، وإليه ذهب السدي في قوله : يريد هل يطيعك ربك إن سألته . وهذا على أن يكون استطاع : بمعنى أطاع .
كما يكون استجاب : بمعنى أجاب .
قال الزجاج : يحتمل مسألة الحواريين عيسى عليه السلام المائدة ، على ضربين :
أحدهما : أن يكونوا أرادوا أن يزدادوا تثبيتا كما قال إبراهيم {ربي أرني كيف تحيي الموتى} {وجائز} أن يكون مسألتهم المائدة قبل علمهم أنه أبرأ الأكمه ، والأبرص ، وأحيا الموتى {قال اتقوا الله إن كنتم مؤمنين} معناه اتقوا الله أن تسألوه شيئا لم تسأله الأمم قبلكم . وقيل : إن معناه الامر بالتقوى مطلقا ، كما أمر الله المؤمنين بها في قوله {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله} عن أبي علي الفارسي . وقيل : أمرهم أن لا يقترحوا الآيات ، وأن لا يقدموا بين يدي الله ورسوله ، لان الله تعالى قد أراهم البراهين والمعجزات بإحياء الموتى وغيره مما هو أوكد مما سألوه وطلبوه ، عن الزجاج {قالوا} أي : قال الحواريون {نريد أن نأكل منها} قيل في معناه قولان أحدهما : أن تكون الإرادة التي هي من أفعال القلوب ، ويكون التقدير فيه : نريد السؤال من أجل هذا الذي ذكرنا والآخر : أن يكون الإرادة هاهنا بمعنى المحبة التي هي ميل الطباع أي :
نحب ذلك {وتطمئن قلوبنا} يجوز أن يكونوا قالوا وهم مستبصرون في دينهم ، ومعناه نريد أن نزداد يقينا ، وذلك أن الدلائل كلما كثرت مكنت المعرفة في النفس عن عطاء {ونعلم أن قد صدقتنا} بأنك رسول الله ، وهذا يقوي قول من قال : إن هذا كان في ابتداء أمرهم . والصحيح أنهم طلبوا المعاينة والعلم الضروري والتأكيد في الإعجاز {ونكون عليها من الشاهدين} لله بالتوحيد ، ولك بالنبوة . وقيل : من الشاهدين لك عند بني إسرائيل إذا رجعنا إليهم .
{قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ * قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ} [المائدة : 114 - 115] .
ثم أخبر سبحانه عن سؤال عيسى عليه السلام إياه فقال {قال عيسى بن مريم} عن قومه ، لما التمسوا منه . وقيل : إنه إنما سأل ربه ذلك حين أذن له في السؤال {اللهم ربنا أنزل علينا مائدة} أي : خوانا عليه طعام {من السماء تكون لنا عيدا} قيل في معناه قولان : أحدهما : نتخذ اليوم الذي تنزل فيه عيدا نعظمه نحن ، ومن يأتي بعدنا ، عن السدي ، وقتادة ، وابن جريج ، وهو قول أبي علي الجبائي .
والثاني : إن معناه تكون عائدة فضل من الله علينا ، ونعمة منه لنا ، والأول هو الوجه {لأولنا وآخرنا} أي : لأهل زماننا ، ومن يجئ بعدنا . وقيل : معناه يأكل منها آخر الناس ، كما يأكل أولهم ، عن ابن عباس . {وآية منك} أي : ودلالة منك عظيمة الشأن في إزعاج قلوب العباد إلى الإقرار بمدلولها ، والاعتراف بالحق الذي تشهد به ظاهرها ، تدل على توحيدك ، وصحة نبوة نبيك {وارزقنا} أي : واجعل ذلك رزقا لنا . وقيل : معناه وارزقنا الشكر عليها عن الجبائي {وأنت خير الرازقين} وفي هذا دلالة على أن العباد قد يرزق بعضهم بعضا ، لأنه لو لم يكن كذلك لم يصح أن يقال له سبحانه {وأنت خير الرازقين} كما لا يجوز أن يقال أنت خير الآلهة ، لما لم يكن غيره إلها {قال الله} مجيبا له إلى ما التمسه {إني منزلها} يعني : المائدة {عليكم فمن يكفر بعد منكم} أي : بعد إنزالها عليكم {فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين} قيل في معناه أقوال أحدها : إنه أراد عالمي زمانه ، فجحد القوم فكفروا بعد نزولها ، فمسخوا قردة وخنازير ، عن قتادة . وروي عن أبي الحسن موسى أنهم مسخوا خنازير وثانيها : إنه أراد عذاب الاستئصال . وثالثها : إنه أراد جنسا من العذاب ، لا يعذب به أحدا غيرهم ، وإنما استحقوا هذا النوع من العذاب بعد نزول المائدة ، لأنهم كفروا بعد ما رأوا الآية التي هي من أزجر الآيات عن الكفر بعد سؤالهم لها ، فاقتضت الحكمة اختصاصهم بفن من العذاب عظيم الموضع ، كما اختصت آيتهم بفن من الزجر عظيم الموقع .
_____________________________
1. تفسير مجمع البيان ، ج3 ، ص 452-454 .
لقد كثر الكلام حول المائدة وطلابها : هل كانوا مؤمنين أو مشككين ؟
وهل نزلت المائدة بالفعل ، أو انها لم تنزل ، لأن الحواريين عدلوا عن طلبها بعد أن هددهم اللَّه بقوله : « فمن كفر منكم فاني معذبه عذابا لا أعذبه أحدا » .
ومع افتراض نزولها فعلى أية حال نزلت ؟ وما هي أصنافها وألوانها ؟ ثم هل مسخوا بعدها قردة وخنازير ، لأن بعضهم سرق منها ؟ . . إلى غير ذلك من القول على اللَّه من غير علم .
ونقف نحن في حديثنا عن هذه الآيات الأربع عند مدلول كلماتها وما يتصل به .
الآية الأولى : {إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} . وتومئ هذه الآية إلى أن الحواريين ما كانوا مؤمنين بعيسى عند ما طلبوا منه هذه المائدة ، لأنهم في غنى عنها مع التصديق والتسليم ، والذي يؤكد ذلك قولهم : {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ} فإنه يشعر بالتشكيك في قدرة اللَّه . . مع ان الآية السابقة قد شهدت لهم بالإيمان {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا} . . هذا ، إلى أن لفظ الحواريين يدل بنفسه على إيمانهم بعيسى وإخلاصهم له ، فما هو وجه الجمع بين الآيتين ؟
وأجاب كثير من المفسرين بأن سؤالهم هذا لا يتنافى مع إيمانهم ، لأن القصد منه الايمان عن طريق الحس والعيان بعد الايمان عن طريق العقل والبرهان ، وبكلمة القصد تقوية الايمان وتثبيته ، تماما كما قال إبراهيم الخليل ( عليه السلام ) : {وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} . . وقد أفصح الحواريون عن هذا القصد بدلالة قوله في الآية الثانية : { وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا } جوابا على قول عيسى لهم : {اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} . أما قولهم : { هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ } فمعناه هل يستجيب ربك إن سألته أن ينزل علينا مائدة السماء .
الآية الثانية : {قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ} . يريدون أن يأكلوا ليؤمنوا ويعلموا ، أو يريدون أن يأكلوا ليقوى ويرسخ الايمان في قلوبهم ، والعلم في عقولهم ، كما قدمنا ، ثم يخبروا من لم يحضر المائدة من قومهم ، فيؤمن الجاحد ، ويطمئن المؤمن - وإن لم يأكل .
بين حواري محمد وحواري عيسى :
كان لمحمد ( صلى الله عليه وآله ) حواريون ، كما كان لعيسى ( عليه السلام ) ، ولأي نبي من الأنبياء ، ولكن صحابة محمد ما سألوه أن يطعمهم من جوع بآياته ومعجزاته كما فعل أصحاب عيسى الذين قالوا له : نريد أن نأكل منها ، ولا أن يؤمنهم من خوف كما فعل أصحاب موسى ، بل قالوا له في بعض معاركه بلسان المقداد بن الأسود :
« امض يا رسول اللَّه لما أرادك اللَّه ، فنحن معك ، ولا نقول لك ما قال بنو إسرائيل لموسى : اذهب أنت وربك فقاتلا انا هاهنا قاعدون ، ولكن نقول :
اذهب أنت وربك فقاتلا انّا معكما مقاتلون ، فو الذي بعثك بالحق ، لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك من دونه ، حتى تبلغه » .
وكانوا يتساقطون شهداء بين يديه ، وهم يقولون : فزنا ورب الكعبة ، وروى عنهم التاريخ في ذلك ما يشبه الأساطير . قاتل عمارة بن يزيد يوم أحد ، حتى أثخنته الجراح ، ولما أيقن بالموت رمى برأسه على قدمي رسول اللَّه ، ولم يرفعه ، حتى فارق الحياة سعيدا بهذه الخاتمة .
وسقط سعد بن الربيع شهيدا في أحد ، فقال لأحد أصحابه : قل لرسول اللَّه يقول لك سعد بن الربيع : جزاك عنا خير ما جزى نبيا عن أمته ، وأبلغ قومك عني السلام ، وقل لهم : ان ابن الربيع يقول لكم : انه لا عذر لكم عند اللَّه إن خلص إلى نبيكم ، ومنكم عين تطرف .
وكان عمرو بن الجموح أعرج ، وأراد الخروج مع النبي إلى حرب أحد ، فحاول أولاده أن يمنعوه من الخروج ، فاشتكى لرسول اللَّه ، وقال : اني أرجو أن أعرج الليلة إلى الجنة ، فأذن رسول اللَّه له ، وقتل هو وأولاده الأربعة ، وشقيق زوجته ، فجاءت أرملته بعد المعركة ، وحملت زوجها وأخاها وأولادها الأربعة على جمل ، وذهبت بهم إلى المدينة ، فقابلتها النساء يسألنها عن الأخبار .
قالت : أما رسول اللَّه فبخير ، وكل مصيبة بعده تهون . فسألنها : وما هذه الجثث ؟ قالت : هؤلاء أولادي وزوجي وأخي أكرمهم اللَّه بالشهادة ، وأحملهم لأدفنهم .
هذه أمثلة نقدمها للدلالة على مدى الفرق بين حواريي محمد ، وحواريي غيره من الأنبياء . ولا نبالغ إذا ما قلنا : ان ما من نبي على الإطلاق ظفر بما ظفر محمد رسول اللَّه ( صلى الله عليه وآله ) من أصحاب صدقوا ما عاهدوه عليه . أما السر فيكمن في شخصيته ، وعظمة رسالته .
الآية الثالثة : {قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} . لما رأى عيسى منهم الإصرار ، وعلم انهم لا يقصدون العنت والتعجيز دعا اللَّه سبحانه بدعاء العبد الخاضع المتضرع لسيده ، مناديا : يا ربنا . . ومنك . . وأنت . . الخ دفعا لكل شبهة وتكذيبا لكل زاعم ان لعيسى فيها يدا ، وانها من صنعه ، لا من صنع الواحد الأحد . . والمراد بالآية المعجزة ، وبالعيد الفرحة والسرور .
الآية الرابعة : {قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ} . استجاب سبحانه لتضرع عيسى ليزداد أصحابه ثقة به ، وإيمانا بنبوته ، وتلزمهم الحجة إذا خالفوا ، ويستحقوا أشد العقاب الذي لا يعاقب اللَّه به أحدا ممن جحد وكفر ، لأنهم هم الذين اقترحوا المائدة ، وطلبوها بالذات ، ومن استجيب إلى طلبه تقوم عليه الحجة وتنقطع منه كل معذرة إذا خالف ونكص .
__________________________
1. تفسير الكاشف ، ج3 ، ص 147-149 .
الآيات تذكر قصة نزول المائدة على المسيح عليه السلام وأصحابه ، وهي وإن لم تصرح بأن الله أنزلها عليهم غير أن الآية الأخيرة تتضمن الوعد المنجز منه بإنزالها من غير تقييد وقد وصف تعالى نفسه بأنه لا يخلف الميعاد.
وقول بعضهم : (إنهم استقالوا عيسى عليه السلام بعد ما سمعوا الوعيد الشديد من الله تعالى لمن يكفر منهم بعد نزول المائدة) قول من غير دليل من كتاب أو حديث يعتمد عليه.
وقد نقل ذلك عن جمع من المفسرين ، وممن يذكر منهم : المجاهد والحسن ، ولا حجة في قولهما ولا قول غيرهما ولو عد قولهما رواية كانت من الموقوفات التي لا حجية لها لضعفها على أنها معارضة بغيرها من الروايات الدالة على نزولها ، على أنها لو صحت لم تكن إلا من الآحاد التي لا يعتمد عليها في غير الأحكام.
وربما يستدل على عدم نزولها بأن النصارى لا يعرفونها وكتبهم المقدسة خالية عن حديثها ، ولو كانت نازلة لتوفرت الدواعي على ذكره في كتبهم وحفظه فيما بينهم بسيرة مستمرة كما تحفظوا على العشاء الرباني لكن الخبير بتاريخ شيوع النصرانية وظهور الأناجيل لا يعبأ بأمثال هذه الأقاويل فلا كتبهم مكتوبة محفوظة على التواتر إلى زمن عيسى عليه السلام ، ولا هذه النصرانية الحاضرة تتصل بزمنه حتى ينتفع بها فيها يعتورونه يدا بيد ، أو فيما لا يعرفونه مما ينسب إلى الدعوة العيسوية أو يتعلق بها.
نعم وقع في بعض الأناجيل إطعام المسيح تلاميذه وجماعة من الناس بالخبز والسمك القليلين على طريق الإعجاز ، غير أن القصة لا تنطبق على ما قصة القرآن في شيء من خصوصياته ، ورد في إنجيل يوحنا ، الإصحاح السادس ما هذا نصه :
1- بعد هذا مضى يسوع إلى عبر بحر الجليل وهو بحر طبرية .
2- وتبعه جمع كثير لأنهم أبصروا آياته التي كان يصنعها في المرضى .
3- فصعد يسوع إلى جبل وجلس هناك مع تلاميذه .
4- وكان الفصح عند اليهود قريبا .
5- فرفع يسوع عينيه ـ ونظر أن جمعا كثيرا مقبل إليه ـ فقال لفيلبس من أين نبتاع خبزا ليأكل هؤلاء .
6- وإنما قال هذا ليمتحنه لأنه هو علم ما هو مزمع أن يفعل .
7- أجابه فيلبس لا يكفيهم خبز بمأتي دينار ـ ليأخذ كل واحد منهم شيئا يسيرا .
8- قال له واحد من تلاميذه وهو أندراوس أخو سمعان بطرس .
9- هنا غلام معه خمسة أرغفة شعير وسمكتان ـ ولكن ما هذا لمثل هؤلاء ـ .
10- فقال يسوع اجعلوا الناس يتكئون ـ وكان في المكان عشب كثير فاتكأ الرجال ـ وعددهم نحو خمسة آلاف .
11- وأخذ يسوع الأرغفة وشكر ـ ووزع على التلاميذ والتلاميذ أعطوا المتكئين ـ وكذلك من السمكتين بقدر ما شاءوا .
12- فلما شبعوا قال لتلاميذه ـ أجمعوا الكسر الفاضلة لكي لا يضيع شيء .
13- فجمعوا وملئوا اثنتي عشرة قفة من الكسر ـ من خمسة أرغفة الشعير التي فضلت عن الآكلين .
14- فلما رأى الناس الآية التي صنعها يسوع ـ قالوا إن هذا هو بالحقيقة النبي الآتي إلى العالم .
15- وأما يسوع فإذ علم أنهم مزمعون أن يأتوا ويختطفوه ـ ليجعلوه ملكا انصرف أيضا إلى الجبل وحده.
ثم إن التدبر في هذه القصة بما لها من سياق مسرود في كلامه تعالى يهدي إلى جهة أخرى من البحث فإن السؤال المذكور في أولها بظاهره خال عن رعاية الأدب والواجب حفظه في جنب الله سبحانه ، وقد انتهى الكلام إلى وعيد منه تعالى لمن يكفر بهذه الآية وعيدا لا يوجد له نظير في شيء من الآيات التي اختص الله سبحانه بها أنبياءه أو اقترحها أممهم عليهم كاقتراح أمم نوح وهود وصالح وشعيب وموسى ومحمد (صلى الله عليه وآله) .
فهل كان ذلك لكون الحواريين وهم السائلون أساءوا الأدب في سؤالهم ؟ لأن لفظهم لفظ من يشك في قدرة الله سبحانه ؛ ففي اقتراحات الأمم السابقة عليهم من الإهانة بمقام ربهم والسخرية والهزء بأنبيائهم وكذا ما توجد حكايته في القرآن من طواغيت قوم النبي صلى الله عليه وآله واليهود المعاصرين له ما هو أوقح من ذلك وأشنع !.
أو أنهم لكونهم مؤمنين قبل السؤال والنزول لو كفروا بعد النزول ومشاهدة الآية الباهرة استحقوا هذا الوعيد على هذه الشدة؟ فالكفر بعد مشاهدة الآية الباهرة وإن كان عتوا وطغيانا كبيرا لكنه لا يختص بهم ، ففي سائر الأمم أمثال لهم في ذلك ولم يوعدوا بمثل هذا الوعيد قط حتى الذين ارتدوا منهم بعد التمكن في مقام القرب والتحقق بآيات الله سبحانه كالذي يذكره الله سبحانه في قوله : {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ} [ الأعراف : 175].
والذي يمكن أن يقال في المقام أن هذه القصة بما صدر به من السؤال يمتاز بمعنى يختص به من بين سائر معجزات الأنبياء التي أتوا بها لاقتراح من أممهم أو لضرورات أخر تدعو إلى ذلك.
وذلك أن الآيات المعجزة التي يقصها الكلام الإلهي إما آيات آتاها الله الأنبياء حين بعثهم لتكون حجة مؤيدة لنبوتهم أو رسالتهم كما أوتي موسى عليه السلام اليد البيضاء والعصا ، وأوتي عيسى عليه السلام إحياء الموتى وخلق الطير وإبراء الأكمه والأبرص ، وأوتي محمد صلى الله عليه وآله القرآن ، وهذه آيات أوتيت لحاجة الدعوة إلى الإيمان وإتمام الحجة على الكفار ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة.
وإما آيات معجزة أتى بها الأنبياء والرسل لاقتراح الكفار عليهم كناقة صالح ، ويلحق بها المخوفات والمعذبات المستعملة في الدعوة كآيات موسى عليه السلام على قوم فرعون من الجراد والقمل والضفادع وغير ذلك في سبع آيات ، وطوفان نوح ، ورجفة ثمود وصرصر عاد وغير ذلك ، وهذه أيضا آيات متعلقة بالمعاندين الجاحدين.
وإما آيات أراها الله المؤمنين لحاجة مستها ، وضرورة دعت إليها ، كانفجار العيون من الحجر ونزول المن والسلوى على بني إسرائيل في التيه ، ورفع الطور فوق رءوسهم وشق البحر لنجاتهم من فرعون وعمله ، فهذه آيات واقعة لإرهاب العاصين المستكبرين أو كرامة للمؤمنين لتتم كلمة الرحمة في حقهم من غير أن يكونوا قد اقترحوها.
ومن هذا الباب المواعيد التي وعدها الله في كتابه المؤمنين كرامة لرسوله صلى الله عليه وآله كوعد فتح مكة ومقت المشركين من كفار قريش وغلبة الروم إلى غير ذلك.
فهذه أنواع الآيات المقتصة في القرآن والمذكورة في التعليم الإلهي ، وأما اقتراح الآية بعد نزول الآية فهو من التهوس يعده التعليم الإلهي من الهجر الذي لا يعبأ به كاقتراح أهل الكتاب أن ينزل النبي صلى الله عليه وآله عليهم كتابا من السماء مع وجود القرآن بين أيديهم ، قال تعالى : {يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً ـ إلى أن قال ـ لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً} [ النساء : 166] .
وكما سأل المشركون النبي صلى الله عليه وآله إنزال الملائكة أو إراءة ربهم تعالى وتقدس قال تعالى : {وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً} [ الفرقان : 21] وقال تعالى : {وَقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً ، أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً ، انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً} [ الفرقان : 9] إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة.
وليس ذلك كله إلا لأن عنوان نزول الآية هو ظهور الحق وتمام الحجة فإذا نزلت فقد ظهر الحق وتمت الحجة فلو أعيد سؤال نزول الآية وقد نزلت وحصل الغرض فلا عنوان له إلا العبث بآيات الله واللعب بالمقام الربوبي والتذبذب في القبول ، وفيه أعظم العتو والاستكبار.
وهذا لو صدر عن المؤمنين لكان الذنب فيه أكثف والإثم فيه أعظم فما ذا يصنع المؤمن بنزول الآية السماوية وهو مؤمن وخاصة إذا كان ممن شاهد آيات الله فآمن عن مشاهدتها؟ وهل هو إلا أشبه شيء بما يقترحه أرباب الهوى والمترفون في مجالس الأنس وحفل التفكه من المشعوذين أو أصحاب الرياضات العجيبة أن يطيبوا عيشهم بإتحافهم بأعجب ما يقدرون عليه من الشعبذة والأعمال الغريبة ؟.
والذي يفيده ظاهر قوله تعالى : {إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً} أنهم اقترحوا على المسيح (عليه السلام) أن يريهم آية خاصة وهم حواريوه المختصون به وقد رأوا تلك الآيات الباهرة والكرامات الظاهرة فإنه (عليه السلام) لم يرسل إلى قومه إلا بالآيات المعجزة كما يعطيه قوله تعالى : {وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ} الخ [ آل عمران : 49] .
وكيف يتصور في من آمن بالمسيح (عليه السلام) أن لا يعثر منه على آية وهو (عليه السلام) بنفس وجوده آية خلقه الله من غير أب وأيده بروح القدس يكلم الناس في المهد وكهلا ولم يزل مكرما بآية بعد آية حتى رفعه الله إليه وختم أمره بأعجب آية .
فاقتراحهم آية اختاروها لأنفسهم بعد هاتيك الآيات على كثرتها من قبيل اقتراح الآية بعد الآية وقد ركبوا أمرا عظيما ولذلك وبخهم عيسى (عليه السلام) بقوله :{اتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}.
ولذلك بعينه وجهوا ما اقترحوا عليه وفسروا قولهم ثانيا بما يكسر سورة ما أوهمه إطلاق كلامهم ، ويزيل عنه تلك الحدة فقالوا : {نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ} فضموا إلى غرض الأكل أغراضا أخر يوجه اقتراحهم ، يريدون به أن اقتراحهم هذا ليس من قبيل التفكه بالأمور العجيبة والعبث بآيات الإلهية بل له فوائد مقصودة : من كمال علمهم وإزالة خطرات السوء من قلوبهم وشهادتهم عليها.
لكنهم مع ذلك لم يتركوا ذكر إرادة الأكل ومنه كانت الخطيئة ولو قالوا : {نريد أن نأكل منها فتطمئن قلوبنا ، إلخ} لم يلزمهم ما لزمهم إذ قالوا : {نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا} إلخ فإن الكلام الأول يقطع جميع منابت التهوس والمجازفة دون الثاني.
ولما ألحوا عليه أجابهم عيسى عليه السلام إلى ما اقترحوا عليه والتمسوه وسأل ربه أن يكرمهم بها ، وهي معجزة مختصة في نوعها بأمته لأنها الآية الوحيدة التي نزلت إليهم عن اقتراح في أمر غير لازم ظاهرا وهو أكل المؤمنين منها ، ولذلك عنونها عليه السلام عنوانا يصلح به أن يوجه الوجه بسؤاله إلى ساحة العظمة والكبرياء فقال : {اللهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا} فعنونها بعنوان العيدية ، والعيد عند قوم هو اليوم الذي نالوا فيه موهبة أو مفخرة مختصة بهم من بين الناس ، وكان نزول المائدة عليهم منعوتا بهذا النعت.
ولما سأل عيسى ربه ما سأل ـ وحاشاه أن يسأل إلا ما يعلم أن من المرجو استجابته وأن ربه لا يمقته ولا يفضحه ، وحاشا ربه أن يرده خائبا في دعائه ـ استجاب له ربه دعاءه غير أنه شرط فيها لمن يكفر بها عذابا يختص به من بين جميع الناس كما أن الآية آية خاصة بهم لا يشاركهم في نوعها غيرهم من الأمم فقال الله سبحانه {إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ} ، هذا .
قوله تعالى : {إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ} {إِذْ} ظرف متعلق بمقدر والتقدير اذكر إذ قال (إلخ) ، أو ما يقرب منه ، وذهب بعضهم إلى أنه متعلق بقوله في الآية السابقة : {قالُوا آمَنَّا} ، إلخ} أي قال الحواريون : آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون في وقت قالوا فيه لعيسى : {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ} والمراد أنهم ما كانوا على صدق في دعواهم ، ولا على جد في إشهادهم عيسى عليه السلام على إسلامهم له.
وفيه أنه مخالف لظاهر السياق ، وكيف يكون إيمانهم غير خالص؟ وقد ذكر الله أنه هو أوحى إليهم أن آمنوا بي وبرسولي وهو تعالى يمتن بذلك على عيسى (عليه السلام) ؛ على أنه لا وجه حينئذ للإظهار في قوله : {إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ} إلخ .
و {المائدة} الخوان إذا كان فيه طعام ، قال الراغب : والمائدة الطبق الذي عليه الطعام ، ويقال لكل واحدة منهما مائدة ، ويقال : مادني يميدني أي أطعمني ، انتهى.
ومتن السؤال الذي حكي عنهم في الآية وهو قولهم : {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ} بحسب ظاهر ما يتبادر من معناه مما يستبعد العقل صدوره عن الحواريين وهم أصحاب المسيح وتلامذته وأخصاؤه الملازمون له المقتبسون من أنوار علومه ومعارفه المتبعون آدابه وآثاره ، والإيمان بأدنى مراتبه ينبه الإنسان على أن الله سبحانه على كل شيء قدير ، لا يجوز عليه العجز ولا يغلبه العجز ؛ فكيف جاز أن يستفهموا رسولهم عن استطاعة ربه على إنزال مائدة من السماء.
ولذلك قرأ الكسائي من السبعة : (هل تستطيع ربك) بتاء المضارعة ونصب (ربك) على المفعولية أي هل تستطيع أنت أن تسأل ربك ، فحذف الفعل الناصب للمفعول وأقيم (تستطيع) مقامه ، أو أنه مفعول لفعل محذوف فقط.
وقد اختلف المفسرون في توجيهه على بناء من أكثريهم على أن المراد به غير ما يتبادر من ظاهره من الشك في قدرة الله سبحانه لنزاهة ساحتهم من هذا الجهل السخيف.
وأوجه ما يمكن أن يقال هو أن الاستطاعة في الآية كناية عن اقتضاء المصلحة ووقوع الإذن كما أن الإمكان والقدرة والقوة يكنى بها عن ذلك كما يقال : {لا يقدر الملك أن يصغي إلى كل ذي حاجة} بمعنى أن مصلحة الملك تمنعه من ذلك وإلا فمطلق الإصغاء مقدور له ، ويقال : {لا يستطيع الغني أن يعطي كل سائل} أي مصلحة حفظ المال لا تقتضيه ، ويقال : {لا يمكن للعالم أن يبث كل ما يعلمه} أي يمنعه عن ذلك مصلحة الدين أو مصلحة الناس والنظام الدائر بينهم ، ويقول أحدنا لصاحبه : (هل تستطيع أن تروح معي إلى فلان) ؟ وإنما السؤال عن الاستطاعة بحسب الحكمة والمصلحة لا بحسب أصل القدرة على الذهاب ، هذا.
وهناك وجوه أخرى ذكروها :
منها : أن هذا السؤال لأجل تحصيل الاطمئنان بإيمان العيان لا للشك في قدرة الله سبحانه فهو على حد قول إبراهيم (عليه السلام) فيما حكى الله عنه : {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي}.
وفيه : أن مجرد صحة أن تسأل الآية لزيادة الإيمان واطمئنان القلب لا يصحح حمل سؤالهم عليه ولم تثبت عصمتهم كإبراهيم (عليه السلام) حتى تكون دليلا منفصلا يوجب حمل كلامهم على ما لا حزازة فيه بل الدليل على خلافه حيث لم يقولوا : نريد أن نأكل منها فتطمئن قلوبنا كما قال إبراهيم عليه السلام : {بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} بل قالوا : {نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا} فعدوا الأكل بحيال نفسه غرضا.
على أن هذا الوجه إنما يستدعي تنزه قلوبهم عن شائبة الشك في قدرة الله سبحانه وأما حزازة ظاهر الكلام فعلى حالها.
على أنه قد تقدم في تفسير قوله تعالى : {وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى} الخ [ البقرة : 260] أن مراده عليه السلام لم يكن مشاهدة تلبس الموتى بالحياة بعد الموت كما عليه بناء هذا الوجه ولو كان كذلك لكان من قبيل طلب الآية بعد العيان وهو في مقام المشافهة مع ربه بل مراده مشاهدة كيفية الإحياء بالمعنى الذي تقدم بيانه.
ومنها : أنه سؤال عن الفعل دون القدرة عليه فعبر عنه بلازمه .
وفيه : أنه لا دليل عليه ، ولو سلم فإنه إنما ينفي عنهم الجهل بالقدرة المطلقة الإلهية وأما منافاة إطلاق اللفظ للأدب العبودي فعلى حالها .
ومنها : أن في الكلام حذفا تقديره : هل تستطيع سؤال ربك ؟ ويدل عليه قراءة هل تستطيع ربك والمعنى : هل تستطيع أن تسأله من غير صارف يصرفك عن ذلك.
وفيه أن الحذف والتقدير لا يعيد لفظة {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ} إلى قولنا هل تستطيع سؤال ربك بأي وجه فرض لمكان اختلاف الفعل في القراءتين بالغيبة والحضور ، والتقدير لا يحول الغيبة إلى الخطاب البتة ، وإن كان ولا بد فليقل : أنه من قبيل إسناد الفعل المنسوب إلى عيسى (عليه السلام) إلى ربه من جهة أن فعله فعل الله أو أن كل ما له (عليه السلام) فهو لله سبحانه ، وهذا الوجه مع كونه فاسدا من جهة أن الأنبياء والرسل إنما ينسب من أفعالهم إلى الله ما لا يستلزم نسبته إليه النقص والقصور في ساحته تعالى كالهداية والعلم ونحوهما ، وأما لوازم عبوديتهم وبشريتهم كالعجز والفقر والأكل والشرب ونحو ذلك فمما لا تستقيم نسبته إليه تعالى البتة فمشكلة ظاهر اللفظ على حالها.
ومنها : أن الاستطاعة هنا بمعنى الإطاعة والمعنى : هل يطيعك ربك ويجيب دعاءك إذا سألته ذلك ، وفيه : أنه من قبيل تبديل المشكل بما هو أشكل فإن الاستفهام عن إطاعة الله سبحانه لرسوله وانقياده له أشنع وأفظع من الاستفهام عن استطاعته.
وقد انتصر بعضهم لهذا الوجه فقال في تقريره ما محصله : أن الاستطاعة والإطاعة من مادة الطوع مقابل الكره فإطاعة الأمر فعله عن رضى واختيار ، والاستفعال في هذه المادة كالاستفعال في مادة الإجابة فإذا كان معنى استجابة : أجاب دعاءه أو سؤاله فمعنى استطاعة : أطاعه أي أنه انقاد له وصار في طوعه أو طوعا له ، والسين والتاء في المادتين على أشهر معانيهما وهو الطلب ، ولكنه طلب دخل على فعل محذوف دل عليه المذكور المترتب على المحذوف ، ومعنى استطاع الشيء : طلب وحاول أن يكون ذلك الشيء طوعا له فأطاعه وانقاد له ، ومعنى استجاب : سئل شيئا وطلب منه أن يجيب إليه فأجاب.
قال : فبهذا الشرح الدقيق تفهم صحة قول من قال من المفسرين : إن {يَسْتَطِيعُ} هنا بمعنى يطيع وإن معنى يطيع : يفعل مختارا راضيا غير كاره فصار حاصل معنى الجملة : هل يرضى ربك ويختار أن ينزل علينا مائدة من السماء إذا نحن سألناه أو سألته لنا ذلك ، انتهى .
وفيه أولا : أنه لم يأت بشيء دون أن قاس استطاع باستجاب ثم أعطى هذا معنى ذاك وهو قياس في اللغة ممنوع.
وثانيا : أن كون الاستطاعة والإطاعة راجعين بحسب المادة إلى الطوع مقابل الكره لا يستلزم وجوب جريان الاستعمال على رعاية معنى المادة الأصلية في جميع التطورات الطارئة عليها فكثير من المواد هجرت خصوصية معناها الأصلي في ما عرضها من الهيئات الاشتقاقية نظير ضرب وأضرب وقبل وأقبل وقبل وقابل واستقبل بحسب التبادر الاستعمالي.
واعتبار المادة الأصلية في البحث عن الاشتقاقات اللغوية لا يراد به إلا الاستعلام مبلغ ما يعيش المادة الأصلية بين مشتقاتها بحسب عروض تطورات الاشتقاق عليها ، أو انقضاء أمد حياتها بحسب المعنى وتبدله إلى معنى آخر لا أن يلغى حكم التطورات ويحفظ المعنى الأصلي ما جرى اللسان ، فافهم ذلك.
فالاعتبار في اللفظ بما يفيده بحسب الاستعمال الدائر الحي لا بما تفيده المادة اللغوية وقد استعمل لفظ الاستطاعة في كلامه تعالى في أزيد من أربعين موضعا ، وهو في الجميع بمعنى القدرة ، واستعمل لفظ الإطاعة فيما يقرب من سبعين موضعا وهو في الجميع بمعنى الانقياد ، واستعمل لفظ الطوع فيما استعمل وهو مقابل الكره ؛ فكيف يسوغ أن يؤخذ لفظ يستطيع بمعنى يطيع ثم يطيع بمعنى الطوع ثم يحكم بأن يستطيع في الآية بمعنى يرضى ؟.
وأما حديث أجاب واستجاب فقد استعملا معا في كلامه تعالى بمعنى واحد وورد استعمال الاستجابة في موارد هي أضعاف ما استعملت فيه الإجابة فإنك تجد الاستجابة فيما يقرب من ثلاثين موضعا ، ولا تجد الإجابة في أكثر من عشرة مواضع فكيف يقاس عليها أطاع واستطاع ؟.
وكونهما بمعنى واحد ليس إلا لانطباق عنايتين مختلفتين على مورد واحد فمعنى أجاب أن الجواب تجاوز عن المسئول إلى السائل ، ومعنى استجاب أن المسئول طلب من نفسه الجواب فأداه إلى السائل .
ومن هنا يظهر أن الذي فسر به الاستجابة وهو قوله : (ومعنى استجاب سئل شيئا وطلب منه أن يجيب إليه فأجاب) ليس على ما ينبغي فإن باب الاستفعال هو طلب (فعل) لا طلب (افعل) وهو ظاهر.
وثالثا : أن السياق لا يلائم هذا المعنى إذ لو كان معنى قولهم : {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ} إنه هل يرضى ربك أن نسأله نحن أو تسأله أنت أن ينزل علينا مائدة من السماء ، وكان غرضهم من هذا السؤال أو النزول أن يزدادوا إيمانا ويطمئنوا قلبا فما وجه توبيخ عيسى (عليه السلام) لهم بقوله : {اتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}؟ وما وجه وعيده تعالى الكافرين بها بعذاب لا يعذبه أحدا من العالمين ، وهم لم يقولوا إلا حقا ولم يسألوا إلا مسألة مشروعة ، وقد قال تعالى : {وَسْئَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ} [ النساء : 32] .
قوله تعالى : {قالَ اتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} توبيخ منه (عليه السلام) لهم لما يشتمل عليه ظاهر كلامهم من الاستفهام عن استطاعة ربه على إنزال المائدة فإن كلامهم مريب على أي حال.
وأما على ما قدمناه من أن الأصل في مؤاخذتهم الذي يترتب عليه الوعيد الشديد في آخر الآيات هو أنهم سألوا آية حيث لا حاجة إليها واقترحوا بما في معنى العبث بآيات الله سبحانه ، ثم تعبيرهم بما يتبادر من ظاهره كونهم كأنهم لم يعقدوا قلوبهم على القدرة الربوبية فوجه توبيخه (عليه السلام) لهم بقوله : {اتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} أظهر.
قوله تعالى : {قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ} السياق ظاهر في أن قولهم هذا عذر اعتذروا به للتخلص من توبيخه (عليه السلام) وما ذكروه ظاهر التعلق باقتراحهم الآية بنزول المائدة دون ما يظهر من قولهم : {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ} ، من المعنى الموهم للشك في إطلاق القدرة ، وهذا أيضا أحد الشواهد على أن ملاك المؤاخذة في المقام هو أنهم سألوا آية على آية من غير حاجة إليها .
وأما قولهم : {نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها}، إلخ فقد عدوا في بيان غرضهم من اقتراح الآية أمورا أربعة :
أحدها : الأكل وكان مرادهم بذكره أنهم ما أرادوا به اللعب بآيات الله بل أرادوا أن يأكلوا منها ، وهو غرض عقلائي ، وقد تقدم أن هذا القول منهم كالتسليم لاستحقاقهم التوبيخ من عيسى عليه السلام والوعيد الشديد من الله لمن يكفر منهم بآية المائدة.
وذكر بعضهم : أن المراد بذكر الأكل إبانة أنهم في حاجة شديدة إلى الطعام ولا يجدون ما يسد حاجتهم. وذكر آخرون أن المراد نريد أن نتبرك بأكله. وأنت تعلم أن المعنى الذي قرر في كل من هذين الوجهين أمر لا يدل عليه مجرد ذكر الأكل ، ولو كان مرادهم ذلك وهو أمر يدفع به التوبيخ لكان مقتضى مقام الاعتذار التصريح بذكره ، وحيث لم يذكر شيء من ذلك مع حاجة المقام إلى ذكره لو كان مرادا فليس المراد بالأكل إلا مطلق معناه من حيث إنه غرض عقلائي هو أحد أجزاء غرضهم في اقتراح نزول المائدة.
الثاني : اطمئنان القلب وهو سكونه باندفاع الخطورات المنافية للخلوص والحضور.
والثالث : العلم بأنه (عليه السلام) قد صدقهم فيما بلغهم عن ربه ، والمراد بالعلم حينئذ هو العلم اليقيني الذي يحصل في القلب بعد ارتفاع الخطورات والوساوس النفسانية عنه ، أو العلم بأنه قد صدقهم فيما وعدهم من ثمرات الإيمان كاستجابة الدعاء كما ذكره بعضهم ، لكن يبعده أن الحواريين ما كانوا يسألون إنزال المائدة من السماء إلا بدعاء عيسى (عليه السلام) ومسألته ، وبالجملة بإعجاز منه (عليه السلام) وقد كانوا رأوا منه (عليه السلام) آيات كثيرة فإنه (عليه السلام) لم يزل في حياته قرينا لآيات إلهية كبري ، ولم يرسل إلى قومه ولم يدعهم دعوة إلا مع آيات ربه فلم يزالوا يرون ثمرات إيمانه من استجابة الدعاء إن كان المراد الثمرة التي هي استجابة دعائه (عليه السلام) ، وإن كان المراد الثمرة التي هي استجابة دعائهم أنفسهم فإنهم لم يسألوا نزول الآية بدعاء أنفسهم ، ولم تنزل إلا بدعاء عيسى (عليه السلام).
الرابع : أن يكونوا عليها من الشاهدين عند ما يحتاج إلى الشهادة كالشهادة عند المنكرين ، والشهادة عند الله يوم القيامة ، فالمراد بها مطلق الشهادة ، ويمكن أن يكون المراد مجرد الشهادة عند الله سبحانه كما وقع في بعض قولهم الذي حكاه الله تعالى إذ قال : {رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [ال عمران ـ 53].
فقد تحصل أنهم ـ فيما اعتذروا به ـ ضموا أمورا جميلة مرضية إلى غرضهم الآخر الذي هو الأكل من المائدة السماوية ليحسموا به مادة الحزازة عن اقتراحهم الآية بعد مشاهدة الآيات الكافية فأجابهم عيسى (عليه السلام) إلى مسألتهم بعد الإصرار.
قوله تعالى : {قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} خلط (عليه السلام) نفسه بهم في سؤال المائدة ، وبدأ بنداء ربه بلفظ عام فقال : {اللهُمَّ رَبَّنا} وقد كانوا قالوا له : {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ} ليوافق النداء الدعاء.
وقد توحد هذا الدعاء من بين جميع الأدعية والمسائل المحكية في القرآن عن الأنبياء عليهم السلام بأن صدر {باللهم ربنا} وغيره من أدعيتهم مصدر بلفظ (رب) أو (ربنا) وليس إلا لدقة المورد وهول المطلع ، نعم يوجد في أقسام الثناء المحكية نظير هذا التصدير كقوله : {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ} [ النمل : 59 ] وقوله : {قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ} [ آل عمران : 26] وقوله : {قُلِ اللهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} [ الزمر : 46] .
ثم ذكر (عليه السلام) عنوانا لهذه المائدة النازلة هو الغرض له ولأصحابه من سؤال نزولها وهو أن تنزل فتكون عيدا له ولجميع أمته ، ولم يكن الحواريون ذكروا فيما اقترحوه أنهم يريدون عيدا يخصون به لكنه (عليه السلام) عنون ما سأله بعنوان عام وقلبه في قالب حسن ليخرج عن كونه سؤالا للآية مع وجود آيات كبري إلهية بين أيديهم وتحت مشاهدتهم ، ويكون سؤالا مرضيا عند الله غير مصادم لمقام العزة والكبرياء فإن العيد من شأنه أن يجمع الكلمة ، ويجدد حياة الملة ، وينشط نفوس العائدين ، ويعلن كلما عاد عظمة الدين.
ولذلك قال : {عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا} أي أول جماعتنا من الأمة وآخر من يلحق بهم ـ على ما يدل عليه السياق ـ فإن العيد من العود ولا يكون عيدا إلا إذا عاد حينا بعد حين ، وفي الخلف بعد السلف من غير تحديد.
وهذا العيد مما اختص به قوم عيسى (عليه السلام) كما اختصوا بنوع هذه الآية النازلة على ما تقدم بيانه.
وقوله : {وَآيَةً مِنْكَ} لما قدم مسألة العيد وهي مسألة حسنة جميلة لا عتاب عليها عقبها بكونها آية منه تعالى كأنه من الفائدة الزائدة المترتبة على الغرض الأصلي
غير مقصودة وحدها حتى يتعلق بها عتاب أو سخط ، وإلا فلو كانت مقصودة وحدها من حيث كونها آية لم تخل مسألتها من نتيجة غير مطلوبة فإن جميع المزايا الحسنة التي كان يمكن أن يراد بها كانت ممكنة الحصول بالآيات المشهودة كل يوم منه عليه السلام للحواريين وغيرهم.
وقوله : {وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} وهذه فائدة أخرى عدها مترتبة على ما سأله من العيد من غير أن تكون مقصودة بالذات ، وقد كان الحواريون ذكروه مطلوبا بالذات حيث قالوا : {نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها} فذكروه مطلوبا لذاته وقدموه على غيره ، لكنه عليه السلام عده غير مطلوب بالذات وأخره عن الجميع وأبدل لفظ الأكل من لفظ الرزق فأردفه بقوله {وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ}
والدليل على ما ذكرنا أنه (عليه السلام) جعل ما أخذوه أصلا فائدة مترتبة أنه سأل أولا لجميع أمته ونفسه ، وهو سؤال العيد الذي إضافة إلى سؤالهم فصار بذلك كونها آية من الله ورزقا وصفين خاصين للبعض دون البعض كالفائدة المترتبة غير الشاملة.
فانظر إلى أدبه (عليه السلام) البارع الجميل مع ربه ، وقس كلامه إلى كلامهم ـ وكلا الكلامين يؤمان نزول المائدة ـ تر عجبا فقد أخذ (عليه السلام) لفظ سؤالهم فأضاف وحذف ، وقدم وأخر ، وبدل وحفظ حتى عاد الكلام الذي ما كان ينبغي أن يوجه به إلى حضرة العزة وساحة العظمة أجمل كلام يشتمل على أدب العبودية ، فتدبر في قيود كلامه (عليه السلام) تر عجبا.
قوله تعالى : {قالَ اللهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ} قرأ أهل المدينة والشام وعاصم {مُنَزِّلُها} بالتشديد والباقون {مُنَزِّلُها} بالتخفيف ـ على ما في المجمع ـ ، والتخفيف أوفق لأن الإنزال هو الدال على النزول الدفعي ، وكذلك نزلت المائدة ، وأما التنزيل فاستعماله الشائع إنما هو في النزول التدريجي كما تقدم كرارا.
وقوله تعالى : {إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ} وعد صريح بالإنزال وخاصة بالنظر إلى الإتيان به في هيئة اسم الفاعل دون الفعل ، ولازم ذلك أن المائدة قد نزلت عليهم .
وذكر بعض المفسرين أنها لم تنزل كما روي ذلك في الدر المنثور ، ومجمع البيان ، وغيرهما عن الحسن ومجاهد : قالا : إنها لم تنزل وإن القوم لما سمعوا الشرط استعفوا عن نزولها وقالوا : لا نريدها ولا حاجة لنا فيها فلم تنزل.
والحق أن الآية ظاهرة الدلالة على النزول فإنها تتضمن الوعد الصريح بالنزول وحاشاه تعالى أن يجود لهم بالوعد الصريح وهو يعلم أنهم سيستعفون عنها فلا تنزل ، والوعد الذي في الآية صريح والشرط الذي في الآية يتضمن تفرع العذاب وترتبه على الكفر بعد النزول ، وبعبارة أخرى : الآية تتضمن الوعد المطلق بالإنزال ثم تفريع العذاب على الكفر لا أنها تشتمل على الوعد بالإنزال على تقدير قبولهم العذاب على الكفر ، حتى يرتفع موضوع الوعد عند عدم قبولهم الشرط فلا تنزل المائدة باستعفائهم عن نزولها ، فافهم.
وكيف كان فاشتمال وعده تعالى بإنزال المائدة على الوعيد الشديد بعذاب الكافرين بها منهم ليس ردا لدعاء عيسى (عليه السلام) وإنما هو استجابة له غير أنه لما كان ظاهر الاستجابة بعد الدعاء ـ على ما له من السياق ـ أن هذه الآية تكون رحمة مطلقة منه لهم يتنعم بها آخرهم وأولهم ، قيد تعالى هذا الإطلاق بالشرط الذي شرط عليهم ، ومحصله أن هذا العيد الذي خصهم الله به لا ينتفع به جميعهم بل إنما ينتفع به المؤمنون المستمرون على الإيمان منهم ، وأما الكافرون بها فيستضرون بها أشد الضرر.
فالآيتان في كلامه تعالى من حيث إطلاق الدعاء بحسب لازمه وتقييد الاستجابة كقوله تعالى : {وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [ البقرة ـ 124] وقوله تعالى حكاية عن موسى (عليه السلام) : {أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ ، وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ} [ الأعراف : 156] .
وقد عرفت فيما تقدم أن السبب الأصلي في هذا العذاب الموعود الذي يختص بهم إنما هو اقتراحهم آية هي في نوعها مختصة بهم لا يشاركهم فيها غيرهم من الأمم فإذا أجيبوا إلى ذلك أوعدوا على الكفر عذابا لا يشاركهم فيها غيرهم كما شرفوا بمثل ذلك .
ومن هنا يظهر أن المراد بالعالمين عالمو جميع الأمم عالمو زمانهم فإن ذلك مرتبطا بمن يمتازون عنهم من الناس وهم جميع الأمم لا أهل زمان عيسى (عليه السلام) خاصة من أمم الأرض .
ومن هناك يظهر أيضا أن قوله {فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ} وإن كان وعيدا شديدا بعذاب بئيس لكن الكلام غير ناظر إلى كون العذاب فوق جميع العذابات والعقوبات في الشدة والألم ، وإنما هو مسوق لبيان انفراد العذاب في بابه ، واختصاصهم من بين الأمم به .
__________________________
1. تفسير الميزان ، ج6 ، ص 185-197 .
تذكر الآية نزول المائدة من السماء : {إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ}.
«المائدة» تعني في اللغة الخوان والسفرة والطبق ، كما تعني الطعام الذي يوضع عليها وأصلها من «ميد» بمعنى التحرك والاهتزاز ، ولعل سبب إطلاق لفظة المائدة على السفرة والطعام هو ما يلازمها من تحريك وانتقال.
شعر المسيح عليه السلام بالقلق من طلب الحواريين هذا الذي يدل على الشك والتردد ، على الرغم من كل تلك الأدلة والآيات ، فخاطبهم و {قالَ اتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}.
ولكنّهم سرعان ما أكّدوا للمسيح عليه السلام أن هدفهم بريء ، وأنّهم لا يقصدون العناد واللجاج ، بل يريدون الأكل منها (مضافا إلى الحالة النّورانية في قلوبهم المترتبة على تناول الغذاء السماوي لأنّ للغذاء ونوعيته اثر مسلّم في روح الإنسان) {قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا ، وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ}.
فبيّنوا قصدهم أنّهم طلبوا المائدة للطعام ، ولتطمئن قلوبهم به لما سيكون لهذا الطعام الإلهي من أثر في الروح ومن زيادة في الثقة واليقين.
ولمّا أدرك عيسى عليه السلام حسن نيّتهم في طلبهم ذاك ، عرض الأمر على الله : {قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ}.
من الواضح هنا أنّ الأسلوب الذي عرض به عيسى بن مريم الأمر على الله كان أليق وأنسب ، ويحكي عن روح البحث عن الحقيقة ورعاية الشؤون العامّة للمجتمع.
فاستجاب الله لهذا الطلب الصادر عن حسن نية وإخلاص ، {قالَ اللهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ}.
فبعد نزول المائدة تزداد مسئوليات هؤلاء وتقوى الحجة عليهم ، ولذلك فإنّ العقاب سيزداد أيضا في حالة الكفر والانحراف .
__________________________
1. تفسير الأمثل ، ج3 ، ص 662 – 663 .
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
مكتبة أمّ البنين النسويّة تصدر العدد 212 من مجلّة رياض الزهراء (عليها السلام)
|
|
|