شكل (1) الزقورة التي استخدمها العراقيون القدماء لرصد السماء

لقد كشفت التنقيبات الآثارية وتراجم الألواح الطينية البابلية عن تراث ضخم في مجال الأرصاد الفلكية الدقيقة، واتضح بما لا يقبل الشك أن البابليين وخاصة على العصر السلوقي المتأخر (310 ق.م - 75م) Seleucid era قد اعتنوا بعلم الفلك عناية فائقة وكانت لديهم مؤسسة حكومية ضخمة ممولة من قبل الدولة تعمل على تسجيل الأرصاد الفلكية لمواقع الكواكب والشمس والقمر والنجوم وباقي الأجرام السماوية التي تراها العين يومياً. وكان اللوح الطيني يحتوي على معلومات تتضمن تاريخ ومكان الرصد واسم الراصد واسم مساعده، واسم الكاتب الذي يدون المعلومات على اللوح الطيني الأولي واسم الناسخ الذي ينقل المعلومات من اللوح الأولي إلى اللوح النهائي واسم المدقق الذي يتولى تدقيق النسخ والتأكد من صحته. وقد ترجم لنا جزءاً كبيراً من هذا التراث العلمي الذي حفظته تلك الألواح مؤرخ علم الفلك القديم الأستاذ أوتو نويجي باورOtto Neugobau في ثلاث مجلدات كبيرة بعنوان Astronomical Cuneiform Texts كما أرخ هذا العالم الجليل لأعمال البابليين وغيرهم في علم الفلك في كتبه الأخرى وأهمها A History of Ancient الذي يقع في ثلاث مجلدات أخرى.

الشكل (2) يوضح تقويم فلكي بابلي

وقد كان من مهام المؤسسة الفلكية البابلية إصدار التقاويم الفلكية لسنتين أو أكثر مقدماً، والتي تحتوي عادة على إحداثيات الشمس والقمر والكواكب السيارة، وبدايات الأشهر القمرية وخسوف القمر وكسوف الشمس المتوقعة خلال الفترة التي يغطيها التقويم،

وهذا هو في الحقيقة ما تحتويه التقاويم الفلكية المعاصرة وأهمها التقويم الفلكي البريطاني - الأمريكي المشترك والمسمى "المناخ Almanac".

الذي ومن الجدير بالملاحظة أن التنظيم المتبع في التقويم الفلكي العالمي الآن هو نفسه كان متبعاً عند البابليين، إذ أنهم جعلوا جزءاً من التقويم يتضمن جداول تعين إحداثيات الأجرام السماوية وتسمى الجداول الأرصادية Observational tables يلحق به جزء آخر يكون على ألواح أخرى ويسمى النص الإجرائي procedure text وهو الجزء الذي يتم فيه شرح العمليات الحسابية المعتمدة لاستخراج الأرقام التي تتضمنها الجداول الأرصادية.

كانت التقاويم الفلكية البابلية تؤدي وظيفتين في آن واحد:

الأولى هي وظيفة عملية تختص بتحديد أحوال الجو والفصول ومواسم الزراعة

والأمطار وتحديد المواقيت والأعياد الوطنية والدينية وجباية الأموال وصرف الرواتب إلى الجدد وموظفي الدولة والأحوال الشخصية وغير ذلك من الفعاليات التي تتأثر بالمواقيت. أما الوظيفة الثانية التقاويم الفلكية البابلية فقد كانت استخدامها في التنجيم للتنبؤ بمصائر وأحوال الرعاة (الملوك) والرعية. وتقول المصادر أن الكلدان كانوا بارعين في التنجيم براعة نادرة حتى أنهم كانوا يعرفون أحوال المولود في بطن أمه بدلالة النجوم وقد برع البابليون في التعامل مع الأعداد وكانت نظرية العدد عندهم متطورة على ما يظهر من خلال الدراسات المعاصرة التي جرت على النصوص الرياضية، وأنواع التمارين المعطاة للطلبة والتي تؤكد اعتمادهم خوارزميات محددة لحل المسائل العددية، وهذا ما تشير إليه الدراسات الجديدة بشأن علم الرياضيات البابلي.

لقد اعتمد البابليون النظام الستيني في تمثيل الأعداد ولهذا النظام فائدة كبيرة في التعبير عن الكميات الهندسية نظراً لأنه يتوافق معها تماماً إذ أن الدائرة تقسم إلى 360 درجة والدرجة إلى 60 دقيقة والدقيقة إلى 60 ثانية. وهكذا والرقم 60 يقبل القسمة على 1 و2 و3 و4 و5 و6 و10 و12 و15 و20 و30 وعلى نفسه بدون باقي بينما لا تقبل العشرة التي هي أساس النظام العشري القسمة إلا على 2 و5 ونفسها فقط. لذلك فقد أتاح النظام الستيني مرونة أعلى للبابليين للتعامل مع الأرقام الناتجة عن الأرصاد الفلكية والحسابات الفلكية.

لقد حدد البابليون فترة الشهر القمري الاقتراني والشهر القمري النجومي، بدقة كبيرة تتفق مع التحديد المعاصر حتى المرتبة السادسة 29.530594

وهذه هي المقبولة حالياً.هي29.530590 يوم والفترة يوم. كما عرفوا السنة الشمسية ومدتها بوجوه عديدة، والسنة الفصلية ومدتها والسنة الاقترانية ومدتها والسنة النجومية ومدتها، ورغم ما تذكره المصادر من أن البابليين لم تكن لديهم نظرية كوكبية Planetary Theory رياضية بحسب الرأي الذي طرحه دويجي باور وآخرين إلا أن وجود هذا الكم الهائل من الأرقام والحسابات الأرصادية لهو دليل واضح على أن البابليين كانوا ولابد أصحاب نظرية كوكبية متقدمة قد يمكن الاستدلال على معالمها من خلال دراسة أكثر عمقاً ومتابعة لعلم الفلك الرياضي البابلي فضلاً عن هذا فإن وجود جداول بابلية تحتوي على مدة دوران الكواكب (عدا الأرض) حول الشمس قضية محيرة حقاً فهل كان لدى البابليين نظرية حساب قائمة على مركزية الشمس أيضاً؟