أقرأ أيضاً
التاريخ: 9-4-2022
2005
التاريخ: 19-7-2016
2269
التاريخ: 2025-01-01
1111
التاريخ: 19-7-2016
2868
|
تنويه :
تقع هاتين المفردتين «الجود والسخاء» في مقابل البخل ، وتستعملان غالباً بمعنى واحد ، ولكن أحياناً يستفاد من بعض كلمات العلماء أنّ الجود لنفس المرحلة أعلى من السخاء ، لأنه ورد في تعريف الجود انه «البذل بدون طلب وفي نفسه يرى ما بذله قليلاً» وقيل أيضاً في تعريفه «الجود هو الفرح من طلب الناس والسرور من العطاء لهم» وقال البعض أيضاً «الجود هو بذل المال بأن يراه مال الله والسائل عبد الله ويرى نفسه فيما بينهما واسطة فقط» في حين أنّ السخاء له معنىً واسع ويشمل كلّ أنحاء البذل والعطاء.
وذكر البعض في تعريفهما أنّ «الشخص الّذي يهب قسماً من أمواله إلى الغير ويبقي لنفسه القسم الآخر فهو السخي ، والشخص الّذي يهب أكثر ماله إلى الغير ويبقي مقداراً قليلاً منه لنفسه فهو الجواد» ويتبين طبقاً لجميع هذه التعاريف أنّ «الجود» مرحلة أعلى من «السخاء».
وعلى أية حال فإنّ «الجود والسخاء» من الفضائل الأخلاقية المهمة ، وكلّما كان «البخل» من علامات الدناءة والحقارة وضعف الإيمان وفقدان الشخصية للإنسان البخيل كان الجود والسخاء من علائم الإيمان وقوّة الشخصية وسمو المكانة الاجتماعية للشخص.
اما في القرآن الكريم رغم أنّ كلمة «الجود» أو «السخاء» لم تستخدم في سياق الآيات الكريمة ، ولكن التعبيرات الاخرى للآيات تنطبق على هذين المفهومين حيث يتبين جيداً أنّ القرآن الكريم يعطي أهمية بالغة لهما ، وكنموذج على ذلك نورد هذه الآيات الشريفة :
1 ـ (... يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ ...)([1]).
2 ـ (وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً* إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً)([2]).
3 ـ (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ)([3]).
4 ـ (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)([4]).
5 ـ (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ)([5]).
6 ـ (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ)([6]).
7 ـ (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً)([7]).
تفسير واستنتاج :
سيماء الكرماء في القرآن
«الآية الاولى» من الآيات محل البحث تتحدّث عن طائفة من الكرماء الأنصار في المدينة الّذين استقبلوا المهاجرين إليهم من مكّة برحابة صدر واستضافوهم في بيوتهم وفضلوهم على أنفسهم بل حتّى أنّهم قالوا : نحن على استعداد لتقديم أموالنا وبيوتنا بيننا وبين المهاجرين ولا نطمع بشيءٍ من الغنائم الحربية.
القرآن الكريم يستعرض حالة هؤلاء المؤمنين في الآية الشريفة فيقول (... يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ ...)([8]).
وقد ذكر بعض المفسّرين المعروفين أنّ التاريخ البشري لم يعرف مثل هذا الاستقبال والحفاوة لجماعة من الغرباء لدى دخولهم إلى مدينة من المدن حيث استقبلهم المؤمنون استقبالاً عظيماً حتّى أنّهم كانوا يفضلوهم على أنفسهم وسعوا إلى تقسيم كلّ ممتلكاتهم معهم بالسوية بل ورد في بعض الروايات أنّ عدد المهاجرين كان أقل من المستعدين لضيافتهم وكان ذلك سبباً في حدوث خلاف بينهم في نيل افتخار الضيافة. فكانوا يقترعون فيما بينهم على ذلك ([9]).
وعلى أية حال فإنّ الله تعالى قد مدح هذا الخلق الكريم وأثنى على هذا الايثار والسخاء بهذه العبارات الكريمة.
«الآية الثانية» تتحدّث عن الكرماء الّذين قدموا طعامهم إلى المسكين واليتيم والأسير في حين أنّهم محتاجون إليه بشدّة ومن دون طمع في أجرٍ وثناء من الطرف المقابل (وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً* إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً)([10]).
وهناك روايات كثيرة من طرق الشيعة وأهل السنّة تتحدّث عن أنّ الآيات 8 ـ 9 من سورة الدهر نزلت في أهل البيت (عليهم السلام) ، كما ذكر العلّامة الأميني في كتابه «الغدير» عن أربع وثلاثين نفر من علماء السنّة المعروفين وأنّهم ذكروا هذا الحديث الشريف في كتبهم (مع ذكر اسم الكتاب ورقم الصفحة).
وعلى هذا فإنّ الحديث المذكور مشهور بين أهل السنّة بل متواتر ، وأما علماء الشيعة فهو محل اتفاق وأنّ جميع سورة الدهر أو قسم مهم منها نزلت في أهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله) وهم «علي وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام)».
ولدى التأمل والتدقيق في آيات سورة الدهر يتضح جيداً أنّ الله تعالى قد ذكر هؤلاء الكرماء من موقع التمجيد والثناء والمدح ووعدهم جزيل الثواب في الآخرة ووصفهم بأوصاف سامية ، فتارةً وصفهم بأنّهم «أبرار» ، وفي مكانٍ آخر ذكرهم بعنوان «عباد الله».
«الآية الثالثة» تتحرك من موقع التشويق والترغيب الشديد لمسألة الانفاق والبذل وتثني على الكرماء والاسخياء بتعابير في غاية العلو والجمال وتقول (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ)([11]).
فلو أننا أخذنا بظاهر الآية ولم نرتكب بعض التأويل والحذف والتقدير للمفهوم منها فإنّ الآية الشريفة تدلّ على أنّ روح المنفق والمحسن تنمو أو تشتد إلى درجة كبيرة بعملية البذل والانفاق كما أنّ أمواله تتضاعف وتتكاثر عدّة أضعاف بسبب الانفاق وكذلك يتصاعد الإنسان الكريم في مدارج الكمال بسرعة كبيرة وحتّى أنّ الخطوات الصغيرة في هذا السبيل تترتب عليها آثار عظيمة ونتائج كبيرة.
وعلى هذا الأساس فإنّ الانفاق والبذل مضافاً إلى أنّه يُعد قوّة تصعد بالإنسان في مدارج الرشد والكمال المعنوي والإنساني للمجتمع البشري ، فكذلك هو الحال بالنسبة إلى الشخص نفسه.
وقد ورد في الرواية الشريفة عن الإمام زين العابدين (عليه السلام) انه كلّما جاءه سائل وأعطاه من ماله فإنه يُقبل يد السائل ، فلمّا سُئل عن سبب ذلك قال لأنها تقع في يد الله قبل يد العبد ([12]).
«الآية الرابعة» وضمن الإشارة إلى نكتة مهمة في دائرة الانفاق تقول (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)([13]).
وعلى هذا الأساس فإنّ «السخاء» و«الانفاق» في سبيل الله بأي شكل كان فإنه مطلوب ومحبوب ، ومن جهة اخرى فإنّ «الانفاق» يورث الإنسان الأمن من عذاب الله ويزيل الهمَّ والحزن من قلبه ، فالأشخاص الكرماء لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون لأن الله تعالى قد ضمن رزقهم وسعادتهم فلا يحزنون على ما بذلوه في سبيل الله لانهم يعلمون انما ينتظرهم من فضل الله تعالى أكثر وأكثر ممّا بذلوه في هذه الحياة الدنيا.
«الآية الخامسة» تقرر هذا المعنى بتعبير آخر وتتحدّث عن الانفاق بالقول (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ)([14]).
وفي لغة العرب فإنّ كلمة «بر» تأتي بمعنى الاحسان المقارن للقصد والاختيار ، وهذه من علامات شخصية الإنسان ومعنويته ، واللطيف أنّ «البر» في هذه الآية جاء بشكل مطلق ، وهذا يدلّ على أنّه ما لم يكن الإنسان سخياً وكريماً فإنه لا يصل إلى حقيقة البر والاحسان ، رغم أنّ بعض المفسّرين فسّر كلمة «البرّ» بمعنى الجنّة ، وبعض آخر ذكر أنّها بمعنى «التقوى» و«الثواب الجزيل» ولكنَّ الظاهر أنّ مفهوم البرّ واسعٌ يشمل جميع ما ذُكر له من مصاديق.
«الآية السادسة» تقرر أنّ الانفاق مضافاً إلى انه أحد الأركان المهمة للتقوى وأنّه مصدر الهداية الإلهية للمؤمنين ، تقول : (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ)([15]).
ومع ملاحظة أنّ «ينفقون» جاءت بشكل فعل مضارع ، ومفهومها أنّ هؤلاء ينفقون من المواهب الإلهية والعطايا الربانية الّتي لديهم بصورة مستمرة ، وهذا يدلّ على كرمهم وسخائهم المتجذر في نفوسهم بحيث اصبح ملكة إنسانية وصفة كريمة لديهم.
فتعبير (مِمَّا رَزَقْناهُمْ) يشير إلى نكتة لطيفة في المقام ، وهي أنّ هؤلاء يرون أنّ جميع ما لديهم من الأموال والنعم هي مواهب إلهية ومن مال الله ، وعليه فلا دليل على البخل في بذل شيءٍ منها إلى الفقراء والمساكين والمحتاجين ، ويتضح أيضاً من ذلك أنّ «الانفاق» لا ينحصر بالزكاة بل يستوعب معنىً أكبر من ذلك بحيث يشمل الصدقات الواجبة والمستحبة.
«الآية السابعة» والأخيرة من الآيات محل البحث وضمن الأمر بضرورة رعاية الاعتدال في البذل والعطاء والابتعاد عن الافراط والتفريط تصور لنا صياغة للسخاء والكرم الّذي هو الحدّ الوسط بين البخل والإسراف وتقول : (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً)([16]).
وقد ورد في الحديث الشريف عن الإمام الصادق (عليه السلام) بيان هذا المطلب في مثال جميل حيث قال أخذ الإمام (عليه السلام) قبضة من التراب من الأرض وأمسك عليها بشدة وقال : هذا هو البخل ، ثمّ أخذ قبضة اخرى وفتح يده إلى درجة أنّ جميع التراب انثال على الأرض فقال : هذا هو الإسراف ، وفي الثالثة أخذ قبضة وقلب كفه نحو السماء وفتحها فوقع شيء من التراب من بين أصابعه وأطراف كفه على الأرض فقال (عليه السلام) : «القوام ما يخرج من بين الأصابع ويبقى في الراحة منه شيء» ([17]).
وفي الآية مورد البحث ورد التعبير عن البخل بأنه «اليد المغلولة إلى العنق» ، وعبّرت الآية عن الإسراف بقولها (تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ) ، وبذلك تحدّثت عن هذين المفهومين من موقع الذمّ والتوبيخ وذكرت في هذا السبيل عاقبة هذين السلوكين بقولها (مَلُوماً مَحْسُوراً).
ومن مجموع الآيات الشريفة المذكورة آنفاً والّتي تحدّثت عن السخاء والانفاق والبذل وما ورد في تفسيرها يتضح جيداً عظمة وأهمية هذه الصفة الإنسانية والسامية من بين الصفات الأخلاقية والقيم الإنسانية حيث إنّ الجود والكرم والسخاء لا تتسبب في سعادة المجتمعات البشرية ومحاربة الفقر وأنواع الحرمان والّتي هي بدورها تكون منشئاً للكثير من الذنوب والسلبيات الاخرى فحسب ، بل لها دورٌ مهم في تكامل الإنسان المعنوي والروحي في خط التقوى والانفتاح على الحقّ.
السخاء في الروايات الإسلامية :
وقد ورد في الروايات الإسلامية تعبيرات كثيرة وشامخة حول الجود والسخاء يقل نظيرها بالنسبة إلى الصفات الاخرى ، ونختار منها نماذج لبيان هذا المضمون والمحتوى :
1 ـ ورد في الحديث الشريف عن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) أنّه قال : «السَّخاءُ خُلْقُ اللهِ الاعْظَمُ» ([18]).
وفي الحقيقة أنّ جميع أشكال السخاء والكرم في عالم الوجود ما هو إلّا تجليات للكرم الإلهي الواسع لأن كلّ ما لدينا فهو من الله تعالى من أنواع النعم والمواهب ، الأرض والسماء ، الحياة ومتعلقاتها الكثيرة وكلّ شيء فهو من نعمه وكرمه ، وكلّ كرم فهو فرعٌ من ذلك الأصل اللامتناهي والأبدي ، لأنّه لو لم نحصل على نعمة وموهبة من الله تعالى فليس بإمكاننا بذل شيء منها ، وحتّى صفة الجود والكرم هي من مواهبه ونعمه على الإنسان.
2 ـ يقول الإمام الصادق (عليه السلام) «السَّخاءُ مِن اخْلَاقِ الْانْبِيَاءِ وَهُوَ عِمَادُ الْايْمَانِ وَلَا يَكُونُ المُؤمِنُ الّا سَخِيّاً وَلا يَكُونُ سَخِيّاً الّا ذُو يَقينٍ وَهِمَّة عَالِيَةٌ لَانَّ السَّخاءُ شُعاعُ نُورِ اليَقينِ ، وَمَنْ عَرَفَ مَا قَصَدَ هانَ عَلَيْهِ مَا بَذَلَ» ([19]).
ويستفاد من هذا الحديث أنّ هذه الصفة السامية تتمثل أوّلاً في وجود الأنبياء كصفة كريمة من الصفات الأخلاقية العالية ومن علامات الإيمان واليقين للمؤمن.
3 ـ ونقرأ في حديث آخر عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنّه قال : «تَحَلَّ بِالسَّخاءِ وَالْوَرَعِ فَهُما حِلْيَةُ الإيمَانِ وَاشْرَفُ خَلالِكَ» ([20]).
وهذا الحديث يبين أنّ هذه الصفة الشريفة من أفضل صفات المؤمن على الاطلاق.
4 ـ وورد في حديثٍ آخر عن هذا الإمام (عليه السلام) أيضاً أنّه قال : «السَّخاءُ ثَمَرَةُ العَقْلِ وَالقَناعَةُ بُرهانُ النُبُلِ» ([21]).
فالأشخاص الّذين يمتنعون عن بذل شيءٍ ممّا لديهم إلى الآخرين ويسعون لجمع الأموال الطائلة ثمّ يتركونها ويرحلون إلى العالم الآخر ، فهم في الحقيقة ليسوا بعقلاء لأنهم لم يحصلوا من جزاء ذلك سوى على التعب والنصب ولن ينتفعوا من أموالهم على المستوى المادي والمعنوي ، فأيُّ عقلٍ يرتكب مثل هذه الحماقة؟!
5 ـ وفي تعبير آخر عن هذا الإمام في بيانه لأهمية «السخاء» يشير إلى نقطة لطيفة اخرى ويقول «غَطُّوا مَعايِبَكُم بِالسَّخاءِ فَانَّهُ سَتْرُ العُيوبِ» ([22]).
وقد ثبت بالتجربة صدق هذا الكلام الحكيم حيث نرى أشخاصاً لهم عيوب كبيرة ولكنَّ الناس مع ذلك يحترمونهم من أجلٍ كرمهم وجودهم.
6 ـ وفي تعبير آخر عن هذا الإمام (عليه السلام) يقول «السَّخاءُ يَمْحَصُ الذُّنُوبَ وَيَجْلُبُ مَحَبَّةَ الْقُلُوبِ» ([23]).
وهذا التعبير يدلّ على أنّ السخاء كفّارة للكثير من الذنوب.
7 ـ ويقول مولى الموحدين الإمام علي (عليه السلام) في بيانه للتأثير العميق للسخاء في جذب قلوب الناس ومحبتهم «مَا اسْتَجْلَبَتِ المَحَبَّةُ بِمِثلِ السَّخاءِ وَالرِّفْقِ وَحُسْنُ الخُلْقِ» ([24]).
8 ـ ويقول رسول الله (صلى الله عليه وآله) في هذا الصدد «السَّخيُّ قَريبٌ مِنَ اللهِ قَريبٌ مِنَ النّاسِ قَريبٌ مِنَ الجَنَّةِ» ([25]).
9 ـ وفي حديث آخر عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال : «شَابٌّ سَخيٌّ مَرْهَقٌ في الذُّنُوبِ احَبُّ الَى اللهِ عَزّ وَجلّ مِنْ شَيخٍ عَابدٍ بَخيلٍ» ([26]).
ومن المعلوم أنّ «السخاء» هو يتسبب في الامدادات الإلهية للإنسان وبالتالي فإنه يفضي إلى انقاذ ذلك الشاب الملوث بالذنوب من واقعه المزري ، ولكنَّ ذلك الشيخ العابد والبخيل يغرق في الذنوب بسبب بخله.
10 ـ ونختم هذا البحث بحديثٍ شريف عن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) حيث يقول «تَجَافُوا عَنْ ذَنْبِ السَّخي فَانَّ اللهَ آخِذٌ بِيَدِهِ كُلَّما عَثُرَ» ([27]).
ومن مجموع الأحاديث الشريفة المذكورة آنفاً تتبين الأهمية الكبيرة للسخاء في كلمات المعصومين (عليهم السلام) حيث رأينا أنّ هذه الفضيلة تتميز من بين سائر الفضائل الأخلاقية على مستوى الأهمية والفضيلة.
معطيات السخاء :
إنّ الآفاق والمعطيات الإيجابية للسخاء ثابتة بالتجربة في حياة الإنسان الفردية والاجتماعية ، وقد مرّت الإشارة إليها في الأحاديث الإسلامية أيضاً ، وهي معطيات كثيرة منها :
1 ـ ما يستفاد من الروايات المتعددة والتجارب الكثيرة ان السخاء يولد المحبّة في قلب الصديق والعدو وبالتالي فإنه يزيد من كثرة الأصدقاء ويقلل من عدد الأعداء.
2 ـ إنّ «السخاء» يعد ستاراً على عيوب الشخص وبالتالي يحفظ ماء وجهه وحيثيته في أنظار الناس والمجتمع.
3 ـ إن السخاء في الوقت الّذي هو ثمرة من ثمار شجرة العقل فإنه يزيد من عقل الإنسان أيضاً ، فالعقل يقول : انه لا معنى لأن يتعب الإنسان في جمع الأموال وتكديسها وبالتالي تركها للورثة بدون أن يستفيد منها في تحصيل الثواب وكسب الوجاهة بين الناس ، ومن جهة اخرى فإنّ «السخاء» بإمكانه أن يجمع العلماء حول هذا الإنسان السخي وبالتالي يمكنه الاستفادة من أفكارهم وعقولهم وعلومهم.
4 ـ إن «السخاء» يتسبب في تقليل الفاصلة بين طبقات المجتمع وبذلك يعمل على إزالة حالات التوتر النفسي المتولدة من حالات الصراع الطبقي أو يقلل من حدثها وتأثيرها ، ويطفئ نار الحقد على الأثرياء في قلوب المحرومين ويقلل من حس الانتقام لديهم ، وبذلك يعمل على توطيد عنصر المحبّة والمودّة بين أفراد المجتمع.
5 ـ إن «السخاء» يؤدي إلى زيادة أنصار الإنسان السخي ويحفظ له وجاهته وسمعته في المجتمع ، ويدفع عنه شرَّ الأعداء والمغرورين ، فلذلك يقول أمير المؤمنين (عليه السلام) «الْجُودُ حَارِسُ الَاعْرَاضِ» ([28]).
6 ـ إن الجود و«السخاء» لهما من الآثار والمعطيات المعنوية الكبيرة جدّاً ، ولهذا السبب فإنّها من صفات الأنبياء بالخصوص كما قرأنا في الروايات السابقة ، والسخاء شعاعٌ لنور اليقين ، وحتّى لو كانت هذه الفضيلة لدى الأشخاص الّذين يعيشون البعد عن الإيمان والتقوى فإنّ ذلك سيكون مفيداً لهم ، وفي حديثٍ شريف أنّ الله تعالى أوحى للنبي موسى (عليه السلام) بأنه «لا تَقْتُلُ السَّامِريَّ فَانَّهُ سَخِيٌّ» ([29]).
ومن المعلوم أنّ السامري تسبب في فساد عظيم في بني إسرائيل واشاع فيهم دين الوثنية وعبادة الاصنام وفي النهاية عاش طريداً وحقيراً إلى درجة انه ربما رجّح الموت على الحياة ، ولكن مع ذلك فإنّ الله تعالى أوحى لموسى (عليه السلام) أنّ يحفظ دمه ولا يقتله لسخاءه وكرمه.
وقد نقل عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنّه قال لعدي ابن حاتم الطائي «دُفِعَ عَن أبَيكَ العَذابُ الشَّديدُ لِسَخاءِ نَفْسِهِ» ([30]).
وفي ذيل هذا الحديث ورد أنّ رسول الله (عليه السلام) أمر بقتل جماعة من الجناة القتلة في أحد الغزوات واستثنى منهم واحداً ، فتعجب ذلك الرجل وقال : إن جنايتنا واحدة ، فلما ذا لم تأمر بقتلي؟ فقال له النبي (صلى الله عليه وآله) : إن الله تعالى أوحى إليّ بانك كريم قومك ولا ينبغي أن أقتلك.
فلمّا سمع الرجل هذا الكلام من النبي اسلم وتشهد الشهادتين ، أجل فإنّ سخاء هذا الرجل قاده إلى الجنّة.
ورد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قوله : «السخيّ محبب في السماوات ، محبب في الأرض ... والبخيل مبغض في السماوات ومبغض في الأرضين» ([31]).
حدود السخاء :
إن السخاء كسائر الصفات والأفعال الحسنة لا بدّ له من مقدار بحيث إذا تجاوز الإنسان ذلك المقدار وقع في الإفراط وبالتالي يكون من الرذائل ، فلا ينبغي أن يؤدي السخاء إلى الاضرار بشخصية الإنسان ووجاهته وحيثيته ووجاهة من يلوذ به أيضاً.
يجب أن يكون «السخاء» في الأموال الحلال لا في الأموال الّتي يحصل عليها الإنسان من الطريق الحرام والظلم والعدوان مثل سخاء الكثير من السلاطين والملوك الجبابرة وامراء الجور.
وكذلك لا ينبغي أن يكون «السخاء» في الأموال المتعلقة ببيت المال ، لأن أموال بيت المال ينبغي فيها الدقّة في الحساب ورعاية العدالة فيها.
طرق تحصيل ملكة السخاء :
إن هذه الفضيلة الاجتماعية كسائر الفضائل الاخرى تحصل في نفس الإنسان بالتعليم والتربية والتفكر والممارسة العملية.
إذا توجه الإنسان والتفت إلى هذه الحقيقة ، وهي أنّ هذه الأموال والثروات أمانة إلهية بيده ولا دوام لها ، فهذا العلم يدفع الإنسان إلى البذل والعطاء ويحسب ذلك وكأنه يضع هذه الأموال في صندوق أمين يحفظها ليوم الحاجة والفاقة ، وكذلك التأمل في آثار وبركات السخاء ومعطياته المهمة في واقع الإنسان وحياته فإنّ ذلك يمكنه أن يكون مؤثراً في تحريك عامل الشوق بالبذل والسخاء.
إن مطالعة تاريخ حياة الكرماء والبخلاء وسيرتهم والمقارنة بين هاتين الطائفتين من الاحترام الكبير والشخصية النافذة لدى الناس بالنسبة إلى الطائفة الاولى ، والذلّة والحقارة والدناءة وسوء السمعة الّتي تحدق بالطائفة الثانية ، كلّ ذلك من شأنه أن يورث الإنسان «السخاء» في دائرة السلوك الأخلاقي.
هذه الامور هي من البعد النظري للمسألة ، اما من حيث البعد العملي فإنّ الإنسان كلّما مارس هذا العمل أكثر وتمرّن عليه في واقعه الاجتماعي فان هذه الفضيلة سوف تتعمق في نفسه حتّى تحصل له ملكة الجود والسخاء ، لأن تكرار الأعمال الكريمة والتحرّك من موقع البذل والعطاء في التعامل مع الناس حتّى لو كان ذلك شاقاً على النفس فإنّه سيكون بالتدريج عادة ، ثمّ يتحول إلى حالة ، وبالتالي يكون ملكة أخلاقية في واقع النفس.
وضمناً فإنّ عملية تربية الوالدين والمعلم والاستاذ مؤثرة كثيراً في هذا المجال ، فلو أنّهم عودوا الطفل حالة الجود والسخاء منذ الطفولة فإنّ هذه الملكة الأخلاقية سوف تمد جذورها إلى أعماق نفوسهم وقلوبهم وتكون في الكبر جزءاً من شخصيتهم ، ويذكر في حالات «الصاحب بن عبّاد» أنّه كان في أوان صغره إذا أراد المضيّ إلى المسجد ليقرأ تعطيه والدته ديناراً ودرهماً كلّ يوم وتقول له تصدّق بها على أوّل فقير تلقاه فجعل هذا دأبه في شبابه إلى أن كبر وماتت والدته. وكان لا يدخل عليه في شهر رمضان بعد العصر أحد كائناً من كان فيخرج من داره إلّا بعد الافطار عنده وكانت داره لا تخلو في كلّ ليلة من ليالي شهر رمضان من ألف نفس مفطرة فيها وكانت صلاته وصدقاته وقرباته في هذا الشهر تبلغ مبلغ ما يطلق منها في جميع شهور السنة ([32]).
ونختم هذا البحث في بعض الأحاديث الشريفة :
ورد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنّه قال : «الَجَنَّةُ دَارُ الاسْخِياء» ([33]).
ويقول الإمام الصادق (عليه السلام) أنّ الله تعالى يقول «انّي جَوادٌ كريمٌ لا يُجَاوِرُني لَئيمٌ» ([34]).
وفي حديث آخر عن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) أنّه قال : «طَعامُ الجَوادِ دَواءٌ وَطَعامُ البَخيلِ داءٌ» ([35]).
وأحد العرفاء يدعى «ابن سمّاك» ([36]) يقول «عَجِبْتُ لِمَن يَشتَرِيَ الْمَماليكَ بِمالِهِ وَلا يَشتَرِي الْاحرارَ بِمَعروفِهِ» ([37]).
وقيل لابن عربي : من هو سيّدكم؟ فقال : «مَنِ احْتَمَلَ شَتْمَنَا وَاعطى سَائِلَنَا وَاغْضى جَاهِلَنا» ([38]).
[1] سورة الحشر ، الآية 9.
[2] سورة الدهر ، الآية 8 و 9.
[3] سورة البقرة ، الآية 261.
[4] سورة البقرة ، الآية 274.
[5] سورة آل عمران ، الآية 92.
[6] سورة البقرة ، الآية 3.
[7] سورة الإسراء ، الآية 29.
[8] سورة الحشر ، الآية 9.
[9] في ظلال ، ج 7 ذيل الآية.
[10] سورة الدهر ، الآية 8 و 9.
[11] سورة البقرة ، الآية 261.
[12] بحار الأنوار ، ج 93 ، ص 129.
[13] سورة البقرة ، الآية 274.
[14] سورة آل عمران ، الآية 92.
[15] سورة البقرة ، الآية 3.
[16] سورة الإسراء ، الآية 29.
[17] تفسير نور الثقلين ، ج 3 ، ص 158.
[18] كنز العمال ، ج 6 ، ص 337 ، ح 15926.
[19] بحار الأنوار ، ج 68 ، ص 355 ، ح 17.
[20] غرر الحكم ، ح 4511.
[21] غرر الحكم ، ح 2145.
[22] غرر الحكم ، ح 644.
[23] غرر الحكم ، ح 1738.
[24] غرر الحكم ، ح 9561.
[25] بحار الأنوار ، ج 70 ، ص 308.
[26] بحار الأنوار ، ج 70 ، ص 307.
[27] كنز العمال ، ج 6 ، ص 392 ، ح 16212.
[28] غرر الحكم ، ح 333.
[29] اصول الكافي ، ج 4 ، ص 41.
[30] بحار الأنوار ، ج 68 ، ص 354.
[31] وسائل الشيعة ، ج 15 ، ص 252.
[32] سفينة البحار ، مادّة صحب.
[33] المحجّة البيضاء ، ج 6 ، ص 62.
[34] المصدر السابق ، ص 64.
[35] المصدر السابق ، ص 61.
[36] عاش «ابن سمّاك» في القرن الثاني الهجري في زمن حكومة هارون الرشيد ، وتوفي عام 183 ه ق في الكوفة ، يقول عنه المحدّث القمّي في سفينة البحار (مادة سمك) أنّه كان حسن الكلام صاحب مواعظ ، ويذكر ابن أبي الحديد أنّه دخل ابن السماك على الرشيد فقال له ، عظني ، ثمّ دعا بماء ليشربه فقال ، ناشدتك الله لو منعك الله من شربه ما كنت فاعلاً؟ قال ، كنت أفتديه بنصف ملكي ، قال ، فاشرب ، فلمّا شرب قال ، ناشدتك الله لو منعك الله من خروجه ما كنت فاعلاً؟ قال ، كنت افتديه بنصف ملكي ، قال ، إنّ ملكاً يفتدى بشربة ماء لخليق أن لا ينافس عليه.
[37] المحجّة البيضاء ، ص 65.
[38] المصدر السابق.
|
|
لصحة القلب والأمعاء.. 8 أطعمة لا غنى عنها
|
|
|
|
|
حل سحري لخلايا البيروفسكايت الشمسية.. يرفع كفاءتها إلى 26%
|
|
|
|
|
جامعة الكفيل: شراكتنا مع المؤسّسات الرائدة تفتح آفاقًا جديدة للارتقاء بجودة التعليم الطبّي في العراق
|
|
|