أقرأ أيضاً
التاريخ: 24-9-2017
9518
التاريخ: 25-9-2017
48345
التاريخ: 24-9-2017
7401
التاريخ: 24-9-2017
31484
|
قال تعالى : {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوكَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9) وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (11) لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (12) لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (13) لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَومِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (14) كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الحشر: 10 - 15].
ثم ثنى سبحانه بوصف الأنصار ومدحهم حتى طابت أنفسهم عن الفيء فقال {والذين تبوأوا الدار} يعني المدينة وهي دار الهجرة تبوأها الأنصار قبل المهاجرين وتقدير الآية والذين تبوأوا الدار من قبلهم {والإيمان} لأن الأنصار لم يؤمنوا قبل المهاجرين وعطف الإيمان على الدار في الظاهر لا في المعنى لأن الإيمان ليس بمكان يتبوأ والتقدير وآثروا الإيمان وقيل {من قبلهم} أي من قبل قدوم المهاجرين عليهم وقيل معناه قبل إيمان المهاجرين والمراد به أصحاب ليلة العقبة وهم سبعون رجلا بايعوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) على حرب الأبيض والأحمر {يحبون من هاجر إليهم} لأنهم أحسنوا إلى المهاجرين وأسكنوهم دورهم وأشركوهم في أموالهم {ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا} أي لا يجدون في قلوبهم حسدا وحزازة وغيظا مما أعطي المهاجرون دونهم من مال بني النضير.
{ويؤثرون على أنفسهم} أي ويؤثرون المهاجرين ويقدمونهم على أنفسهم بأموالهم ومنازلهم {ولوكان بهم خصاصة} أي فقر وحاجة بين سبحانه أن إيثارهم لم يكن عن غنى عن المال ولكن كان عن حاجة فيكون ذلك أعظم لأجرهم وثوابهم عند الله ويروى أن أنس بن مالك كان يحلف بالله تعالى ما في الأنصار بخيل ويقرأ هذه الآية {ومن يوق شح نفسه} أي ومن يدفع عنه ويمنع عنه بخل نفسه {فأولئك هم المفلحون} أي المنجحون الفائزون بثواب الله ونعيم جنته وقيل من لم يأخذ شيئا نهاه الله عنه ولم يمنع شيئا أمره الله بأدائه فقد وقى شح نفسه عن ابن زيد وقيل شح النفس هو أخذ الحرام ومنع الزكاة عن سعيد بن جبير وفي الحديث لا يجتمع الشح والإيمان في قلب رجل مسلم ولا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم في جوف رجل مسلم وقيل في موضع قوله {والذين تبوأوا الدار} قولان {أحدهما} أنه رفع على الابتداء وخبره {يحبون من هاجر إليهم} إلى آخره لأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) لم يقسم لهم شيئا من الفيء إلا لرجلين أو لثلاثة على اختلاف الرواية فيه {والآخر} أنه في موضع جر عطفا على الفقراء المهاجرين وعلى هذا فيكون قوله {يحبون من هاجر إليهم} وما بعده في موضع نصب على الحال.
ثم ثلث سبحانه بوصف التابعين فقال {والذين جاءوا من بعدهم} يعني من بعد المهاجرين والأنصار وهم جميع التابعين لهم إلى يوم القيامة عن الحسن وقيل هم كل من أسلم(2) بعد انقطاع الهجرة وبعد إيمان الأنصار عن الأصم وأبي مسلم والظاهر أن المراد والذين خلفوهم ويجوز أن يكون المراد من بعدهم في الفضل وقد يعبر بالقبل والبعد عن الفضل كقول النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) نحن الآخرون السابقون أي الآخرون في الزمان السابقون في الفضل {يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان} أي يدعون ويستغفرون لأنفسهم ولمن سبقهم بالإيمان.
{ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا} أي حقدا وغشا وعداوة سألوا الله سبحانه أن يزيل ذلك بلطفه وهاهنا احتراز لطيف وهو أنهم أحسنوا الدعاء للمؤمنين ولم يرسلوا القول إرسالا والمعنى أعصمنا ربنا من إرادة السوء بالمؤمنين ولا شك أن من أبغض مؤمنا وأراد به السوء لأجل إيمانه فهو كافر وإذا كان لغير ذلك فهو فاسق {ربنا إنك رءوف رحيم} أي متعطف على العباد منعم عليهم .
ولما وصف سبحانه المهاجرين الذين هاجروا الديار والأوطان ثم مدح الأنصار الذين تبوؤا الدار والإيمان ثم ذكر التابعين بإحسان وما يستحقونه من النعيم في الجنان عقب ذلك بذكر المنافقين وما أسروه من الكفر والعصيان فقال {أ لم تر} يا محمد {إلى الذين نافقوا} فأبطنوا الكفر وأظهروا الإيمان {يقولون لإخوانهم} في الكفر {الذين كفروا من أهل الكتاب} يعني يهود بني النضير {لئن أخرجتم} من دياركم وبلادكم {لنخرجن معكم} مساعدين لكم {ولا نطيع فيكم} أي في قتالكم ومخاصمتكم {أحدا أبدا} يعنون محمدا (صلى الله عليه وآله وسلّم) وأصحابه ووعدوهم النصر بقولهم {وإن قوتلتم لننصرنكم} أي لندفعن عنكم ثم كذبهم الله في ذلك بقوله {والله يشهد إنهم لكاذبون} فيما يقولونه من الخروج معهم والدفاع عنهم.
ثم أخبر سبحانه أنهم يخلفونهم ما وعدوه من النصر والخروج بقوله {لئن أخرجوا لا يخرجون معهم ولئن قوتلوا لا ينصرونهم ولئن نصروهم} أي ولئن قدر وجود نصرهم لأن ما نفاه الله تعالى لا يجوز وجوده {ليولن الأدبار} أي ينهزمون ويسلمونهم وقيل معناه لئن نصرهم من يفي منهم لولوا الأدبار فعلى هذا لا تنافي بين قوله {لا ينصرونهم} وقوله {لئن نصروهم} فقد أخبر الله تعالى في هذه الآية عما لا يكون منهم أن لوكان كيف كان يكون {ثم لا ينصرون} أي ولوكان لهم هذه القوة وفعلوا لم ينتفع أولئك بنصرتهم نزلت الآية قبل إخراج بني النضير وأخرجوا بعد ذلك وقوتلوا فلم يخرج معهم منافق ولم ينصروهم كما أخبر الله تعالى بذلك وقيل أراد بقوله {لإخوانهم} بني النضير وبني قريظة فأخرج بنو النضير ولم يخرجوا معهم وقوتل بنو قريظة فلم ينصروهم.
ثم خاطب سبحانه المؤمنين فقال {لأنتم أشد رهبة} أي خوفا {في صدورهم} أي في قلوب هؤلاء المنافقين {من الله} المعنى أن خوفهم منكم أشد من خوفهم من الله لأنهم يشاهدونكم ويعرفونكم ولا يعرفون الله وهو قوله {ذلك بأنهم قوم لا يفقهون} الحق ولا يعلمون عظمة الله وشدة عقابه {لا يقاتلونكم} معاشر المؤمنين {جميعا إلا في قرى محصنة} أي ممتنعة حصينة المعنى أنهم لا يبرزون لحربكم وإنما يقاتلونكم متحصنين بالقرى {أومن وراء جدر} أي يرمونكم من وراء الجدران بالنبل والحجر.
{بأسهم بينهم شديد} أي عداوة بعضهم لبعض شديدة يعني أنهم ليسوا بمتفقي القلوب وقيل معناه قوتهم فيما بينهم شديدة فإذا لاقوكم جبنوا ويفزعون(3) منكم بما قذف الله في قلوبهم من الرعب {تحسبهم جميعا} أي مجتمعين في الظاهر {وقلوبهم شتى} أي مختلفة متفرقة خذلهم الله باختلاف كلمتهم وقيل إنه عنى بذلك قلوب المنافقين وأهل الكتاب عن مجاهد {ذلك بأنهم قوم لا يعقلون} ما فيه الرشد مما فيه الغي وإنما كان قلوب من يعمل بخلاف العقل شتى لاختلاف دواعيهم وأهوائهم وداعي الحق واحد وهو العقل الذي يدعو إلى طاعة الله والإحسان في الفعل.
{كمثل الذين من قبلهم قريبا} أي مثلهم في اغترارهم بعددهم وبقوتهم وبقول المنافقين كمثل الذين من قبلهم يعني المشركين الذين قتلوا ببدر وذلك قبل غزاة بني النضير لستة أشهر عن الزهري وغيره وقيل إن الذين من قبلهم قريبا هم بنو قينقاع عن ابن عباس وذلك أنهم نقضوا العهد مرجع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) من بدر فأمرهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) أن يخرجوا وقال عبد الله بن أبي لا تخرجوا فإني آتي النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) فأكلمه فيكم أو أدخل معكم الحصن فكان هؤلاء أيضا في إرسال عبد الله بن أبي إليهم ثم ترك(4) نصرتهم كأولئك {ذاقوا وبال أمرهم} أي عقوبة كفرهم {ولهم عذاب أليم} في الآخرة .
____________________
1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج9 ، ص433-437.
2-في المخطوطة : من اسلم قبل...
3-في نسخة : تفرقوا ، وفي اخرى : يفرقون بدل ((يفزعون)).
4- في المخطوطة : ثم تركه.
بعد أن بيّن سبحانه منزلة المهاجرين بيّن منزلة الأنصار بقوله :
1 – {والَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ والإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ } . المراد بالدار هنا المدينة المنورة ، وتبوأوها أي سكنوها واستوطنوها ، والمعنى ان الأنصار ، وهم أهل المدينة آووا النبي ومن هاجر معه ، وقاموا بواجب الضيافة على أكمل وجه ، وأخلصوا للمهاجرين وواسوهم بأنفسهم بل وآثروهم عليها كما تأتي الإشارة ، ومن الآيات التي نزلت في فضل الأنصار قوله تعالى : {والَّذِينَ آوَوْا ونَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ ورِزْقٌ كَرِيمٌ} - 74 الأنفال .
2 – {ولا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا} . كان المهاجرون في بدء الأمر أفقر الناس في المدينة يلاقون فيها المشقة والجهد : ولولا الأنصار لهلكوا جوعا ، وكان النبي (صلى الله عليه واله وسلم) يعطي الصدقات للفقراء ولا يعطي منها الأغنياء والقادرين على الكسب ، ولذا كان يفضل المهاجرين على الأنصار في العطاء ، وربما خصهم بالغنيمة من دونهم ، وكان الأنصار يرضون عن ذلك ويرون انه الحق ، فسجل سبحانه لهم هذه المنقبة في كتابه العزيز .
3 – {ويُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ ولَوكانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ} . والإيثار على النفس مع الحاجة لا يعادله شيء إلا التضحية بالنفس . وفي التفاسير وكتب الحديث :
ان رسول اللَّه (صلى الله عليه واله وسلم) قال للأنصار عند تقسيم بعض الغنائم : ان شئتم أن تكون هذه الغنيمة بينكم وبين المهاجرين على أن تشاركوهم في أموالكم ، وان شئتم كانت لكم أموالكم ، ولهم هذه الغنيمة وحدهم . فقال الأنصار : بل نترك لهم الغنيمة ونقسم لهم من أموالنا يا رسول اللَّه . فدعا النبي (صلى الله عليه واله وسلم) لهم وقال : اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار {ومَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} . الشح من أمهات الرذائل ، فمن استجاب له عاقه عن كل خير ، ومن تغلَّب عليه ونزّه نفسه عنه فقد وقاها من الأسواء والمخاطر .
{والَّذِينَ جاؤُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ولإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالإِيمانِ} . الضمير في بعدهم يعود إلى المهاجرين والأنصار معا ، والمراد بالذين جاؤوا من بعدهم كل من سار بسيرتهم إلى يوم القيامة ، ولا وجه للتخصيص
بالتابعين لأن العبرة بالأعمال لا بالأمكنة والأزمنة ، وما بلغ الصحابة إلى منزلة الكرامة عند اللَّه إلا لأنهم استمعوا القول فاتبعوا أحسنه {ولا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا} . مستحيل أن يجتمع الايمان والغل على المؤمن في قلب واحد . .
كيف ؟ وهل يغل الإنسان ويحقد على نفسه {رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} بعبادك الذين نزّهوا دينهم وقلوبهم عن الغل والنفاق .
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ ولا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ} . المراد بأهل الكتاب هنا بنو النضير ، وهم إخوة المنافقين في الكفر وعداوة الرسول ، وتشير الآية إلى حادثة معينة ، وهي ان النبي {ص} حين أعلن الحرب على بني النضير قال لهم المنافقون ، وعلى رأسهم عبد اللَّه بن أبي : قاتلوا محمدا واصمدوا له ونحن عليه معكم ، ان قاتلكم قاتلناه ، وان أجلاكم عن المدينة نزحنا عنها معكم ، ولا نصغي لقول محمد وغيره {واللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ} في أقوالهم ومواعيدهم {لَئِنْ أُخْرِجُوا} - أي بنو النضير - {لا يَخْرُجُونَ} - أي المنافقون - {مَعَهُمْ ولَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ ولَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأَدْبارَ} . هذا هو شأن المنافق يخالف لسانه قلبه ، وقلبه فعله ، وعلانيته سره {ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ} ولا ينتفعون بمكر ولا نفاق .
{لأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ} . يخاف المنافقون من بأس المؤمنين لأنهم يتوقعون عاجل الشر في الدنيا ، ولا يتوقعون آجل العذاب في الآخرة {لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَومِنْ وَراءِ جُدُرٍ} . اليهود لا يجابهون المؤمنين وجها لوجه في ميدان القتال ، بل يقبعون في أحيائهم وقراهم ويتسترون وراء الحصون والجدران ، ويرشقون المؤمنين بالنبال والأحجار ، كما هو شأن الجبان الخائر .
{بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وقُلُوبُهُمْ شَتَّى} . انهم أقوياء في عدتهم وعددهم ، ولكن المصالح والأهواء فرقت بينهم ، فهم منحلون متخاذلون ، وان تظاهروا بالألفة والمحبة . . ولوانهم توادوا وتآزروا لبرزوا إليكم وقابلوكم في ميدان القتال أيها المسلمون ، ولم يقاتلوكم في قرى محصنة أومن وراء جدار .
وهذا عامّ في اليهود وغيرهم ، فإن الاتفاق قوة وان قلّ العدد وضعفت العدة ، والتخاذل وهن وذل لا يجدي معه عدد ولا عدة . . وقد شاهدنا انتصار أهل الباطل وهم أقلاء على المحقين وهم كثيرون ، والسر تفرّق هؤلاء عن حقهم ، واجتماع أولئك على باطلهم {ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ} بأن الوحدة سبب الفوز والنجاح ، والتفرقة سبب الفشل والخذلان {كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ ولَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ} . ان حال اليهود الذين نصبوا العداء لرسول اللَّه (صلى الله عليه واله وسلم) تماما كحال كفار قريش وغيرهم من الذين حاربوا الرسول حيث انتهوا إلى الخزي في الدنيا ، وفي الآخرة إلى عذاب الحريق .
____________________
1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج7 ، ص290-292.
قوله تعالى: {والذين تبوؤا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم} إلخ، قيل: إنه استئناف مسوق لمدح الأنصار لتطيب بذلك قلوبهم إذ لم يشركوا في الفيء، {والذين تبوؤا} - والمراد بهم الأنصار - مبتدأ خبره {يحبون} إلخ، والمراد بتبوي الدار وهو تعميرها بناء مجتمع ديني يأوي إليه المؤمنون على طريق الكناية، والإيمان معطوف على {الدار} وتبوي الإيمان وتعميره رفع نواقصه من حيث العمل بحيث يستطاع العمل بما يدعو إليه من الطاعات والقربات من غير حجر ومنع كما كان بمكة.
واحتمل أن يعطف {الإيمان} على تبوؤا وقد حذف الفعل العامل فيه، والتقدير: وآثروا الإيمان.
وقيل: إن قوله: {والذين تبوؤا} إلخ، معطوف على قوله: {المهاجرين} وعلى هذا يشارك الأنصار المهاجرين في الفيء، والإشكال عليه بأن المروي أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قسمه بين المهاجرين ولم يعط الأنصار منه شيئا إلا ثلاثة من فقرائهم مدفوع بأن الرواية من شواهد العطف دون الاستئناف إذ لولم يجز إعطاؤه للأنصار لم يجز لا - للثلاثة ولا للواحد فإعطاء بعضهم منه دليل على مشاركتهم لهم غير أن الأمر لما كان راجعا إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان له أن يصرفه كيف يشاء فرجح أن يقسمه بينهم على تلك الوتيرة.
والأنسب لما تقدم من كون {للفقراء} إلخ، بيانا لمصاديق سهم السبيل هو عطف {والذين تبوؤا} إلخ، وكذا قوله الآتي: {والذين جاءوا من بعدهم} على قوله: {المهاجرين} إلخ، دون الاستئناف.
بل ما ورد من إعطائه (صلى الله عليه وآله وسلم) للثلاثة يؤيد هذا الوجه بعينه إذ لوكان السهيم فيه الفقراء المهاجرين فحسب لم يعط الأنصار ولا لثلاثة منهم، ولوكان للفقراء من الأنصار كالمهاجرين فيه سهم - وظاهر الآية أن جمعا منهم كانوا فقراء بهم خصاصة والتاريخ يؤيده - لأعطى غير الثلاثة من فقراء الأنصار كما أعطى فقراء المهاجرين واستوعبهم.
فقوله: {والذين تبوؤا الدار والإيمان من قبلهم} ضمير {من قبلهم} للمهاجرين والمراد من قبل مجيئهم وهجرتهم إلى المدينة.
وقوله: {يحبون من هاجر إليهم} أي يحبون من هاجر إليهم لأجل هجرتهم من دار الكفر إلى دار الإيمان ومجتمع المسلمين.
وقوله: {ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا} ضميرا {يجدون} و{صدورهم} للأنصار، وضمير {أوتوا} للمهاجرين، والمراد بالحاجة ما يحتاج إليه ومن تبعيضية وقيل: بيانية والمعنى: لا يخطر ببالهم شيء مما أعطيه المهاجرون فلا يضيق نفوسهم من تقسيم الفيء بين المهاجرين دونهم ولا يحسدون.
وقيل: المراد بالحاجة ما يؤدي إليه الحاجة وهو الغيظ.
وقوله: {ويؤثرون على أنفسهم ولوكان بهم خصاصة} إيثار الشيء اختياره وتقديمه على غيره، والخصاصة الفقر والحاجة، قال الراغب: خصاص البيت فرجه وعبر عن الفقر الذي لم يسد بالخصاصة كما عبر عنه بالخلة انتهى.
والمعنى: ويقدمون المهاجرين على أنفسهم ولوكان بهم فقر وحاجة، وهذه الخصيصة أغزر وأبلغ في مدحهم من الخصيصة السابقة فالكلام في معنى الإضراب كأنه قيل: إنهم لا يطمحون النظر فيما بأيدي المهاجرين بل يقدمونهم على أنفسهم فيما بأيديهم أنفسهم في عين الفقر والحاجة.
وقوله: {ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون} قال الراغب: الشح بخل مع حرص فيما كان عادة انتهى.
و{يوق} فعل مضارع مجهول من الوقاية بمعنى الحفظ، والمعنى: ومن يحفظ - أي يحفظه الله - من ضيق نفسه من بذل ما بيده من المال أومن وقوع مال في يد غيره فأولئك هم المفلحون.
قوله تعالى: {والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان} استئناف أو عطف نظير ما تقدم في قوله: {والذين تبوؤا الدار والإيمان يحبون} وعلى الاستئناف فالموصول مبتدأ خبره قوله: {يقولون ربنا} إلخ.
والمراد بمجيئهم بعد المهاجرين والأنصار إيمانهم بعد انقطاع الهجرة بالفتح وقيل: المراد أنهم خلفوهم.
وقولهم: {ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان} دعاء لأنفسهم والسابقين من المؤمنين بالمغفرة، وفي تعبيرهم عنهم بإخواننا إشارة إلى أنهم يعدونهم من أنفسهم كما قال الله تعالى: {بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} [آل عمران: 195] ، فهم يحبونهم كما يحبون أنفسهم ويحبون لهم ما يحبون لأنفسهم.
ولذلك عقبوه بقولهم: {ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم} فسألوا أن لا يجعل الله في قلوبهم غلا للذين آمنوا والغل العداوة.
وفي قوله: {للذين آمنوا} تعميم لعامة المؤمنين منهم وممن سبقهم وتلويح إلى أنه لا بغية لهم إلا الإيمان.
وإشارة إلى حال المنافقين ووعدهم لبني النضير بالنصر إن قوتلوا والخروج معهم إن أخرجوا وتكذيبهم فيما وعدوا.
قوله تعالى: {أ لم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب} إلخ، الإخوان كالأخوة جمع أخ والأخوة الاشتراك في الانتساب إلى أب ويتوسع فيه فيستعمل في المشتركين في اعتقاد أو صداقة ونحو ذلك، ويكثر استعمال الأخوة في المشتركين في النسبة إلى أب واستعمال الإخوان في المشتركين في اعتقاد ونحوه على ما قيل.
والاستفهام في الآية للتعجيب، والمراد بالذين نافقوا عبد الله بن أبي وأصحابه، والمراد بإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب بنو النضير على ما يؤيده السياق فإن مفاد الآيات أنهم كانوا قوما من أهل الكتاب دار أمرهم بين الخروج والقتال بعد قوم آخر كذلك وليس إلا بني النضير بعد بني قينقاع.
وقوله: {لئن أخرجتم لنخرجن معكم ولا نطيع فيكم أحدا أبدا وإن قوتلتم لننصرنكم} مقول قول المنافقين، واللام في {لئن أخرجتم} للقسم أي نقسم لئن أخرجكم المسلمون من دياركم لنخرجن من ديارنا معكم ملازمين لكم ولا نطيع فيكم أي في شأنكم أحدا يشير علينا بمفارقتكم أبدا، وإن قاتلكم المسلمون لننصرنكم عليهم.
وقوله: {والله يشهد إنهم لكاذبون} تكذيب لوعد المنافقين، وتصريح بأنهم لا يفون بوعدهم.
قوله تعالى: {لئن أخرجوا لا يخرجون معهم ولئن قوتلوا لا ينصرونهم} تكذيب تفصيلي لوعدهم بعد تكذيبه الإجمالي بقوله: {والله يشهد إنهم لكاذبون} وقد كرر فيه لام القسم، والمعنى: أقسم لئن أخرج بنو النضير لا يخرج معهم المنافقون، وأقسم لئن قوتلوا لا ينصرونهم.
قوله تعالى: {ولئن نصروهم ليولن الأدبار ثم لا ينصرون} إشارة إلى أن نصرهم على تقدير وقوعه منهم - ولن يقع أبدا - لا يدوم ولا ينفعهم بل يولون الأدبار فرارا ثم لا ينصرون بل يهلكون من غير أن ينصرهم أحد.
قوله تعالى: {لأنتم أشد رهبة في صدورهم من الله} إلخ، ضمائر الجمع للمنافقين، والرهبة الخشية، والآية في مقام التعليل لقوله: {ولئن نصروهم ليولن الأدبار} أي ذلك لأنهم يرهبونكم أشد من رهبتهم لله فلا يقاومونكم لو قاتلتم ولا يثبتون لكم.
وعلل ذلك بقوله: {ذلك بأنهم قوم لا يفقهون} والإشارة بذلك إلى كون رهبتهم للمؤمنين أشد من رهبتهم لله أي رهبتهم لكم كذلك لأنهم قوم لا يفهمون حق الفهم ولو فقهوا حقيقة الأمر بأن لهم أن الأمر إلى الله تعالى وليس لغيره من الأمر شيء سواء في ذلك المسلمون وغيرهم، ولا يقوى غيره تعالى على عمل خير أوشر أو نافع أوضار إلا بحول منه تعالى وقوة فلا ينبغي أن يرهب إلا هو عز وجل.
قوله تعالى: {لا يقاتلونكم جميعا إلا في قرى محصنة أومن وراء جدر} بيان لأثر رهبتهم وجبنهم جميعا والمعنى: لا يقاتلكم بنو النضير والمنافقون جميعا بأن يبرزوا بل في قرى حصينة محكمة أومن وراء جدر من غير بروز.
وقوله: {بأسهم بينهم شديد} أي هم فيما بينهم شديد البطش غير أنهم إذا برزوا لحربكم وشاهدوكم يجبنون بما ألقى الله في قلوبهم من الرعب.
وقوله: {تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى} أي تظن أنهم مجتمعون في ألفة واتحاد والحال أن قلوبهم متفرقة غير متحدة وذلك أقوى عامل في الخزي والخذلان.
ذلك بأنهم قوم لا يعقلون ولو عقلوا لاتحدوا ووحدوا الكلمة.
قوله تعالى: {كمثل الذين من قبلهم قريبا ذاقوا وبال أمرهم ولهم عذاب أليم} الوبال العاقبة السيئة وقوله: {قريبا} قائم مقام الظروف منصوب على الظرفية أي في زمان قريب.
وقوله: {كمثل} إلخ، خبر مبتدإ محذوف والتقدير {مثلهم كمثل} إلخ، والمعنى: مثلهم أي مثل بني النضير من اليهود في نقضهم العهد ووعد المنافقين لهم بالنصر كذبا ثم الجلاء مثل الذين من قبلهم في زمان قريب وهم بنو قينقاع رهط آخر من يهود المدينة نقضوا العهد بعد غزوة بدر فأجلاهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى أذرعات وقد كان وعدهم المنافقون أن يكلموا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فيهم ويمنعوه من إجلائهم فغدروا بهم فذاق بنو قينقاع وبال أمرهم ولهم في الآخرة عذاب أليم وقيل: المراد بالذين من قبلهم كفار مكة يوم بدر وما تقدم أنسب للسياق.
والمثل على أي حال مثل لبني النضير لا للمنافقين على ما يعطيه السياق.
______________________
1- الميزان ، الطباطبائي ، ج19 ، ص180-187.
يستعرض سبحانه ذكر مورد آخر من موارد صرف هذه الأموال (مصارف الفيء) ، ومن بين ما يستعرضه في الآية الكريمة أيضاً وصف رائع ومعبّر جدّاً عن طائفة الأنصار، ويكمل البحث الذي جاء في الآية السابقة حول المهاجرين، فيقول سبحانه: {والذين تبوّؤا الدار والإيمان من قبلهم}.
«تبؤوا» من مادّة (بواء) على وزن (دواء) وهي في الأصل بمعنى تساوي أجزاء المكان، وبعبارة اُخرى يقال: (بواء) لترتيب وتسوية مكان (ما)، هذا التعبير كناية لطيفة لهذا المعنى، وهوأنّ طائفة الأنصار ـ أهل المدينة ـ قد هيّؤوا الأرضية المناسبة للهجرة، وكما يخبرنا التاريخ فإنّ الأنصار قدموا مرّتين إلى «العقبة» ـ وهي مضيق قرب مكّة ـ وبايعوا رسول الله متنكّرين، ورجعوا إلى المدينة مبلّغين، ومعهم «مصعب بن عمير» ليعلّمهم اُمور دينهم وليهيء الأرضية المناسبة لهجرة الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم).
وبناءً على هذا فإنّ الأنصار لم يهيّؤوا بيوتهم لإستقبال المهاجرين فحسب، بل إنّهم فتحوا قلوبهم ونفوسهم وأجواء مجتمعهم قدر المستطاع للتكيّف في التعامل مع وضع الهجرة المرتقب.
والتعبير {من قبلهم) يوضّح لنا أنّ كلّ تلك الاُمور كانت قبل هجرة مسلمي مكّة، وهذا أمر مهمّ.
وإنسجاماً مع هذا التّفسير، فإنّ أنصار المدينة كانوا مستحقّين لهذه الأموال، وهذا لا يتنافى مع ما نقل عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه أعطى شخصين أوثلاثة أشخاص من الأنصار ـ فقط ـ من أموال بني النضير، إذ من الممكن أن لا يكون بين الأنصار أشخاص فقراء ومساكين غير هؤلاء، بعكس المهاجرين فإنّهم إن لم يكونوا مصداقاً للفقير، فيمكن إعتبارهم مصداقاً لأبناء السبيل(2).
ثمّ يتطرّق سبحانه إلى بيان ثلاث صفات اُخرى توضّح روحية الأنصار بصورة عامّة، حيث يقول تعالى: {يحبّون من هاجر إليهم}.
فلا فرق بين المسلمين في وجهة نظرهم والمهمّ لديهم هو مسألة الإيمان والهجرة وهذا الحبّ كان يعتبر خصوصية مستمرّة لهم.
والأمر الآخر: {ولا يجدون في صدورهم حاجة ممّا أتوا} فهم لا يطمعون بالغنائم التي اُعطيت للمهاجرين، ولا يحسدونهم عليها، ولا حتّى يحسّون بحاجة إلى ما اُعطي للمهاجرين منها، وأساساً فإنّ هذه الاُمور لا تخطر على بالهم. وهذه الصورة تعكس لنا منتهى السمو الروحي للأنصار.
ويضيف تعالى في المرحلة الثالثة إلى وصفهم {ويؤثرون على أنفسهم ولوكان بهم خصاصة}(3).
ومن هذه السمات الثلاث: «المحبّة» و«عدم الطمع» و«الإيثار»، كانت تتشكّل خصوصية الأنصار المتميّزة.
ونقل المفسّرون قصصاً متعدّدة في شأن نزول هذه الآية:
يقول ابن عبّاس: إنّ الرّسول بيّن للأنصار يوم الإنتصار على يهود بني النضير، إذا كنتم ترومون المشاركة في حصّة المهاجرين من الغنائم فشاطروهم بتقسيم أموالكم وبيوتكم، وإذا أردتم أن تبقى بيوتكم وأموالكم لكم فلا شيء لكم من هذه الغنائم؟ فقال الأنصار: علام نتقاسم بيوتنا وأموالنا معهم، نقدّم المهاجرين علينا ولا نطمع بشيء من الغنائم؟ فنزلت هذه الآية تعظّم هذه الروح العالية(4).
ونقرأ في حديث آخر أنّ شخصاً أتى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فشكا إليه الجوع، فبعث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى منزله، فقالت زوجته: ما عندنا إلاّ الماء، فقال رسول الله: من لهذا الرجل الليلة، فتعهّده رجل من الأنصار وصحبه إلى بيته، ولم يكن لديه إلاّ القليل من الطعام لأطفاله. وطلب أن يؤتى بالطعام إلى ضيفه وأطفأ السراج، ثمّ قال لزوجته: نوّمي الصبية، ثمّ جلس الرجل وزوجته على سماط الطعام فتظاهروا بالأكل ولم يضعوا شيئاً في أفواههم، وظنّ الضيف أنّهم يأكلون معه، فأكل حتّى شبع وناموا الليلة، فلمّا أصبحوا قدموا على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فنظر إليهم وتبسّم (دون أن يتكلّم)، فنزلت الآية أعلاه وأثنت على إيثارهم.
ونقرأ في الروايات التي وصلتنا عن طريق أهل البيت (عليهم السلام) أنّ المضيف هو الإمام علي (عليه السلام) وأطفاله الحسن والحسين (عليهم السلام)، والمرأة التي نوّمت الصبية جياعاً هي فاطمة الزهراء (عليها السلام)(5).
ويجدر الإنتباه هنا إلى أنّ القصّة الاُولى يمكن أن تكون سبباً لنزول الآية، والقصّة الثانية من مصاديق تطبيق هذه الآية الكريمة.
وبناءً على هذا فإنّ نزول الآيات حول الأنصار لا يتنافى مع كون المضيف هو الإمام علي (عليه السلام).
وذكر البعض ـ أيضاً ـ أنّ هذه الآية نزلت في مقاتلي غزوة اُحد، حيث أنّ سبعة أشخاص منهم جرحوا في المعركة وقد أنهكهم العطش، فجيء بماء يكفي لأحدهم، فأبى أن يشرب وأومأ إلى صاحبه، وكان الساقي كلّما ذهب إلى أحدهم يشير إلى الآخر ويؤثره على نفسه مع شدّة عطشه، إلى أن وصل إلى الأخير فوجده قد فارق الحياة ثمّ رجع إلى الأوّل فوجده قد فارق الحياة أيضاً، وحتّى انتهى إليهم جميعاً وهم موتى فأثنى الله تعالى على إيثارهم هذا(6).
ولكن من الواضح أنّ هذه الآية نزلت في بني النضير، وبسبب عمومية مفهومها فإنّها قابلة للتطبيق في موارد متشابهة.
وفي نهاية الآية ـ ولمزيد من التأكيد لهذه الصفات الكريمة، وبيان تأثيرها الإيجابي العميق ـ يضيف سبحانه: {ومن يوق شحّ نفسه فاُولئك هم المفلحون}.
«الشحّ» كما يقول الراغب في المفردات: البخل مقترناً بالحرص عادةً.
«يوق» من مادّة وقاية، وبالرغم من أنّه بصيغة فعل مجهول، إلاّ أنّه من الواضح أنّ الفاعل هو الله سبحانه، ويعني أنّ كلّ شخص حفظه الله سبحانه من هذه الصفة الذميمة فإنّه سيفلح.
ونقرأ في حديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال لأحد أصحابه: أتدري ما الشحّ؟ فأجاب: هو البخيل، قال (عليه السلام): «الشحّ أشدّ من البخل، إنّ البخيل يبخل ممّا في يده، والشحيح يشحّ بما في أيدي الناس، وعلى ما في يده، حتّى لا يرى في أيدي الناس شيئاً إلاّ تمنّى أن يكون له بالحلّ والحرام، ولا يقنع بما رزقه الله عزّوجلّ»(7).
ونقرأ في حديث ثان: «لا يجتمع الشحّ والإيمان في قلب رجل مسلم، ولا يجتمع غبار في سبيل الله ودخّان جهنّم في جوف رجل مسلم»(8).
وبالجملة، فما يستفاد بوضوح من الآية أعلاه أنّ ترك المرء للشحّ يوصله إلى الفلاح، ومن يتّصف بهذه الصفة المذمومة فإنّه يهدم بناء سعادته.
وفي آخر آية مورد البحث يأتي الحديث عن آخر طائفة من المسلمين، الذين عرفوا بيننا بإصطلاح القرآن الكريم بـ (التابعين)، والذين يشكّلون المجموعة الغالبة من المسلمين بعد المهاجرين والأنصار الذين تحدّثت عنهم الآيات السابقة.
يقول تعالى: {والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربّنا اغفر لنا ولاخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربّنا إنّك رؤوف رحيم}.
بالرغم من أنّ بعض المفسّرين قد حدّد مفهوم هذه الآية بمجموعة من الأشخاص الذين التحقوا بالمسلمين بعد إنتصار الإسلام وفتح مكّة، إلاّ أنّه لا يوجد دليل على هذه المحدوديّة الخاصّة بل تشمل جميع المسلمين إلى يوم القيامة، وعلى فرض أنّ هذه الآية ناضرة إلى فئة خاصّة، إلاّ أنّها عامّة من حيث الملاك والمعيار والنتيجة.
وبهذا فإنّ الآيات الثلاثة المتقدّمة تشمل جميع مسلمي العالم، الذين ينضوون إلى واحدة من هذه الطوائف الثلاثة، وهم: (المهاجرون والأنصار والتابعون).
جملة {والذين جاؤوا ...) حسب الظاهر عطف على {للفقراء المهاجرين)وذلك لبيان هذه الحقيقة، وهي أنّ أموال «الفيء» لا تنحصر بمحتاجي المهاجرين والأنصار فقط، بل تشمل سائر المحتاجين من المسلمين على مرّ العصور.
ويحتمل أيضاً أنّ الجملة مستقلّة (بأن تكون جملة {والذين جاؤوا ...) مبتدأ (ويقولون) خبر) إلاّ أنّ التّفسير الأوّل ـ بالنظر إلى إنسجامه مع الآيات السابقة ـ هو الأنسب.
والملاحظ هنا هو أنّ الآية تذكر ثلاث صفات للتابعين:
الاُولى: أنّهم يفكّرون في إصلاح أنفسهم، وطلب العفو والمغفرة والتوبة من الله تعالى.
والثّانية: النظرة المقترنة بالإكبار والإجلال والإحترام إلى من سبقهم بالإيمان، ويطلبون لهم أيضاً العفو والمغفرة من الله تعالى.
الثّالثة: أنّهم يسعون بكلّ وسيلة إلى تهذيب أنفسهم وتطهيرها من الحقد والحسد والبغض والعداء، ويطلبون العون من الله الرؤوف الرحيم لمساعدتهم في هذا الطريق.
وبهذا الترتيب فإنّ خصوصياتهم هي: (تربية النفس) و(الإحترام للسابقين في الإيمان) و(الإبتعاد عن الحسد والبغضاء).
«غِلّ» على وزن (سِلّ)، جاءت في الأصل بمعنى نفوذ الشيء بخفية، ولذا يقال للماء الجاري بين الأشجار (غلَل) ولأنّ الحسد والعداوة والبغضاء تنفذ في قلب الإنسان بصورة خفيّة، يقال لها: «غِلْ». وبناءً على هذا فإنّ (الغِلّ) ليس فقط بمعنى الحسد، ولكنّه مفهوم واسع يشمل الكثير من الصفات الخفيّة والقبيحة أخلاقياً.
والتعبير بـ (إخوان) والإستمداد من الرؤوف الرحيم في نهاية الآية يحكي عن روح المحبّة والصفاء والاُخوّة التي يجب أن تسود المجتمع الإسلامي أجمع. فكلّ شخص يتمنّى صفة حسنة لا يتمنّاها لنفسه فحسب، بل للآخرين أيضاً، ولتشمل المجتمع بصورة عامّة، وبذلك تطهّر القلوب من كلّ أنواع العداء والبغضاء والحسد والحرص، وهذا هو المجتمع الإسلامي النموذجي.
وقوله تعالى : {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (11) لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (12) لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (13) لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ} [الحشر: 11 - 14]:
دور المنافقين في فتن اليهود:
بعد بيان ما جرى ليهود بني النضير في الآيات السابقة، وبيان حالة الأصناف الثلاثة من المؤمنين (المهاجرين والأنصار والتابعين) وخصوصيات كلّ منهم في الآيات مورد البحث، يتعرّض القرآن الكريم الآن لشرح حالة المنافقين ودورهم في هذا الحادث، وبيان حالهم بالقياس مع الآخرين، وهذا هو منهج القرآن الكريم، حيث يعرّف كلّ طائفة بمقارنتها مع الاُخرى.
وفي البداية يتحدّث مع الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث يقول سبحانه: {ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب لئن أخرجتم لنخرجنّ معكم ولا نطيع فيكم أحداً أبداً وان قوتلتم لننصرنّكم}.
وهكذا فانّ هؤلاء المنافقين وعدوا طائفة اليهود بأمور ثلاثة، وجميعها كانت كاذبة:
الأوّل: إذا أخرجتم من هذه الأرض فإنّنا سوف لن نبقى بعدكم نتطلّع إلى خواء أماكنكم ودياركم.
والأمر الآخر: إذا صدر أمر ضدّكم من أي شخص، وفي أيّ مقام، وفي أي وقت، فإنّ موقفنا الرفض له وعدم الإستجابة.
والأمر الثالث: إنّه إذا وصل الأمر للقتال فإنّنا سوف نقف إلى جانبكم ولا نتردّد في نصرتكم أبداً.
نعم، هذه هي الوعود التي أعطاها المنافقون لليهود قبل هذا الحادث، إلاّ أنّ الحوادث اللاحقة أوضحت كذب إدّعاءاتهم ووعودهم.
ولهذا السبب يقول القرآن الكريم بصراحة {والله يشهد أنّهم لكاذبون}.
كم هو تعبير رائع ومثير ومقترن بتأكيدات عديدة، من شهادة الله عزّوجلّ، وكون الجملة إسمية، وكذلك الإستفادة من (إنّ) واللام للتأكيد، وكلّها تفيد أنّ الكذب والنفاق ممتزجان بهم لحدّ لا يمكن فصلهما، لقد كان المنافقون كاذبين دائماً، والكاذبون منافقين غالباً.
والتعبير بـ (إخوانهم) يوضّح لنا طبيعة العلاقة الحميمة جدّاً بين «المنافقين» و«الكفّار»، كما ركّزت الآيات السابقة على علاقة الاُخوة بين المؤمنين، مع ملاحظة الإختلاف بين الفصيلتين، وهو أنّ المؤمنين صادقون في اُخوتهم لذلك فهم لا يتبرّمون بكلّ ما يؤثرون به على أنفسهم، على عكس المنافقين حيث ليس لهم وفاء أو مواساة بعضهم لبعض، وتتبيّن حقيقتهم بصورة أوضح في اللحظات الحرجة حيث يتخلّون عن أقرب الناس لهم، بل حتّى عن إخوانهم، وهذا هو محور الإختلاف بين نوعين من الاُخوة، اُخوة المؤمنين واُخوة المنافقين.
وجملة: {ولا نطيع فيكم أحداً أبداً) تشير إلى موقف المنافقين الذي أعلنوه لليهود بأنّهم سوف لن يراعوا التوصيّات والإنذارات التي أطلقها رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)فيهم.
ثمّ .. للإيضاح والتأكيد الأكثر حول كذب المنافقين يضيف سبحانه :
{لئن اُخرجوا لا يخرجون معهم}.
{ولئن قوتلوا لا ينصرونهم}.
{ولئن نصروهم ليولنّ الأدبار}.
{ثمّ لا ينصرون}.
إنّ اللحن القاطع والقوي لهذه الآيات قد أدخل الرعب والهلع في قلوب المنافقين وأقلق بالهم.
وبالرغم من أنّ الآية نزلت في مورد معيّن، إلاّ أنّها ـ من المسلّم ـ لا تختص به، بل بيان أصل عامّ في علاقة المنافقين مع سائر أعداء الإسلام، بالإضافة إلى الوعود الكاذبة التي يمنحها كلّ منهم للآخر، وتقرّر بطلان وخواء كلّ هذه الروابط والوعود.
ولا يختّص هذا الأمر بما حدث تأريخياً في صدر الإسلام، بل إنّنا نلاحظ اليوم بأعيننا نماذج وصوراً حيّة لا تخفى على أحد، في طبيعة تعامل المنافقين في الدولة الإسلامية مع مختلف الفصائل المعادية للإسلام، وسوف تصدق أيضاً في المستقبل القريب والبعيد. ومن المسلّم أنّ المؤمنين الصادقين إذا التزموا بواجباتهم فإنّهم سينتصرون عليهم، ويحبطون خططهم.
والآية اللاحقة تتحدّث عن سبب هذا الإندحار، حيث يقول سبحانه: {لأنتم أشدّ رهبةً في صدورهم من الله}.
ولأنّهم لا يخافون الله، فإنّهم يخافون كلّ شيء خصوصاً إذا كان لهم أعداء مؤمنون مثلكم {ذلك بأنّهم قوم لا يفقهون}.
«رهبة» في الأصل بمعنى الخوف المقترن بالإضطراب والحذر، فهو خوف عميق له جذور وتظهر آثاره في العمل.
وبالرغم من أنّ الآية أعلاه نزلت في يهود بني النضير وأسباب إندحارهم أمام المسلمين، إلاّ أنّ مقصودها حكم عام وكلّي، لأنّه لن يجتمع في قلب الإنسان خوفان: الخوف من الله، والخوف من غيره. لأنّ كلّ شيء مسخّر بأمر الله، وكلّ إنسان يخشى الله ويعلم مدى قدرته لا ينبغي أن يخاف من غيره.
إنّ مصدر جميع هذه الآلام هو الجهل وعدم إدراك حقيقة التوحيد، ولوكان مسلمو اليوم بالمعنى الواقعي (يعني مؤمنين موحّدين حقّاً) فإنّهم لا يقفون بشجاعة أمام القوى الكبرى بإمكاناتها المادية والعسكرية فحسب، بل إنّ القوى الكبرى هي التي تخشاهم وتخاف منهم، كما نلاحظ نماذج حيّة لهذا المعنى، حيث نرى دولا كبرى مع ما لديها من الأسلحة والوسائل المتطوّرة تخشى شعباً صغيراً لأنّه مسلّح بالإيمان ومتّصف بالتضحية.
وشبيه هذا المعنى ما ورد في قوله تعالى : {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ } [آل عمران : 151].
ثمّ يستعرض دليلا واقعياً واضحاً يعبّر عن حالة الخوف والإضطراب حيث يقول سبحانه: {لا يقاتلونكم جميعاً إلاّ في قرى محصنة أومن وراء جدر}.
«قرى» جمع قرية، أعمّ من المزروعة وغير المزروعة، وتأتي أحياناً بمعنى الناس المجتمعين في مكان واحد.
«محصّنة» من مادّة (حصن) على وزن «جسم» بمعنى مسوّرة، وبناءً على هذا فإنّ (القرى المحصّنة) تعني القرى التي تكون في أمان بوسيلة أبراجها وخنادقها والمواضع التي تعيق تقدّم العدو فيها.
«جُدُر» جمع جدار، والأساس لهذه الكلمة بمعنى الإرتفاع والعلو.
نعم، بما أنّهم خرجوا من حصن الإيمان والتوكّل على الله، فإنّهم بغير الإلتجاء والإتّكاء على الجدران والقلاع المحكمة لا يتجرّؤون على مواجهة المؤمنين.
ثمّ يوضّح أنّ هذا ليس ناتجاً عن جهل بمعرفة فنون الحرب، أو قلّة في عددهم وعدّتهم، أو عجز في رجالهم، بل إنّ {بأسهم بينهم شديد}.
إلاّ أنّ المشهد الذي عرض يتغيّر في حالة مواجهتهم لكم ويسيطر عليهم الرعب والإضطراب بصورة مذهلة.
وهذا الأمر تقريباً يمثّل أصلا كليّاً في مورد إقتتال الفئات غير المؤمنة فيما بينهم، وكذلك محاربتهم للمؤمنين.
ونشاهد مصاديق هذا المعنى بصورة متكرّرة أيضاً في التأريخ المعاصر، حيث نلحظ عند إشتباك مجموعتين غير مؤمنتين مع بعضهما شدّة الفتك وقسوة الإنتقام وشراسة المواجهة بينهما بصورة لا تدعو للشكّ في قوّة كلّ منهما ... ولكن لو تغيّرت المعادلة، وأصبحت المواجهة بين مجموعة غير مؤمنة بالله واُخرى مؤمنة مستعدّة للشهادة في سبيل الله، عند ذلك نرى أعداء الحقّ يلوذون إلى القلاع المحكمة ويخفون أنفسهم في المواضع ووراء المتاريس وخلف الأسلحة، ويسيطر عليهم الخوف ويهيمن عليهم الرعب ويملأ كلّ وجودهم، والحقيقة أنّ المسلمين إذا جعلوا إيمانهم وقيمهم الإسلامية هي الأساس فإنّهم منتصرون ومتفوقون على الأعداء بلا ريب.
ولهذا السبب ـ وإستمراراً لما ورد في نفس الآية ـ نستعرض سبباً آخر من أسباب إندحار المنافقين، حيث يقول سبحانه: {تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتّى ذلك بأنّهم قوم لا يعقلون}.
«شتّى» بمعنى (شتيت) أي متفرّق.
إنّ القرآن الكريم في تحليل المسائل بشكل دقيق جدّاً وملهم يؤكّد على أنّ (التفرقة والنفاق الداخلي) وليدة (الجهل وعدم المعرفة) لأنّ الجهل عامل الشرك، والشرك عامل للتفرقة، والتفرقة تسبّب الهزيمة. وبالعكس فإنّ «العلم» عامل لوحدة العقيدة والعمل والإنسجام والإتّفاق، وهذه الصفات بحدّ ذاتها مصدر للإنتصار.
وهكذا فإنّ الإنسجام الظاهري للعناصر غير المؤمنة والإتفاقيات العسكرية والإقتصادية يجب ألاّ تخدعنا أبداً، لأنّ وراءها قلوب متناحرة متنافرة، ودليلها واضح وهو إنهماك كلّ منهم بمنافعه المادية بشكل شديد، وبما أنّ المنافع غالباً ما تكون متعارضة، فعندئذ تبرز الإختلافات والشحناء فيما بينهم، ولن تغني عن ذلك العهود والإتّفاقيات وشعارات الوحدة والإنسجام الظاهري. في الوقت الذي تكون فيه وحدة وإنسجام المؤمنين على قواعد واُصول ربّانية كأصل الإيمان والتوحيد والقيم الإلهية، وإذا اُصيب المسلمون بإنتكاسة في أعمالهم فإنّ ذلك دليل على إبتعادهم عن حقيقة الإيمان وما لم يعودوا إلى الإيمان فإنّ وضعهم لن يتحسّن.
{كمثل الذين من قبلهم قريباً ذاقوا وبال أمرهم ولهم عذاب أليم}(9).
تحدّثنا هذه الآية عن ضرورة الإعتبار بما جرى لبني النضير والقوم الذين كانوا من قبلهم وما جرى لهم، خاصّة وأنّ الفترة الزمنية بين الحادثتين غير بعيدة.
ويعتقد البعض أنّ المقصود بقوله: {الذين من قبلهم} هم مشركو مكّة الذين ذاقوا مرارة الهزيمة بكلّ كبريائهم في غزوة «بدر»، وأنهكتهم ضربات مقاتلي الإسلام، لأنّ هذه الحادثة لم يمرّ عليها وقت طويل بالنسبة لحادثة بني النضير، ذلك لأنّ حادثة بني النضير ـ كما أشرنا سابقاً ـ حدثت بعد غزوة «اُحد»، وغزوة بدر قبل غزوة اُحد بسنة واحدة، وبناءً على هذا فلم يمض وقت طويل بين الحادثتين.
في الوقت الذي يعتبرها كثير من المفسّرين إشارة إلى قصّة يهود «بني قينقاع»، التي حدثت بعد غزوة بدر، وإنتهت بإخراجهم من المدينة.
وطبيعي أنّ هذا التّفسير مناسب أكثر ـ حسب الظاهر ـ بإعتباره متلائماً أكثر مع يهود بني النضير، لأنّ يهود بني قينقاع كيهود بني النضير كانوا ذوي ثراء ومغرورين بقدرتهم القتالية، يهدّدون رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والمسلمين بقوّتهم وقدرتهم العسكرية ـ كما سنذكر ذلك تفصيلا إن شاء الله ـ إلاّ أنّ العاقبة لم تكن غير حصاد التيه والتعاسة في الدنيا والعذاب في الآخرة.
«وبال» بمعنى (عاقبة الشؤم والمرارة) وهي في الأصل مأخوذة من (وابل) بمعنى المطر الغزير، لأنّ المطر الغزير غالباً ما يكون مخيفاً ويقلق الإنسان من عاقبته المرتقبة، كالسيول الخطرة والدمار وما إلى ذلك.
___________________
1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج14 ، ص80-93.
2 ـ إلاّ أنّه وطبقاً لتفسير آخر فإنّ (والذين تبوّؤا الدار) تكون مبتدأ، و(يحبّون) خبرها، وإجمالا فإنّها تشكّل جملة مستقلّة، ولا ترتبط بالجملة السابقة التي تتحدّث حول مصاريف الفيء، إلاّ أنّ من الواضح أنّ التّفسير الأوّل هو الأنسب.
3 ـ «خصاصة» من مادّة (خصاص) على وزن (أساس) بمعنى الشقوق التي توجد في جدران البيت، ولأنّ الفقر في حياة الإنسان يمثّل شقّاً، لذا عبّر عنه بالخصاصة.
4 ـ مجمع البيان، ج9، ص260.
5 ـ المصدر السابق.
6 ـ مجمع البيان، ج9، ص260.
7 ـ نور الثقلين، ج5، ص291، حديث64.
8 ـ مجمع البيان، ج9، ص262.
9 ـ هذه الجملة خبر لمبتدأ محذوف تقديره: مثلهم كمثل الذين من قبلهم.
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
مستشار رئيس الوزراء يشيد بحملة العتبة العباسية الإغاثية لدعم الشعب اللبناني
|
|
|