أقرأ أيضاً
التاريخ: 24-10-2014
1061
التاريخ: 24-10-2014
873
التاريخ: 28-3-2017
807
التاريخ: 24-10-2014
1188
|
إتفق الإِلهيون على أَنَّ القدرة من صفاته الذاتيَّة الكمالية كالعِلْم. و لأَجل ذلك يُعَدّ القادر من أسمائه سبحانه (1).
القدرة لغة :كما عرّفها أَصحاب المعاجم ـ الملك والغِنى و اليَسار. قال ابن منظور : يقال قَدِرَ على الشَّيء قُدْرَةً أي مَلَكَهُ فهو قادر و قدير. يقول سبحانه: {عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر: 55] أي قادر ، و القَدْر الغنى و اليَسار.
وقال الراغب : القدرة إذا وُصِفَ بها الإِنسان فاسم لهَيْئة له ، بها يتمكن من فعل شيء ما. و إذا وصف الله تعالى بها فهو نفي العجز عنه. ا. هـ . و لا يخفى أن تفسير الراغب القُدرة في الله سبحانه بإرجاعها إلى الصفات السلبية (نفي العجز عنه) خطأ واضح ، لأن القدرة كمال و لا يشذّ كمال عن ذاته.
تعريف القدرة :
ثم إِنَّ الفلاسفة و المتكلّمين فسروا القدرة بوجوه أبرزها :
1 ـ القُدرة بمعنى صحة الفعل و التَّرك ، فالقادر هو الذي يصح أَنْ يفعل و يصح أَنْ يترك.
2 ـ القدرة هي الفعل عند المشيئة ، و الترك عند عدمها. فالقادر من إِنْ شاء فعل و إِنْ شاء لم يفعل ، أَو إِنْ لم يشَأْ لم يفعلْ.
و قد أَورد على التعريف الأَول بأنَّ معنى صحة الفعل و الترك إِمكانُهما للقادر. و هذا الإِمكان إما إِمكان ماهَويٌ يقع وصفا للماهية و يقال : الإِنسان بما هو إِنسان يمكن أَنْ يفعل و يمكن أَنْ لا يفعل. و إِمَّا امكانٌ استعداديٌ يقع وصفاً للمادة المستعدة لأَن تتصف بكمال مثل قولنا : الحَبَّة لها إمكان أَنْ تكون شجرة. و على كلا التقديرين فلا يصح تبيين قدرته سبحانه بهذه العبارة لأَن الله سبحانه مُنَزَّه عن الماهية بل هو وجودٌ كُلُّه ، فكيف يمكن توصيفه بإِمكان هو من عوارضها. كما أنَّه سبحانه منزَّه عن المادّة و الإِستعداد ، فكيف يصح تبيين قدرته بشيء يقوم بالمادة و الإِستعداد ، هذا. و قد أورد على التعريف الثاني بأَنَّ ظاهره كونُ الفاعل موجِداً للفعل بالمشيئة ، و لازمه أَنْ لا يكون الفاعل تامّاً في الفاعلية إِلاّ بضم ضميمة إليه و هي المشيئة و هو مستحيل على الله سبحانه ، لأَنَّه غنيٌّ في الفاعلية عن كل شيء سوى ذاته حتى المشيئة الزائدة عليها.
دفاع عن التعريفين
إِنَّ الهدف من وصفه تعالى بالقدرة هو إِثبات كمال و جمال له و تنزيهُه عن النقص و العيب. فلو كان لازم بعض التعاريف طروءَ نقص أو توهّم في حقه سبحانه ، وَجَب تجريدها عن تلك اللوازم و تمحيضها في الكمال المطلق. و هذا لا يختص بالقدرة بل كل الصفات الجارية عليه سبحانه تتمتع بذلك الأَمر.
مثلا : إِنَّ الحياة مبدأ الكمال و الجمال ، و مصدر الشعور و العلم ، فليس الهدف من توصيفه سبحانه بالحياة إلاّ الإِشارة إلى ذاك الكمال. و أَمَّا الذي ندركه من الحياة ، و ننتزعه من الأَحياء الطبيعية ، فإِنه يمتنع توصيفه تعالى به لاستلزامه كونَه سبحانه موجوداً طبيعيّاً مستعداً للفعل و الإِنفعال إلى غير ذلك من خصائص الحياة المادية. و لأجل ذلك يجب أَن نَصِفَه سبحانه بالحياة مجردةً عن النقائص. و هذه ضابطة كلية في جميع الصفات الإِلهية فلا توصف ذاته سبحانه بشيء منها إلاّ بهذا المِلاك ، وهذا ما يسعى إليه الحكيم العارف بالله سبحانه. و عند ذلك يصح تفسير قدرته سبحانه بما ورد في التعريفين ولكن بتجريد كل واحد منهما عما يستلزمه من النقائص ، ككونه سبحانه ذا ماهية أو مادة مستعدة ، كما في التعريف الأَول. أو كونه سبحانه فاعلا بمشيئة زائدة على الذات ، كما في التعريف الثَّاني.
وعلى ذلك فالذي يمكن أن يقال هو إنَّ نسبة الفعل إلى فاعله لا تخلو عن أقسام ثلاثة :
الأول : أنْ يكون الفاعل متقيداً بالفعل فلا ينفك فعله عنه ، و ذلك هو الفاعل المضطر كالنار في إحراقها ، و الشمس في اشراقها.
الثاني : أنْ يكون الفاعل متقيِّداً بترك الفعل فيكون الفعل ممتنعاً عليه.
الثالث : أنْ لا يكون الفاعل متقيّداً بواحدة من النِسْبَتَيْن فلا يكون الفعل ممتنعاً حتى يتقيَّد بالترك، ولا الترك ممتنعاً حتى يتقيد بالفعل. فيعود الأَمر في تفسير القدرة إلى كون الفاعل مطلقاً غيرَ مقيد بشيء من الفعل و الترك (2).
هذا ما نفهمه من توصيفه سبحانه بالقدرة سواءٌ أفُسِّرت بصحة الفعل و الترك أم فُسِّرت ب ـ«إن شاء فَعَل و إِنْ شاء لم يفعل ». فإِنَّا نأْخذ من التعريفين كمال القدرة و نطرح نقائصها. فيصح أنْ يقال إنَّ القدرة في حقّه سبحانه بمعنى صحة الفعل و الترك ، بمعنى تجرده عن التقيد بالفعل أو الترك. كما يصح أن يقال بالتعريف الثاني ، لا بمعنى كونه فاعلا بالمشيئة الزائدة ، بل ما عرفت من تجرده عن أي إلزام بأحد الطرفين.
دلائل قدرته :
أُستدل على قدرته سبحانه بوجوه نعرض أَوضحها و أَقواها:
الأَول: الفطرة :
إِنَّ كل إِنسان يجد في قرارة نفسه انجذاباً إلى قدرة سامية عند طروء الشدائد و يعتقد أَنَّ هناك قدرة عليا هي الملجأ الوحيد للنجاة في تلك الأَحايين. و هذا ما يلمسه من دون تلقين و تعليم. ووجود هذه الفطرة حاك عن وجود تلك القدرة المطلقة ، و إِلاّ يلزم أَنْ يكون وجودها لغواً. وليس المراد من الفطرة هنا هو تَصَوُّرُ القادرِ و توهُّمُه عند طروء الشدائد حتى يقال إِنَّ تصور الشيء لا يدل على وجوده كتصور العنقاء الذي لا يعد دليلا على وجودها ، بل المراد منها الميلُ الباطني ، و الإِنجذاب الذاتي الوجداني ، و إِحساسه ذلك الإِنجذاب كسائر أَحاسيسه.
فالإِنسان الغارق في الشدائد الآيس من كل سبب مادي يجد في أعماق نفسه وُجدانا لا يشك فيه أَنَّ هناك موجوداً عالماً بِمَشاكِلِه قادراً على دفعها عنه. ولا ينافي فطريته الغفلةُ عنه بعد ارتفاع الشدائد وزوال المحن ، إِذ ليس كل أَمر فطري متجلٍّ في جميع الظروف. فإِنَّ لظهور الغرائز شرائط و أجواء خاصة حتى غريزتي الشهوة و الغضب.
وباختصار إِنَّ الفطرة كما تدعو إلى وجوده سبحانه ، تدعو إلى صفاته من العلم و القدرة. يقول سبحانه : {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ } [الأنعام: 40، 41].
الثاني: النظام الكوني :
النظام الكوني بما فيه من دَقيق و جَليل ، و ما فيه من جمال و بَهاء ، ودِقّة وروعة ، و إِتقان و إحكام ، يحكي عن قدرة مُبْدِعِ الأَشياءِ و تمكُّنِه من خَلْق أَدقِّها و أَرْوعِها. و قد خَدَمَتْ العلومُ الطبيعيةُ كثيراً في هذا المجال.
وأَثْبَتَتْ قدرة الصانع. و كلَّما تكامَلَتْ هذه العلومُ وازداد وقوفُ الإِنسان على سُنَنِ الكَوْنِ و قوانينِه و بدائِعِهِ و روائِعِهِ ، تَجَلَّت هذه الصفة بنحو أحسنَ و أجلى.
وبذلك يتْضح أَنَّ فِعْلَ الفاعل ، كما يكشف عن وجود الفاعل ، يكشف عن صفته. فالديوانُ الشِّعْري الرائع كما يَدُل على وجود منشيء له ، كذلك يدل على مقدرته الفنية و ذوقه المتفوق و قدرته على التحليق في آفاق الخيال و سَبْكِ المعاني السامية في قوالبِ الألفاظ الجميلة. و كتابُ « القانون » لابن سينا في الطب ، و كتابُه الآخر باسم « الشِّفاء » في الفلسفة ، يَدُلاّن على أَنَّ مؤلفهما كان من البارعين في الطب و الفلسفة. و لأَجل ذلك نرى أَنه سبحانه عندما يصف روائع أَفعاله و بدائع صنعه في آيات الذكر الحكيم ، يختمها باسم « القدير » يقول سبحانه : {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق: 12].
فالإحكامُ و الإِتقان في الفعل آيتا العلم و علامتا القدرة. و إِنَّا نرى في كلمات الإِمام علي ( عليه السَّلام ) أنّه يستند في البرهنة على قدرته تعالى بروعة فعله و جمال صنعه سبحانه.
قال ( عليه السَّلام ) : « فَطَرَ الخلائِقَ بقُدْرَتِهِ ، و نَشَرَ الرِّياح برحمَتِه ، وَوَتَّدَ بالصُّخورِ مَيَدانَ أرضِه » (3).
يقول ( عليه السَّلام ) : « و أَرانا من مَلَكوتِ قُدْرَتِه و عجائِبِ ما نَطَقَتْ به آثارُ حِكْمَتِه » (4).
ويقول ( عليه السَّلام ) : « فَأقامَ مِنَ الأَشياءِ أَوَدَها ، و نَهَجَ حُدودَها و لاءَم بِقُدْرَتِهِ بَيْنَ مُتَضادِّها » (5).
ويقول ( عليه السَّلام ) : « و أَقامَ مِن شواهِدَ البَّيّناتِ على لَطيف صَنْعَتِه و عَظيم قُدْرَتِه » (6).
إلى غير ذلك من خطبه و كلماته.
وقال الإِمام جعفر بن محمد الصادق ( عليه السَّلام ) في جواب بعض المَلاحِدَة : « كَيْفَ احتَجَبَ عَنْكَ من أَراكَ قُدْرَتَهُ في نفسِكَ » (7).
الثالث :معطي الكمال ليس فاقداً له :
ومن دلائل قدرته سبحانه أَنَّه خلق الإِنسان كما خلق غيره و أَعطاه قدرةً يقتدر بها على إِيجاد البدائع و الغرائب و الصنائع الهائلة و الأَشياء الظريفة. و من المعلوم أَنَّ الإِنسان بوجوده و قُدرته معلولُ وجودِه سبحانه ، فهل يمكن أَنْ يكون مفيضُ و خالقُ الإِنسان القادر فاقداً لها؟
سعة قدرته تعالى لكل شيء :
إنَّ الفِطْرة البشرية تقضي بأَنَّ الكمال المطلق الذي ينجَذِب إليه الإِنسان في بعض الأَحايين قادر على كل شيء ممكن ، ولا يتبادر إلى الأذهان أَبداً ـ لولا تشكيك المُشَكّكين ـ أَنَّ لقدرته حدوداً أَو أَنّه قادر على شيء دون شيء ، و لقد كان المسلمون في الصدر الأَول على هذه العقيدة إستِلهاماً من كتاب الله العزيز ، النّاص على عمومية قدرة الله سبحانه.
حتى وصل أَمر الأَبحاث الكلامية إلى شيوخ المعتزلة فجاؤوا بتفاصيل في سعة قدرته سبحانه نشير إليها على وجه الإجمال.
1 ـ قال النَّظَّام (8) : إِنَّه تعالى لا يقدر على القبيح.
2 ـ و قال عَبَّاد بن سليمان الصَّيْمُري (9) : لا يقدر على خلاف معلومه.
3 ـ و قال البلخي (10) : لا يقدر على مِثْل مقدور عبده.
4 ـ و قال الجُبّائِيّان (11) : لا يقدر على عَيْن مقدور العبد.
و ربما نُسب إلى الحكماء أَنَّه سبحانه لا يقدر على أَكثر من الواحد ولا يصدر منه إِلاّ شيء واحد و هو العقل. و هناك عقائد للثنوية مبهمة نترك بيانها إلى موضع آخر (12).
هذه صورة تاريخية عن نشأة هذا الرأي ، أَيْ تقييد قدرة الله. و يبدو أنّ أكثَر هؤلاء تأثّروا بالآراء الدخيلة الوافدة إلى بلاد الإِسلام في عصر نهضة الترجمة. و ستوافيك شبهاتهم و تحليلها بعد استعراض أَدلة القائلين بعموم قدرته.
أَدلة القائلين بعموم القدرة الإِلهية :
إِنَّ المقصود من عموم قدرته سبحانه هو سعتها لكل شيء ممكن. بمعنى أنَّه تعالى قادر على خلق كل ما يكون ممكناً لذاته غير ممتنع كذلك. و قد استدل المحققون عليه بقولهم :
« إنَّ المقتضي موجود و المانع مفقود. أما الأول فلأن المقتضي لكونه
تعالى قادراً هو ذاته ، و نسبتُها إلى الجميع متساوية لكونها منزهة عن الزمان و المكان و الجهة فليس شيء أَقرب إليه من شيء حتى تتعلق به القدرة دون الآخر.
وأَما الثاني فلأَن المقتضي لكون الشيء مقدوراً هو إمكانه ، و الإِمكان مشترك بين الكل فتكون صفة المقدورية أَيضاً مشتركة بين الممكنات و هو المطلوب ».
ويمكن توضيح ذلك الدليل بالبيان التالي :
إن موانع عموم قدرته يمكن أنْ تكون أحد الأمور التالية :
أولا ـ أنْ لا يكون الشيء ممكناً بالذات ، مثل اجتماع النقيضَيْن أو الضِدَّين.
ثانياً ـ أَنْ يكون هناك مانع من نفوذ قدرته و شمولها للجميع. و هذا كما إذا كان في مقابله قدرةٌ مضاهيةٌ و معارضةٌ لقدرته.
ثالثاً ـ أنْ تكون ذاته غيرَ متساوية بالنسبة إلى الأَشياء.
والعوامل الثلاثة منتفية بِرُمَّتِها. أما الأَول ، فلأن المقصودَ من عموم قدرته هو شمولُها لكل أَمر ممكن دون الممتنع بالذات ، فلا تتعلق القدرة الإِلهية به أَبداً ، لا لقصور في الفاعل بل لقصور في المورد. و أَما الثاني ، فلأن القُدرة المُضاهِيَة المعارِضَة لقُدْرته مرفوضة بما ثَبَتَ و يثْبُتُ في محله من وَحْدَةِ الواجبِ سبحانه ذاتاً و عدم مثيل له في صفحِة الوجود ، و أما القُدرة المُمْكِنَة فليست مُزاحِمَة لقدرته إذ هي مَخلوقةٌ له.
وأما الثالث ، فلأَن تَنَزُّهَه عن كلّ قيد و شرط وجهة و مكان يجعله متساوياً بالنسبة إلى كل ممكن بالذات فلا وجه لأن يقع بعضُ الممكنات في إِطار قدرته دون الآخر. فإن التبعيض في قدرته سبحانه رَهْن كونِ بعضِ الأشياءِ قريبةً إليه دون بعضها الآخر ، كالإِنسان الذي يعيش في مكان و زمان خاص. فإِنَّ الأشياء الغابرةِ أو المستقبَلَة خارجةٌ عن حَوْزة قدرته ، لمحدودية ذاته بالقيود الزمانية و المكانية. و أَما المجرد التام الخالق لكل الأَزمنة و الأَمكنة و الجواهر و الأَعراض فلا معنى لأن تكون ذاتُه قريبة إلى واحد و بعيدة عن الآخر.
هذا توضيح ذلك البرهان.
وهناك برهان آخر :
أروع و أبْهى مما ذُكر يبتنى على عدم تناهي ذاته سبحانه في الجمال و الكمال و حاصله أنَّ وجوده سبحانه غير محدود ولا متناه ، بمعنى أَنَّه وجود مُطْلَق لا يَحُدُّه شيء من الحدود العقلية والخارجية. و ما هو غير متناه في الوجود ، غير متناه في الكمال و الجمال ، لأَن منبع الكمال هو الوجود ، فعدم التّناهي في جانب الوجود يُلازم عدمه في جانب الكمال ، و أيّ كمال أروع و أبهى من القدرة فهي غير متناهية تبعاً لعدم تناهي كماله ، فيثبت سعة قدرته لكل ممكن بالذات.
سعة قدرته سبحانه بمعنى آخر :
إِنَّ لِسَعَةِ قدرته سبحانه معنيين أَحدهما ما تعرفت عليه ، و الثاني ما طرحه الحكماء في كتبهم. و حاصلُه أنَّ الظواهرَ الكونية ، مجرَّدَها و مادّيَّها ، ذاتَها و فعلَها ، تنتهي إلى قدرته سبحانه. فكما أنَّه لا شريك له في ذاته ، لا شريك له في فاعليته. فكلُّ ما يُطلَق عليه كلمةُ الموجود فهو مخلوق لله سبحانه مباشرةً أو على نحو الأسباب و المُسبَّبات ، فالكل يستند إليه لا محالة. و هذا هو التَّوحيد في الخالقية الذي سنشرحه عند البحث في الصّفات السَّلبية.
والمخالف لهذا المعنى من سعة القدرة هم الثنوية الذين جعلوا فاعل الخير غير فاعل الشر ، و عامةُ المعتزلة الذين صيروا الإِنسان فاعلا مستقلا في أَفعاله. و سنوضح ، بإِذنه تعالى ، في محله بطلان هاتين العقيدتين (13).
وأَما قول الحكماء بكون الصادر عن الله سبحانه هو العقل الأول و منه صدر العقل الثاني إلى أَنْ تنتهي دائرة الوجود إلى المادة و الهَيُولى ، فالظاهر أَنها فرضية لا تخالف انتهاء الموجودات إلى الله سبحانه عن طريق الأَسباب و المسبّبات ، و التفصيل موكول إلى محله.
النصوص الدينية و سعة قدرته سبحانه :
لقد تضافرت النصوص من الكتاب و السنة على سعة قدرته و إِطلاقها ، نذكر منها :
قوله سبحانه : {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا } [الأحزاب: 27]. و قوله سبحانه : {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا } [الكهف: 45]. و قوله سبحانه : {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا} [فاطر: 44].
وقال الإِمام الصادق ( عليه السَّلام ) : « الأَشياء له سواءُ ، علماً و قدرةً و سلطاناً و ملكاً » (14).
وقال الإِمام موسى بن جعفر ( عليه السَّلام ) : « هو القادرُ الذي لا يَعْجَزْ » (15).
أَسئلة و أَجوبتها :
إِنَّ القائلين بعموم قدرته سبحانه قوبلوا بعدة أَسئلة نطرحها ثم نحللها ، و هذه هي الأسئلة :
1 ـ هل يقدر سبحانه على خلقِ مِثْلِهِ؟ فلو أُجيب بالإِيجاب لزم افتراضُ الشريك له سبحانه ، ولو أُجيب بالنفي ثَبَت ضِيقُ قدرته و عدم عمومها.
2 ـ هل هو قادر على أَنْ يجعل العالم الفسيحَ في البيضة من دون أَن يَصْغُر حجم العالم أَو تَكْبُر البيضة؟ فإِنْ أُجيب بالإِيجاب لزم خلاف الضرورة و هو كون المظروف أَكبر من الظرف و إِنْ أُجيب بالنَّفي لزم عدم عموم قدرته.
3 ـ هل يمكنه سبحان أنْ يوجد شيئاً لا يقدر على إفنائِه؟ فإنْ أُجيب بالإِيجاب لزم عدمُ سعة قدرته حيث لا يقدر على إِفنائه. و إِنْ أُجيب بالسلب لزم أَيضاً عدم عموم قدرته. ففي هذا السؤال يلزم من الجواب ، إِيجاباً و سلباً ، ضِيقُ قدرته.
هذه هي الأسئلة ، و أمّا الإِجابة عنها فبوجهين تارة بالإِجمال و أخرى بالتفصيل:
أما الإِجمال : فلأن المدَّعى هو تعلق قدرته بالممكن بالذات و ما ورد في هذه الأسئلة ليست أُموراً ممكنة بالذات بل كلُّها إِمَّا محال بالذات أَو شيء يستلزم ذلك المحال. و لا يُعَدّ عدمُ القدرة عليها نقصاً في الفاعل. فعدم قدرة الخياط على خياطة القميص من الآجُرّ ، و عدم قدرةِ الرسام على رسم صورة الطاووس على الماء لا يعد نقصاً في قدرتهما.
و هذا مثلما إِذا طلبنا من عالم رياضي ماهر أَنْ يجعل نتيجة (2×2) خمسة. و على هذا الأَساس لا ينحصر السؤال فيما ذُكر ، بل كل ما لا يكون ممكناً بالذات لا يقع في إِطار القدرة لقُصور فيه لا لقصور في القدرة.
وأما الجواب التفصيلي عن الأسئلة الثلاثة فإليك بيانه :
أما الأول ، فلأن المِثْلَ مَحال بالذات أنْ يقع في إِطار القدرة و المطالبة بخلقِه ، مطالبة بأَمر محال.
وببيان آخر ، إِنَّ القيام بخلق المِثْل يستلزم اجتماع الضدين في شيء واحد ، فبما أنّ المُفْتَرَضَ وجوده مِثْلُه سبحانه ، يجب أنْ يكون واجباً لا ممكناً ، قديماً لا حادثاً ، غير متناه لا متناه. و بما أنَّه تعلقت به القدرة و هي لا تتعلق إلاّ بشيء غير موجود ، يجب أنْ يكون حادثاً لا قديماً ، ممكناً لا واجباً ، متناهياً لا غير متناه. و هذا ما قلناه من أنه يستلزم اجتماع الضدين في شيء واحد.
وبهذا تتبين الإِجابة عن السؤال الثاني. فإِنَّ عدم تعلق القدرة بجعل الشيء الكبير في الظرف الصغير ، هو من جهة كونه غير ممكن في حد ذاته. إذ البداهة تحكم بأَنَّ الظرف يجب أَن يكون أَكبر من مظروفه ، هذا من جانب و من جانب آخر ، لو جعل الكبير في الظرف الصغير يلزم نقيضُه أَيْ كون الظرف أَصغر من مظروفه. فالقيامُ بهذا الإِيجاد يستلزم كونَ شيء واحد أعني الظرفَ أو المظروفَ في آن واحد صغيراً و كبيراً.
وأَما السؤال الثالث ، فلأن المفترض محال لاستلزامه المحال بالذات ، ففرض خلقه سبحانه شيئاً لا يقدر الخالق على إفنائه ، لا ينفك عن المحال ، بيانه :
إِنَّ الشيء المذكور بما أَنَّه أَمر ممكن فهو قابل للفناء ، و بما أَنَّه مُقَيَّد بعدم إِمكان إِفنائه فهو واجب غير ممكن. فتصبح القضية كونَ شيء واحد ممكناً و واجباً ، قابلا للفناء و غير قابل له.
وبعبارة أُخرى : إِنَّ كونه مخلوقاً يلازم إِمكان إِفنائه ، لأَن المخلوق قائم بالخالق فلو قُطِعت صلتُه به لزم انعدامه ، و كونه غير قابل للإِفناء يستلزم أَنْ لا يكون مخلوقاً ، فالمفروض في السؤال يستلزم تحققه على الفرض ـ اجتماع النقيضين. و بهذا تَقْدِرُ على الإِجابة على نظائر هذه الأَسئلة مثل أَنْ يقال : هل الله قادر على خلق جسم لا يقدر على تحريكه؟ فإِنَّ هذا من باب الجمع بين المتناقضين. فإِنَّ فرض كونه مخلوقاً يلازم كونه متناهياً ، قابلا للتحريك. و في الوقت نفسه فرضنا أَنَّه سبحانه غيرُ قادر على تحريكه!!
إِنَّ هذه الفروض و أَمثالها لا تضرّ بعموم القدرة ، و إِنما يَغْتَرُّ بها بُسطاء العقول من الناس ، و أَما أهل الفضل والكمال فأَجلّ من أنْ يخفى عليهم جوابها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ الفرق بين الصفة و الإِسم عبارة عن أنَّ الأول لا يُحْمَل على الموضوع فلا يقال « زَيْدٌ عِلْمٌ » بخلاف الثاني فيحمل عليه و يقال « زَيْدٌ عالِمٌ » و على ذلك جرى الاصطلاح في أسمائه و صفاته سبحانه. فالعِلْمُ و القُدْرةُ و الحياةُ صفات و « العالِم » و « القادِر » و « الحيّ » أَسماؤهُ تعالى.
2ـ و بذلك تعرف أَنْ توصيفه سبحانه بالقدرة بمعنى تجرُّدِه عن الإِلزام بأحد الطرفين يلازم ثبوت وصف الإِختيار له سبحانه و سيوافيك الكلام فيه ، بإِذن منه سبحانه.
3 ـ النهج ، الخطبة الأولى.
4 ـ النهج ، خطبة الأشباح ، الخطبة 91.
5 ـ المصدر نفسه.
6 ـ النهج ، الخطبة 165.
7 ـ التوحيد للصَّدوق ، ص 91.
8 ـ هو ابراهيم بن سَيَّار بن هاني النَّظّام المتوفى عام 231 هـ . و كان عهده عهد ازدهار الترجمات الأَجنبية للآراء الوافدة إلى بلاد الإِسلام. و من المظنون أَنَّه تأثر بتلك الآراء و الأَفكار.
9 ـ و قد نقل عنه القول بكون دلالة الألفاظ ذاتية لا وضعية ولم نقف على ترجمته في المعاجم.
و قد ذكر العلامة الحلي نظريته في قدرته سبحانه في « نهج المسترشدين ». لا حظ إرشاد الطالبين إلى نهج المسترشدين ، ص 189.
10 ـ هو أبو القاسم الكعبي المتوفي عام 317 هـ .
11 ـ و هما الشيخ أبو علي محمد بن عبدالوهاب المتوفي عام 303 هـ .و ابنه أبو هاشم عبد السلام بن محمد المتوفي عام 321 هـ . و كانا من رؤساء المعتزلة و أَقطابهم و لهما آراء خاصة يخالفان فيها سائر شيوخها.
12 ـ يأتي البحث عن عقائد الثنوية في مبحث التوحيد في الخالقيَّة.
13 ـ سنذكر بطلان عقيدة الثنوية عند البحث في التوحيد في الخالقية ، و بطلان مقالة المعتزلة عند البحث في الجبر و التفويض.
14 ـ توحيد الصدوق ، ص 131.
15 ـ توحيد الصدوق ، ص 76.
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
مدرسة دار العلم.. صرح علميّ متميز في كربلاء لنشر علوم أهل البيت (عليهم السلام)
|
|
|