أياً كان الباحث عن أساس فلسفى" للفيزياء فإنه كقاعدة يبدأ بدحض الوضعية وهو حقاً أمر ضروري؛ لأن الوضعية إذا كانت على حق، وكان العلم - على نحو ما يقال كثيرًا - هو فلسفتها ، لما كان هناك حاجة لأى أساس فلسفى للفيزياء، ولما اختلف كثيرا أي مجال معرفى عن المعرفة العلمية، بحيث يشكل قضية يصعب على العلم تفسيرها إلى الأبد.

ولعلنا نواجه ظاهرة غريبة، فرغم دحض الوضعية مرات لا تحصى على يد الفلاسفة بدءًا من أفلاطون وحتى اليوم، فكل مفكر باحث عن أساس فلسفي للفيزياء يجد شبح الوضعية ماثلاً أمامه وكأنه ضمير ضاغط يحاول أن يثنيه عن بحثه. ولدينا ما يؤكد أن إنجازات الفيزياء الحديثة والبيولوجيا قضت بشكل نهائي على المفهوم الوضعى للعلم لتبدأ عصرًا جديدا في الميتافيزيقا .

بيد أن اللافت للنظر، وعلى نحو ما رأينا فى المؤتمر الفلسفى الدولي المنعقد في براج عام 1934 أن الجدل واختلاف الرأى بين مختلف المدارس الفلسفية ليس محور الاهتمام، وإنما هو المقاومة الدفاعية المشتركة لكل هذه المدارس ضد هجمة الوضعية الجديدة باعتبارها إعادة إحياء للوضعية على نحو ما توصف به في كثير من الأحيان. وفي هذا العام 1934 ذاته أعلن واحد من أشهر الفيزيائيين النظريين الألمان في أكثر بلد يؤمن بالميتافيزيقا فى العالم أن "الوضعية الراديكالية هي الوحيدة التي تتيح وضع صياغة واضحة للفيزياء بدون متناقضات وتنقذها من عثرتها الحالية. تُرى إذًا، ماذا تقرر هذه الوضعية الراديكالية" ولماذا لا سبيل لوضع فلسفة للطبيعة إلا على جثتها، بمعنى أى معرفة محتملة خارج نطاق العلم الصحيح وفوقه؟

تقرر الوضعية الراديكالية أن كل مبدأ فيزيائي أو بصفة عامة كل مبدأ علمي هو بيان مرتبط بالمشاهدات (بيان بروتوكولى)، أو يشمل توجيهات لوضع بيانات خاصة بالمشاهدات. وفى أى مبدأ فيزيائى هناك نوعان من التعبيرات إما تخصيص إدراكات مباشرة مثل أحمر، دافيء، إلخ، أو كميات فيزيائية تحدد حالة النظام مثل شدة المجال الكهربائي، قوى الجاذبية، إلخ؛ وهذه الكميات هي المستخدمة في صياغة قوانين الفيزياء مثل معادلات المجال في الإلكتروديناميكا الماكسويل ومعادلات الحركة لنيوتن. وتتيح هذه القوانين من خلال توسيط الإرشادات الخاصة بقياس الكميات الفيزيائية وضع العلاقات بين البيانات المباشرة بشأن المشاهدات ومن ثم يمكن صياغتها باستخدام التعبيرات مثل أحمر، دافيء إلخ.