أقرأ أيضاً
التاريخ: 6-9-2016
977
التاريخ: 23-7-2020
2386
التاريخ: 16-10-2016
938
التاريخ: 18-8-2016
932
|
الدليل الشرعي شيء يصدر من الشارع وله دلالة على حكم شرعي، وقد تقدم في البحث الاول عدد من الضوابط الكلية للدلالة. وهنا نتكلم عن كيفية إثبات كون الدليل صادرا من الشارع، وهذا ما نعبر عنه بإثبات صغرى الدليل الشرعي. وهذا الاثبات على نحوين: أحدهما: الاثبات الوجداني وذلك بإحراز الصدور وجدانا، والآخر: الاثبات التعبدي وذلك بأن يتعبد الشارع بالصدور كأن يقول مثلا: إعملوا بما يرويه الثقاة، وهذا معنى جعل الحجية فالكلام يقع في قسمين:
1 - وسائل الاثبات الوجداني:
وسائل الاثبات الوجداني للدليل الشرعي - بالنسبة إلى غير المعاصرين للشارع - هي الطرق التي توجب العلم بصدور الدليل من الشارع، ولا يمكن حصر هذه الطرق ولكن يمكن إبراز ثلاث طرق رئيسية وهي:
أولا: الاخبار الحسي المتعدد بدرجة توجب اليقين، وهو المسمى بالخبر المتواتر.
ثانيا: الاخبار الحدسي المتعدد بالدرجة نفسها، وهو المسمى بالإجماع.
ثالثا: آثار محسوسة تكشف على سبيل الان عن الدليل الشرعي، ونتكلم الآن عن كل واحد من هذه الطرق تباعا.
الخبر المتواتر:
كل خبر حسي يحتمل في شأنه - بما هو خبر - الموافقة للواقع والمخالفة له، وإحتمال المخالفة يقوم على اساس إحتمال الخطأ في المخبر، أو إحتمال تعمد الكذب لمصلحة معينة له تدعوه إلى إخفاء الحقيقة، فإذا تعدد الاخبار عن محور واحد، تضاء ل إحتمال المخالفة للواقع، لان إحتمال الخطأ أو تعمد الكذب في كل مخبر بصورة مستقلة إذا كان موجودا بدرجة ما، فاحتمال الخطأ أو تعمد الكذب في مخبرين عن واقعة واحدة معا أقل درجة، لان درجة إحتمال ذلك ناتج ضرب قيمة إحتمال الكذب في أحد المخبرين بقيمة إحتماله في المخبر الآخر، وكلما ضربنا قيمة إحتمال بقيمة إحتمال آخر، تضاء ل الاحتمال، لان قيمة الاحتمال تمثل دائما كسرا محددا من رقم اليقين. فإذا رمزنا إلى رقم اليقين بواحد، فقيمة الاحتمال هي؟ أو؟ أو أي كسر آخر من هذا القبيل، وكلما ضربنا كسرا بكسر آخر خرجنا بكسر أشد ضآلة كما هو واضح.
وفي حالة وجود مخبرين كثيرين لا بد من تكرار الضرب بعدد اخبارات المخبرين لكي نصل إلى قيمة إحتمال كذبهم جميعا، ويصبح هذا الاحتمال ضئيلا جدا، ويزداد ضآلة كلما إزداد المخبرون حتى يزول عمليا، بل واقعيا لضآلته، وعدم إمكان إحتفاظ الذهن البشري بالاحتمالات الضئيلة جدا.
ويسمى حينئذ ذلك العدد من الإخبارات التي يزول معها هذا الاحتمال عمليا أو واقعيا بالتواتر، ويسمى الخبر بالخبر المتواتر. ولا توجد هناك درجة معينة للعدد الذي يحصل به ذلك. لان هذا يتأثر إلى جانب الكم بنوعية المخبرين، ومدى وثاقتهم وبناهتهم وسائر العوامل الدخلية في تكوين الاحتمال.
وبهذا يظهر أن الاحراز في الخبر المتواتر يقوم على أساس حساب الاحتمالات، والتواتر تارة يكون لفظيا، وأخرى معنويا، وثالثة إجماليا، وذلك أن المحور المشترك لكل الإخبارات أن كان لفظا محددا، فهذا من الاول، وإن كان قضية معنوية محددة، فهذا من الثاني، وإن كان لازما منتزعا، فهذا من الثالث.
وكلما كان المحور أكثر تحديدا كان حصول التواتر الموجب لليقين بحساب الاحتمالات أسرع إذ يكون إفتراض تطابق مصالح المخبرين جميعا بتلك الدرجة من الدقة رغم إختلاف أحوالهم وأوضاعهم أبعد في منطق حساب الاحتمالات.
وكما تدخل خصائص المخبرين من الناحية الكمية والكيفية في تقييم الاحتمال، كذلك تدخل خصائص المخبر عنه - أي مفاد الخبر - وهي على نحوين: خصائص عامة وخصائص نسبية والمراد بالخصائص العامة، كل خصوصية في المعنى تشكل بحساب الاحتمال عاملا مساعدا على كذب الخبر أو صدقه، بقطع النظر عن نوعية المخبر.
ومثال ذلك غرابة القضية المخبر عنها فإنها عامل مساعد على الكذب في نفسه فيكون موجبا لتباطؤ حصول اليقين بالتواتر، وعلى عكس ذلك كون القضية إعتيادية ومتوقعة ومنسجمة مع سائر القضايا الاخرى المعلومة، فإن ذلك عامل مساعد على الصدق ويكون حصول اليقين حينئذ أسرع. والمراد بالخصائص النسبية كل خصوصية في المعنى تشكل بحساب الاحتمال عاملا مساعدا على صدق الخبر أو كذبه فيما إذا لوحظ نوعية الشخص الذي جاء بالخبر، ومثال ذلك: غير الشيعي إذا نقل ما يدل على إمامة أهل البيت عليهم السلام، فان مفاد الخبر نفسه يعتبر بلحاظ خصوصية المخبر عاملا مساعدا لإثبات صدقه بحساب الاحتمال، لان إفتراض مصلحة خاصة تدعوه إلى الافتراء بعيد.
وقد تجتمع خصوصية عامة وخصوصية نسبية معا لصالح صدق الخبر كما في المثال المذكور، إذا فرضنا صدور الخبر في ظل حكم بني أمية، وأمثالهم ممن كانوا يحاولون المنع من أمثال هذه الاخبار، ترهيبا وترغيبا.
فإن خصوصية المضمون بقطع النظر عن مذهب المخبر شاهد قوي على الصدق وخصوصية المضمون مع اخذ مذهب المخبر بعين الاعتبار أقوى شهادة على ذلك.
الاجماع:
الاجماع إتفاق عدد كبير من أهل النظر والفتوى في الحكم بدرجة توجب إحراز الحكم الشرعي، وذلك أن فتوى الفقيه في مسألة شرعية بحتة تعتبر إخبارا حدسيا عن الدليل الشرعي، والاخبار الحدسي هو الخبر المبني على النظر والاجتهاد في مقابل الخبر الحسي القائم على اساس المدارك الحسية، وكما يكون الخبر الحسي ذا قيمة إحتمالية في إثبات مدلوله، كذلك فتوى الفقيه بوصفها خبرا حدسيا يحتمل فيه الاصابة والخطأ معا، وكما أن تعدد الإخبارات الحسية يؤدي بحسب الاحتمالات إلى نمو إحتمال المطابقة وضآلة إحتمال المخالفة، كذلك الحال في الإخبارات الحدسية حتى تصل إلى درجة توجب ضآلة إحتمال الخطأ في الجميع جدا، وبالتالي زوال هذا الاحتمال عمليا أو واقعيا. وهذا ما يسمى بالأجماع.
فالإجماع والخبر المتواتر مشتركان في طريقة الاثبات بحساب الاحتمالات، ويعتمد الكشف في كل منهما على هذا الحساب، ولكنهما يتفاوتان في درجة الكشف. فإن نمو الاحتمال الموافق وتضاؤل إحتمال المخالفة أسرع حركة في التواتر منه في الاجماع وذلك لعدة امور يمكن ابراز اهمها في النقاط التالية:
الاولى: ان القيمة الاحتمالية للمفردات في الاجماع أصغر من القيمة الاحتمالية في التواتر، لان نسبة وقوع الخطأ في الحدسيات أكبر من نسبة وقوعه في الحسيات.
الثانية: أن الخطأ في مفردات الاجماع لا يتعين أن يكون ذا مركز واحد، بينما يكون الخطأ في الاخبار الحسية منصبا على مركز واحد عادة.
فحينما يفتي فقهاء عديدون بوجوب غسل الشعر في غسل الجنابة، ويكونون على خطأ مثلا، قد يكون خطأ أحدهم ناشئا من إعتماده على رواية غير تامة السند، وخطأ الآخر ناشئا من اعتماده على رواية غير تامة الدلالة، وخطأ الثالث ناشئا من إعتماده على أصالة الاحتياط وهكذا.
وكلما كان المركز المحتمل للأخطاء المتعددة واحدا أو متقاربا، كان إحتمال تراكم الاخطاء عليه أضعف والعكس صحيح.
الثالثة: ان إحتمال تأثير الخبر الاول في الخبر الثاني موجود في مجال الاخبار الحدسية، وغير موجود عادة في مجال الاخبار الحسية، وهذا يعني أن إحتمال الخطأ في الخبر الاول يتضمن في مجال الحدسيات إحتمالا للخطأ في الخبر الثاني، بينما هو في مجال الحسيات حيادي تجاه كون الثاني مخطئا أو مصيبا.
الرابعة: ان إحتمال الخطأ في قضية حسية يقترن عادة بإحراز وجود المقتضى للإصابة، وهو سلامة الحواس والفطرة، وينشأ من إحتمال وجود المانع عن تأثير المقتضى، وأما إحتمال الخطأ في قضية نظرية حدسية، فهو يتضمن أحيانا احتمال عدم وجود المقتضى للإصابة، أي احتمال كون عدم الاصابة ناشئا من القصور لا لعارض من قبيل الذهول أو إرتباك البال.
الخامسة: أن الاخطاء المحتملة في مجموع الاخبار الحدسية يحتمل نشوؤها من نكتة مشتركة، وأما الاخطاء المحتملة في مجموعة الاخبار الحسية فلا يحتمل فيها ذلك عادة، بل هي ترتبط في كل مخبر بظروفه الخاصة، وكلما كان هناك إحتمال النكتة المشتركة موجودا، كان إحتمال المجموع أقرب من إحتماله في حالة عدم وجودها. ويتأثر حساب الاحتمال في الاجماع بعوامل عديدة منها: نوعية العلماء المتفقين من الناحية العلمية، ومن ناحية قربهم من عصر النصوص.
ومنها: طبيعة المسألة المتفق على حكمها، وكونها من المسائل المترقب ورود النص بشأنها، أو من التفصيلات والتفريعات.
ومنها: درجة إبتلاء الناس بتلك المسألة وظروفها الاجتماعية فقد يتفق أنها بنحو يقتضي توافر الدواعي والظروف إشاعة الحكم المقابل لو لم يكن الحكم المجمع عليه ثابتا في الشريعة حقا.
ومنها: لحن كلام أولئك المجمعين في مقام الاستدلال على الحكم، ومدى إحتمال إرتباط موقفهم بمدارك نظرية موهونة إلى غير ذلك من النكات والخصوصيات.
ولما كان استكشاف الدليل الشرعي من الاجماع مرتبطا بحساب الاحتمال، لم يكن للإجماع بعنوانه موضوعية في حصوله، فقد يتم الاستكشاف حتى مع وجود المخالف إذا كان الخلاف بنحو لا يؤثر على حساب الاحتمال المقابل، وهذا يرتبط إلى درجة كبيرة بتشخيص نوعية المخالف وعصره، ومدى تغلغله في الخط العلمي وموقعه فيه. كما أنه قد لا يكفي الاجماع بحساب الاحتمال للاستكشاف، فتضم إليه قرائن إحتمالية أخرى على نحو يتشكل من المجموع ما يقتضي الكشف بحساب الاحتمال.
سيرة المشترعة:
ويناظر الاجماع السيرة المعاصرة والقريبة من عصر المعصومين عليهم السلام للمتشرعة بما هم متشرعة.
وتوضيح ذلك أن العقلاء المعاصرين للمعصومين إذا اتجهوا إلى سلوك معين، فتارة يسلكونه بما هم عقلاء كسلوكهم القائم على التملك بالحيازة مثلا، وأخرى يسلكونه بما هم متشرعة كمسحهم القدم في الوضوء ببعض الكف مثلا.
والاول هو السيرة العقلائية، والثاني سيرة المتشرعة، والفرق بين السيرتين أن الاولى لا تكون بنفسها كاشفة عن موقف الشارع، وإنما تكشف عن ذلك بضم السكوت الدال على الامضاء، كما تقدم، وأما سيرة المتشرعة، فبالإمكان إعتبارها بنفسها كاشفة عن الدليل الشرعي على أساس أن المتشرعة حينما يسلكون بوصفهم متشرعة، يجب أن يكونوا متلقين ذلك من الشارع، وهناك في مقابل ذلك إحتمال أن يكون السلوك المذكور مبنيا على الغفلة عن الاستعلام.
أو الغفلة في فهم الجواب على تقدير الاستعلام، غير أن هذا الاحتمال يضعف بحساب الاحتمال كلما لوحظ شمول السيرة، وتطابق عدد كبير من المتشرعة عليها، ومن هنا قلنا أن سيرة المتشرعة تناظر الاجماع لأنها معا يقومان في كشفهما على أساس حساب الاحتمال.
غير أن الاجماع يمثل موقفا فتوائيا نظريا للفقهاء، والآخر يمثل سلوكا عمليا دينيا للمتشرعة. وكثيرا ما تشكل سيرة المتشرعة بالمعنى المذكور الحلقة الوسيطة بين الاجماع والدليل الشرعي، بمعنى أن تطابق أهل الفتوى على حكم مع عدم كونه منصوبا فيما بأيدينا من نصوص يكشف بظن غالب إطمئناني عن تطابق سلوكي، وإرتكازي من المتشرعة المعاصرين لعصر النصوص، وهذا بدوره يكشف عن الدليل الشرعي.
وبكلمة أخرى إن الاجماع المذكور يكشف عن رواية غير مكتوبة، ولكنها معاشة سلوكا وارتكازا بين عموم المتشرعة.
الإحراز الوجداني للدليل الشرعي غير اللفظي:
مر بنا أن دليل السيرة العقلائية يعتمد على ركنين: أحدهما: قيام السيرة المعاصرة للمعصومين من العقلاء على شئ والآخر: سكوت المعصوم الذي يدل - كما تقدم - على الامضاء.
والسؤال الآن كيف يمكن أن نحرز كل واحد من هذين الركنين؟ فإننا بحكم عدم معاصرتنا لهما زمانا يجب أن نستدل عليهما بقضايا معاصرة ثابتة وجدانا لكي نحرز بذلك هذا النوع من الدليل الشرعي.
أما السيرة المعاصرة للمعصومين عليهم السلام، فهناك طرق يمكن أن يدعى الاستدلال بها عليها، وقد تستعمل نفس الطرق لإثبات السيرة المعاصرة للمعصومين من المتشرعة بوصفهم الشرعي: الطريق الاول: أن نستدل على ماضي السيرة العقلائية بواقعها المعاصر لنا.
وهذا الاستدلال يقوم على إفتراض الصعوبة في تحول السيرة من سلوك إلى سلوك مقابل، وكون السيرة العقلائية معبرة - بوصفها عقلائية - عن نكات فطرية وسليقة نوعه وهي مشتركة بين العقلاء في كل زمان.
ولكن الصحيح عدم صحة هذا الاستدلال، إذ لا صعوبة في تصور تحول السيرة بصورة تدريجية وبطيئة إلى أن تتمثل في السلوك المقابل بعد فترة طويلة من الزمن، وما هو صعب الافتراض التحول الفجائي العفوي، كما أن السلوك العقلائي ليس منبثقا دائما عن نكات فطرية مشتركة، بل يتأثر بالظروف والبيئة والمرتكزات الثقافية إلى غير ذلك من العوامل المتغيرة، فلا يمكن ان يعتبر الواقع المعاصر للسيرة دليلا على ماضيها البعيد.
الطريق الثاني: النقل التاريخي أما في نطاق التاريخ العام، أو في نطاق الروايات والاحاديث الفقهية.
ويتوقف إعتبار هذا النقل أما على كونه موجبا للوثوق والعلم، أو على تجمع شرائط الحجية التعبدية فيه، وفي هذا المجال يمكن الاستفادة من الروايات نفسها، لأنها تعكس ضمنا جوانب من حياة الرواة والناس وقتئذ، كما يمكن الاستفادة أيضا من فتاوى الجمهور في نطاق المعاملات مثلا بإعتبارها منتزعة أحيانا عن الوضع العام المرتكز عقلائيا إلى جانب دلالات التاريخ العام.
الطريق الثالث: أن يكون لعدم قيام السيرة المعاصرة للمعصومين على الحكم المطلوب لازم يعتبر إنتفاؤه وجدانيا فيثبت بذلك قيام السيرة على ذلك النحو.
ولنوضح ذلك في مثال كما يأتي: لنفرض أننا نريد أن نثبت أن السيرة المعاصرة للائمة عليهم السلام، كانت قائمة على الاجتزاء بالمسح ببعض الكف في الوضوء، فنقول: إن السيرة إذا كانت منعقدة على ذلك حقا، فهذا سوف يكون دليلا على عدم الوجوب لدى من يحاول الاستعلام عن حكم المسألة فيغنيه عن السؤال، وأما إذا لم تكن السيرة منعقدة على ذلك وكان إفتراض المسح بتمام الكف واردا في السلوك العملي لكثير من المتشرعة وقتئذ، فهذا يعني أن إستعلام حكم المسألة ينحصر بالسؤال من المعصومين، أو الرجوع إلى رواياتهم - لان مسح المتشرعة بتمام الكف لا يكفي لإثبات الوجوب - وحيث إن المسألة محل الابتلاء لعموم أفراد المكلفين، ووجوب المسح بتمام الكف، يستنبطن عناية فائقة تحفز على السؤال، فمن الطبيعي أن تكثر الاسئلة في هذا المجال وتكثر الاجوبة تبعا لذلك، وفي هذه الحالة يفترض عادة أن يصل الينا مقدار من ذلك على أقل تقدير لاستبعاد إختفاء جلها، مع توفر الدواعي على نقلها، وعدم وجود ما يبرر الاختفاء، فإذا لم يصل إلينا ذلك نعرف أنه لم تكن هناك أسئلة وأجوبة كثيرة، وبالتالي لم تكن هناك حاجة إلى إستعلام حكم المسألة عن طريق السؤال والجواب.
وهذا يعين إفتراض قيام السيرة على الاجتزاء بالمسح ببعض الكف. وهذا الاستدلال يتوقف، كما لاحظنا على أن المسألة محل الابتلاء للعموم، وكون الحكم المقابل - كوجوب المسح بتمام الكف في المثال - يتطلب سلوكا لا يقتضيه الطبع بنفسه، وتوفر الدواعي على نقل ما يراد في حكم المسألة، وعدم وجود مبررات للإخفاء، وعدم وصول شيء معتد به في هذا المجال، لإثبات الحكم المقابل من الروايات وفتاوى المتقدمين.
الطريق الرابع: أن يكون للسلوك الذي يراد إثبات كونه سلوكا عاما للمعاصرين للائمة سلوك بديل على نحو لو لم نفترض ذاك يتعين إفتراض هذا البديل، ويكون هذا السلوك البديل معبرا عن ظاهرة إجتماعية غريبة لو كانت واقعة حقا لسجلت وانعكست علينا بإعتبارها على خلاف المألوف، وحيث لم تسجل يعرف أن الواقع خارجا كان هو المبدل لا البدل.
ومثال ذلك: أن نقول إن السلوك العام المعاصر للمعصومين كان منعقدا على إعتبار الظواهر والعمل بها. إذ لولا ذلك لكان لا بد من سلوك بديل يمثل طريقة أخرى في التفهيم، ولما كانت الطريقة البديلة تشكل ظاهرة غريبة عن المألوف كان من الطبيعي أن تنعكس ويشار اليها والتالي غير واقع فكذلك المقدم، وبذلك يثبت إستقرار السيرة على العمل بالظواهر.
الطريق الخامس: الملاحظة التحليلية الوجدانية بمعنى: ان الانسان إذا عرض مسألة على وجدانه ومرتكزاته العقلائية، فرأى انه منساق إلى اتخاذ موقف معين، ولاحظ ان هذا الموقف واضح في وجدانه بدرجة كبيرة، واستطاع ان يتأكد من عدم ارتباطه بالخصوصيات المتغيرة من حال إلى حال، ومن عاقل إلى عاقل بملاحظة تحليلية وجدانية، امكنه ان ينتهي إلى الوثوق بان ما ينساق اليه من موقف حالة عامة في كل العقلاء. وقد يدعم ذلك باستقراء حالة العقلاء في مجتمعات عقلائية مختلفة للتأكد من هذه الحالة العامة.
وهذا طريق قد يحصل للإنسان الوثوق بسببه، ولكنه ليس طريقا استدلاليا موضوعيا الا بقدر ما يتاح للملاحظ من استقراء للمجتمعات العقلائية المختلفة. واما سكوت المعصوم الدال على الامضاء فقد يقال: إن من الصعوبة بمكان الجزم به، إذ كيف نعرف انه لم يصدر من المعصوم ما يدل على الردع عن السيرة المعاصرة له، وغاية ما نستطيع ان نتأكد منه هو عدم وجود هذا الردع فيما بأيدينا من نصوص غير ان ذلك لا يعني عدم صدوره، إذا لعله قد صدر ولم يصل.
غير ان الطريقة التي نتغلب بها على هذه الصعوبة تتم كما يأتي: نطرح القضية الشرطية القائلة: لو كان قد ردع المعصوم عن السيرة لوصل الينا، والتالي باطل لان المفروض عدم وصول الردع، فالمقدم مثله.
ووجه الشرطية ان الردع عن سيرة عقلائية مستحكمة لا يتحقق بصورة جادة بمجرد نهي واحد او نهيين، بل يجب ان يتناسب حجم الردع مع قوة السيرة وترسخها، فالردع إذن يجب ان يتمثل في نواه كثيرة، وهذه النواهي بنفسها تخلق ظروفا مناسبة لأمثالها لأنها تلفت انظار الرواة إلى السؤال وتكثر الاسئلة والاجوبة، والدواعي متوفرة لضبط هذه النواهي من قبل الرواة، فيكون من الطبيعي ان يصل الينا شئ منها. وفي حالة عدم وصول شيء بالقدر الذي تفترضه الظروف المشار اليها، نستكشف عدم صدور الردع، وبذلك يتم كلا الركنين لدليل السيرة:
درجة الوثوق في وسائل الاحراز الوجداني:
وسائل الاحراز الوجداني التي يقوم كشفها على حساب الاحتمال، تؤدي تارة إلى القطع بالدليل الشرعي، واخرى إلى قيمة احتمالية كبيرة، ولكن تناظرها في الطرف المقابل قيمة احتمالية معتد بها، وثالثة إلى قيمة احتمالية كبيرة تقابلها في الطرف المقابل قيمة احتمالية ضئيلة جدا، وتسمى القيمة الاحتمالية الكبيرة في هذه الحالة بالاطمئنان، وفي الحالة السابقة بالظن. ولا شك في حجية الاحراز الواصل إلى درجة القطع تطبيقا لمبدأ حجية القطع، كما لا شك في ان الاحراز الظني غير ، واما الاطمئنان فقد يقال بحجيته الذاتية عقلا تنجيزا وتعذيرا كالقطع، بمعنى ان حق الطاعة الثابت عقلا، كما يشمل حالة القطع بالتكليف، كذلك يشمل حالة الاطمئنان به، وكما لا يشمل حالة القطع بعدم التكليف، كذلك لا يشمل حالة الاطمئنان بعدمه، فان صحت هذه الدعوى لم نكن بحاجة إلى تعبد شرعي للعمل بالاطمئنان مع فارق، وهو امكان الردع عن العمل بالاطمئنان، مع عدم امكانه في القطع كما تقدم، وان لم تصح هذه الدعوى، تعين طلب الدليل على التعبد الشرعي بالاطمئنان. والدليل هو السيرة العقلائية الممضاة بدلالة السكوت.
وفي مقام الاستدلال على حجية الاطمئنان شرعا بالسيرة العقلائية مع سكوت الشارع عنها، لا بد من افتراض القطع بهذين الركنين، ولا يكفي الاطمئنان، والا كان من الاستدلال على حجية الاطمئنان بالاطمئنان. كاف للمقصود ما لم يقم دليل شرعي على التعبد به فيدخل في نطاق الاحراز التعبدي.
2 - وسائل الاحراز التعبدي:
وأهم ما يبحث عنه في علم الاصول كوسيلة تعبدية لإحراز صدور الدليل من الشارع، خبر الواحد، ويراد به الخبر الذي لم يحصل منه القطع بثبوت مؤداه.
والكلام فيه في ثلاث مراحل: احداها: استعراض الادلة المدعاة على حكم الشارع بحجيته. وثانيتها: استعراض الادلة المدعى كونها معارضة لذلك. والمرحلة الثالثة: تحديد دائرة الحجية وشروطها بعد فرض ثبوتها، وسنبحث هذه المراحل تباعا.
أدلة حجية خبر الواحد:
وقد استدل على الحجية بالكتاب والسنة. اما الكتاب الكريم فبآيات. منها آية النبأ، وهي قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ } [الحجرات: 6]
وتقريب الاستدلال ان الجملة في الآية الكريمة شرطية، والحكم فيها هو الامر بالتبين، وموضوع الحكم النبأ وشرطه مجئ الفاسق به، فتدل بالمفهوم على انتفاء وجوب التبين عن النبأ إذا انتفى الشرط ولم يجئ به الفاسق، وهذا يعني انه لا يجب التبين في حالة مجيء العادل بالنبأ، وليس ذلك إلا لحجيته.
وقد نوقش في الاستدلال المذكور بوجهين: الاول، ان مجيء الفاسق بالنبأ شرط محقق للموضوع لانه هو الذي يحقق النبأ، وليس للجملة الشرطية مفهوم إذا كان الشرط مسوقا لتحقق الموضوع، كما تقدم في بحث مفهوم الشرط. وحاول صاحب الكفاية ان يدفع هذه المناقشة بدعوى انها انما تتم على الافتراض المتقدم في تعيين الموضوع والشرط، واما إذا قيل بان الموضوع هو الجائي بالنبأ، والشرط هو الفسق، كانت الآية في قوة قولنا، إذا كان الجائي بالنبأ فاسقا فتبينوا. ومن الواضح حينئذ ان الشرط هنا ليس محققا للموضوع، فيتم المفهوم. ولكن مجرد امكان هذه الفرضية لا يكفي لتصحيح الاستدلال ما لم يثبت كونها هي المستظهرة عرفا من الآية الكريمة.
الثاني: ان الحكم بوجوب التبين معلل في الآية الكريمة بالتحرز من الاصابة بجهالة، والعلة مشتركة بين اخبار الآحاد لان عدم العلم ثابت فيها جميعا، فتكون بمثابة القرينة المتصلة على الغاء المفهوم. وأجيب عن ذلك تارة بان الجهالة ليست مجرد عدم العلم، بل تستطبن السفاهة، وليس في العمل بخبر العادل سفاهة لان سيرة العقلاء عليه. واخرى بان المفهوم اخص من عموم التعليل لانه يقتضي حجية خبر العادل بينما التعليل يدل على عدم حجية كل ما هو غير علمي، ويشمل بإطلاقه خبر العادل، فليكن المفهوم مقيدا لعموم التعليل.
وثالثة: بان المفهوم مفاده ان خبر العادل لا حاجة إلى التبين بشأنه لانه بين واضح، وهذا يعني افتراضه بمثابة الدليل القطعي، والامر بالتعامل معه على أساس أنه بين ومعلوم، وبهذا يخرج عن موضوع عموم التعليل، لان العموم في التعليل موضوعه عدم العلم. فاذا كان خبر العادل واضحا بينا بحكم الشارع، فهو علم ولا يشمله التعليل. ومنها آية النفر، وهي قوله تعالى: { وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ } [التوبة: 122]
وتقريب الاستدلال بها انها تدل على مطلوبية التحدر عنه الانذار بقرينه وقوع الحذر موقع الترجي بدخول لعل عليه، وجعله غاية للإنذار الواجب، ومقتضى الاطلاق كون التحذر واجبا عند الانذار، ولو لم يحصل العلم من قوله المنذر، وهذا يكشف عن حجية اخبار المنذر.
والجواب على ذلك: اولا: ان وجوب التحذر عند الانذار لا يكشف عن كون الحذر الواجب بملاك حجية خبر المنذر، وذلك لان الانذار يفترض العقاب مسبقا، وكون الحكم منجزا بمنجز سابق، كالعلم الاجمالي أو الشك قبل الفحص، ولا يصدق عنوان الانذار على الاخبار عن حكم لا يستتبع عقابا الا بسبب هذا الاخبار.
وثانيا: لو سلمنا ان خبر المنذر بنفسه كان منجزا، فهذا لا يساوق الحجية بمعناها الكامل لما سبق من ان اي دليل احتمالي على التكليف. فهو ينجزه بحكم العقل، فغاية ما تفيده الآية الكريمة انها تنفي جعل اصالة البراءة شرعا في موارد قيام الخبر على التكليف، ولا تثبت جعل الشارع الحجية للخبر. نعم بناء على مسلك قبح العقاب بلا بيان يكشف ما ذكر عن الجعل الشرعي، إذ لولا الجعل الشرعي لجرت قاعدة قبح العقاب بلا بيان.
وثالثا: ان الآية الكريمة لو دلت على حجية قول المنذر شرعا، فانما تدل على حجيته بما هو رأي ونظر، لا بما هو اخبار وشهادة، لان الانذار يعني مزج الاخبار بتشخيص المعنى واقتناص النتيجة.
ومنها آية الكتمان، وهي قوله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} [البقرة: 159]
وتقريب الاستدلال بها انها تدل بالإطلاق على حرمة الكتمان. ولو في حالة عدم ترتب العلم على الابداء، وهذا يكشف عن وجوب القبول في هذه الحالة، لان تحريم الكتمان من دون ايجاب القبول لغو، ووجوب القبول مع عدم العلم يساوق حكم الشارع بالحجية. والجواب على ذلك: اولا: ان الكتمان انما يصدق في حالة الاخفاء مع توفر مقتضيات الوضوح والعلم، فلا يشمل الاطلاق المذكور عدم الاخبار في مورد لا تتوفر فيه مقتضيات العلم.
وثانيا: ان تعميم حرمة الكتمان لعله بدافع الاحتياط من قبل المولى لعدم امكان اعطاء قاعدة للتمييز بين موارد ترتب العلم على الاخبار وغيرها، فان الحاكم قد يوسع موضوع حكمه الواقعي بدافع الاحتياط، وهذا غير الامر بالاحتياط.
ومنها آية السؤال من اهل الذكر، وهي قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43]
وتقريب الاستدلال ان الامر بالسؤال يدل بإطلاقه على وجوب قبول الجواب، ولو لم يفد العلم لانه بدون ذلك يكون الامر بالسؤال في حال عدم افادة الجواب للعلم لغوا، واذا وجب قبول الجواب ولو لم يفد العلم، ثبتت الحجية. وقد اتضح الجواب مما سبق إضافة إلى ان الامر بالسؤال في الآية ليس ظاهرا في الامر المولوي لكي يستفاد منه ذلك، لانه وارد في سياق الحديث مع المعاندين والمتشككين في النبوة من الكفار، ومن الواضح ان هذا السياق لا يناسب جعل الحجية التعبدية، وانما يناسب الارشاد إلى الطرق التي توجب زوال التشكك، ودفع الشبهة بالحجة القاطعة، لان الطرف ليس ممن يتعبد بقرارات الشريعة.
ونلاحظ ايضا ان الامر بالسؤال مفرع على قوله: (وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم) والتفريع يمنع عن انعقاد اطلاق في متعلق السؤال لكي يثبت الامر بالسؤال في غير مورد المفرع عليه وامثاله. هذا على ان مورد الآية لا حجية فيه لأخبار الاحاد لأنه يرتبط بأصول الدين. وإذا قطعنا النظر عن كل ذلك، فالاستدلال يتوقف على حمل اهل الذكر على العلماء والرواة لا أهل النبوات السابقة بحمل الذكر على العلم لا على الرسالة الالهية.
واما السنة فلا بد لكي يصح الاستدلال بها في المقام ان تكون ثابتة بوسيلة من وسائل الاحراز الوجداني، ولا يكفي ثبوتها بخبر الواحد لئلا يلزم الدور.
وهنا وسيلتان للإحراز الوجداني: احداهما التواتر في الروايات الدالة على حجية خبر الواحد، والاخرى السيرة.
اما الوسيلة الاولى فتقريب الاستدلال بها: ان حجية خبر الواحد يمكن اقتناصها من ألسنة روايات كثيرة تشترك جميعا في افادة هذا المعنى وان اختلفت مضامينها، وبذلك يحصل التواتر الاجمالي، ويثبت بالتواتر حجية خبر الواحد الواجد من المزايا لما يجعله مشمولا لمجمع تلك الروايات المكونة للتواتر، فاذا اتفق وجود خبر من هذا القبيل يدل على حجية خبر الواحد في دائرة أوسع أخذ به.
واما الوسيلة الثانية، فتقريب الاستدلال بها يشتمل على الامور التالية: اولا: اثبات السيرة وكون المتشرعة، والرواة في عصر الائمة كانوا يعملون بأخبار الثقات، ولو لم تفدهم الاطمئنان الشخصي، وفي هذا المجال يمكن استعمال الطريق الثالث من طرق إثبات السيرة المتقدمة، وذلك لتوفر شروطه، فانه لا شك في وجود عدد كبير من هذه الروايات بأيدي المتشرعة المعاصرين للائمة ودخول حكمها في محل ابتلائهم على أوسع نطاق، فأما ان يكونوا قد انعقدت سيرتهم على العمل بها من أجل تلقي ذلك من الشارع، او جريا على سجيتهم، واما ان يكونوا قد توقفوا عن العمل بها.
والاول هو المطلوب اذ تثبت بذلك السيرة الممتدة في تطبيقها إلى المجال الشرعي. واما الثاني فليس من المحتمل ان يؤدي توقفهم إلى طرح تلك الروايات جميعا بدون استعلام الحكم الشرعي تجاها، لان ارتكاز الاعتماد على اخبار الثقات، وكون طرح خبر الثقة على خلاف السجية العقلائية، يحول عادة دون التوافق على الطرح بلا استعلام، والاستعلام يجب ان يكون بحجم اهمية المسألة، وهذا يقتضي افتراض اسئلة وأجوبة كثيرة، فلو لم يكن خبر الثقة حجة لكان هذا يعني تضافر النصوص بذلك في مقام الجواب على اسئلة الرواة، ومع توفر الدواعي على نقل ذلك لا بد من وصول هذه النصوص الينا، ولو في الجملة، بينما لم يصل الينا شيء من ذلك، بل وصل ما يعزز الحجية، وهذا يعين اما استقرار العمل بأخبار الثقات بدون استعلام، واما استقراره على ذلك بسبب الاستعلام وصدور البيانات المثبتة للحجية.
ثانيا: ان السيرة الثابتة بالبيان السابق إذ كانت سيرة لأصحاب الائمة بما هم متشرعة، فهي تكشف عن الدليل الشرعي بلا حاجة إلى ضم مقدمة، واذا كانت سيرة لهم بما هم عقلاء، ضممنا اليها مقدمة اخرى وهي: ان الشارع لم يردع عنها إذ لو كان قد ردع بالدرجة الكافية لاثر هذا الردع من ناحية في هدم السيرة، ولو صل الينا شيء من نصوص الردع.
ثالثا: ان الآيات الناهية عن العمل بالظن قد يتوهم انها تردع عن السيرة، لان خبر الواحد امارة ظنية فيشمله اطلاق النهي عن العمل بالظن، ولكن الصحيح انها لا تصلح ان تكون رادعة، وذلك لأننا اثبتنا بالفعل انعقاد السيرة المعاصرة للائمة على العمل بإخبار الثقات في الشرعيات، وهذا يعني بعد استبعاد العصيان.
اما وصول دليل اليهم على الحجية، او غفلتهم عن اقتضاء تلك النواهي للردع، او عدم كونها دالة على ذلك في الواقع، وعلى كل من هذه التقادير لا يكون الردع تاما. ومثل ذلك يقال في مقابل التمسك بأدلة الاصول كدليل أصالة البراء ة مثلا لإثبات الردع بإطلاقها لحالة قيام خبر الثقة على خلاف الاصل المقرر فيها.
رابعا: ان عدم الردع يكشف عن الامضاء، وهذا واضح بعد اثبات امتداد السيرة إلى الشرعيات وجريانها على اثبات الحكم الشرعي بخبر الثقة، الامر الذي يعرض الاغراض الشرعية للتفويت، لو لم تكن مرضية، مضافا إلى ان ظاهر الحال في امثال المقام هو الامضاء، كما تقدم.
أدلة نفي الحجية
وقد استدل على نفي الحجية بالكتاب والسنة. اما الكتاب فبما ورد فيه من النهي عن اتباع الظن، كقوله تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36] وقد يجاب على ذلك بان النهي المذكور، انما يدل على نفي الحجية عن خبر الواحد بالإطلاق، وهذا الاطلاق يقيد بدليل حجية خبر الواحد، سواء كان لفظيا او سيرة.
اما على الاول فواضح، واما على الثاني فلان إطلاق الآيات لا يصلح ان يكون رادعا عن السيرة كما تقدم، وهذا يعني استقرار حجية السيرة فتكون مقيدة للإطلاق. واما السنة ففيها ما دل على عدم جواز العمل بالخبر غير العلمي، وفيها ما دل على عدم جواز العمل بخبر لا يكون عليه شاهد من الكتاب الكريم.
اما الفريق الاول فيرد عليه: اولا: انه من اخبار الاحاد الضعيفة سندا ولا دليل على حجيته.
وثانيا: انه يشمل نفسه لانه خبر غير علمي بالنسبة الينا، ولا نحتمل الفرق بينه وبين سائر الاخبار غير العلمية، وهذا يعني امتناع حجية هذا الخبر، لان حجيته تؤدي إلى نفي حجيته والتعبد بعدمها.
واما الفريق الثاني فيرد عليه، انه لو تم في نفسه لكان مطلقا شاملا للأخبار الواردة في اصول الدين، والاخبار الواردة في الاحكام، فيعتبر ما دل على الحجية في القسم الثاني بالخصوص صالحا لتقييد اطلاق تلك الروايات.
تحديد دائرة الحجية:
وبعد افتراض ثبوت الحجية يقع الكلام في تحديد دائرتها، وتحديد الدائرة تارة بلحاظ صفات الراوي، واخرى بلحاظ المروي.
اما باللحاظ الاول فصفوة القول في ذلك: ان مدرك الحجية اذا كان مفهوم آية النبأ، فهو يقتضي حجية خبر العادل ولا يشمل خبر الفاسق الثقة، واذا كان المدرك السنة على اساس الروايات والسيرة، فلا شك في ان موضوعها خبر الثقة، ولو لم يكن عادلا من غير جهة الاخبار، الا ان وثاقة الراوي تارة تؤخذ مناطا للحجية على وجه الموضوعية، واخرى تؤخذ مناطا لها على وجه الطريقية، وبما هي سبب للوثوق غالبا، بصدق الراوي، وصحة نقله، فان استظهر الاول لزم القول بحجية خبر الثقة، ولو قامت امارة عكسية مكافئة لوثاقة الراوي في كشفها، وان استظهر الثاني لزم سقوط خبر الثقة عن الحجية في حالة قيام امارة من هذا القبيلي.
وعليه يترتب ان اعراض القدماء من علمائنا عن العمل بخبر ثقة، يوجب سقوطه عن الحجية - إذا لم يحتمل فيه كونه قائما على اساس اجتهادي - لانه يكون إمارة على وجود خلل في النقل.
واما خبر غير الثقة فان لم تكن هناك إمارات ظنية على صدقه، فلا اشكال في عدم حجيته، وان كانت هناك امارات كذلك، فان افادت الاطمئنان الشخصي كان حجة لحجية الاطمئنان، كما تقدم، والا ففي حجية الخبر وجهان مبنيان على ان وثاقة الراوي هل هي مأخوذة مناطقا للحجية على وجه الموضوعية، او بما هي سبب للوثوق الغالب بالمضنون على نحو يكون السبب والمسبب كلاهما دخيلين في الحجية، او بما هي معرف صرف للوثوق الغالب بالمضمون دون ان يكون لوثاقة الراوي دخل بعنوانها.
فعلى الاول والثاني لا يكون الخبر المذكور حجة، وعلى الثالث يكون حجة. وعلى هذه التقادير تبتنى اثباتا ونفيا مسألة انجبار الخبر الضعيف بعمل المشهور من قدماء العلماء. فان عمل المشهور به يعتبر امارة على صحة النقل، فقد يدخل في نطاق الكلام السابق.
واما باللحاظ الثاني فيعتبر في الحجية امران: احدهما: ان يكون الخبر حسيا لا حدسيا، والآخر ان لا يكون مخالفا لدليل قطعي الصدور من الشارع، كالكتاب الكريم.
اما الاول فلعدم شمول أدلة الحجية للأخبار الحدسية. واما الثاني فلما دل من الروايات على عدم حجية الخبر المخالف للكتاب الكريم، فانه يقيد أدلة حجية الخبر بغير صورة المخالفة للكتاب الكريم، او ما كان بمثابته من الادلة الشرعية القطعية صدورا وسندا.
قاعدة التسامح في أدلة السنن
ذكرنا ان خبر غير الثقة إذا لم تكن هناك امارات على صدقه، فهو ليس بحجة، ولكن قد يستثنى من ذلك الاخبار الدالة على المستحبات، او على مطلق الاوامر والنواهي غير الالزامية، فيقال، بانها حجة في اثبات الاستحباب او الكراهة ما لم يعلم ببطلان مفادها. ويستند في ذلك إلى روايات فيها الصحيحة وغيرها، دلت على ان من بلغه عن النبي ثواب على عمل فعمله كان له مثل ذلك الثواب، وان كان النبي لم يقله، بدعوى ان هذه الروايات تجعل الحجية لمطلق البلوغ في موارد المستحبات، ومن اجل هذا يعبر عن ذلك بالتسامح في ادلة السنن.
والتحقيق ان هذه الروايات فيها بدوا عدة احتمالات:
الاول: أن تكون في مقام جعل الحجية لمطلق البلوغ.
الثاني: أن تكون في مقام إنشاء إستحباب واقعي نفسي على طبق البلوغ، فيكون بلوغ إستحباب الفعل عنوانا ثانويا له يستدعي ثبوت إستحباب واقعي بهذا العنوان.
الثالث: أن تكون ارشادا إلى حكم العقل بحسن الاحتياط وإستحقاق المحتاط للثواب.
الرابع: أن تكون وعدا مولويا لمصلحة في نفس الوعد، ولو كانت هذه المصلحة هي الترغيب في الاحتياط باعتبار حسنه عقلا.
والاستدلال بالروايات على ما ذكر مبني على الاحتمال الاول، وهو غير متعين بل ظاهر لسان الروايات ينفيه لأنها تجعل للعامل الثواب، ولو مع مخالفة الخبر للواقع. فلو كان وضع نفس الثواب تعبيرا عن التعبد بثبوت المؤدي، وحجية البلوغ، لما كان هناك معنى للتصريح بأن نفس الثواب محفوظ حتى مع مخالفة الخبر للواقع.
كما أن الاحتمال الثاني لا موجب لاستفادته أيضا الا دعوى أن الثواب على عمل فرع كونه مطلوبا، وهي مدفوعة بأنه يكفي حسن الاحتياط عقلا ملاكا للثواب.
فالمتعين هو الاحتمال الثالث، ولكن مع تطعيمه بالاحتمال الرابع، لان الاحتمال الثالث بمفرده لا يفسر إعطاء العامل نفس الثواب الذي بلغه، لان العقل إنما يحكم باستحقاق العامل للثواب لا لشخص ذلك الثواب، فلا بد من الالتزام بأن هذه الخصوصية مردها إلى وعد مولوي.
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
العتبة الحسينية تطلق فعاليات المخيم القرآني الثالث في جامعة البصرة
|
|
|