المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

الأخلاق والأدعية والزيارات
عدد المواضيع في هذا القسم 6459 موضوعاً
الفضائل
آداب
الرذائل وعلاجاتها
قصص أخلاقية

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر المرجع الالكتروني للمعلوماتية

التأويلات النجمية لنجم الدين داية ، وعلاء الدولة السمناني : تفسير عرفاني
16-10-2014
حكم مراجعة المحرم لامرأته.
27-4-2016
الجُبن والشجاعة
2024-12-19
تفحم اوراق النخيل (التفحم الكاذب)
26-6-2016
الإبهام
23-09-2015
الطلاق
5-2-2016


البحث المنطقي والجدال والمراء  
  
51   04:34 مساءً   التاريخ: 2025-02-03
المؤلف : الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
الكتاب أو المصدر : الأخلاق في القرآن
الجزء والصفحة : ج3/ ص233-258
القسم : الأخلاق والأدعية والزيارات / الفضائل / فضائل عامة /


أقرأ أيضاً
التاريخ: 4-6-2019 2230
التاريخ: 2024-07-24 605
التاريخ: 24-3-2021 2685
التاريخ: 19-2-2021 4727

تنويه :

إنّ أفضل طريق لتبيين الحقائق والوصول إلى الأفكار الصحيحة والنتائج السليمة هو البحث المنطقي الخالي من كل أشكال التعصب والعناد ، لأنّ الأفكار عند ما تتلاقح وتضم بعضها إلى البعض الآخر وتتصل القابليات والعقول فسيسطع نور المعرفة ليضيء كل شيء.

ولكن إذا كانت أجواء البحث يسودها التعصّب واللجاجة والأنانيّة والخشونة ، وبكلمة واحدة المراء ، فإنّ ذلك من شأنه أن يغطي على الحقائق الواضحة ويسدل ستار الظلمة على الواقعيات ، فمهما استمر البحث والجدال فإنّ الحجب تزداد على وجه الواقع.

ولهذا السبب فإنّ الإسلام وقف من الجدال والمراء ، أو بتعبير آخر : التعصّب بالبحث وإثبات تفوّق الأنا على الطرف المقابل وليس ذلك لغرض تبين الحق وكشف الحقيقة ، موقفاً سلبياً وعدّ ذلك من الذنوب الكبيرة ، لأنّ المراء بإمكانه أن يجعل سدّاً كبيراً في طريق فهم الحقيقة والوصول إلى الواقعيات.

وبالطبع سوف نشير لاحقاً إلى الفرق بين الجدال والمراء بإذن الله تعالى ، ولكنّ الهدف هنا الإشارة السريعة إلى موقف الإسلام السلبي من هذا الخلق الذميم أي الجدل والمراء ، وموقفه الإيجابي وثنائه على الأشخاص الذين يتحرّكون في بحثهم العلمي ومناقشاتهم الفكرية من موقع البحث المنطقي لغرض الكشف عن الحقيقة وتوخّي العدالة.

وبهذه الإشارة السريعة نعود إلى القرآن الكريم لنرى موقفه من هاتين الخصلتين :

1 ـ (يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ)([1]).

2 ـ (وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً)([2]).

3 ـ (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ)([3]).

4 ـ (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ)([4]).

5 ـ (إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)([5]).

6 ـ (وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ)([6]).

7 ـ (وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ)([7]).

8 ـ (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ)([8]).

9 ـ (أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ)([9]).

10 ـ (وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ)([10]).

تفسير واستنتاج :

«الآية الأولى» : من الآيات محل البحث تتعرض لطائفة من المؤمنين الضعيفي الإيمان من موقع الذم والتوبيخ بسبب ترددهم وجبنهم في ميدان القتال وتثاقلهم عن الجهاد في سبيل الله فتقول : (يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ).

القرائن تشير إلى أنّ جماعة من المسلمين الجدد الذين لم تكن لهم تجربة كافية في الحرب قد تملكهم الخوف وسيطر عليهم الجبن عند ما سمعوا الأمر بالجهاد في سبيل الله ، ومع أنّ النبي الأكرم (صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله) قال لهم بصراحة : أنا مأمور بأمر من الله تعالى في هذا الطريق ، ورغم ذلك فإنّهم يجادلون النبي (صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله) ليثنوه عن عزمه ويعيدوه إلى المدينة وكأنّما يرون الموت على بعد خطوات منهم ، وفي الواقع فإنّ ضعف الإيمان والخوف من الموت والشهادة في سبيل الله دفعهم إلى التذرع بالحجج الواهية والتبريرات المختلفة لإضعاف عزم النبي (صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله) ، القرآن الكريم يذم هذه الحالة ويصرح في الآيات اللاحقة أنّ مشيئة الله قد قررت تقوية الحق وقطع جذور الكافرين (رغم سيطرة الأوهام والتخيلات على هذه الفئة من ضعفاء الإيمان).

ويستفاد جيداً من هذه الآية أنّ أحد أسباب الجدل والمراء والمناقشات غير المنطقية هو ضعف النفس والخوف من تحديات الواقع والحالة الانهزامية لدى الشخص في مواجهة الظروف الصعبة.

وقد ورد في التواريخ الإسلامية المعروفة أنّه عند ما سمع المسلمون بخبر تحرك جيش قريش من مكة لإنقاذ القافلة التجارية المتحركة في الطريق إلى مكة حيث تعرضت لتهديد المسلمين فانّ جماعة من ضعفاء المسلمين أصروا على النبي الأكرم (صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله) أن يعود إلى مكة لأنّ المسلمين في نظرهم ليست لديهم القدرة الكافية على مواجهة جيش المشركين ، وأساساً أنّهم لم يخرجوا طلباً للحرب والقتال.

ويذكر أنّ أبا بكر قام فقال : يا رسول الله ، إنّها قريش وخيلاؤها ، ما آمنت منذ كفرت ، وما ذلّت منذ عزّت ، ولم تخرج على هيئة حرب ..

فقال رسول الله (صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله) : اجلس ، فجلس ، فقال رسول الله (صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله) : اشيروا عليَّ.

فقام عمر فقال : مثل مقالة أبي بكر.

فأمره النبي (صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله) بالجلوس فجلس.

ثم قام المقداد فقال : يا رسول الله ، إنّها قريش وخيلاؤها ، وقد آمنّا بك وصدقناك ، وشهدنا أنّ ما جئت به حقّ من عند الله ، والله لو أمرتنا أن نخوض جمر الغضا (نوع من الشجر الصلب) وشوك الهراس لخضناه معك ، ولا نقول لك ما قالت بنو اسرائيل لموسى : اذهب أنت وربّك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون ، ولكنا نقول : اذهب أنت وربّك فقاتلا ، وإنّا معكم مقاتلون ... الخ.

فأشرق وجه النبي (صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله) ودعا له وسرّ لذلك ([11])

والعجيب أنّ ابن هشام في سيرته والطبري أوردا قصة الشورى التي شكلها النبي (صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله) قبيل غزوة بدر ولكن عند ما وصلا إلى كلام الخليفة الأول والثاني قالا بكثير من التلخيص : «قالَ أَبُو بَكر وَاحْسَنَ ، ثُمَّ قامَ عُمَرُ بْنَ الْخَطَّابِ وَقالَ وَأَحْسَنَ».

واكتفيا بذلك دون أن يذكرا كلام الأول والثاني في حين أنّه لو كان الأول والثاني قد أحسنا في كلامهما لكان المفروض من هذين المؤرخين أن يذكرا مقولتهما ، والحال أنّهما ذكرا كلام المقداد بتمامه ، ومن هنا يتبين أنّ نقل هذين المؤرخين لا يخلو من تعصب مذهبي بإمكانه تزييف الحقائق التاريخية.

«الآية الثانية» : تتحدث عن جميع الأشخاص الذين يتحركون في حياتهم من موقع العناد والتعصب وعدم النضج الفكري والنفسي وتقول : (وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذا الْقُرآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكانَ الْانْسانُ اكْثَرَ شَيءٍ جَدَلاً).

فلأجل هداية الناس فقد صرفنا وذكرنا في القرآن الكريم قصص الأوائل وحوادث التاريخ البشري وحياة الأقوام التي عاشت الظلم والجور ، ولكن الإنسان يعيش حالة الجدل أمام الحق وبذلك يقطع على نفسه طريق الوصول إلى الحقيقة ويوصد أبواب نور المعرفة أمامه ويستفاد جيداً من هذا التعبير أنّ الأشخاص الذين يعيشون الطفولة الفكرية وعدم النضج في شخصيتهم هم أكثر الموجودات جدلاً ومراءً ، وعلى أية حال فانّ هذا التعبير يشير إلى أنّ الإنسان إذا انحرف عن فطرته السليمة فأنّه يتّجه صوب الجدل ويتحرك في خط المراء والباطل ويقف أمام الحق بدافع من التعصبات والأهواء الذاتية ويوصد طريق الهداية أمامه ، وهذا يمثل أكبر بلاء على الإنسان في طول التاريخ البشري.

وتستعرض «الآية الثالثة» : تعريفاً واضحاً للمجادلة بالباطل وتبيّن مصير أهل الجدل والمراء وتقول : «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ».

ورغم أنّ شأن نزول هذه الآية كما ذكره جماعة من المفسرين أنها نزلت في (النظر بن الحارث) الذي كان من المشركين المعاندين والمتعصبين جداً وكان يتحدث عن القرآن بكلمات واهية ويتصور أنّ الملائكة هم بنات الله ، ولكن من الواضح أنّ مفهوم هذه الآية عام وشامل لجميع الأشخاص الذين يناقشون ويجادلون بدافع من التعصب والعناد ومن دون علم ومعرفة.

واللطيف أنّ الآية تذكر في آخرها أنّ هؤلاء المجادلين يتحركون في خط الشيطان المتمرد ويتبعونه ، وهذا التعبير يشير إلى أنّ الجدال بالباطل هو طريق الشيطان ، بل إنّ الشيطان الرجيم ينفذ في كل شخص يسعى لإثبات وجهة نظره من موقع التعصب والعناد فيسيره إلى حيث يريد.

أما وصف الشيطان بأنّه (مريد) أي المتمرد ، فهو يبين هذه الحقيقة ، وهي أنّ الذين يتحركون من موقع الجدل والمراء هم في صف واحد مع المتمردين على الله والحق ويمثلون جبهة واحدة مقابل جبهة الحق.

والمراد من جملة (يجادل في الله) هو الجدال في صفة من صفات الله أو في أصل وجود الله أو في قدرته وعلمه أو في أفعاله ، وعلى أيّة حال فإنّ الآية الشريفة تنطلق من موقع الذم الشديد للجدال بالباطل.

قد ورد وهذا المعنى نفسه مع بعض الإضافات كذلك في (الآية الثامنة) من سورة الحج حيث تقول الآية : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ)

وهذه إشارة إلى أنّ البحث والنقاش إذا كان مقترناً مع العلم والمعرفة ، أو مع هداية أولياء الدين والأنبياء الإلهيين ، أو يكون مستنداً إلى كتاب من الكتب السماوية فليس لا ضرر فيه فحسب بل يمكنه أن يكون مفتاحاً لحل الكثير من المشاكل والأزمات الفكرية والعقائدية.

ولكن عند ما لا تكون هذه العناصر الثلاثة الإيجابية على طاولة البحث والنقاش (أي العلم الشخصي ، وهداية الأولياء ، والاستناد إلى الكتب السماوية) فانّ الجدال سوف ينزلق في طريق الأهواء والتعصبات ويتحرك الإنسان معه في خط الباطل والانحراف وبالتالي لا تكون نتيجته سوى الضلال والشقاء.

ويستفاد من الآية التاسعة من هذه السورة التي وردت بعد هذه الآية محل البحث أنّ أحد دوافع الجدال بالباطل هو التكبر والغرور والعجب والذي يتسبب في إضلال الآخرين أيضاً ، فمثل هؤلاء الأشخاص يكون مصيرهم إلى الفضيحة في الدنيا والعذاب الشديد في الآخرة كما تقول الآية : «ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْىٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ».

«الآية الخامسة» : من الآيات محل البحث وضمن وصفها وتعريفها لمفهوم المجادلة بالباطل تشير إلى أحد الدوافع والجذور الأصلية لهذه الرذيلة الأخلاقية في واقع الإنسان وتقول : (إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ) هؤلاء لا يوجد في قلوبهم سوى التكبر والغرور حيث يريدون تحقيق نظراتهم من وحي الأهواء والتعصّب ولكنّهم لا يصلون إلى مرادهم ومقصودهم : (إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ).

كلمة (سلطان) تستعمل في مثل هذه الموارد بمعنى الدليل والحجّة والبرهان والتي وردت في الآية السابقة وتشمل العلم الشخصي ، وهداية الأولياء ، وإرشاد الكتب السماويّة ، ومن الملفت للنظر أنّ الآية تقول : أنّ المصدر الأصلي للمجادلة والعناد هو حالة التكبر التي يعيشها هؤلاء الأشخاص حيث يريدون التوصّل إلى غاياتهم وطموحاتهم الدنيوّية من خلال المجادلة بالباطل ولكنّهم بدلاً أن يحققوّا ذلك لأنفسهم في حياتهم فأنّهم سوف يعيشون الذّلة والمهانة.

وبما أنّ هذه الرذيلة الأخلاقيّة هي أحد المصائد الخطرة للشيطان الرجيم فانّ الآية الكريمة تقول في ختامها : (فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)

وتنطلق «الآية السادسة» : لتتحدّث عن المشركين الذّين يتحرّكون في شركهم وكفرهم من موقع الإصرار والعناد ويجادلون النبي الأكرم (صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله) في عمليّة تبرير أعمالهم وسلوكيّاتهم الخاطئة وعند ما يقول لهم القرآن الكريم : إنّكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنّم فأنّهم يجادلون في ذلك ويقولون : (وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ).

ثمّ إنّ القرآن الكريم يضيف إلى ذلك أنّ هؤلاء يدركون الحقيقة جيّداً ولكنّهم يتكلّمون معك من موقع الجدل والخصام والعناد : (ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ).

ثمّ يبيّن القرآن الكريم الفرق بين المسيح والأصنام فيقول بالنسبة إلى المسيح : (إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ)([12]).

وهو إشارة إلى أنّ المسيح هو عبدٌ من عبيد الله لا يقبل أن يعبده النصارى أبداً ، ولو أنّ بعض الناس انحرف عن جادّة الصواب وتصوّر أنّ المسيح أحد الأقاليم الثلاثة في مقام الالوهيّة فلا ذنب على المسيح نفسه ولا ينبغي أن يكون من أهل النار ، وعليه فانّ هذا المثل لا يقبل المقارنة مع الأصنام أو الأشخاص من أمثال فرعون وجملة : (بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ) تشير إلى أنّ أحد مصادر ودوافع الجدال بالباطل هو حالة الخصومة والعداوة التي يعيشها الإنسان الجاهل وغير المنطقي ، والغالب أنّه يعلم أنّه يسير في خط الباطل ولكنّ الحقد والعداوة لا يسمحان له بالتسليم في مقابل الحق والإذعان للحقيقة.

«الآية السابعة» : وبعد الإشارة إلى حرمة الميتة والأنعام التي ذبحت للأصنام أو ما ذبح بدون أن يذكر اسم الله عليه فتقول (وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ)([13]).

ثمّ تشير إلى أنّ الشياطين يوحون إلى أتباعهم بمفاهيم خاطئة لتبرير أفعالهم وتقول : (وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ).

المجادلة بالباطل هنا كما يذكر جماعة من المفسّرين الكبار أمثال الطبرسي وأبو الفتوح الرازي وسيد قطب هو أنّهم كانوا يقولون أننا إذا أكلنا من لحوم الميتة ، فإنّ ذلك بسبب أنّ الله تعالى قد قتلها وبالتالي فهي أفضل من لحوم الحيوانات التي نقتلها بأيدينا ، وفي الحقيقة فانّهم أهملوا تحريم الميتة الوارد في الشريعة الإلهية من هذا الموقع الزائف.

وهذا التبرير السخيف والباطل لأكل الميتة هو ما أوحى به شياطين الإنس والجن لأوليائهم وأتباعهم ليعينوهم على مجادلة كلام الحق بمثل هذه التبريرات الزائفة ويقارنوا بين اللّحوم الملّوثة والميتة مع اللّحوم الطاهرة التي ذبحت على اسم الله تعالى ويفضّلون الاولى على الثانية.

ويستفاد من هذه العبارة أنّ مثل هذه المجادلة بالباطل تنطلق من دوافع شيطانية.

ويستفاد من بعض الروايات أنّ هذه التبريرات الواهية قد كتبها بعض المجوس في كتاب وأرسلها إلى المشركين من قريش.

«الآية الثامنة» : تتحدّث عن الجدال في حالة الاحرام للحج وتقول : (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ).

ونعلم أنّ حالة الاحرام هي حالة معنويّة وروحانية سامية تصعد بالإنسان إلى حيث القرب الإلهي وأن يعيش أجواء الملكوت ، ولهذا السبب فإنّ الكثير من الأعمال المباحة تصبح ممنوعة في حالة الاحرام هذه ، بل إنّ بعض الامور المحرّمة تتضاعف حرمتها في هذه الحالة المقدّسة.

والمعروف حرمة 25 عمل أثناء الإحرام وأحدها هو الجدال ، ورغم أنّ المشهور بين الفقهاء هو أنّ المراد من الجدال هنا هو

قول (بلى والله) أو قول (لا والله) فالأول لإثبات المطلب والثاني لنفي المطلب ، والمراد من الفسوق الكذب والتهمة والسب والشتم وإظهار التفوق على الآخرين في حال الإحرام ، ولكن لا يبعد أن تكون كلمة (جدال) شاملة لكل أنواع المجادلة والمخاصمة الكلامية ، وعلى أية حال فإنّ المنع من الجدال في حال الإحرام يشير إلى أنّ هذا العمل يتقاطع بشدّة مع هذه العبادة الروحانية المهمّة وتبعد الإنسان عن الله تعالى.

وتتابع الآية بالقول في جملة خبريّة بأنّه (لا جدال في الحج) ممّا يبيّن تأكيداً أكثر على هذا الموضوع وكأنّها تقول : (إنّ هذا العمل يتنافى مع روح الحج).

«الآية التاسعة» : تتحدّث عن (المراء) وهو كلام يشبه الجدال وتقول : (أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ).

وبديهي إنّ الهداية تتفرع في واقعها على أن يكون الإنسان طالباً للحق بحيث يقبله من أي مكان ويتقبّله برحابة صدر دون أن يجد في نفسه تعصّباً وتكبراً عليه ، وكلّما عاش الإنسان حالة الكبر والغرور والتعصّب فإنّ ذلك من شأنه أن يكون مانعاً جدياً من التسليم أمام الحق وأن ينزلق الإنسان في وادي الضلالة والانحراف الشديد.

أمّا الفرق بين الجدال والمراء وكذلك النقاط المشتركة بينهما فسيأتي لاحقاً.

«الآية العاشرة» : والأخيرة من الآيات مورد البحث تتحدّث عن عناد قوم لوط وأنّ نبيّهم الكريم حذّرهم من عذاب الله وأنّ هذا العذاب ينتظرهم بالتأكيد إذا استمروا على غيّهم وعصيانهم ، فلم يقبلوا كلامه وقاموا بوجهه من موقع المجادلة والمراء ، تقول الآية : (وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ).

وكان هذا هو السبب في أن يبقى قوم النبي لوط (عليه‌ السلام) في حجاب الغفلة والجهل إلى أن صدر أمر الله تعالى بعذابهم فأصاب الزلزال الشديد مدنهم وأمطرت عليهم السماء حجارة فلم يبق من بيوتهم وأجسامهم إلّا الدمار والخراب ، أجل فإنّ هذه هي نتيجة الجدال والمراء في مقابل الحق.

هذه الآيات الشريفة توضح جيداً أخطار هاتين الرذيلتين الأخلاقيتين وتبيّن كيف أنّ الإنسان وبسبب الجدال والمراء يتأخر عن قافلة الهداية والرشاد ويكون من أتباع الشيطان ويلبس ثياب ولايته ويتحرّك في الضلال البعيد ويقع بالتالي في دوامة العذاب الإلهي الخالد.

الفرق بين الجدال والمراء والخصومة :

إنّ كلمة (جدل) و (جدال) كما يقول الراغب في مفرداته (جدلت الحبل) أي شددته والجدل شدّة الفتل ، وكأنّ المجادل يريد من خلال كلامه الجاد مع الخصم أن يبعده بالقوة من أفكاره وعقائده.

وذكر البعض أنّ (الجدال) في الأصل بمعنى المصارعة والسعي للتغلب على الآخر وطرحه على الأرض ، وبما أنّ الشجار اللفظي والكلامي يشبه هذا المعنى إلى حدٍ كبير استخدمت هذه الكلمة في هذا المعنى.

وبالطبع فإنّ الجدال على قسمين : الجدال بالحق والجدال بالباطل ، والأول ممدوح والثاني مذموم ، ومن ذلك نجد أنّ القرآن الكريم يقول في مورد : (وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)([14]).

وهنا نجد أنّ النبي الأكرم (صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله) مأمور بجدالهم بالحق وورد ذلك إلى جانب الحكمة والموعظة الحسنة.

أمّا الجدال بالباطل فهو ما ورد في الآيات المذكورة آنفاً من أنّ بعض الأشخاص يتحرّكون في كلامهم ونقاشهم من موقع التعصب والعناد ، وبذلك ينكرون أوضح دلائل الحق من خلال هذا الجدال ، وأمّا (المراء) على وزن حجاب ، فهو بمعنى المحادثة والمكالمة في شيء يكون فيه مرية أي شك وترديد ، ويقول الراغب في مفرداته : إنّها في الأصل من (مريت الناقة) أي حلبتها ، ثم قيلت لكل كلام يكون في موضوعه الشك والترديد (ولعل ذلك يتناسب مع كون الإنسان متردداً في وجود اللّبن في ضرع الناقة أو لا) وذهب بعض إلى تعبير أدق من ذلك حيث يرى أنّ الجذر الأصلي لهذه الكلمة في قولهم (مريت الناقة) هو فيما لو حلبت الناقة قبل ذلك ثم جاء أحدهم بأمل أن يكون من اللبن بقية في الضرع فيحلبها مع هذا الشك والترديد ، وهكذا أطلقت على المناقشة الكلامية في البحوث المقترنة مع الشك.

ولكن هذه المفردة استخدمت بعد ذلك في كل نوع من البحث الكلامي وعن أي موضوع كان محل شك وترديد سواءاً كان بحثاً إيجابّياً وطلباً للحق ، أو كان بدافع من العناد والخصومة واللجاجة.

ومن الموارد التي استخدم فيها المراء بالمعنى الإيجابي ما ورد في الآية الشريفة 22 من سورة الكهف حيث تخاطب النبي الأكرم (صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله) حول مجادلته عن أصحاب الكهف مع مخالفيه وتقول : (فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلَّا مِراءً ظاهِراً)([15]).

أمّا الموارد المستعملة في المعنى السلبي فكثيرة ومنها ما تقدم من الآيات أعلاه.

والجدير بالذكر أنّ مفردة (مرية) على وزن جزية وقرية ، بمعنى الترديد في العزم والتصميم ، وبعض ذهب إلى أنّها بمعنى الشك المقترن بقرائن التهمة مثل (الريبة).

الجدال والمراء في الروايات الإسلامية :

نظراً إلى أنّ الجدال بالباطل يتسبب في إخفاء الحق وزيادة عناصر التعصب والخشونة وما يترتب على ذلك من المفاسد والاضرار الكثيرة ، نرى أنّ الروايات الإسلامية قد نهت عن الجدال والمراء بشدّة خاصّة إذا كان بالنسبة إلى الامور الدينيّة ومن ذلك :

1 ـ ما ورد عن النبي الأكرم (صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله) أنّه قال : «ما ضَلَّ قَومٌ بَعدَ أَنْ هَداهُمُ اللهُ إلّا اوتُوا الجَدَلَ» ([16]).

2 ـ وهذا المضمون ورد أيضاً في حديث آخر مع تفاوتٍ يسير عن النبي الأكرم (صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله) أيضاً حيث قال : «ما ضَلَّ قَومٌ إلّا أَوثَقُوا بالجَدَلَ» ([17]).

3 ـ وقد ورد في حديث عن أمير المؤمنين (عليه‌ السلام) أنّه قال : «لَعَنَ اللهُ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي دِينِهِ اولئِكَ مَلعُونُونَ عَلى لِسانِ نَبِيِّهِ» ([18]).

4 ـ وفي حديث آخر عن هذا الإمام (عليه‌ السلام) أيضاً أنّه قال : «الجَدَلُ فِي الدِّينِ يُفسِدُ اليَقِينَ» ([19]).

5 ـ في حديث عن الإمام الصادق (عليه‌ السلام) أنّه قال : «إِيّاكُم وَالخُصُومَةَ فِي الدِّينِ فَإنَّها تُشغِلُ القَلبَ عَنْ ذِكرِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَتُورثُ النِّفاقِ ، وَتَكسِبُ الضَّغائِنَ ، وَتَستَجِيرُ بالكِذبَ» ([20]).

والتعبير بالخصومة في الدين رغم أنّها لا تنطوي تحت عنوان الجدال ولكنّها من الموارد الشبيهة بهذا المعنى.

6 ـ ونظير هذا المعنى ما ورد عن الإمام علي بن موسى الرضا (عليه‌ السلام) أنّه قال : «إِيَّاكَ وَالخُصُومَةَ فَإنَّها تُورثُ الشَّكَّ وَتَحبِطُ العَمَلَ وَتُردِي بِصاحِبِها» ([21]).

7 ـ ومن نصائح لقمان الحكيم لابنه في ترك الجدال : «يا بُنَيَّ لا تُجَادل العُلَماءَ فَيَمقُتُوكَ» ([22]).

8 ـ ونقرأ في حديث آخر عن أمير المؤمنين (عليه‌ السلام) : «مَنْ طَلَبَ الدِّينَ بِالجَدَلِ تَزَندَقَ» ([23]).

9 ـ قال الإمام على بن موسى الرضا (عليه‌ السلام) لأحد أصحابه : «أَبلِغْ عَنِّي أَولِيائِي السَّلامَ وَقُلْ لَهُم أَنْ لا يَجعَلُوا لِلشِّيطانِ عَلى أَنفُسِهِم سَبِيلاً وَمُرهُم بِالصِّدقِ فِي الحَدِيثِ وَأَداءِ الأَمانَةِ وَمُرهُم بِالسُّكُوتِ وَتَركِ الجِدالِ فِيما لا يَعنِيهم» ([24]).

10 ـ نختم هذا البحث بحديث آخر عن رسول الله (صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله) عن نسبة الإيمان والمراء والجدال ، حيث يقول : «لا يَستَكمِلُ عَبدٌ حَقِيقَةَ الإِيمانِ حتَّى يَدَعَ المِراءَ وَالجَدَلَ وإِن كانَ مُحِقّاً» ([25]).

أمّا المراء الذي سبق وأن قلنا بالفرق بينه وبين الجدال فحاصل الكلام هو أنّ الجدال يعني كل شكل من أشكال الشجار اللفظي والنزاع الكلامي ، في حين أنّ المراء يأتي بمعنى المباحثة في شيء يكون فيه شك وترديد ، فتارة تكون هذه المباحثة بدافع من طلب الحق وتوضيح المطلب ، واخرى تكون بدافع من التعصّب واللّجاجة وإظهار التفوّق والفضل على الطرف الآخر ، وهذه الحالة مذمومة جداً ، وفي الروايات الإسلامية ينصب الذم على هذا النوع من المباحثة اللفظية ، رغم عدم وجود تفاوت كبير بينه وبين الجدال.

1 ـ ورد في الحديث الشريف معنى المراء بما تقدم أعلاه ، فعن النبي الأكرم (صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله) قال : «لا يَستَكمِلُ عَبدٌ حَقِيقَةَ الإِيمانِ حتَّى يَدَعَ المِراءَ وَالجَدَلَ وإِن كانَ مُحِقّاً» ([26]).

وهذا إشارة إلى أنّ المناقشة والمنازعة اللفظية من موقع اللجاجة وبدافع من إظهار التفوّق والفخر على الآخر حتّى في المسائل الحقّة تكون سبباً في سقوط الإنسان على المستوى الأخلاقي والعقائدي.

2 ـ وفي حديث آخر عن رسول الله (صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله) أيضاً بواسطة عدّة أشخاص من الصحابة الذين قالوا : دخل رسول الله يوماً علينا ونحن نتمارى في شيء من أمر الدين فغضب غضباً شديداً لم يغضب مثله ثم قال : «إِنّما هَلَكَ مَنْ كانَ قَبلَكُم بِهذا ، ذَرُوا المِراءَ فَإِنَّ المُؤمِنَ لا يُمارِي ، ذَرُوا المِراءَ فَإنَّ المِماري قَدْ تَمَّتْ خَسارَتُهُ ، ذَرُوا المِراءَ فَانا المِماري لا أَشفَعُ لَهُ يَومَ القِيامَةِ ، ذَرُوا المِراءَ فَانا زَعِيمٌ بِثَلاثَةِ أَبياتٍ فِي الجَنَّةِ فِي رِياضِها وَأَوسَطِها وَأَعلاها لِمَنْ تَرَكَ المِراءِ وَهُوَ صادِقٌ ، ذَرُوا المِراءَ فَإنَّ أَوَّلَ ما نَهانِي عَنهُ رَبِّي بَعدَ عِبَادَةِ الأَوثانِ المِراءُ» ([27]).

3 ـ وفي حديث آخر عن النبي الأكرم (صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله) أنّه قال : «ذَرُوا المِراءَ فَإنّه لا تَفهَمُ حِكمَتُهُ وَلا تُؤمَنُ فِتنَتَهُ» ([28]).

وهو إشارة إلى أنّ الشخص المماري يرى أنّه لم يعرف نفسه ولا الآخرين ، ومثل هذا الشخص يعيش أجواء الحرمان من إدراك الحقائق الدينية قطعاً.

4 ـ وجاء في حديث آخر أنّ رجلاً قال للإمام الحسين (عليه‌ السلام) اجلس اناظرك في الدين ، فأجابه الإمام : «يا هذا أَنَا بَصِيرٌ بِدِينِي مَكشُوفٌ عَلَيَّ هُداي فَإن كُنتَ جاهِلاً بِدِينِكَ فَاذهَبْ وَاطلُبهُ ، مالِي وَللمُماراةِ وإِنَّ الشَّيطانَ لِيُوسوِسُ لِلرَّجُلِ وَيُناجِيهِ وَيَقُولُ ناظِرِ النَّاسَ فِي الدِّينِ كَي لا يَظُنُّوا بِكَ العَجزَ وَالجَهلَ» ([29]).

5 ـ وفي حديث آخر عن رسول الله (صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله) أنّه قال : «أَربَعٌ يُمِتْنَ القُلُوبَ الذِّنبُ عَلى الذَّنبِ وَكَثرَةُ مُناقشَةِ النِّساءِ يَعنِي مُحادَتَهُنَّ وَمُماراةُ الأَحمَقِ تَقُولُ وَيَقُولُ وَلا يَرجَعُ إِلى خَيرٍ وَمُجالَسَةُ المَوتى ، فَقِيلَ : يا رَسُولُ اللهِ وَما المَوتى ، قَالَ : كُلُّ غَنِيٍ مُترَفٌ» ([30]).

6 ـ جاء عن أمير المؤمنين قوله : «إِيّاكُم وَالمِراءِ وَالخُصُومَةَ فَإِنَّهُما يَمرُضانِ القُلُوبَ عَلَى الإِخوانِ وَينبِتُ عَلَيهِما النِّفاقِ» ([31]).

7 ـ ولهذا فقد ورد في حديث آخر عن النبي الأكرم (صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله) أنّه قال في خطاب له أمام حشدٍ من المسلمين : «أَورَعُ النّاسِ مَنْ تَرَكَ المِراءَ وَإِنْ كانَ مُحِقاً» ([32]).

8 ـ وفي رواية عن الإمام أمير المؤمنين (صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله) أنّه قال : «جِماعُ الشَّرِّ اللِّجاجُ وَكَثرَةُ المِمارَاةِ» ([33]).

9 ـ ونختم هذا البحث بحديث آخر عن سلمان الفارسي عن النبي الأكرم (صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله) أنّه قال : «لا يُؤمِنُ رَجُلُ حَتّى يُحِبُّ أَهلِ بَيتِي وَحَتّى يَدَعَ المِراءَ وَهُوَ مُحِقٌّ فَقَالَ عُمَرُ بنُ الخَطابِ : ما عَلامَةُ حُبِّ أَهلِ بَيتِكَ؟ قالَ : هذا ، فَضَرَبَ بِيَدِهِ عَلى عَليِّ بنِ أَبِي طالِبٍ (عليه‌ السلام)» ([34]).

ولا شك أنّ هذين الموضوعين يرتبطان ببعضهما برابطة وثيقة حيث ذكرهما النبي الأكرم (صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله) في كلامه مقترنين ، ولعل هذه الرابطة من جهة أنّ دلائل فضل الإمام علي وأهل بيته (عليهم ‌السلام) إلى درجة من الوضوح والبداهة بحيث يقبلها كل إنسان يتحرّك من موقع الإنصاف ويبتعد عن الجدال والمراء والخصومة ويهدف إلى طلب الحقيقة.

* * *

إنّ الروايات الشريفة في ذمّ المراء كثيرة جدّاً ، وما ذكر من الروايات العشر أعلاه إنّما هي نماذج وعيّنات من هذا الباب والنظر الدقيق في هذه الأحاديث والروايات يكفي لكي يحيط الإنسان بأخطار هذا الخلق الذميم وعواقبه الوخيمة وآثاره المخرّبة على المستوى الفردي والاجتماعي.

الآثار السلبية للجدال والمراء :

إنّ التأكيدات الكثيرة الواردة في الآيات القرآنية والروايات المتواترة الإسلامية في ذم الجدال والمراء والخصومة في المباحثات الكلامية إنّما هي من أجل أنّ أول نتائج هذا العمل المضرّة وهذا الخلق السيء هو التستّر والتغطية على الحقائق بحيث يجعل بين الإنسان وبين الحقيقة حجاباً سميكاً وسحابة سوداء على بصيرة الإنسان بحيث لا يدرك معها أوضح البديهيّات ويتحرّك في مناقشاته من موقع إنكار الامور الضرورية أو يدافع عن بعض المواضيع التي تدعو للسخريّة ، وليس هذا إلّا بسبب أنّ الإنسان عند ما تتصاعد عنده روح الجدال وتشتد حرارة الكلام فيه فأنّه يقوم بإنكار كل ما لا يراه مصيباً في نفسه ولا يتوافق مع كلامه.

وبما مرّ علينا من الروايات الشريفة تقرّر أنّ الخصومة والجدال والمراء تمرض القلب فإنّه من الممكن أن تكون إشارة إلى هذا المعنى ، لأنّ القلب يأتي بمعنى العقل ، ومرض القلب بمعنى عدم درك الحقائق والواقعيات ، ولذا رأينا في الحديث الشريف عن أمير المؤمنين (عليه‌ السلام) أنّ الأشخاص الذين يعيشون الجدال والمراء تكون عاقبتهم ومصيرهم إلى الكفر ، أو أنّ الجدال يسبب الشك في دين الله وفساد اليقين ، كل هذا إشارات لطيفة إلى ما تقدّم آنفاً من أضرار الجدال والمراء.

والآخر من الآثار السلبية لهذه الصفة الأخلاقية الذميمة هو إيجاد العداوة والبغضاء بين الأصدقاء ونسيان ذكر الله تعالى وجرّ الإنسان إلى الكثير من أنواع الكذب في الكلام حيث مرّت الإشارة إلى ذلك في الأحاديث الشريفة السابقة ، والسبب في ذلك واضح ، لأنّ الشخص الذي يريد إثبات تفوّقه على أقرانه من خلال الجدال والمراء فإنّه يعمل على تحريك الطرف الآخر ضدّه ليحمى وطيس النقاش وغالباً ما نجد في كلامه عناصر التحقير والسخرية بالطرف الآخر ، وهذه من أسوأ أسباب النفاق وإيجاد العداوة بين الأشخاص وحتّى أنّه أحياناً ومن أجل تبرير كلامه يتوسّل بأنواع الكذب ، وهذا بحد ذاته بلاء كبير آخر، ومجموع هذه الامور تؤدّي بالإنسان إلى الابتعاد عن الله تعالى ويسقط في فخاخ الشيطان وشراكه وبالتالي يكون مصيره إلى الهلاك المعنوي والسقوط الإنساني.

ولهذا قرأنا في الأحاديث السابقة أنّ الإنسان لا يصل إلى حقيقة الإيمان إلّا إذا ترك المراء والجدال حتى لو كان محقّاً ، لأنّ النزاع اللفظي حتى في مسائل الحق والدين يتسبب في إيجاد أنواع الخصومات والعدوان وأحياناً يجر الإنسان إلى ارتكابه الكثير من الذنوب من قبيل : تحقير المؤمن وإهانته بالكلام أو بالإشارة باليد والعين والكذب والتكبّر وحبّ التفوّق وأمثال ذلك.

مضافاً إلى هذا أنّ الجدال والمراء يذهب وقار الإنسان ويكسر من شخصيته ومروءته بحيث ينفتح عليه لسان الجهلاء إذا اشترك في مجادلة معهم ويتسبب في هتك حرمته والإهانة له ، وإذا جادل العلماء فإنّه يذوق مرارة الهزيمة ويفتضح أمره ويكشف عن جهله وحقارته.

ومن مجموع ما مرّ وكما قرأنا في الروايات السابقة أنّ الجدال والمراء يعدّ أحد الامور الأربعة التي تؤدّي إلى مرض قلب الإنسان وروحه.

فما أحسن بالإنسان أن يتباحث مع الآخرين من موقع المحبّة والصداقة والتواضع وبدافع من طلب الحق والحقيقة حيث يؤدّي ذلك إلى زيادة علمه ومعرفته والاستفادة من علوم الآخرين لإيضاح الحقيقة أكثر وحل المشاكل العلميّة العويصة والقيود المعرفيّة التي بإمكانها أن توصل الإنسان إلى أجواء المعرفة والاطّلاع على المجهول ، وهذا هو الجدال بالحق.

دوافع الجدال والمراء :

ونظراً إلى وجود علاقة وثيقة بين الصفات الرذيلة في واقع الإنسان حيث ترتبط غالباً فيما بينها بعلاقة العلّة والمعلول ، يتّضح من ذلك أنّ هذه الصفة الذميمة ، أي الجدال والمراء والخصومة من موقع الجهالة ، تنشأ من صفات قبيحة اخرى :

1 ـ إنّ من العوامل المهمّة للجدال والمراء هو حالة الكبر والغرور في النفس والتي لا تسمح للإنسان أن يذعن أمام الحق ، بل تدفعه لغرض حفظ التفوّق على الطرف الآخر إلى سلوك طريق الجدال والمراء وإنكار ما يتّضح له أنّه الحق ، ولذلك ورد في الحديث الشريف عن الإمام الصادق (عليه‌ السلام) عن آبائه الكرام (عليهم ‌السلام) : «إِنّ مِنَ التَّواضُعِ أَنْ يَرضى الرَّجُلُ بِالمَجلِسِ دُونَ المَجلِسِ وَأَن يُسَلِّمَ عِلى مَنْ يَلقى وَأَن يَترُكَ المِراءَ وَإِنْ كانَ مُحِقَّاً وَلا يُحِبَّ أَنْ يُحمَدَ عَلَى التَّقوى» ([35]).

2 ـ وأحد الدوافع الاخرى للجدال والمراء والنزاعات اللّفظية هو الظهور بمظهر العالم المتفوّق وإظهار الفضل على الآخرين ، وهذه الحالة متداولة كثيراً في أجواءنا الاجتماعية وخاصّة في المجلس الذي يحضره جماعة من العوام ويريد هذا الشخص أن يظهر نفسه وفضيلته أمامهم أو يريد أن يفتح له مكاناً بين أرباب العلم والمعرفة ، وجاء في الحديث الشريف الذي ذكرناه سابقاً عن الإمام الحسين (عليه‌ السلام) قوله : «وإِنَّ الشَّيطانَ لِيُوسوِسُ لِلرَّجُلِ وَيُناجِيهِ وَيَقُولُ ناظِرِ النَّاسَ فِي الدِّينِ كَي لا يَظُنُّوا بِكَ العَجزَ وَالجَهلَ» ([36]).

وفي حديث آخر عن الإمام الصادق (عليه‌ السلام) حيث يقسّم طلّاب العلم إِلى ثلاثة أقسام ، وطائفة منهم طلبوا العلم للجدال والمراء ، وطائفة اخرى للفخر على الناس ، وثالثة لغرض فهم الحقيقة والتعلّم والعمل بذلك ، ثمّ يصف الإمام حال الطائفة الاولى ويقول : «فَصاحِبُ الجَهلِ والمِراءِ مُؤذٍ مُمارٍ مُتَعَرِّضٍ لِلمَقالِ فِي أَندِيةِ الرِّجالِ».

وفي ذيل هذا الحديث الشريف يلعن الإمام مثل هذا الشخص ويقول : «فَدَقَّ اللهُ مِنْ هذا خَيشُومَهُ» ([37]).

3 ـ ومن الدوافع الاخرى للجدال والمراء والتعصّب الكلامي هو الجهل بمقام الذات ومقام الآخرين ، لأنّه يرى نفسه أكبر وأعلم من واقعه ويرى الآخرين يعيشون الجهل وعدم العلم ، ولذلك ورد في الحديث الشريف عن الإمام الصادق (عليه‌ السلام) والذي ذكرناه فيما سبق بعد أن يعدّ الإمام المراء بأنّه أحد الأمراض الخطرة لقلب الإنسان وأنّه من الأخلاق الشيطانية يقول : «فَلا يُمارِي فِي أَيِّ حالٍ إلّا مَنْ كانَ جاهِلاً بِنَفسِهِ وَبِغَيرِهِ» ([38]).

4 و 5 ـ حبّ الانتقام والحسد يعتبران من العوامل المهمّة الاخرى التي تدفع بالإنسان إلى الجدال والمراء ، فلغرض تسقيط شخصية الطرف المقابل والانتقام منه وإشباع حالة الحسد في نفسه أو تضعيف مكانة الطرف الآخر أمام الانظار فإنّه يستخدم أداة الجدل والبحث العلمي المقترن مع الإهانة والتحقير ليستطيع بهذه الوسيلة أن يروي ظمأه إلى الانتقام من الطرف الآخر ويصب الماء على نار الحقد والحسد المستعرة في قلبه.

6 ـ ومن العوامل المهمّة الاخرى التعصّب واللّجاجة ، لأنّ الشخص المتعصّب واللّجوج غير مستعد أن يقبل التنازل عن عقائده الفاسدة بسهولة ، ولذلك يجد في نفسه تعصّباً للتوقف عليها وحفظها والدفاع عنها بالمجادلة والبحث الكلامي ويتشبّث بكل وسيلة لإثبات صحّة كلامه وبطلان كلام الطرف الآخر ، وهذا هو ما نجده في سلوك الكثير من الكفّار والمشركين أمام رسول الله (صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله) وسائر الأنبياء الكرام (عليهم ‌السلام) حيث تقدّم مثال واضح لذلك من مباحثة عبدة الأوثان ونمرود مع النبي ابراهيم (عليه‌ السلام) ، وذلك عند ما وجدوا أنفسهم أمام الكلام المنطقي والرصين لإبراهيم (عليه‌ السلام) فوقعوا في حيرة من الأمر وانتبهوا مؤقتاً من نوم الغفلة ولكن حالة التعصّب واللّجاجة أسدلت على عقولهم وقلوبهم سحابة ظلمانية منعتهم من قبول الحقيقة والإذعان وانطلقوا مرّة اخرى في تأكيد معتقداتهم السخيفة من موقع الدفاع عنها بالأدلة الواهية والجدال الأجوف.

7 ـ ومن العوامل المهمّة للجدال والمراء أيضاً (حبّ الدنيا) الذي يعدّ عاملاً أساسياً لجميع الذنوب أو أكثرها ، فالأشخاص الذين يعيشون هذه الصفة الرذيلة يريدون كسب المقام والوجاهة الاجتماعية من خلال سلوك هذا الطريق لإثبات أعلميّتهم وذكائهم وبذلك يتمكّنوا من نيل أهدافهم الدنيوية وتحصيل بعض المقامات الوهميّة والعناوين الزائفة.

وخلاصة الكلام هي أنّ العوامل السلبية الكثيرة تتفق مع بعضها لدفع الإنسان إلى الخوض في الجدال والمراء بعيداً عن الأدب والخلق الإنساني والإنصاف وتجرّه إلى الدخول في دائرة اللّجاجة والعناد أمام الحق والدفاع عن الباطل.

أقسام المراء والجدال :

يمكن تقسيم الجدال والمراء إلى قسمين :

الجدال والمراء على المستوى الإيجابي ، أي أن يتباحث مع الآخرين على مستوى البحوث المنطقية لغرض تبييّن الحقائق وتوضيح ما أشكل من المسائل الغامضة والاطّلاع على نظرات الآخرين والوصول إلى الواقعيات من هذا الطريق.

أمّا المراء والجدال على المستوى السلبي فيعني المباحثات والنزاعات الكلامية التي تنطلق بوحي من عقدة الخصومة والتي لا تهدف إلى غرض معيّن وصحيح ولا تسير في خط تبيين الحقائق، بل الهدف منها هو تكريس الخصومة والتعصّب واللّجاجة وإثبات التفوّق وإظهار الفضل على الآخرين.

وهذا التقسيم نجده منعكساً في آيات القرآن الكريم حيث يقول في الآية 48 من سورة العنكبوت : (وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ).

ويقول في مكان آخر في الآية 125 من سورة النحل : (وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ).

ويقول في مكان آخر في مقام الذم لجماعة من الكافرين : (يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ).

وأمّا في مورد المراء الإيجابي فنقرأ في (قصة أصحاب الكهف) وعددهم قوله تعالى : (فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلَّا مِراءً ظاهِراً)([39]).

أي بالنسبة إلى عدد أصحاب الكهف فلا ينبغي أن تتباحث حولهم إلّا بالكلام المنطقي المقترن بالدليل.

وأمّا في مورد المراء السلبي فيقول تعالى : (أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ)([40]).

وهناك تقسيمات اخرى أيضاً على حسب الأشخاص في طرفي المباحثة وكذلك بالنسبة إلى المواضيع والمسائل التي تدور في أجواء البحث والجدال.

ومن ذلك أن يكون طرف المناظرة إنساناً عاقلاً وفاهماً لكي تكون المباحثة معه مثمرة من خلال الاستدلال المنطقي والعلمي كما ورد في وصيّة أمير المؤمنين (عليه‌ السلام) قوله : «دَعْ المُمارَاةَ وَمُجارَاتَ مَنْ لا عَقلَ لَهُ وَلا عِلمَ» ([41]).

ويجب أن يكون المناظر إنساناً مطّلعاً على الامور ، لأنّ الأشخاص الذين يعيشون الجهل بالأمور إذا أرادوا الدفاع عن الحق والورود في ميدان المجادلة ، فإنّهم وبسبب ضعف معلوماتهم وقلّة اطّلاعهم سوف يذوقون الهزيمة ويغلبوا في هذه المبارزة ، وبالتالي ينعكس ذلك سلبياً على الحق والحقيقة.

ولذلك نقرأ في الحديث الشريف أنّ محمد بن عبد الله المعروف بالطيّار جاء إلى الإمام الصادق (عليه‌ السلام) وقال له : «بَلَغَنِي أَنَّكَ كَرِهتَ مُناظَرَةَ النّاسِ» ، قال الإمام (عليه‌ السلام) : «أَمّا كَلامُ مِثلِكَ فَلا يَكرَهُ ، مَنْ إِذا طارَ يَحسُنُ أَنْ يَقَعَ وإِنْ وَقَعَ يَحسُنُ أَنْ يَطِيرَ، فَمَنْ كانَ هكَذا لا نَكرَهُهُ» ([42]).

أمّا لقب الطيّار الذي يطلق على هذا الصحابي المعروف للإمام الصادق (عليه‌ السلام) ، فهو إشارة إلى هذا المعنى أيضاً ، لأنّه كان قوياً جدّاً في مجال المباحثة والجدل وكان يتحرّك في دفاعه عن الحق بكل قدرة ومهارة.

وهنا ينبغي على جميع الأشخاص الذين ليس لديهم إطّلاع كافٍ حول مسائل الدين ومعارفه العميقة ولا يجدون في أنفسهم القدرة على الدفاع عنه أن لا يدخلوا في مناظرة ومباحثة مع المخالفين ، لأنّهم سوف ينهزمون في هذه المباحثة ، وهزيمتهم توجب وهن مباني المذهب الحق في نظر الآخرين.

ومن هنا فإنّ الافراط والتفريط غالباً موجود في سلوكيات هؤلاء الأفراد الجهلاء ، فهناك الأشخاص الذين يسلكون طريق الافراط عن جهل ويقولون : بما أنّ الجدال والمراء مذموم في الإسلام ومحرّم بشدّة ، فنحن لا ندخل في أي بحث علمي وكلامي مع أي شخص من الأشخاص حتّى لو كان البحث مستدلاً ويقوم على قواعد منطقية من الأدلة والبراهين في طريق إثبات الحق والدفاع عنه ، ويختارون السكوت بدل البحث أو الاستدلال ، ويسمّون ذلك من باب القيل والقال.

وهذا أيضاً انحراف كبير عن جادّة الصواب ، لأنّ تبيّن الحقائق لا يتسنى إلّا في ظلّ البراهين المنطقية والدلائل المتينة ، وإيصاد هذا الطريق على الناس يعني حرمانهم أو حرمان طائفة كبيرة منهم من الوصول إلى الحقائق وتحصيل الواقعيّات.

ونختم هذا الكلام بحديث جميل عن الإمام الحسن العسكري (عليه‌ السلام) عن جدّه الإمام الصادق (عليه‌ السلام) حيث وقعت في محضره مجادلة كلامية في أمر الدين وأنّ رسول الله (صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله) والأئمّة المعصومين (عليهم ‌السلام) كانوا قد نهوا عن ذلك ، فقال الإمام الصادق (عليه‌ السلام) : لَمْ يَنهْهُ عَنْهُ مُطلَقاً لَكِنَّهُ نَهى عَنْ الجِدالِ بِغَيرِ الَّتِي هِي أَحسنِ ، أما تَسمَعُونَ اللهَ تَعالى يَقُولُ : (وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)([43]) ، وَقَوله : (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)([44]) ، فَالجِدالُ بِالَّتِي هِي أَحسَنُ قَد قَرَنَهُ العُلَماء بِالدِّينِ وَالجِدالِ بِغَيرِ الَّتِي هِي أَحسنُ مَحَرمٌ وَحَرَّمَهُ اللهُ تَعالى عَلى شِيعَتِنا ، وَكَيفَ يُحَرِّمُ اللهُ الجِدالَ جملَةً وَهُوَ يَقُولُ : (وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى) ، قالَ اللهُ تعالى : (تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ)([45]).

فَجَعلَ عَلمَ الصِّدقِ والإيمانِ بِالبُرهانِ وَهَل يُؤتى بِالبُرهانِ إلّا فِي الجِدالِ بِالَّتِي هِي أحسَنُ؟

قِيل : يا ابنَ رَسُولِ اللهِ فَما الجِدالِ بِالَّتِي هِي أَحسَن وَالَّتِي لَيسَتْ بِأَحسَنَ؟

قالَ : أَمّا الجِدالَ بِغَيرِ الَّتِي هِي أَحسنُ أَن يُجادِلَ مُبطلاً فَيُوردُ دَلِيلاً باطِلاً فَلا تَردَّهُ بِحُجَةِ قَد نَصَبَها اللهُ تعالى وَلكن تَجحَد قَولَهُ ... وَأَمَّا الجِدالُ بالَّتِي هِي أَحسَنُ فَهُوَ ما أَمَرَ اللهُ تعالى بِهِ نِبِيَّهُ أَن يُجادِلَ بِهِ مَنْ جَحَدَ البَعثَ بَعدَ المَوتِ وَإِحياءُهُ لَهُ فَقالَ اللهُ حاكِياً عَنهُ : (وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ* قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ)([46])([47]).

طرق علاج هذه الرذيلة الأخلاقية :

كلّما وجد الإنسان نفسه يعيش حالة الخصومة في مباحثة مع الآخرين ويكثر من الجدل والبحث العقيم وبتعبير الروايات : الجدال غير الحسن بحيث أصبح هذا السلوك بمثابة العادة والخلق له ، فإنّ إيمانه وتقواه ودينه يتعرّض لخطر الذوبان والمحق ، وينبغي عليه الاسراع في انقاذ نفسه من هذه الرذيلة والتخلّص من هذا الخلق الذميم والتحرّك بصدد العلاج قبل أن تتجذّر هذه الصفة في أعماق نفسه.

والطريق الأول للعلاج ولعلّه يعدّ من مقدمات العلاج لتسكين هذه الحالة المؤذية كيما يتسنى للإنسان علاجها فيما بعد هو اختيار السكوت في كل مورد يحتمل فيه أن يكون الجدال بالباطل ، وكلّما استمر هذا السكوت مدّة أطول وتحّمل الضغط النفسي وتحدّيات الحالة المزاجية ، فإنّ ذلك سيوفّر الأرضية المساعدة للتخلّص من شرّ هذه الحالة السلبية ومعالجة هذه الصفة في النفس.

وطبعاً فإنّ السكوت يعدّ علاجاً للكثير من الرذائل (من قبيل الحسد والحقد والنميمة والرياء وكفران النعمة والتهمة والكذب وحبّ التفوّق وغيرها من الرذائل الأخلاقية التي تتجلّى في سلوك الإنسان من خلال الكلام والنطق) فالسكوت يمكنه أن يكون عنصر الوقاية من جميع هذه الموارد ، ولهذا السبب فإنّ الروايات الإسلامية قد مدحت السكوت كثيراً وقد تقدّم تفصيل هذا الموضوع في الجزء الأول من هذا الكتاب.

الطريق الآخر لعلاج هذه الفضيلة الأخلاقية هو التفكّر الدقيق في النتائج السلبية والعواقب الوخيمة المترتبة على هذه الصفة من قبيل أن يكون الإنسان محجوباً عن درك الحقائق ويعيش في زحمة الأوهام والتعصّبات والعداوات بين الأصدقاء ويبتعد بذلك عن حقيقة الإيمان وبالتالي سيكون مورداً للغضب الإلهي وزهوق شخصيته وسقوط حيثيته بين الخاص والعام.

ومن اليقين أنّ التفكّر في مثل هذه العواقب السيئة سيكون له تأثير عميق في وقاية الإنسان عن الوقوع في متاهة الجدال بالباطل ، فكيف يمكن أن يعلم الإنسان بأنّ هذا الغذاء مسموم ويتناوله في نفس الوقت؟ فالشخص الذي يتناول غذاء مسموماً هو الذي لا يدرك آثاره وعواقبه ولا يعلم بحاله.

إنّ إصلاح جذور الخلل في واقع النفس وتطهير الذات من الدوافع والنوازع التي تجرّ الإنسان للخوض في الجدل يعدّ أحد طرق العلاج لهذا الخلق الذميم ، وعند ما نقول الدافع للجدال والمراء فهذا يعني التكبّر وحب التفوّق والتظاهر والحسد وحبّ الانتقام وحبّ الدنيا والتعصّب واللجاجة ، ومن المعلوم أننا إذا استطعنا أن نبعد هذه الحالات السلبية والصفات الذميمة عن أنفسنا ونطهّر قلوبنا من أدرانها فإنّ ذلك من شأنه أن يقلع جذور حالة الجدال والمراء من النفس ، ولكن مع وجود هذه الصفات في أعماق النفس ، فإنّ إزالة هذه الصفة الأخلاقية سيكون عسيراً جداً.

ومن الطرق الاخرى للعلاج هو ابتعاد الشخص عن الأفراد المتعصّبين والذين يحبّون الخوض بالباطل وكذلك الامتناع عن مناقشة مثل هؤلاء الأشخاص حيث سيجرّ الإنسان إلى الجدال والمراء وإن كان غير قاصد لذلك.

وقد ورد في الحديث الشريف عن أمير المؤمنين (عليه‌ السلام) قوله : «مَنْ جالَسَ الجاهِلَ فَليَستَعِدَّ لِقِيلٍ وَقالٍ» ([48]).

ومن البديهي أنّ الإنسان قبل كل ذلك يجب عليه أن يوقظ في نفسه الإرادة والعزم القاطع على ترك المراء والجدال واجتناب هذه الرذيلة الأخلاقية ، فاذا وجد الإنسان في نفسه ذلك وعزم بجدية على ترك المراء فانّه سيفلح في النهاية.

الإنصاف في الكلام :

النقطة المقابلة للمراء والجدال هي الانصاف في البحث والكلام ، أي أنّ الإنسان ينظر إلى كلام الآخرين كما ينظر إلى كلامه ويدافع عنه كما يدافع عن كلامه ، وبتعبير آخر أن يكون طالباً للحق فيبحث عنه ويطلبه من أي شخص كان ومن كل مكان حتّى لو كان الناطق به شخصاً من العوام وكان هو عالماً كبيراً ومعروفاً ، بل حتى لو سمع كلام الحق من طفل أو كافر أو ظالم فعليه قبوله من موقع الإذعان للحق والحقيقة.

وأمّا الانصاف في الروايات الإسلامية الذي ورد الثناء البالغ عليه فالمراد منه أن يرى الشخص مصالح الآخرين كمصالحه ، ولكن أحد أغصان شجرة الانصاف هو الانصاف في الكلام ، حيث ورد في الحديث المعروف عن الإمام الصادق (عليه‌ السلام) قوله : «سَيِّدُ الأَعمالِ ثَلاثَةُ : إِنصافُ النّاسِ مِنْ نَفْسِكَ حَتّى لا ترضى بِشَيءٍ إلّا رَضِيتَ لَهُم مِثلَهُ وَمُواساتِكَ الأَخَ فِي المَالِ وَذِكُرُ اللهِ عَلى كُلُّ حالٍ» ([49]).

والملفت للنظر أنّ بعض الروايات الواردة عن الإمام الصادق (عليه‌ السلام) تتحدّث عن أنّ الإمام عند ما ضمن أربعة قصور في الجنّة لمن يعمل أربعة أعمال ، فإنّه عدّ ترك المراء ثالث عمل وانصاف الناس من النفس العمل الرابع ، ويحتمل أن يكون إشارة إلى الانصاف في الكلام.


[1] سورة الانفال ، الآية 6.

[2] سورة الكهف ، الآية 54.

[3] سورة الحج ، الآية 3.

[4] سورة الحج ، الآية 8.

[5] سورة غافر ، الآية 56.

[6] سورة الزخرف ، الآية 58.

[7] سورة الانعام ، الآية 121.

[8] سورة البقرة ، الآية 197.

[9] سورة الشورى ، الآية 18.

[10] سورة القمر ، الآية 36.

[11] المغازي للواقدي ، ج 1 ، ص 48 ؛ قاموس الرجال ، ج 9 ، ص 15.

[12] سورة الزخرف ، الآية 59.

[13] سورة الأنعام ، الآية 121.

[14] سورة النحل ، الآية 125.

[15] سورة الكهف ، الآية 22.

[16] احياء العلوم ، ج 3 ، ص 1553.

[17] بحار الانوار ، ج 2 ، ص 138 ، ح 52.

[18] المصدر السابق ، ص 129 ، ح 13.

[19] غرر الحكم.

[20] بحار الانوار ، ج 2 ، ص 128 ، ح 6.

[21] المصدر السابق ، ص 134 ، ح 30.

[22] مجموعة الورام ، ج 1 ، ص 117 ، (باب ما جاء في المراء والمزاح).

[23] المحجة البيضاء ، ج 1 ، ص 107.

[24] ميران الحكمة ، ج 1 ، ص 273.

[25] المحجة البيضاء ، ج 5 ، ص 208.

[26] بحار الانوار ، ج 2 ، ص 139 ، ح 53.

[27] بحار الانوار ، ج 2 ، ص 139 ، ح 50.

[28] المصدر السابق ، ص 134 ، ح 31.

[29] المصدر السابق ، ح 32.

[30] المصدر السابق ، ص 128 ، ح 10.

[31] المصدر السابق ، ص 139 ، ح 56.

[32] المصدر السابق ، ص 127 ، ح 3.

[33] غرر الحكم.

[34] سفينة البحار ، مادة «مَرَء» بحار الانوار ، ج 27 ، ص 107 ، ح 79.

[35] بحار الانوار ، ج 2 ، ص 131 ، ح 20.

[36] بحار الانوار ، ج 2 ، ص 135 ، ح 32.

[37] مقدمة كتاب معالم الاصول ، ص 11.

[38] بحار الانوار ، ج 2 ، ص 134 ، ح 31.

[39] سورة الشورى ، الآية 22.

[40] سورة الكهف ، الآية 18.

[41] بحار الانوار ، ج 2 ، ص 129 ، ح 14.

[42] بحار الانوار ، ج 2 ، ص 136 ، ح 39.

[43] سورة العنكبوت ، الآية 46.

[44] سورة النحل ، الآية 125.

[45] سورة البقرة ، الآية 111.

[46] سورة يس ، الآية 78 و 79.

[47] بحار الانوار ، ج 2 ، ص 125 ، ح 2 مع التلخيص.

[48] سفينة البحار ، ج 2 ، ص 532 الطبعة القديمة (مادة مراء).

[49] اصول الكافي ، ج 2 ، ص 144.




جمع فضيلة والفضيلة امر حسن استحسنه العقل السليم على نظر الشارع المقدس من الدين والخلق ، فالفضائل هي كل درجة او مقام في الدين او الخلق او السلوك العلمي او العملي اتصف به صاحبها .
فالتحلي بالفضائل يعتبر سمة من سمات المؤمنين الموقنين الذين يسعون الى الكمال في الحياة الدنيا ليكونوا من الذين رضي الله عنهم ، فالتحلي بفضائل الاخلاق أمراً ميسورا للكثير من المؤمنين الذين يدأبون على ترويض انفسهم وابعادها عن مواطن الشبهة والرذيلة .
وكثيرة هي الفضائل منها: الصبر والشجاعة والعفة و الكرم والجود والعفو و الشكر و الورع وحسن الخلق و بر الوالدين و صلة الرحم و حسن الظن و الطهارة و الضيافةو الزهد وغيرها الكثير من الفضائل الموصلة الى جنان الله تعالى ورضوانه.





تعني الخصال الذميمة وهي تقابل الفضائل وهي عبارة عن هيأة نفسانية تصدر عنها الافعال القبيحة في سهولة ويسر وقيل هي ميل مكتسب من تكرار افعال يأباها القانون الاخلاقي والضمير فهي عادة فعل الشيء او هي عادة سيئة تميل للجبن والتردد والافراط والكذب والشح .
فيجب الابتعاد و التخلي عنها لما تحمله من مساوئ وآهات تودي بحاملها الى الابتعاد عن الله تعالى كما ان المتصف بها يخرج من دائرة الرحمة الالهية ويدخل الى دائرة الغفلة الشيطانية. والرذائل كثيرة منها : البخل و الحسد والرياء و الغيبة و النميمة والجبن و الجهل و الطمع و الشره و القسوة و الكبر و الكذب و السباب و الشماتة , وغيرها الكثير من الرذائل التي نهى الشارع المقدس عنها وذم المتصف بها .






هي ما تأخذ بها نفسك من محمود الخصال وحميد الفعال ، وهي حفظ الإنسان وضبط أعضائه وجوارحه وأقواله وأفعاله عن جميع انواع الخطأ والسوء وهي ملكة تعصم عما يُشين ، ورياضة النفس بالتعليم والتهذيب على ما ينبغي واستعمال ما يحمد قولاً وفعلاً والأخذ بمكارم الاخلاق والوقوف مع المستحسنات وحقيقة الأدب استعمال الخُلق الجميل ولهذا كان الأدب استخراجًا لما في الطبيعة من الكمال من القول إلى الفعل وقيل : هو عبارة عن معرفة ما يحترز به عن جميع أنواع الخطأ.
وورد عن ابن مسعود قوله : إنَّ هذا القرآن مأدبة الله تعالى ؛ فتعلموا من مأدبته ، فالقرآن هو منبع الفضائل والآداب المحمودة.