أقرأ أيضاً
التاريخ: 2025-01-05
627
التاريخ: 2024-08-16
588
التاريخ: 28/9/2022
1565
التاريخ: 20/9/2022
1741
|
تنويه :
«شكر النعمة» يمكن أن يكون باللسان أو بالعمل ، وعليه فإنّ «الكفران» هو عدم الاعتناء بالنعم وتحقيرها وتضييعها ، وهو أيضاً من الرذائل الأخلاقية ذات العواقب الوخيمة ، سواء كانت على الصعيد الفردي أو الاجتماعي ، والواقع أنّ الشكر يقرّب القلوب ويحكّم المحبّة في المجتمع ، والكفران يقطع أواصر المحبّة والوئام ويجعل من المجتمع جهنّماً لا يطاق يعيش فيه الانسان حالات من العداوة والبغض والحقد!
كفران النعمة مانع كبير أمام تكامل الروح الإنسانية وتهذيبها والسير إلى الله تعالى ، حيث يتسبب في ذبول عناصر الخير في الضمير ويطفئ النور الباطني الممتد في أعماق الوجدان ويلّوث الروح.
و «شكر النعمة» هو قضية فطرية ، اودعت في الإنسان لتفتح له آفاق التوحيد ومعرفة الله تعالى ، ولهذا نجد أنّ كثيراً من علماء العقائد يفتتحون بحوثهم بمسألة «ضرورة معرفة المنعم» ، وسيأتي شرحها في المستقبل إن شاء الله تعالى.
بهذه الإشارة نعود للقرآن الكريم لنستعرض فيه الآيات التي تذم حالة الكفران ، وتمدح حالة الشكر للنعمة :
1 ـ (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ)([1]).
2 ـ (وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ)([2]).
3 ـ (وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ)([3]).
4 ـ (وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ* وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ)([4]).
5 ـ (وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً)([5]).
6 ـ (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ* جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ)([6]).
7 ـ (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ)([7]).
8 ـ (لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ* فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ* ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ)([8]).
تفسير واستنتاج :
«الآية الاولى» تستعرض كلام النبي موسى (عليه السلام) مع بني اسرائيل ، حيث يذكرهم بأمر إلهي مهم : (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ) ، فذكّرهم النبي (عليه السلام) بقضية الشكر ومعطياته والكفران وآثاره السلبية وذلك بعد ما انتصروا على فرعون ونالوا الاستقلال وذاقوا طعم الحرية والعظمة وظهرت منهم بوادر كفران النعمة.
جملة (لَأَزِيدَنَّكُمْ) فيها أنواع من التأكيدات ، فهي وعد إلهي قطعي للشاكرين ، بأنّه سيزيدهم من فضله ، واللطيف في الأمر أنّ الله تعالى لم يخاطب كفّار النعمة بالقول : «لأُعذّبنكم» بل قال : (إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ) وهو نهاية اللطف والرحمة في دائرة التعامل المولوي تجاه المخلوقين ، وفي نفس الوقت تهديد شديد ووعيد مخيف لكفّار النعم بأنّ عليهم أخذ العبرة من قصة بني اسرائيل عند ما كفروا أنعُم الله «فتاهوا» في الصحراء أربعين سنة.
في «الآية الثانية» يدور الحديث عن النبي سليمان (عليه السلام) وقومه ، عند ما اقترح عليهم أن يأتوه بعرش ملكة «سبأ» ، فقال له أحد حواريه وكان عنده علم من الكتاب : (أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ) ، فشعر سليمان (عليه السلام) بالفرح يغمر نفسه لوجود مثل هذه الشخصيات في بلاطه ولديهم الروحيات والمعنويات القوية ، فقرر أن يشكر الخالق تعالى ، فقال : (وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ).
والجدير بالذكر أنّ ثواب الشاكر ذكر في هذه الآية بوضوح ، ولكن عقاب من يكفر بالنعمة ذكر بصورة غير مباشرة (وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ) حيث ركزت الآية على كرم الله تعالى ، وهو نهاية رحمة الله ولطفه في دائرة التخاطب مع الإنسان.
ويمكن استفادة نقطة مهمّة اخرى من الجملة الانفة الذكر ، وهي أنّ الله تبارك وتعالى يحذّر عباده من الكفر ويدعوهم للشكر لا لحاجة منه إليهم ، وحتى على فرض كفران النعمة فإنّه يفيض من كرمه ولطفه على الناس لعلّهم يرجعون عن غيّهم ولا يحرمون أنفسهم من أنعُم الله تعالى.
وأساساً فإنّ الكتب الإلهية تعود بالنفع على العباد أنفسهم ، فهي بمثابة دروس لهم ، لتربية أنفسهم ، فالباري تعالى غنيٌّ بذاته ولا يحتاج إلى أحد ، لا لطاعة العباد ولا عصيانهم ولا يضرونه بالعصيان شيئاً.
«الآية الثالثة» تحمل مضمون الآية السابقة حيث تستعرض لنا قصة «لقمان الحكيم» : (وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ).
الحكمة التي أتاها الله تعالى للقمان تشمل معرفة أسرار الكون والعلم بطرق الهداية والصلاح ، والطريقة المثلى للحياة الفردية والاجتماعية ، التي جاءت بصورة نصائح لقمان لابنه في سورة لقمان ، وهي موهبة إلهية ونعمة روحية أكّد الله تعالى على أهميّتها ، كما ذكر في الآية التي قبلها على أحدى النعم المعنوية ، حتى لا يغرق الناس في منزلقات النعم المادية ويتصورون أنّ النعم والمواهب الإلهية تنحصر في الماديّات فقط.
ويجدر هنا الإشارة إلى نقطتين :
«الأولى» إنّ الشكر أتى بصورة الفعل المضارع ، والكفران بصيغة الماضي ، وهي إشارة إلى أنّ مسير التكامل والرقيّ والقرب إلى الله تعالى يحتاج إلى المداومة على الشكر في حين أنّ لحظة من كفران بإمكانها أن تفضي إلى نتائج وخيمة وعواقب مؤلمة.
و «الثاني» إنّ الآية ركّزت على صفتي (الغني الحميد) ، بينما كان التركيز في آية النبي سليمان (عليه السلام) على صفتي (الغني والكريم) وهذا الفرق يمكن أن يكون إشارة إلى أنّ الله تعالى غنيٌّ عن شكر المخلوقين ، فالملائكة تسبح بحمده وتقدسه على الدوام ، وإن كان غنيّاً عنهم أيضاً ، ولكن العباد بشكرهم يستوجبون المزيد من النعم عليهم.
«الآية الرابعة» انطلقت للحديث عن الأشخاص الذين يعيشون ضيق الافق وعدم الإيمان والتقوى ، فهم يعيشون الكفران للنعمة بكل وجودهم : (وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ* وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ).
نحن نعلم أنّ القرآن الكريم عند ما يتحدث عن الإنسان في واقعه السيء ويصفه بصفات ذميمة بصورة مطلقة ، إنّما يقصد الإنسان المنفصل عن الله في حركة الحياة ومن يعيش عدم الإيمان أو ضعف الإيمان ، ولهذا ورد في الآية التي جاءت بعد الآيات مورد بحثنا : (إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ).
بهذا الاستثناء يتبيّن أنّ الأفراد الذين يعيشون حالة اليأس من رحمة الله والغافلين والكفورين ، أفراد لم يصلوا في واقعهم النفسي لمرحلة الإيمان بعد.
وعلى العموم يمكن أن نستنتج من الآيات الآنفة الذكر ، أنّ الكفران وعدم الشكر تؤدي بالإنسان إلى التلّوث بصفات سيئة اخرى تحرمه المغفرة والأجر الكبير.
تعبير «لئن أذقنا» تعبير لطيف في الموردين فيقول : إنّ ضعاف النفوس والإيمان إذا سلبت منهم نعمة من النعم ، فسرعان ما يجري على ألسنتهم الكفر ويدب اليأس في قلوبهم ، وإن جاءتهم نعمة إذا بهم يغترّون ويتحركون في أجواء الغفلة والطغيان ، والدنيا هي كلها شيء صغير وحقير ، وما يصل إلى الإنسان منها أصغر وأحقر ، ومع ذلك فإنّهم يتأثرون بسرعة لضعف نفوسهم وضيق آفاق إيمانهم.
ولكن الإيمان بالله تعالى ومعرفة ذاته المقدسة اللّامتناهية في القدرة والعلم ، تمنح الإنسان عناصر القوة والحركة وتعينه على مواجهة أكبر الحوادث السيئة والحسنة دون أن تؤثر في نفسه شيئاً.
وتنطلق «الآية الخامسة» لتشير إلى الأفراد الذين يتوجهون إلى الله تعالى عند وقوع المصيبة ويدعونه ويتوسلون بلطفه بكل وجودهم ، وبمجرّد انقشاع سحائب الأزمة ينسون كل شيء ويكفرون مرّة اخرى : (وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً)
وطالما جرّبنا هذا الأمر في حياتنا الشخصية وشاهدنا ضعيفي الإيمان عند ما يمحصون بالبلاء ، كالمرض والفقر والمصائب الاخرى ، يتوجهون بإخلاص للباري تعالى وبمجرّد انكشاف تلك المصائب وعودة المياه إلى مجاريها تراهم يتغيّرون ويسلكون طريق الكفر والحال أنّ الإنسان في هذه الأحوال أيضاً يجب عليه التوجه والالتجاء إلى الذات المقدسة أكثر من ذي قبل.
وفي تكملة الآية الكريمة يعبّر القرآن الكريم بتعبير جميل جدّاً حيث يقول : (أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً).
فهنا إشارة إلى أنّه كيف يمكن أن تكفروا وتتغيّروا فأينما تذهبوا فأنتم تحت سلطته ، وبإمكانه أن يعذبكم في أي مكان كنتم فيه سواء في البرّ أو في البحر؟
ويجب التوجه إلى أنّ كلمتي «الخسف» و «الغرق» في هذه الآية لهما مفهوم مترادف فالأولى يراد بها الاختفاء في الأرض ، والثانية الاختفاء في البحر.
«الآية السادسة» من الآيات تتوجه بالخطاب إلى الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) وتشرح عاقبة كفران النعم : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ) وبعدها يضيف : (جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ).
هذه التعبيرات تبيّن أنّ كفران النعم الإلهية ، يمكن أن يؤدي بقوم أو بمجتمع بأكمله إلى قعر جهنّم ولا يستبعد نزول العذاب الدنيوي فيها حيث تبدل دنياهم إلى جحيم لا يطاق.
وقد اختلف المفسّرون في المقصود من النعمة في هذه الآية ، فبعض قال : إنّها بركة وجود الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) فالعرب المشركون قد كفروا بالنعمة بإنكارهم لدعوته ورفضهم الاذعان لرسالته فاحلّوا قومهم دار البوار ، وفسّرها البعض الآخر بأهل البيت (عليهم السلام) حيث كفر بهم البعض أمثال بني امية ، ولكن على الظاهر أنّ مفهوم الآية أوسع من هذه الدوائر والاطر في مصاديق الآية ويشمل جميع النعم الإلهية ، وما ذكر آنفاً يعدّ من مصاديقها الواضحة ، على الرغم من تصريح الآيات التي وردت بعدها بالأشخاص الذين تركوا الإسلام والتوحيد واختاروا الشرك وعبادة الأصنام ، ولكن هذه النماذج تعتبر أيضاً من مصاديقها البارزة.
وقال البعض الآخر : مثل الفخر الرازي والمرحوم الطبرسي في مجمع البيان ، إنّ سبب النزول لهذه الآية ناظر لأهل مكّة الذين أعطاهم الله تعالى أنواع النِعم وأهمها بعثة الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) من بين ظهرانيهم ، ولكنهم لم يقدّروا تلك النعمة وكفروا بها ، فأصبحت عاقبتهم أليمة ، فكفرهم بنعمة الرسول (صلى الله عليه وآله) هو نفس كفرهم بالله والرسالة!
ولكننا نعلم أنّ شأن النزول لا يخصص مفهوم الآية بمورد خاص.
وتأتي «الآية السابعة» لتتحدث عن جماعة أنعم الله تعالى عليهم بنعمة ظاهرة وباطنة ، نعمة الأمان والرزق الكثير والنعم المعنوية والروحية التي نزلت عليهم بواسطة نبيّهم ولكنّهم كفروا تلك النعم فعاقبهم الله تعالى بعقاب الجوع والخوف :
(وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ)
اختلف المفسّرون بأن هذه الآية هل تشير إلى مكان بالخصوص أم إنّها مثال عام كلي ، فبعض يعتقد أنّها أرض مكّة ، وتعبير (يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ ...) ، يقوي ذلك الاحتمال ، لأنّه ينطبق بالكامل على أحوال وشرائط مكّة ، إذ هي أرض جافة وصحراء قاحلة غير ذات زرع وماء ولكن الله سبحانه قد باركها وأنزل عليها النعم من كل مكان.
وتعبير (كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً) هو قرينة اخرى على أنّها مكّة ، فأرض الحجاز غالباً ما كانت أرضاً غير آمنة إلّا مكّة وذلك ببركة وجود الكعبة الشريفة.
وعند ما وصلت النعم المادية على أهل مكّة إلى الذروة أتمها الله تعالى ببعثة النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) ، ولكنّهم كفروا النعم الماديّة والمعنوية ، فابتلاهم الله تعالى بالقحط والخوف ، وهذا هو مصير من كفر بأنعم الله تعالى.
ومع ذلك فإنّ مفهوم الآية يمكن أن يكون أعم فيستوعب في مضمونه جميع من يكفر بالنعمة وأرض مكّة هي أحد مصاديق هذه الآية ، حيث ورد في الروايات أن القحط والجوع أخذ منهم مأخذاً كبيراً بحيث كانوا يتغذّون على أجساد الموتى لسدّ جوعهم ، وكذلك في الغزوات الإسلامية ، حيث أضرّت بهم كثيراً.
«الآية الثامنة» من الآيات ، تتطرق إلى قوم من أكفر الناس ، وهم (قوم سبأ) حيث حباهم الله تعالى : بأفضل النعم وأحسنها ، ولكن غرورهم وغفلتهم واتباعهم لأهوائهم ، أعماهم وأضلّهم ، فكفروا ، فأخذهم الله بذنوبهم ومحق تلك النعم من أيديهم ، فقال :
(لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ).
وقد ذكر المفسّرون أنّه على الرغم من أنّ أرض اليمن خصبة ولكن لفقدان الأنهار فيها ، كانت أغلب أراضيها بائرة لا يستفاد منها ، ففكر القوم ببناء سدّ يمنع السيول القادمة من الجبال ، فبنوا عدّة سدود وأهمها (سد مأرب) حيث كان يقف أمام السيول بين جبلي بلق العظيمين ، فتجتمع خلفه مياه كثيرة استطاعوا بواسطتها أن يزرعوا ويسقوا به جنائن وبساتين كثيرة قامت على طرفي السدّ ، ونشأت حولها القرى وأصبحت مركزاً عظيماً للنشاط التجاري وتجمع الناس ، فالقرى كانت متصلة ببعضها بحيث أن ظلال الأشجار كانت متصلة على طول الطريق ووفور تلك النعم كان مقترناً مع الأمان الاجتماعي والرفاه الاقتصادي ، فكانت حياتهم هانئة جدّاً ، اجتمعت فيها كل متطلبات الحياة آنذاك ومثل هذه الأجواء كان من شأنها أن تفضي لإطاعة الله تعالى والتكامل الروحي.
ويستمر القرآن الكريم ، فيقول إنّ النعم أصبحت كثيرة جدّاً ممّا حدى بهم لأنّ تتحرك فيهم عناصر الطغيان فنسوا ذكر الله تعالى وأخذوا يتفاخرون ويقسّمون الناس إلى طبقات ، ولكنهم بالتالي ذاقوا وبال أعمالهم فأرسل الباري تعالى عليهم سيل العرم : (فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ* ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ).
ومن عجائب هذه القصّة أنّ المفسّرين ذكروا هجوم الجرذان الصحراوية على السدّ فأخذت تنخر فيه من الداخل دون أن يراها الناس المغرورون المشتغلون بالملذّات وكفران النعم ، وفجأة أمطرت السماء مطراً شديداً ، وتحرّك سيل عظيم وتجمعت المياه خلف السدّ ، ولكن جدران السد لم تتحمل كل هذا الضغط ، فانهارت وأخذ السيل طريقه للقرى والأراضي الزراعية ، فلم يُبق لها شيء ، لا مزارع ولا أنعام ، وتبدل كل شيء إلى صحراء قاحلة لا ينمو فيها سوى النباتات البرية ، ففرت الطيور الجميلة وحلّت محلّها الغربان والبوم ، وتفرق الناس إلى الأطراف وأصبحوا من أفقر الناس يأسفون على ماضيهم الجميل ، ولكن هيهات ، حيث لا تفيد ساعة ندم.
نعم فهذه هي حال الأقوام التي تغفل عن ذكر الله وتكفر بأنعمه.
والطريف في الأمر أنّ الأثرياء منهم اعترضوا على قرب المسافات بينهم ، حيث يستطيع أن يسافر كل أحد لقرب المسافة ووفرة الخير في الطريق ، فقالوا : أصبح بإمكان الفقير أن يسافر معنا أيضاً ، فطلبوا من الله تعالى أن يباعد بين أسفارهم حتى لا يستطيع الفقراء السفر معهم أيضاً ، نعم فقد وصلوا إلى أعلى مراتب الطغيان ، فعاقبهم الله تعالى بأشدّ العقاب ، فتفرق جمعهم وأصبحوا مضرباً للأمثال وخصوصاً في الفرقة ، فقالوا فيهم : (تفرقوا أيادي سبأ).
من مجموع الآيات محل البحث تتبين خطورة وبشاعة كفران النعم ، حيث تناولت الآيات هذه المسألة وآثارها السيئة على الفرد والمجتمع وخاصة ما أحلّ الكفران بالأقوام السابقة من نتائج مدمرة وعواقب مشؤومة في حركة الإنسان والحياة.
كفران النعم في الروايات الإسلامية :
تناولت الروايات الإسلامية هذه المسألة بصورة واسعة ومفصلّة وتكلّمت عن آثار حالة الكفران المشؤومة وأضرارها ، وكذلك تناولت بركات الشكر للنعم والمواهب الإلهية ، ومنها :
1 ـ جاء في حديث عن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) أنّه قال : «أَسرَعُ الذُّنُوبِ عُقُوبَةً كُفرانُ النِّعْمَةِ» ([9]).
2 ـ ونقرأ في حديث عن أمير المؤمنين علي (عليه السلام) أنّه قال : «سَبَبُ زَوالِ النِّعَمِ الكُفرانُ» ([10]).
3 ـ وعنه أيضاً (عليه السلام) : «كُفرُ النِّعْمَةِ مُزيلُها وَشُكرُها مُستَدِيمُها» ([11]).
4 ـ في حديث آخر عنه (عليه السلام) : «كُفرانُ النِّعَمِ يُزِلُّ القَدَمَ وَيَسلُبُ النِّعَمَ» ([12])
5 ـ وأيضاً عنه (عليه السلام) : «آفَةُ النِّعَمِ الكُفرانِ» ([13]).
6 ـ وعنه (عليه السلام) أيضاً : «كافِرُ النِّعْمَةِ كافِرُ فَضلِ اللهِ» ([14]).
7 ـ والاستدراج هو أحد عقوبات الباري تعالى ويعني أنّ الله تعالى يغدق على عبده الكافر نعمه ثم يسلبها منه حتى يحس بالألم والعناء الشديدين ، وقد جاء في حديث عن الإمام الحسين (عليه السلام) : «الاِستِدراجُ مِنَ اللهِ سُبحانَهُ لِعَبدِهِ أَنْ يُسْبِغَ عَلَيهِ النِّعَمَ وَيَسلُبَهُ الشُّكرَ» ([15]).
8 ـ عن الإمام السجاد علي بن الحسين (عليه السلام) أنّه قال : «الذُّنُوبُ الَّتِي تُغَيُّرُ النِّعَمَ البَغيُ عَلَى النّاسِ والزَّوالُ عَنِ العادَةِ فِي الخَيرِ واصطِناعُ المَعرُوفِ ، وَكُفرانُ النِّعَمِ وَتَركِ الشُّكْرِ» ([16]).
9 ـ وفي حديث عن أمير المؤمنين علي (عليه السلام) أنّه قال : «كُفرُ النِّعْمَةِ لُؤمٌ وَصُحْبَةُ الأحمَقِ شُؤمٌ» ([17]).
10 ـ وختاماً نختم بحثنا بهذا الحديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) في معرض حديثه عن جنود العقل وجنود الجهل ، حيث أمر أصحابه بأن يتعرفوا على جنود العقل وجنود الجهل ، وعند ما سأله بعض أصحابه عنه قال : «إنّ اللهَ جَعَلَ للِعَقلِ خَمساً وَسَبعينَ جُندِياً وَضِدَّهُ الجَهلُ إلى أن قال ـ والشُّكرُ وضِده الكُفرانُ» ([18]).
ما ذكر في الروايات العشر السابقة ، يبيّن مدى خطورة هذه الرذيلة وآثارها السيئة على مستوى الحياة الفردية والاجتماعية وكيف أنّ الإنسان ينحدر من أوج الكرامة وذروة النعمة إلى قعر الذلّة والمسكنة ، وتسلب منه التوفيقات الإلهية ويبتعد عن الله تعالى ويقترب من الشيطان.
وهنا يجدر الإشارة إلى عدّة نقاط :
1 ـ معنى كفران النعمة
الكفر يعني في الأصل الإخفاء ، وبما أنّ الكافر يسعى في إخفاء وتغطية النعمة ، وقيمتها فسمّي عمله بالكفران.
ومن البديهي أنّ الكفران مرّة يكون بالقلب واخرى باللسان واخرى بالعمل.
ففي قلبه لا يستشعر الإنسان أهمية تلك النعمة ، ويصرّح بلسانه بقلّة النعمة وعدم أهميتها ، وفي العمل لا يتحرك من موقع الاهتمام بمواهب الله عليه ، وبدلاً من أن يستعملها بالخير ، يستعملها بالشر ولذلك قال كبار علماء الأخلاق : «الشُّكْرُ صَرفُ العَبدُ جَمِيعَ ما أَنْعَمَهُ اللهُ تَعالى فِي ما خُلِقَ لأجلِهِ».
لذلك فالكفران هو استعمال النعم في غير محلها ، فالعين التي وهبها الله تعالى للإنسان ليرى بها طريق الحق والآيات الإلهية ويشخص بها الطريق السوي من البئر لئلا يقع فيه ، فإذا به يستعملها في موارد الحرام ، وكذلك اليد والاذن وغيرها من الجوارح أو المال والثروة.
وكأنّ هذا الكلام مقتبس من كلام الإمام الصادق (عليه السلام) ، حيث يقول : «شُكرُ النِّعمَةِ إجتِنابُ المَحارمِ» ([19]).
وبهذا يتبيّن لنا معنى الشكر وعدم الشكر.
2 ـ عواقب الكفران
الكفران بالنعمة يفضي إلى نتائج سيئة كثيرة في دائرة الماديات والمعنويات في حياة الإنسان فمن ذلك أنّه يتسبب في زوال النعم ، لأنّ الباري تعالى حكيم ، لا يعطي شخصاً شيئاً بدون حساب ولا يسلب أحداً شيئاً بلا مبرر ، فالذين يكفرون بالمنعم فلسان حالهم يقول : بأننا لا نليق ولا نستحق هذه النعم ، فتوجب الحكمة الإلهية سلب تلك النعم منهم ، والذين يشكرون النعم فلسان حالهم يقول : إننا نستحق تلك النعم الإلهية وزد علينا يا ربّ ، مثلاً عند ما يرى الفلاح أنّ في بستانه أشجاراً مورقة أكثر من غيرها فسوف يعتني بها أكثر من غيرها حتى تنمو وتكبر بسرعة وتثمر ، وإذا شاهد أشجاراً لا تثمر ولا تورق ولا ظلّ لها مهما أهتم بها وبذل لها العناية في مجال السقي والتهذيب ، فكفران الأشجار للنعمة يدعو الفلاح لعدم الاعتناء بها وتركها لحالها.
وقد ورد في حديث عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنّه قال : «مَنْ شَكَرَ النِّعَمَ بِجِنانِهِ استَحَقَّ المَزيدَ قَبْلَ أَن يَظهَرَ عَلَى لِسانِهِ» ([20]).
وجاء في روايات اخرى نقلت عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه وبمجرّد الحمد والثناء يصدر الباري تعالى أمره بزيادة النعم على ذلك العبد ، فقال : «ما أَنْعَمَ اللهُ عَلَى عَبدٍ مِنْ نِعمَةٍ فَعَرَفَها بِقَلبِهِ وَحَمِدَ اللهَ ظاهِراً بِلِسانِهِ فَتَمَّ كَلامُهُ حَتّى يُؤمَرَ لَهُ بِالمَزيدِ» ([21]).
وبديهي أنّ الكفران يفضي إلى نتائج معاكسة كذلك ، ويمكن أن يلطف به الله تعالى ويؤخر عنه سلب النعمة ولكن وعلى أية حال إذا لم يتنبه الإنسان وبقي على ما هو عليه في دائرة الغفلة والجحود للنعمة ، فستسلب منه بالتأكيد ، لأنّ ذلك من لوازم الحكمة الإلهية.
ومن جهة اخرى فإنّ الكفران يسبب البعد من الله تعالى وهو الخسران الأكبر ، فعظماء علماء الكلام في أول أبحاثهم ذهبوا إلى أن شكر المنعم هو من أول الدوافع لمعرفة الباري تعالى وأنّ شكر المنعم أمر وجداني ، فعند ما يرى الإنسان نفسه غارقاً بالنعم الظاهرة والباطنة ، وأنّها ليست منه فسيسعى لشكر المنعم من خلال البحث عن مصدر النعمة ، وهذا هو الذي يُمهد الطريق لمعرفة الله تعالى ، ولكنّ الناكرين لأنعم الله والذين لا يقدّرون المنعم فسيحرمون من معرفة الله تعالى ، بالإضافة إلى ذلك فإنّ عدم شكر الخالق يفضي بدوره إلى عدم شكر المخلوق ، فلا يقيم وزناً لجميل الآخرين ومعروفهم ، وكأنّه هو الذي له الحق عليهم ، ممّا يسبّب نفور الناس منه وكراهيتهم له ، وبالتالي سيؤدي إلى العزلة والانزواء في حركة الواقع الاجتماعي وقلّة الصديق والناصر في مقابل المشكلات وتحديات الواقع الصعبة.
أسباب ودوافع الكفران وطرق علاجه :
التقصير في الشكر ينشأ من عدم معرفة الإنسان بالمنعم بصورة كاملة ، وأساساً فانّه لا يتحرك في طريق التدبّر في النعم الإلهية ، فمثلاً عند ما ننظر إلى بدننا وما فيه من عجائب ودقائق وتفاصيل على مستوى الخلقة فسنتوجه إلى أهمية تلك النعم ويتحرك فينا حسّ الشكر لله تعالى.
وعلى سبيل المثال إذا استطاع البشر أن يصنع مثل الأجهزة الموجودة في الإنسان (مثل القلب والكبد والكلية والرئتين) فستكون قطعاً أقل كيفية من صنع خالقها ، وستكلفه الكثير جدّاً ، وعلى هذا فإذا أردنا حساب قيمة ما يوجد لدينا من أعضاء وجوارح بدنية فسيتبين أنّ لدينا وبحوزتنا ثروة كبيرة جدّاً.
أمّا النعم الخارجية ، فيمكن أن تكون جرعة ماء تساوي الدنيا بما فيها ، وقد نقل عن بعض العلماء أنّه دخل على أحد الملوك وكان بيد الملك قدح ماء فأراد أن يشرب فتوجه للعالم الكبير وقال له عِظني ، فقال له العالم : إذا كنت في يوم من الأيّام عطشاناً لدرجة الموت وجاءوك بالماء بشرط أن تتنازل عن الملك ، فهل ستتنازل؟ فقال نعم ، فلا حيلة في ذلك.
فقال له : كيف تتعلق بُملك وحكومة تساوي شربة ماء؟
ويرى الإنسان حيناً آخر مريضاً يصرخ من شدّة الألم بحيث يتمنى الموت على هذا الألم ، فلو اعطيت للإنسان الدنيا بأسرها وهو على ذلك المرض ، فلن يقبل بذلك ، بل يرضى أن يأخذوا منه كلّ شيء إلّا العافية.
هناك نعمٌ ظاهرها غير مهم لكنّها إن فقدت فستتعرض حياة الإنسان للخطر ، مثل غدد اللّعاب التي ترطب الشفاه والفم وتلين الأكل وتسهل عملية البلع ، فإذا توقفت هذه الغدد في يوم ما فسيجف الفم ويعسر عليه الأكل ويتوقف عن الكلام وتصبح الحياة مستحيلة ، فذلك الجزء الصغير من بدن الإنسان أهم بكثير من ثروات الدنيا أجمع.
وكذلك في نعمة الشمس والهواء والنباتات والمواهب الاخرى العظيمة وعلى حدّ تعبير القرآن الكريم : (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها)([22]).
ويجب التنبه أنّ كثيراً من النعم الإلهية لا يتسنى للإنسان معرفتها ، لأنّها لن تُسلب منه ، فبعض النعم والمواهب تعيش مع الإنسان فاذا سلبت منه عرفها وأقرّ بعظمتها ، وبعضها سيبقى في الكتمان وهي كثيرة جدّاً.
مثلاً مسألة الجاذبية فلم يكن أحد يعرف قبل السفر إلى الفضاء وفقدان الجاذبية هناك ، كم هي مهمّة هنا على الأرض ، إذ لولاها لما استطاع الإنسان أن يفعل شيئاً لا زراعة ولا صناعة ولا حركة ، فأقل حركة من الإنسان سيرتطم بالسقف والجدار وستتناثر الأطعمة والأشربة من المائدة ولن يستطيع الإنسان أن يأكل أو يشرب شيئاً ، فحركة الأرض تؤدي إلى قدف كل شيء في الفضاء لو لا الجاذبية وستتحول الأرض إلى صحراء قاحلة محرقة ، فتفكروا إننا لو قضينا العمر في شكر هذه النعمة فهل سنؤدّي شكرها؟
وإذا أضفنا إليها النعم المعنوية وهداية الأنبياء وكلام المعصومين (عليهم السلام) ونزول الكتب الإلهية ، والتي هي أعلى وأهم من النعم الماديّة ، فسنعرف مدى عظمة وقيمة مواهب الرحمن وسنعرف قدرتنا على الشكر كم هي ضعيفة وضئيلة.
فالتوجه لهذه الامور تقلع جذور الكفران وتحيي فيه روح الشكر.
ومنها نعرف طريقة العلاج ، ولذلك قالوا : إنّ أول طريق للشكر هو المعرفة والتفكير بالمواهب والصنائع الإلهية وأنواع نعمه الظاهرة والباطنة ([23]).
الطريقة الاخرى : هي النظر في دائرة النعم والمواهب المادية إلى المستويات الدنيا للناس ، فكلما فكّر الإنسان فيها فستبعث فيه روح الشكر ، ولكن إذا نظر إلى من هو أعلى منه من حيث الثروة والنعمة فسوف تستولي عليه الوساوس الشيطانية وتؤذيه.
ومن جهة ثالثة إذا ابتلي بمصائب الدنيا ، فليعلم أنّه يوجد مصائب أكبر من التي اصابته وليشكر الله أنّه لم يتورط بالأكبر والأشد منها.
وقد نقل عن شخص أنّه اشتكى عند أحد العظماء أنّ السارق قد أتى وسرق كل شيء ، فقال له : اذهب واشكر الله تعالى إذ لم يأت الشيطان الى بيتك بدلاً من السارق ، فلو أخذ منك إيمانك فما كنت تفعل؟ ([24])
وقد ذكر الإمام الصادق (عليه السلام) في كتاب «التوحيد» المعروف بتوحيد المفضل حقائق توحيدية هامة من موقع تحليل ماهية النعم الإلهية في تفاصيلها الدقيقة ومن خلالها ينفتح الإنسان على المنعم الحقيقي.
ومن جملتها نعمة الكلام والكتابة وقد اعتبرها الإمام الصادق (عليه السلام) عمود الحضارة الإنسانية : وبعد شرح طويل لها قال : «فَإنّه لَو لَم يَكُن لَهُ لِسان مُهيأ للكَلامِ وَذِهن يَهتَدِي بِهِ للأمور لَم يَكُن لِيتَكَلَّمَ أَبَداً ، وَلَو لَم يَكُن لَهُ مُهيأةً وَأَصابِعَ للِكِتابَةِ لِيَكتُبَ أَبداً ، واعتَبر ذَلِكَ مِنَ البَهائِمِ الّتي لا كَلامَ لَها ولا كِتابَةَ ، فَأصلِ ذَلِكَ فَطرَةِ الباري عَزَّ وجَلَّ وما تَفضل بِهِ عَلَى خَلقِهِ ، فَمن شَكَرَ اثِيبَ ، وَمَنْ كَفَرَ فإنَّ اللهَ غَنِيٌ عَنِ العالَمِينَ» ([25]).
الشكر قناة موصلة للنعم الإلهية :
النقطة المقابلة للكفران ، هي شكر الإله ، ومفهومها تقدير النعم بالقلب واللسان والعمل ، أمّا التي بالقلب فهي معرفة الخالق والتسليم إليه والرضا بعطائه وذكر الامور التي تبيّن تقدير وشكر الخالق من قبل المخلوق في مقابل نعمه تبارك وتعالى ، أمّا من الناحية العملية فهو وضع النعم والمواهب الإلهية في المكان اللائق والذي خلقها الله تعالى لأجله.
يقول الراغب في المفردات : الشكر هو بمعنى التصور للنعمة واظهارها ، وقال البعض أن الكلمة في الأصل كانت «كشر» بمعنى الإظهار والابراز (والدابة الشكورة) تطلق على الحيوان الذي يواظب ويهتم بالزرع والماء وتسمن يوماً بعد يوم ، و «العين الشكراء» بمعنى العين المليئة بالماء ولذلك فإنّ الشكر بمعنى امتلاء وجود الإنسان من ذكر المنعم للنعم.
والشكر على نوعين : شكر تكويني وشكر تشريعي ، الشكر التكويني هو شكر المخلوق للمواهب والنعم التي بحوزته وتحت تسلطه ، لتنمو كالشجر والورد والثمرة تكون تحت إشراف الفلّاح الخبير الذي يعرف كيف تثمر الثمار الجيدة ، والكفران هو عدم ظهور أثر للمحافظة والمراقبة فيها من قبل الفلّاح.
لذلك فإنّ الذي يستعمل النعم الإلهية في طريق العصيان فقد كفرها تكوينيّاً.
الشكر التشريعي هو أن يقوم الإنسان بشكر الخالق بالقلب واللسان.
وذكرنا سابقاً أنّ الإنسان لا يستطيع أن يؤدّي شكر الخالق ونعمه ، لأنّ نفس هذا التوفيق للشكر هو نعمة منه تعالى وهو نفسه يحتاج لشكر آخر ، ولذلك جاء في رواياتنا الإسلامية أنّ أفضل شكر الإنسان هو إظهار العجز عن شكر الله في مقابل نعمه والمعذرة عن ذلك التقصير ، لأنّه لا يستطيع أحد أن يؤدّي ما يستحقه الباري تعالى.
وذكرنا سابقاً الكثير من مطالب الشكر وما يقابلها من الكفران ، ولتكميل هذا البحث نذكر بعض من الآيات والروايات عن المعصومين (عليهم السلام) ، ونكتفي بهذا القدر منها : (وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ* إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ)([26]).
وشبيه لهذا التعبير جاء في آيات اخرى.
ومرّة يشير إلى العين والسمع والعقل فإنّها أهمّ وسيلة للمعرفة الإنسانية فيقول :
وأمّا القرآن الكريم فقد جعل الصبر والشكر أحدهما قرين للآخر وهما وسيلتان لتفتح العلم والإيمان في قلب الإنسان فقال : (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)([27]).
فالقرآن الكريم أشار في موارد عديدة لوجود هذه الفضيلة (فضيلة الشكر عند الأنبياء العظام) ، وأمرهم بالشكر ([28]) ومرّة يخاطب آل داود : (اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ)([29]).
ويقول في مكان آخر أنّ شرط رضا الباري تعالى هو الشكر : (إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ)([30]).
الآيات حول الشكر في القرآن الكريم كثيرة وتصل إلى حوالي ال 70 آية ، والجدير بالذكر أنّ صفة الشكور نسبت لله تعالى في سورة النساء الآية 147 : (ما يَفْعَلُ اللهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكانَ اللهُ شاكِراً عَلِيماً).
مفهوم الآية يبيّن أنّ الشكر إذا صدر بصورة ومعنى حقيقي فإنّ العذاب الإلهي سيرتفع بالكامل ، علاوة على أنّ صفة الشكور نسبت لله تعالى ، فإنّ الشكر هو من الصفات المشتركة مع الباري تعالى ، والفرق أن الإنسان بوضع النعمة في موضعها السليم يكون قد أدّى شكرها ، وفي المقابل يكون شكر الباري تعالى بزيادة المواهب لعباده.
وجاء في بعض الآيات القرآنية أن التوجه والانتباه للنعم الإلهية هو السبب في حثّ الإنسان على الشكر ويكون هو الرادع عن الذنوب ، ونقرأ في سورة الأعراف في خطابه للأقوام السابقة ، الآية 74 : (فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ).
وفي الآية 69 من نفس السورة يقول : (فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).
وهذا التعبير صريح بأن الشكر يكون سبباً للفلاح.
خلاصة القول ، أنّ أساس كل سعادة وبركة إلهية هو الشكر ، لأنّه يقرّب الإنسان يوماً بعد يوم من الله تعالى ، ويحكم أواصر المحبّة بين العباد وخالقهم ، وهو طريق التقوى والفلاح.
فلسفة الشكر :
الإنسان المنعم قد يتوقع الشكر من الطرف الآخر ، أو ربّما يحتاجه في بعض الأحيان ، سواء كان احتياجاً مادياً أو معنوياً ، أو لأجل موقعه ومركزه الاجتماعي.
ولكن الباري تعالى ، هو الغني عن العالمين ، حتى ولو كفر الناس جميعاً ، فهو لا يحتاج لشكرهم ، ومع ذلك فقد أكد على الشكر ، فمثله كمثل باقي العبادات ، ونتيجته تعود على نفس الإنسان ، وإذا ما دققنا النظر قليلاً فستتوضح فلسفته.
إذا قدّر الشخص النعم الإلهية سواء كان بالقلب أو اللسان أو بالعمل ، فهو يستحق تلك النعمة ، والله سبحانه وتعالى هو الحكيم لا يسلب النعمة من أحد من دون دليل ولا يعطي لأحد من دون دليل ، فعند ما يشكر الإنسان النعم فلسان حاله يقول إنني مستحق للنعم ، وحكمة الباري لا توجب له النعمة فقط بل تزيده أيضاً.
ولكن لسان حال الكافر يقول : إننّي غير مستحق للنعمة وحكمة الباري تعالى توجب سلب تلك النعمة منه ، وإذا شكر يوماً وكفر يوماً ، فسيتعامل معه كالتالي : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)([31]).
وعند ما نقول أنّ الشكر سبب في دوام النعمة فدليله هذا بعينه ، وفي حديث عن أمير المؤمنين (عليه السلام) : «بِالشُّكرِ تَدُومُ النِّعَمِ» ([32]).
وفي حديث آخر قال : «ثَمَرَةُ الشُّكرِ زِيادَةُ النِّعَمِ» ([33]).
وعلاوة على ذلك عند ما يتم غرس روح الشكر عند الإنسان ، فتصل إلى شكر المخلوق ، فشكر المخلوق في مقابل ما يؤدّيه من أعمال جيدة ، يكون سبباً مؤثراً في حركة المجتمع وتفتح الاستعدادات الخلّاقة وفي أعماق الإنسان وبالتالي فسيتحرك المجتمع لشكر الخالق ومنه يفتح باب معرفته ، فتتعمق العلاقة بين الإنسان وربّه ، وكما أشرنا سابقاً فإنّ أول مسألة تبحث في علم الكلام هي معرفة الله عزّ اسمه ، وأهمّ دليل فيها هو مسألة شكر المنعم والتي هي بدورها نابعة من الوجدان أو كما يقال بأنّ : قياساتها معها.
عملية الشكر بالإضافة إلى أنّها تعرف الواهب ، فإنّها تعرف النعم نفسها أيضاً ، فالنعمة كلّما إزداد حجمها وكيفيتها ، تستدعي شكراً أكبر وأكثر ، ولأداء شكر المنعم تكون معرفة النعمة أمراً ضرورياً ، وبالتالي تؤدي إلى توثيق الأواصر بين الخالق وعباده وتشغل نيران الحب له في القلوب ، وكم استتبعت المواهب المادية ، مواهب معنوية أعلى وأسمى!
الشكر في مصادر الحديث
الروايات في هذا المجال لا تعد ولا تحصى ، ونختار طائفة منها للقارئ الكريم :
1 ـ في حديث عن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) : «الطَّاعِمُ الشَّاكِرُ لَهُ مِنَ الأجَرِ كَأَجرِ الصَّائِمِ المُحتَسِبُ والمُعافِى الشَّاكِرُ لَهُ مِنَ الأَجرِ كأَجرِ المُبتلى الصَّابِرِ والمُعطى الشَّاكِرُ لَهُ مِنَ الأَجرِ كأجر المَحرُومِ القانِعِ» ([34]).
2 ـ في حديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال : «مَكْتُوبٌ فِي التُوراةِ الشُّكرُ مِنَ النِّعَمِ عَلَيكَ ، وَأَنعِم عَلى مَنْ شَكَرَكَ فَإنَّهُ لا زَوالَ لِلنَّعماءِ إِذا شُكِرَتْ وَلا بَقاءَ لَها إِذا كُفِرَتْ» ([35]).
3 ـ فيبيّن هذا الحديث أنّ الله تعالى وحده لا يزيد النعم فقط عند الشكر ، بل وعلى الإنسان أن يزيدها عند الشكر أيضاً.
4 ـ وفي حديث آخر عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال :
«ثَلاثٌ لا يَضُرُّ مَعَهُنَّ شَيءٌ ، الدُّعاءُ عِندَ الكَربِ ، والاستِغفارُ عِندَ الذَّنْبِ ، والشُّكْرُ عِندَ النِّعمَةِ» ([36]).
وأهمية الدعاء والاستغفار في الثقافة الإسلامية معلومة ، ومع ما تقدم من الروايات أعلاه تتبيّن أهمية الشكر للإنسان وأنّ أمامه ثلاث حالات لا رابع لها ، فإمّا أن يكون قد اصيب بمصيبة ، أو وصلته نعمة ، فهو خائف بسبب الحفاظ عليها ، أو يزلّ ويصدر منه ما يغضب الربّ ، ودواء كل واحد منها ذكر في الروايات ، فالمشاكل تزول بالدعاء والذنوب بالاستغفار ، وتثبيت النعم بالشكر ، وجاء في هذا المجال حديث عن الإمام (عليه السلام) : «نِعمَةٌ لا تُشكَرُ كَسَيِّئةٍ لا تُغفَرُ» ([37]).
5 ـ في حديث آخر عنه (عليه السلام) أيضاً ، أنّ النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) كان في يوم من الأيّام راكباً ناقته وفجأة نزل وسجد خمس سجدات ، وعند ما قام وركب مركبه ، قلت له : يا رسول الله رأيت منك اليوم أمراً لم أره من قبل ، فقال : «نِعَمٌ إستَقبَلَني جِبرئِيلُ فَبَشَّرنِي بِبشاراتٍ مِنْ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ فَسَجَدتُ للهِ شكُراً لِكُلِّ بُشرى» ([38]).
ونستوحي من هذا الحديث أنّ القادة الإلهيين يؤدّون شكر كل نعمة على حدة مهما استطاعوا.
6 ـ وفي حديث آخر عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه أمر بشكر جامع وكامل فقال : «إِذا أَصبَحتَ وَأَمسَيتَ فَقُلْ عَشرَ مَرّات : اللهُمَّ ما أَصبَحتْ بِي مِنْ نِعمَةٍ أو عافِيةٍ مِنْ دِينٍ أو دُنيا فَمِنكَ وَحدَكَ لا شَرِيكَ لَكَ ، لَكَ الحَمدُ وَلَكَ الشُّكرُ بِها عَلَيَّ يا ربَّ حَتّى تَرضى وَبَعدَ الرّضا» ([39]).
وبعدها قال الإمام الصادق (عليه السلام) : إنّك إن فعلت ذلك فتكون قد أدّيت شكر النعم التي وافتك في ذلك اليوم.
7 ـ عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في أحاديثه القصار والمليئة بالمعاني الجميلة ، فيقول : «شُكرُ النِّعمَةِ أَمانٌ مِنْ تَحلِيلِها وَكَفِيلٌ بِتأييدِها» ([40]).
8 ـ وقال (عليه السلام) في حديث آخر : «شَرُّ النّاسِ مَنْ لا يَشكُرُ النِّعمَةَ وَلا يرعى الحُرُمَةَ» ([41]).
والأحاديث في هذا المجال كثيرة جدّاً ولا يسعها هذا المختصر وما ذكر سابقاً هو نزر يسير منها.
الشكر في سيرة المعصومين (عليهم السلام) :
نحن نعلم أنّ احدى أشكال الحديث ، هو فعل وتقرير المعصوم ، وكما أنّ قوله يوضّح ويبيّن لنا معالم الدين ومعارفه ، فكذلك بعمله وسكوته في المواقع والمواضع التربوية المختلفة ، سيرسم لنا معالم الطريق الصحيح للأحكام والمعارف والأخلاق خصوصاً في مجال الشكر ، والأمثلة عليه كثيرة :
1 ـ قال الإمام الباقر (عليه السلام) : «كَانَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله) عِندَ عائِشة لَيلَتها فَقالَتْ : يا رَسُولَ اللهِ لِمَ تَتعَب نَفسَكَ وَقَدْ غَفَرَ اللهُ لَكَ ما تَقَدمَ مِنْ ذَنبِكَ وَما تأَخرَ؟ فَقَالَ : يا عائِشة أَلا أَكُونَ عَبدَاً شَكُوراً؟» ([42]).
ومنه يتبيّن أن الدافع لعبادة الأولياء هو الشكر ، ونقلت هذه الجملة كثيراً عن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) في أحاديثه المختلفة ، وهي «أَفلا أَكُنْ عَبدَاً شَكُوراً».
2 ـ في حديث عن هشام بن الأحمر أنّه قال : «كُنتُ أَسِيرُ مَعَ أَبي الحَسن (عليه السلام) (الكاظم) فِي بَعضِ أَطرافِ المَدِينةِ إذ ثَنّى رِجلَهُ عَن دابَّتِهِ فَخَرَّ ساجِداً ، فَأَطالَ وَطالَ ، ثُمَّ رَفَعَ رَأسَهُ وَرَكَبَ دابَّتَهُ فَقُلتُ : جُعلتُ فداك قَد أَطلتَ السُّجُودَ؟ فَقالَ : «إنّني ذَكَرتُ نِعمَةً أَنعَمَ اللهُ بِها عَلَيّ فأَحبَبتُ أَنْ أَشكُرَ رَبِّي» ([43])
ويعلم من هذه الرواية أنّ الأئمّة (عليهم السلام) ، كانوا ملتزمين بأداء الشكر لكل نعمة ، وكانوا يوصون مريديهم ومحبّيهم بذلك أيضاً ، حيث جاء في الحديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال : «إِذا ذَكَرَ أَحَدُكُم نِعمَةَ اللهِ عَزَّ وجَلَّ فَليَضَع خَدَّهُ عَلى التُّرابِ شُكراً للهِ ، فَإِنْ كانَ راكِباً فَليَنزِل فَليَضَعَ خَدَّهُ عَلَى التُّرابِ ، وإِنْ لَم يَكُن يَقدَرُ عَلَى النُّزُولِ للشُّهرَةِ فَليَضَع خَدَّهُ عَلى قَربُوسِه ، وإن لَم يَقدر فَليَضَع خَدَّهُ عَلى كَفِّهِ ثُمَّ لِيحمِدَ اللهَ عَلى ما أَنعَم عَليهِ» ([44]).
3 ـ في حديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال لأحد أصحابه واسمه أبو بصير : «إِنَّ الرَّجُلَ مِنكُم لَيشرَبَ الشِّربَةَ مِنَ الماءِ فَيُوجِبُ اللهُ لَهُ بِها الجَنَّةَ ، ثُمَّ قَالَ : إِنَّهُ لَيأَخُذ الإِناءَ فَيَضَعهُ عَلى فِيهِ فَيُسمِّي ثُمَّ يَشرَبُ فَيُنَحِّيهِ وهُوَ يَشتَهيهِ ، فَيَحمدُ اللهَ ، ثُمَّ يَعُودُ فَيَشرَب ، ثُمَّ يُنَحِّيهِ فَيحمُدُ اللهَ ، ثُمَّ يَعُودُ فَيَشرَب ، ثُمَّ يُنَحِّيهِ فَيَحمُدُ الله ، فَيُوجِبُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ بِها الجَنَّةَ» ([45]).
كيف يتمّ الشكر :
قلنا في تعريف الشكر أنّه التقدير وعرفان الحرمة سواء كان باللسان أم بالقلب ، والكفر هو التحقير للنعمة ، وتضييعها ، وعدم الاعتناء بالمنعم لها.
وأهمّ قسم من مراحل الشكر ، هو الشكر العملي ، وكم يوجد أفراد يشكرون باللسان ولكنهم يخالفون عملاً ، ويكفرون بأنعم الله تعالى.
فالمسرفين والمبذّرين والبخلاء والمتفاخرين والطاغين كل اولئك من مصاديق الجاحدين للنعم الإلهية ، ويمشون في طريق كفران النعم ، بعكس اولئك الذين ينفقون أموالهم سرّاً وعلانية ، ويتواضعون لله وللناس رغم سعة أموالهم وتراثهم ، ولا يريدون تضييع ما آثرهم الله تعالى به من فضله ويضعون الشيء موضعه ، أو كما قال الله تعالى : (فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) اولئك المؤدّون شكر النعم حقّها في مقابل المعطي الحقيقي لها ، بل ويستحقون الزيادة ، (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ) وورد في الروايات الإسلامية اشارات لطيفة لمراحل الشكر الثلاثة.
نقرأ في حديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال : «مَنْ أَنعَمَ اللهُ عَلَيهِ بِنِعمَةٍ فَعَرَفَها بِقَلبِهِ فَقَد أَدّى شُكرَها» ([46]).
ومن البديهي أنّ معرفة النعمة وأهميتها وقيمتها ، يؤدّي إلى معرفة الواهب لها ويحثّ على تأدية شكرها بالعمل واللسان.
وورد في حديث آخر عن الإمام الصادق (عليه السلام) ، أنّه قال لأحد أصحابه : «ما أَنعَمَ اللهُ عَلَى عَبدٍ بِنِعمَةٍ صَغُرَتْ أَو كَبُرَتْ فَقَالَ الحَمدُ للهِ إلّا أَدّى شُكْرَها» ([47]).
ومن المؤكد أنّ القصد من القول الحمد لله ، ليس هو لقلقة اللسان بل الحمد الحقيقي النابع من القلب والروح.
ولذلك فإننا نقرأ في حديث ثالث عنه (عليه السلام) ، أنّ أحد أصحابه سأله : «هَلْ لِلشُّكرِ حَدٌّ إِذا فَعَلَهُ العَبدُ كَانَ شاكِراً؟ قَالَ : نَعم ، قُلتُ : ما هُوَ؟
قَالَ : يَحَمدُ اللهَ عَلَى كُلِّ نِعمَةٍ عَلَيهِ فِي أَهلٍ وَمالٍ وإِن كانَ فِيما أَنعَمَ عَلَيهِ فِي مالِهِ حَقٌّ أَداهُ ، وَمِنهُ قَولُهُ عَزَّ وَجَلَّ : «سُبحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هَذا وَما كُنّا لَهُ مُقرِنِينَ» ...» ([48]).
وكذلك في حديث آخر عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنّه قال : «شُكرُ العالِمِ عَلى عِلمِهِ ، عَمَلُهُ بِهِ وَبَذْلُهُ لِمُستَحِقِّهِ» ([49]).
فهذه اشارات للشكر العملي في مقابل النعم الإلهية ، وبالطبع إنّ العالم الذي لا يعمل بعلمه ، أو يحجب علمه عن الآخرين ، فهو عبد لا يؤدّي شكر النعم ، ولسان حاله يقول : أنني لا أستحق هذه النعم العظيمة.
ويجب الإشارة إلى أنّ الشكر العملي يختلف باختلاف الأفراد ويتغيّر شكله من مكان إلى مكان ، وكما قال أمير المؤمنين (عليه السلام) في حديثه القصير القيم ، حيث أشار إلى أربع نماذج ، فقال :
«شُكرُ إِلهكَ بِطُولِ الثَّناءِ ، شُكرُ مَنْ فَوقَكَ بِصِدقِ الولاءِ ، شُكرُ نَظِيرَكَ بِحُسنِ الإِخاءِ ، شُكرُ مَنْ دُونَكَ بِسَببِ العَطاءِ» ([50]).
واحدى فروع الشكر العملي ، وهو عند ما ينتصر الإنسان على عدوّه ، أو بعبارة اخرى العفو عند المقدرة على العدو ما لم يكن خطراً فعلياً ، وليجعل العفو عنه هو علامة لشكر الله تعالى وانتصاره عليه ، فقال أمير المؤمنين (عليه السلام) : «إِذا قَدَرتَ عَلَى عَدوِّكَ فاجعَلِ العَفوَ عَنهُ شُكراً للقُدرَةِ عَلَيهِ» ([51]).
كما وتجدر الإشارة إلى أنّ أفضل طرق الشكر العملي للنعم ، هو الانفاق منها في سبيل الله تعالى ، وقال علي (عليه السلام) في هذا المجال : «أحسَنُ شُكرِ النِّعَمِ الإنعامُ بِها» ([52]).
والطريقة الاخرى لشكر النعم العملي هي العبادة والدعاء ، بل هو وحسب ما جاء في الروايات الإسلامية أفضل دافع للعبادة ، والحال أنّ العبادة لأجل الحصول على الجنّة هي من عبادة التّجار والعبادة خوفاً من النار تعتبر من عبادة العبيد ، فإذا كان الدافع للعبادة هو الشكر ، فتلك هي عبادة الأحرار ، وقال علي (عليه السلام) : «إِنّ قَوماً عَبَدُوهُ شُكراً فَتِلكَ عِبادَةُ الأَحرارِ» ([53]).
دوافع الشكر :
يمكننا تقوية روح الشكر ودوافعه ، بطرق مختلفة متعددة ، وأولها معرفة النعم ،
نحن نعلم أنّ الله تعالى قد أغرق الإنسان بنعمه ظاهرة وباطنة وفردية واجتماعية ، ولحسن الحظ فإنّ تقدم العلوم من عجائب ونعم الله المحيطة بنا ، من عجائب صنع الكون والعالم إلى عجائب خلقة الإنسان وكل واحدةٍ منها تعتبر نعمة عظيمة كبيرة تستحق الإجلال والوقوف عندها ، فمثلاً الكل يعرف في وقتنا الحاضر جسم الإنسان وتركيبه وأنّه مكوّن من مليارات الخلايا الصغيرة ، وهي بدورها لها هيكل وشكل معقد محير للعقول ، وكل خليّة منها تعتبر نعمة تستحق الشكر ، هذا بالنسبة للخلايا ، وأمّا الدم فهو أيضاً يتكون من مكوّنات عديدة أحدها كريّات الدم البيض والتي القي على عاتقها مهمّة الدفاع عن الجسم في مقابل الميكروبات والأمراض المختلفة التي تهجم عليه نتيجة لتعامل الإنسان مع البيئة التي يعيش فيها ، وإذا ما قيل قديماً أنّ كل نفَس يستنشقه الإنسان يتألف من نعمتين وكل نعمة تستحق الشكر ، اليوم وفي وقتنا الحاضر استحدثت آلاف بل ملايين النعم وكل واحدة منها تستحق الشكر فعلاً وحقاً.
وإذا قال القدماء بأنّ العوامل الأربعة من الشمس والأرض والمطر والرياح تلتقي مع بعضها لتولّد لك رغيف الخبز ، فنحن اليوم وبسبب تقدّم العلوم نعلم جيداً أنّ العوامل التي تهب لنا رغيف الخبز لا تقتصر على هذه العوامل الأربعة بل هناك الآلاف من العوامل البيئية والبشرية تلتقي لتولّد لنا هذه النعمة والموهبة الإلهية.
وعليه فانّ دوافع المعرفة التي تتصل من خلال المعرفة تتسع يوماً بعد آخر وتأخذ أبعاداً جديدة ومتنوعة ، وعلى هذا الأساس فإنّ استمرار حالة الشكر للنعم الإلهية يحصل ويتعمّق في وجود الإنسان من خلال التدبّر ودوام التفكّر في هذه النعم الإلهية في حركة الحياة والواقع.
الدافع الآخر للشكر هو أنّ الإنسان لا بدّ أن ينظر في الموارد الدنيوية إلى ما دونه من الناس ليدرك عظيم نعمة الله عليه وما حباه من كثير المنّة وما أعطاه من القابليات والقوى والإمكانات التي يفتقدها الآخرون لأسباب مختلفة ، وفي ذلك نقرأ في الحديث الشريف الوارد عن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) في كتابه لأحد أصحابه المعروفين (حارث الهمداني) يقول : «وَأَكثِر أَنْ تَنظُرَ إِلى مَنْ فُضِّلتَ عَلَيهِ فَإنَّ ذَلِكَ مِنْ أَبوابِ الشُّكرِ» ([54])
في حين أنّ الإنسان لو نظر إلى من فوقه من الأشخاص المثرين فإنّ ذلك سوف يتسبب له بتفعيل روح الطمع وعدم الشكر وبالتالي تتحرّك الوساوس الشيطانية في نفسه لتثير فيه حالة الابتعاد عن الله تعالى ونسيان النعمة ، ومن الدوافع المهمّة الاخرى مطالعة بركات وآثار شكر النعمة والمنعم وما يترتب عليه من زيادة النعمة ودوامها كما تقدم ذلك بالتفصيل في الأبحاث المتقدمة.
ومن أفضل الطرق لتفعيل حالة الشكر بين الناس تجاه أحدهم الآخر أن يتحرك الناس باتجاه مكافأة المحسن وتقدير الأشخاص الذين يساهمون في حركة الخدمة والإحسان في المجتمع سواءً كان التشجيع والثناء كلامياً أو فعلياً ولذلك قال الإمام علي (عليه السلام) في عهده المعروف لمالك الأشتر : «ولا يَكُونَنَّ المُحسِنُ والمُسِيءُ عِندَك بِمَنزِلَةٍ سواءِ فإنَّ فِي ذَلِكَ تَزهِيداً لأَهلِ الإِحسانِ فِي الإِحسانِ وَتَدرِيباً لأَهلِ الإِساءَةِ عَلَى الإِساءةِ» ([55]).
شكر الخالق وشكر المخلوق :
لا شكّ أنّ الشكر للنعمة كما هو خُلق جميل بالنسبة لله لشكر الله تعالى فكذلك هو خُلق جميل ومطلوب من الإنسان تجاه المخلوق أيضاً ، فالشخص الذي يؤدّي خدمة إلى الآخر ويتحرك في سبيل ايصال نعمة أو يتنازل عن خير من نفسه إلى الآخر فإنّ وظيفة الآخر الذي حصل على هذا الخير أن يشكر هذا الإنسان الذي تسبب في إيصال النعمة له رغم أنّه لا يريد ولا يتوقّع الشكر من الآخر ، فقد ورد في الرواية المعروفة عن الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) قوله : «مَن لَم يَشْكُرِ المُنعِمَ مِنَ المَخلُوقِينَ لَم يَشكُرِ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ» ([56]).
إنّ العبارة المعروفة : «مَنْ لَم يَشكُرِ المَخلُوقَ لَم يَشكُرِ الخالِقَ» رغم أنّها لم ترد في الروايات الإسلامية بهذا النص إلّا أنّ هذا المضمون والمفهوم قد ورد في الروايات الشريفة عن المعصومين ، ويمكن أن يكون لها معنيان وتفسيران :
الأول : أنّ ترك شكر المخلوق هو شاهد ودليل على روح العناد وكفران النعمة لدى هذا الشخص وبسبب ذلك فإنّه لا يعيش التقدير والاحترام للآخرين بل أحياناً تستولي عليه حالة انتظار الاحسان من الناس ويرى أنّهم مقصّرون في حقّه ، ومثل هذا الإنسان سوف لا يعيش الشكر للخالق جلّ وعلا ، ولا سيّما أنّ النعم والخيرات التي تصل إلى الإنسان عن طريق الآخرين تكون محدودة ولذلك يشعر بها الإنسان ويلمسها من قريب لأنّها تقع بين الفينة والاخرى ، أمّا المواهب الإلهية فكثيرة ولا متناهية وتحيط بوجود الإنسان تماماً ولذلك فإنّها لشدّة ظهورها تكاد تخفى على الإنسان الغارق في النعمة فلا يكاد يشعر بها.
والآخر : أنّ شكر المخلوق هو في الواقع شكر الله تعالى ، لأنّ شكر المخلوق ما هو إلّا واسطة للفيض وانتقال النعمة من الله تعالى إلى الآخرين ، وعليه فإنّ من لم يشكر المخلوق فهو في الواقع لم يشكر الله تعالى.
وعلى كل حال فقد ورد التأكيد على هذا المعنى في الروايات الإسلامية وأنّ المسلم لا بدّ أن يعيش الشكر للمخلوق الذي أوصل إليه النعمة ، وللخالق الذي هو أصل النعمة بل وينبغي اعطاء الشاكر مزيداً من النعمة تشجيعاً لواقع الشكر كما ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) قوله ، أنّه ورد في التوراة : «اشكُرْ مَنْ أَنعَمَ عَلَيكَ وَأَنعِمْ عَلَى مَنْ شَكَرَكَ» ([57]).
ونقرأ في المفاهيم القرآنية أنّ الله تعالى يأمر بتقديم الشكر للمخلوقين إلى جانب شكره تعالى : (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ)([58]).
ولا شكّ أنّ الوالدين لا يختصّون بإيصال الخير للإنسان أو أنّهما أصحاب الحق فقط عليه (رغم أنّ حقهما عظيم) فإنّ كل من كان له حق معنوي أو مادّي على الإنسان فلا بدّ من تقديم الشكر له.
ونشاهد هذا المعنى في حالات وسيرة القادة الإلهيين حيث يشكرون الآخرين على أيّة خدمة مهما كانت ضئيلة ويجزلون العطاء على أقل نعمة تصل إليهم من الغير ومن ذلك ما ورد في قصة احدى جواري الإمام الحسين (عليه السلام) التي أهدت له وردة جميلة فما كان من الإمام (عليه السلام) إلّا أن أعتقها جزاء صنيعها هذا ، وعند ما سئل عن سبب ذلك وأنّ هذا الجزاء الكبير لا يتلاءم مع تلك الخدمة الصغيرة من الجارية قال : «كذا أدّبنا الله» ([59]).
وكذلك القصّة المعروفة الاخرى عن الثلاثة الكرام وهم الإمام الحسن (عليه السلام) والإمام الحسين (عليه السلام) وعبد الله بن جعفر الذين كانوا في قافلة فتأخروا يوماً عنها فلجأوا في الصحراء إلى خيمة عجوز منفردة فسقتهم الماء وأطعمتهم من لحم الشاة الوحيدة لديها فلّما انتهوا من الطعام وأرادوا الرحيل عنها قالوا لها : إذا وردت المدينة فأتي إلى دورنا لنجازيك على هذه الخدمة الكبيرة ، ثم مضت أعوام من القحط الشديد في تلك الصحراء إلى درجة أنّ الأعراب وأهل الخيام في تلك الصحراء جاءوا إلى المدينة طلباً للطعام والغذاء ، وفي أحد الأيّام وقعت عين الإمام الحسن (عليه السلام) على تلك العجوز في أزقّة المدينة تطلب لها طعاماً ، فناداها الإمام وذكّرها بنفسه وأنّه قدم عليها مع أخيه وابن عمّه إلى خيمتها فأطعمتهم من ذلك الطعام ولكن العجوز لم تتذكر شيئاً ورغم ذلك فإنّ الإمام قال لها : إذا لم تذكري ذلك فأنا أذكره ثم إنّه وهب لها مالاً كثيراً وأغناماً كثيرة وبعثها إلى أخيه الإمام الحسين (عليه السلام) ، فقام الإمام الحسين (عليه السلام) بمثل ما قام به أخيه الإمام الحسن (عليه السلام) من العطاء والكرم إلى هذه المرأة الكريمة ، ثم أرسلها إلى عبد الله بن جعفر الذي صنع مثل ما صنع الحسن والحسين (عليهما السلام) حتى أنّ هذه المرأة (صارت من أغنى الناس) كما ورد في ذيل الحديث ([60]).
ونقرأ أيضاً قصّة (شيماء) بنت حليمة السعدية واُخت النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) من الرضاعة حيث حباها النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) وتقدّم لها بفائق الاحترام والشكر جزاء للخدمة التي تقدّمت بها امّها حليمة السعدية للنبي (صلى الله عليه وآله) في طفولته ، فقد ذكر المؤرخون بأنّ طائفة كبيرة من قبيلة بني سعد قبيلة حليمة السعدية وقعوا أسرى بيد المسلمين في حرب حنين ، وعند ما رأى النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) شيماء بين الأسرى تذكّر خدماتها هي وامّها في أيّام طفولته ، فنهض من مكانه احتراماً لها وفرش عباءته على الأرض وأجلس شيماء عليها وأخذ يسألها بكل لطف ومحبّة عن أحوالها وقال : أنت صاحبة الفضل عليّ وكذلك امّك ، في حين أنّه قد مرّ على ذلك ستون سنة تقريباً ، وهناك طلبت شيماء من النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) أن يطلق سراح أسرى قبيلتها فقال : أنا اوافق على هذا الطلب من سهمي ، فعند ما سمع المسلمون ذلك وهبوا حصّتهم كذلك من الأسرى لشيماء ، وبالتالي تم تحرير جميع أسرى هذه القبيلة بسبب تلك المحبّة والخدمة التي عاشها النبي (صلى الله عليه وآله) في مرحلة الطفولة ([61]).
ومثال آخر على ذلك هو ما ورد في سيرة النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) من أنّه كانت هناك امرأة تدعى (ثويبة) التي نالت شرف ارضاع رسول الله (صلى الله عليه وآله) قبل «حليمة السعدية» من لبن ولدها «مسروح» ، فعند ما هاجر النبي (صلى الله عليه وآله) ورزقه الله المال كان يرسل لها بعض الثياب والهدايا إلى آخر حياتها حيث توفيت بعد واقعة «خيبر».
والعجيب أنّه جاء في بعض التواريخ أنّ هذه الامرأة «ثويبة» كانت أَمة «أبي لهب» وعند ما بشرت أبا لهب بولادة رسول الله أعتقها أبو لهب (ومعلوم أنّ أبا لهب في ذلك الزمان قام بهذا العمل بسبب رابطة القرابة بينه وبين رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، حيث فرح أبو لهب لمّا رزق أخوه عبد الله).
وعند ما مات أبو لهب بعد سنوات من العداء والأذى لرسول الله (صلى الله عليه وآله) رآه أخوه العباس في عالم الرؤيا ، فسأله عن حاله ، فقال : أنا معذّب في النار ، ولكن يخفّف عني العذاب في ليالي الاثنين بحيث أشرب الماء من بين أصابعي ، لأنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولد يوم الأثنين ، وعند ما بشرتني أمتي ثويبة بولادته وعلمت أنّها أرضعته لعدّة أيّام أعتقتها» ([62]).
[1] سورة ابراهيم ، الآية 7.
[2] سورة النمل ، الآية 40.
[3] سورة لقمان ، الآية 12.
[4] سورة هود ، الآية 9 و 10.
[5] سورة الاسراء ، الآية 67.
[6] سورة ابراهيم ، الآية 28 و 29.
[7] سورة النحل ، الآية 112.
[8] سورة سبأ ، الآية 15 ـ 17.
[9] بحار الانوار ، ج 66 ، ص 70.
[10] غرر الحكم ، ج 4 ، ص 121.
[11] المصدر السابق ، 627.
[12] المصدر السابق ، ص 630.
[13] بحار الانوار ، ج 3 ، 298.
[14] المصدر السابق ، ج 4 ، ص 634.
[15] المصدر السابق ، ج 75 ، ص 117.
[16] بحار الأنوار ، ج 70 ، ص 375.
[17] غرر الحكم ، ج 4 ، ص 630.
[18] بحار الانوار ، ج 1 ، ص 110 مع التلخيص.
[19] اصول الكافي ، ج 2 ، ص 95 ، ح 10 ؛ نور الثقلين ، ج 2 ، ص 529.
[20] مستدرك الوسائل ، ج 2 ، ص 399.
[21] اصول الكافي ، ج 2 ، ص 95 ، ح 9.
[22] سورة النحل ، الآية 18.
[23] معراج السعادة ، ص 810.
[24] المحجة البيضاء ، ج 7 ، ص 277.
[25] بحار الانوار ، ج 3 ، ص 82.
[26] سورة الشورى ، الآية 32 و 33.
[27] سورة النحل ، الآية 78.
[28] راجع الآيات ، النحل ، 212 ؛ الاسراء ، 3 ؛ لقمان ، 12 ؛ سبأ ، 13.
[29] سورة سبأ ، الآية 13.
[30] سورة الزمر ، الآية 7.
[31] سورة الانفال ، الآية 53.
[32] غرر الحكم.
[33] غرر الحكم.
[34] اصول الكافي ، ج 2 ، ص 94 ، ح 1.
[35] المصدر السابق ، ح 3.
[36] اصول الكافي ، ج 2 ، ص 94 ، ح 7.
[37] غرر الحكم.
[38] اصول الكافي ، ج 2 ، ص 98 ، ح 24.
[39] المصدر السابق ، ح 28.
[40] غرر الحكم.
[41] المصدر السابق.
[42] اصول الكافي ، ج 2 ، ص 95 ، باب الشكر ، ح 6 .
[43] اصول الكافي ، ج 2 ، ص 98 ، ح 26.
[44] المصدر السابق ، ح 25.
[45] اصول الكافي ، ج 2 ، ص 96 ، ح 16.
[46] اصول الكافي ، ج 2 ، ص 96 ، ح 15.
[47] المصدر السابق ، ح 14.
[48] اصول الكافي ، ج 2 ، ص 96 ، ح 12.
[49] غرر الحكم.
[50] غرر الحكم.
[51] نهج البلاغة ، الكلمات القصار ، الحكمة 11.
[52] غرر الحكم.
[53] بحار الانوار ، ج 75 ، ص 69 ، ح 18.
[54] نهج البلاغة ، الرسالة 69.
[55] المصدر السابق ، الرسالة 53.
[56] عيون أخبار الرضا ، ج 2 ، ص 24.
[57] اصول الكافي ، ج 2 ، ص 94.
[58] سورة لقمان ، الآية 14.
[59] بحار الانوار ، ج 44 ، ص 195 ونقل مثلها عن الإمام الحسن (عليه السلام).
[60] نور الابصار ، محمد الشبلنجي المصري (مع التلخيص) ؛ بحار الانوار ، ج 43 ، ص 348.
[61] اعلام الورى ، ص 126 و 127 ، سفينة البحار مادة «حلم».
[62] سفينة البحار ، ج 1 ، ص 522 (مفردة ثويبة).
|
|
لصحة القلب والأمعاء.. 8 أطعمة لا غنى عنها
|
|
|
|
|
حل سحري لخلايا البيروفسكايت الشمسية.. يرفع كفاءتها إلى 26%
|
|
|
|
|
جامعة الكفيل: شراكتنا مع المؤسّسات الرائدة تفتح آفاقًا جديدة للارتقاء بجودة التعليم الطبّي في العراق
|
|
|