أقرأ أيضاً
التاريخ: 2024-02-09
832
التاريخ: 2023-12-24
878
التاريخ: 2024-02-15
1083
التاريخ: 2024-02-17
1012
|
وأما فيينَّا هذه فهي قاعدة سلطنة النمسا والمجر، ومن أشهر العواصم الأوروبية في حالها الحاضرة وتاريخها الماضي وعدد سكانها نحو مليونَي نفس، واسمها القديم فندوما، وقد ورد ذكرها على عهد يوليوس قيصر القائد الروماني في القرن الأول للميلاد، ثم كثر تردُّد الرومانيين عليها بعد هذا، ومات فيها أحد قياصرتهم وهو ماركوس أوريليوس سنة 180، وظلَّت محطًّا لرحال الفاتحين من تلك الأيام حتى جعلها شارلمان حدًّا لمملكته في القرن التاسع للميلاد، فلما مات أُلْحِقَتْ بمملكة ألمانيا وانفصلت عن فرنسا وصار يحكمها دوكات النمسا حتى قامت العائلة المالكة الحالية على مثل ما ترى في الخلاصة التاريخية. وقد توالت النكبات على فيينَّا، ولكنها لم تؤثِّر عليها تأثيرًا يُذْكَر؛ فإنها حاصرها المجر سنة 1485 أربعة أشهر وفتحوها، ثم أنقذها منهم سنة 1490 مكسميليان الأول من آل هايسبرج وجعلها قاعدة المملكة النمسوية إلى اليوم، وحاصرها ملك بوهيميا مرة سنة 1619 فلم يُفده الحصار، وتقدَّم عليها الأتراك مرتين: أولهما على عهد السلطان سليمان الثاني سنة 1529، والثانية على عهد السلطان محمد الثالث سنة 1582، وكان قائد جنودهم يومئذٍ الصدر قرا مصطفى باشا المشهور، فضيَّق على المدينة تضييقًا شديدًا، ولولا ورود النجدة إليها من بوهيميا تحت قيادة ملكها سوبيسكي لفتحها، وحاصرها نابوليون بعد ذلك على مثل ما تقدَّم في الخلاصة التاريخية، وكان هذا الحصار الكثير داعيًا إلى بناء دائرة كبرى من الحصون داخل المدينة أُبْدِلَت الآن بشارع رنغ ستراس (ومعناه درب الحلقة لاستدارته) طوله نحو ميلين وعرضه 62 مترًا، بُني على نظامه الحالي سنة 1858. خرجت مع الدليل من فندق متروبول الذي اخترت الإقامة فيه، وبدأت بشارع رنغ ستراس هذا، وهو أعظم شوارع فيينَّا، ليس في أوروبا كلها شارع بطوله تجتمع فيه محاسن البناء وغرائب الصناعة وأدلة العز والترف متوالية مترادفة مثل هذا الشارع العظيم في عاصمة النمسا؛ فإن فيه غير المخازن الجميلة والفنادق المشيدة والحانات المنظَّمة بناء البورصة والتلغراف والبوليس والمجلس البلدي والمرسح الإمبراطوري والمتحفين ومجلس نواب الأمة والأوبرا الكبيرة ووزارة الحقَّانية، وقصورًا أخرى تدهش الأبصار بمحاسنها في كلِّ جانبٍ منه، وحديقة ستاد بارك، وغير ذلك من بدائع هذا الشارع العظيم. وقد قُسم هذا الشارع أقسامًا ثمانية، أولها رصيف يمشي عليه الناس من بعد الأبنية المُتْقَنة، ثم طريق للعربات يليه طريق للترامواي فطريق للجياد وراكبيها، وبعده خطٌّ من الشجر الجميل يزدان به وسط الشارع، ثم طريق للعربات وطريق للترامواي وطريق للجياد ورصيف للمارَّة؛ أي إن الشجر في وسط الشارع والطرق المختلفة صفَّان إلى جانبيه، صفٌّ من هنا وصفٌّ من هنا، وفي ذلك نظام يمنع الزحام والاصطدام، ومنظر لا تشبع العين منه ولو طالت مدة الإمعان. ذكرنا في هذا الشارع بناء البورصة وهو عظيم الأركان شاهق الجدران في داخله قاعات شتى، بعضها للجلوس وبعضها للمطالعة، وبعضها للأشغال والمداولات والمضاربات والمبايعات وغير هذا مما يدور في جوانب ذلك البناء، وفيها من الحركة التجارية والجلبة الناشئة عن كثرة المركبات والمترددين ما يوجب الذهول ويشير إلى نشاط أهل المتاجر والمضاربات من المتمدِّنين. وأما مجلس النواب فإنه قصر فخيم بُني من سنة 1874 إلى 1884، طوله 143 مترًا، ومنظره من الخارج يدلُّ إلى الهيبة والوقار، يُصْعَدُ إليه على درج عريض من الرخام الأبيض يتصل آخره برواقٍ قام على عُمد من الرخام أيضًا، له شكل الهياكل اليونانية، ومن ورائه رواق آخر طويل قائم على 24 عمودًا من الرخام الأحمر مذهبة تيجانها، وفي الجدران والسقف رسوم حوادث فيينَّا والنمسا التاريخية، والناس يجتمعون في هذا الرواق البهي ريثما تُفْتَح أبواب القاعة الكبرى التي يجتمع فيها النواب للنظر في سياسة المملكة والجدال فيما يلزم لها من النظامات والقوانين، وفي تلك القاعة مقاعد أمام كلٍّ منها منضدة صغيرة للنائب الذي يقعد إليها ومنصة للرئيس وكُتَّابه، ومواضع مرتفعة في جوانب القاعة خُصَّ بعضها بأعضاء العائلة المالكة والسفراء والبعض بالمتفرِّجين والزائرين أو بأصحاب الصحف وجماعة الأخبار، وغير هذا مما تراه في أكثر المجالس النيابية. وقد اشتُهر نواب النمسا الحاليون بكثرة الأحزاب والانقسام، وما يحدث في وسط هذا المجلس الفخيم من الفتن والشحناء بينهم. وفي هذا البناء أيضًا قاعة لمجلس الشيوخ مثل قاعة النواب في نظامها وغرف كثيرة للمداولات وللوزراء واللجنات التي يأمر المجلس بعقدها، ومطعم فاخر مستعد في الليل والنهار لتقديم ما يطلبه الأعضاء الذين يكثر بقاؤهم 24 ساعة متوالية في جلسة واحدة إذا طال الجدل واحتدَّ الأعضاء بسبب أمر تختلف الأحزاب عليه. وقصر الحقَّانية بُني من 1875 إلى 1881، في وسطه تمثال القسطاس والعدل، وفيه غرف لمحكمة الاستئناف العليا وإدارة النيابة العمومية، وهو من الأبنية التي تستحق الاعتبار، وعلى مقربة منه المجلس البلدي وهو قصر طويل عريض، كمُل بناؤه سنة 1883 بعد عمل 11 عامًا، وأُنْفِقَ عليه فوق ثلاثين مليون فرنك، وهو من أجمل المجالس البلدية في أوروبا وأعظمها، تُولم فيه الولائم الكبرى، وتُعْقَد الاحتفالات العظيمة في قاعات فسيحة بديعة يُصْعَد إليها على درج من الرخام له عُمُد من المرمر المذهَّب، ولا يقل طول قاعة الولائم عن 150 مترًا، ينيرها ثلاثة آلاف أنبوبة للنور لم أرَ لها نظيرًا في قصر الإمبراطور ولا في غيره. ويقام فيها كل عام مرقص يشترك فيه أهل الترف والنعمة، ومن أمامها شرفة تطلُّ على الشارع الكبير الذي نحن في شأنه. وأما القاعة التي يجتمع فيها أعضاء المجلس البلدي فعظيمة فسيحة، تشبه قاعة النواب التي ذكرناها في الوضع والنظام، وفي سقفها ثريا من الأنوار قيل إن ثمنها 160 ألف فرنك، وعلى جدرانها صور الرؤساء السابقين لهذا المجلس والمتوفين، وفي الدور الأسفل من هذا البناء الفخيم تُحَف ثمينة ونفائس تعدُّ من أثمن ما في مدينة فيينَّا؛ من ذلك مكتبة عظيمة فيها من نوادر الكتب ما يفخر به أهل هذه المدينة، وقد جمعت بنوع أخص ما فيه تاريخ فيينَّا القديم والحديث، ومن ذلك أيضًا آثار وتحف كثيرة وصور تاريخية تمثِّل الحوادث المشهورة، مثل هجوم الأتراك سنة 1529 وهم بهيئاتهم القديمة وملابسهم المعروفة، واستيلاء بونابارت على فيينَّا سنة 1805 و1809. وهنالك أيضًا أدوات شتى كانوا يستعملونها للتعذيب فيما مرَّ من الزمان، وهي باقية تدلُّ على قسوة الأيام الماضية وحرية هذه الأيام، ورايات وأسلحة قديمة غنمها النمسويون في حروبهم الكثيرة، وغير هذا مما لا يمكن الإسهاب في شرحه. وأما التياترو الإمبراطوري المشهور فهو مثل أكثر ما في هذا الشارع من الآثار العظيمة جديد البناء، قام مكان مرسح قديم احترق برُمَّته ومات فيه 2000 نفس، وهو أكبر حريق في المراسح العمومية حدث في الأيام الأخيرة. وقد أنفقوا على هذا المرسح الجديد وزخرفه وفرشه مالًا طائلًا ولا حاجة إلى القول إن فيه من السقوف المزخْرَفة والعُمُد المذهبة والجدران الملوَّنة والفسحات المنظَّمة والذرى الفسيحة ما يستوقف الأنظار، وفيه نُصُب لمشاهير المؤلِّفين من أصحاب الروايات، مثل شاكسبير وموليير وشلر وغيرهم، وتضمُّ قاعته الكبرى أكثر من ثلاثة آلاف نفس. ولعلَّ أشهر ما في هذه المدينة وأكثره نفعًا للزائرين المتحفَين العظيمين، وهما قصران بديعان بُني أحدهما تجاه الآخر، وبينهما حديقة صغيرة وأمامهما الشارع الكبير الذي ذكرناه، فكأنما هما توأمان بُنيا من سنة 1874 إلى 1889، وجُعلا متشابهين في الوضع والشكل، فإن طول كلٍّ منهما 175 مترًا وعرضه 77، ولهما أروقة قامت على عُمُد ضخمة بديعة الصنع، وفي الحديقة الصغرى ما بين القصرين نُصُب للإمبراطورة ماريا تريزا ملكة النمسا والمجر، وهي من أشهر ملكات هذه البلاد من آل هايسبِرْج. وقد أقام هذا النُّصُب الإمبراطور الحالي في سنة 1888 على قاعدة من الرخام ارتفاعها 43 قدمًا، وفوقها تمثال الإمبراطورة وعلوه 19 قدمًا، وهو يمثِّلها في السنة الخامسة والثلاثين من عمرها باسطة ذراعها اليمنى، وفي يسارها صولجان الملك والقانون الذي سنَّه كارل السادس سنة 1772 بحصر الملك في البِكر مثل قانون أكثر الممالك، وإلى جانب ماريا تريزا تماثيل المشاهير في الحرب والسياسة والعلم، وهم لا يقلُّون عن عشرين. وفي المتحف الأول من هذين القصرين آثار تاريخية وتحف صناعية ورسوم ونقوش شتى لا يُحْصَى عديدها، حتى إن فهرست هذه الأشياء ملأت ثلاثة مجلدات كبيرة فيها 30000 نمرة، ولكل قطعة في المعرض أو جملة قطع نمرة معلومة في هذه المجلدات، فإذا شاء المرء أن يطَّلع على ما في هذا المعرض العظيم كله لزِمَ له أيامٌ وأسابيع؛ لأن تاريخ الأمم — وبنوع أخص الأمم الخاضعة لسلطنة النمسا الحالية — جُمِعَ في تلك الآثار والنفائس. وقد قُسِّم المتحف أقسامًا كثيرة ليسهلَ على الناس رؤية ما فيه، منها قاعات جُمِعَتْ فيها آثار الفينيقيين الأُوَل ومعبوداتهم، وإلى جنبها أروقة وقاعات ملئوها بآثار نينوى وآشور، وتلك الأصنام صُنِعتْ على شكل الحيوان، ولها أجنحة الطير ورأس البشر، كان الآشوريون يعدُّونها رمز القوة العقلية والبدنية ويضعونها في أكثر منازلهم والأماكن العمومية. ثم قاعة اليونان وفيها من رسومهم المُتْقَنة وآثارهم ونقودهم ما نقتصر على الإشارة إليه. ومن ورائها قاعات التاريخ الروماني، وفيها صورة قياصرة رومية وتماثيلهم وشيء كثير عن القيصر ماركوس أوريليوس الذي مات في فيينَّا، وهنالك أيضًا قسم خاص بالتاريخ المصري فيه أجسام محنَّطة وتمثال رعمسيس الثاني وأوزيرس المعبود القديم، وغير هذا مما يعرفه الذين رأوا بعض ما في متحف مصر، ولكنَّ في ذلك المتحف تمثالًا لأبي الهول المصري بأربعة رءوس، وهو بلا نظير في المتحف المصري. ويلي ذلك قسم السلاح في هذا المعرض، وهو كبير عظيم الأهمية جُمِعَتْ فيه أسلحة البشر من أول عهدهم بالقتال، أكثر ما فيه أسلحة النمسا وملابس قياصرتها وقُوَّادها، وقد زاد رونق هذا القسم بما فيه من أسلحة الجركس والأرناءوط المحلَّاة بالذهب والفضة وبعضها مرصَّع بالحجارة الكريمة، وأشهرها ملابس إسكندر بك، وهو أمير ألباني نشأ في القرن الخامس عشر وأُخِذَ أسيرًا على عهد السلطان مراد الثاني، فرُبِّيَ على الدين الإسلامي في قصر السلطان حتى إذا كبر صار من قُوَّاد الجيش العثماني، ثم تآمر مع بعض الرجال واستعان بقوته على إرجاع مُلْكِ أجداده فتمَّ له ذلك، ولم يمكن للسلطان أن يستردَّ ألبانيا منه مدة حياته ومات سنة 1467، ومن هذا القبيل سيف من الذهب للإمبراطور كارل الخامس وعصا الملك للإمبراطور فردينند الثاني، وغير هذا كثير كان ملوك النمسا وأمراؤها يُهدونه للمتحف أو يتركونه إرثًا له حتى اجتمع فيه كل هذه النفائس. وصعدنا بعد رؤية هذا كله الدور الأعلى من المتحف على سُلَّمٍ كله من الرخام الأبيض، فوصلنا قاعات فسيحة بهيَّة جُمِعَتْ فيها الرسوم المُتْقَنة من صنع أشهر الرسَّامين، وهي تزيد عن ألف صورة في عددها، وبعضها كبير يملأ الجدار كله، وقد قُسِّمت هذه الصور الكثيرة حسب أنواعها، فترى في كلِّ قسم منها الصور الفرنسية أو الهولاندية أو الإيطالية أو النمسوية أو غير هذا. وأما مواضيع هذه الصور فيعسر على الكاتب عددها؛ لأنها مختلفة كثيرة الأشكال، ولكنَّ منها قسمًا كبيرًا يمثِّل حوادث التوراة والإنجيل، وبعضها ثمين كثير الإتقان من صنع رفائيل المشهور وسواه، لا تقلُّ قيمة الصورة الواحدة منه عن عشرة آلاف جنيه، وبعض هذه الصور خيالات وأوهام يختلقها المصوِّرون لتمثيل هيئة الحب أو العِفَّة أو البسالة أو السعادة أو غير هذا مما لا يحتاج المتفرِّج إلى شرحٍ معه؛ لأن الرسم ناطق بالمعنى المراد. ولهذا النوع قيمة عند العارفين؛ فإن أشهر الصور الحديثة ما كان من هذا القبيل، وبعضها يدل إلى مناظر طبيعية زائدة الجمال، كأن تكون مناظر السحاب والشمس من وراء الغيوم أو مناظر الجبال والبحيرات والأودية، وأكثر ما يرى هنالك رسوم ضفاف الأبحر والبحيرات التي تسحر الناظرين بجمالها ويتمنَّى الرائي لو يمكن له أن يعيش في بقعة من الأرض جميلة مثل البقعة التي تشير إليها تلك الصورة، وبعض الرسوم تاريخية رأيت منها رسم واقعة بحرية كان أمير البحر النمسوي تجتوف يحارب فيها الطليان على مقربة من جزيرة ليسا سنة 1866، وفاز على أعدائه، وبعض المعارك التي جرت بين الفرنجة والسلطان صلاح الدين، ورسوم كثيرة لرودلف هايسبرج مؤسس العائلة الحاكمة في النمسا إلى الآن، وماريا تريزا التي أشرنا إليها كثيرًا، وأشهرها رسم هذه الملكة حين قامت عليها فرنسا وبروسيا تريدان محاربتها بعد موت زوجها وفرَّت بابنها الطفل إلى بلاد المجر فاستعانت برعاياها المَجريين على إرجاع المُلْكِ إلى ابنها، وعقد القوم مجلسًا حافلًا للنظر في أمرها، فلمَّا انتظم المجلس جاءت وعلى ذراعها الطفل الصغير، وخطبت في أعيان المجر خطابًا أثار حميَّتهم وحرَّك همَّتهم إلى نصرتها، ثم ختمت خطابها بالقول إن هذا ابن مليككم يا أبطالي فخذوه وافعلوا ما تريدون. حتى إذا انتهت من الكلام صاح الجمع قائلين: «لنَمُتْ جميعًا من أجل ملكتنا ماريا تريزا.» ونصروها وأعادوا المُلْكَ إليها وإلى ابنها، وكانت ماريا تريزا من أعظم ملوك النمسا والمجر. هذا مُجْمَل ما في المتحف الأول. وأما الثاني تجاهه فإنه خُصَّ بالتاريخ الطبيعي؛ أي بالقديم والغريب من أشكال النبات والحيوان والجماد. ولهذا القسم بهاء القسم الأول وفخامته من حيث البناء، وهو ثلاثة أقسام، أولها لنوع الجماد وثانيها للنبات وثالثها للحيوان، وفي كلِّ قسم أجزاء لما ظهر من هذه الموجودات في كل دور من أدوار الأرض الجيولوجية، فترى في قسم الجماد أحافير ومتحجِّرات شتى جاءوا بها من أقاصي الشرق والغرب، بعضها لا قيمة له إلا من حيث العلم بتاريخه القديم، والبعض كثير الجمال غالي القيمة. وقد جعلوا الدور الأول من البناء لقسم الحيوان، وأكثر ما ترى هنا وحوش مصبرة، وزحافات هائلة مثل الحيَّات الأميركية والهندية على أنواعها وبقية الأنواع الغريبة. والثاني للنبات وفيه غرائب يعسر وصفها أكثرها مصبر أيضًا. والثالث للمتحجرات وبعضها جميل الشكل غريب النوع، والذين ينتابون هذا المعرض ويتعلَّمون مبادئ العلوم الطبيعية فيه ليسوا بالعدد القليل. وذكرنا الأوبرا الكبرى، وهي من أحسن ما بُني من نوعها، تضمُّ خمسة آلاف نفس، وفي سقوفها وجدرانها ما لا يُحصى من الزخارف ورسوم رجال الموسيقى، وقد بُنيَتْ ما بين عامَي 1861 و1869. رأيت جوانبها الفخيمة وقاعتها الكبرى، حيث يجتمع الناس لسماع التمثيل والأنغام، وفي أعلاها ثريَّا هائلة المقدار لا يقلُّ فيها عدد الأنابيب التي يخرج منها النور عن أربعة آلاف. ويزيد هذا الشارع رونقًا وبهاءً أن فيه حديقتين، إحداهما حديقة فولكس أحاطوها بسور من الحجر والحديد، وفيها المطاعم والحانات والموسيقى، فهي يؤمُّها أهل فيينَّا مئاتهم وألوفهم عصاري كل نهار؛ لأنها في وسط المدينة، وأَشْهَر منها حديقة ستاد بارك، هي من أعظم حدائق فيينَّا وأجملها، تشرف على شارع الحلقة وينتابها أهل الطبقة العالية من سكان فيينَّا، فهي ذات دروب نظيفة وجوانب بهيَّة ومزروعات كثيرة الجمال ومناظر بالغة حد الإتقان والفخامة، تمرُّ في جوانبها قناة من الماء ينصبُّ في بُحَيرة صغيرة جمعوا إليها أكثر أشكال الطيور المائية، وغرسوا إلى جوانبها الأزهار من كلِّ نوع وكل لون على شكلٍ بديع النظام، حتى إنهم كتبوا بالزهر المختلف الألوان على أرضها اسم الحديقة وكلمات أخرى، فكأنما أنت هناك على بساطٍ من العشب، وفي البساط صناعة وكتابة وإتقان عجيب. هذا أشهر ما يُذْكَر في شارع الحلقة العظيم، وهو أجمل شوارع أوروبا وأحدثها نشأة وأكثرها مشاهد يتفرَّع منه دروب توصل إلى غيره من الشوارع الكبرى وما فيها من المشاهد المعروفة، مثل الشارع الموصل إلى كنيسة القدِّيس أسطفانوس، وهي أشهر كنائس النمسا وأعظمها، بُدئ في بنائها سنة 1300 وما زال الملوك ورجال الدين يزيدون في محاسنها إلى الآن، طولها 355 مترًا والعرض 89، رَسَمَ شكلها مهندس اسمه جورك حُكِمَ عليه بالجنون لفرْطِ ذكائه، ورسمه قائم في دار الكنيسة وهو في حالة السجن وبيده الآلات الهندسية، والكنيسة شائقة المنظر من خارجها بُنِيَتْ على عُمُدٍ من الرخام، وفي داخلها ما لا يمكن عدُّه من آيات الإتقان، منها الهياكل الكثيرة بعضها قديم العهد، وفي جملتها هيكل بُني سنة 1852 تذكارًا لنجاة الإمبراطور الحالي من القتل. وفي ساحة الكنيسة مدفن لبعض القياصرة والكبراء، ولكن العائلة الحالية جعلت مدفن أفرادها في كنيسة الكبوشيين في فيينَّا، وهنالك دُفِنَ رودولف ابن الإمبراطور وإليصابات زوجته، وقد ذكرناهما في غير هذا الموضع، وإلى جانب الكنيسة الكبرى التي نحن في صددها برج عظيم ترى منه معظم فيينَّا وضواحيها. وليس يبعد عن كنيسة أسطفانوس شارع جرابن، وله شهرة ذائعة؛ لأنه ثاني الطرق الكبرى في هذه العاصمة، وهو يحفُّ الشجر بجانبيه، وفيه المخازن الملأى بنفائس الحاجات فترى جماعات الناس تقصده من كل جانب لمشترى بعض ما فيه. وهناك نُصُبٌ للثالوث الأقدس أُقيم في وسط الشارع على عهد الإمبراطور ليوبولد الأول سنة 1694 شكرًا لله على زوال الطاعون من المدينة، ومن هذا الشارع يمكن لك الوصول إلى قصر الإمبراطور الذي يقيم فيه مدة الشتاء، دخلناه وراء القيِّم عليه، ورأينا من غرائبه المشهورة قاعة عظيمة للاستقبال، فيها 24 عمودًا من الرخام، وقاعة الرقاد وفيها سرير كانت تنام عليه ماريا تريزا، وقاعة المرائي — دُعيت كذلك لكثرة مرائيها — وفيها ساعة لا يلزم لها تدوير غير مرة في كل ثلاثة أعوام، وكان الناس ساعة خروجنا من هذا القصر متألبين عند مَدْخله يريدون التفرُّج على الكردينال، وهو يومئذٍ قام لأمرٍ يقضيه في قصر الإمبراطور، فانتظرنا قدومه معهم ورأيناه بملابسه الأرجوانية وقبَّعته المثلَّثة الجوانب، ومن ورائه حشم ورجال الدين في عربات أخرى، حتى إذا توارى عن العيان سِرْنا من القصر إلى المكتبة الإمبراطورية، وهي من أكبر المكاتب العامة في الأرض، فيها نحو أربعمائة ألف مجلد، نصفها كتب خطِّيَّة وكثير منها عربي مطبوع أو غير مطبوع، ومجلَّدات من أول عهد الطباعة، أكثرها ديني من أثمنها إنجيل كُتِبَ على جِلْدٍ أحمر بالحروف الذهبية والفضية في أول القرن السادس، وكُتُبٌ أخرى خُطَّت على ورق مصنوع من شجر التوت وشجر النخل وغير هذا كثير، والناس من طلبة العلم وسواهم يقصدون هذه المكتبة ويدخلون قاعة المطالعة فيها بإذنٍ خاص فيبحثون عن دقيق المسائل في كتبها القديمة، فإذا دخلت تلك القاعة أُعجبت بما ترى من أدلة الاجتهاد وسَيماء الوقار بين أولئك المطالعين. ويُذْكَر بين مشاهد فيينَّا قصر الخزائن وهو مستودَع للتحف الإمبراطورية القديمة والحديثة، لأكثرها شأن في التاريخ عظيم، من أهمِّ ما يُذكَر بينها خوذة عسكرية من الفضة قدَّمها الشعب المجري للإمبراطور الحالي عند تتويجه ملكًا للمجر سنة 1867، وفي داخلها أوراق مالية بنحو 750 ألف فرنك أوقفها الإمبراطور لإعانة أهل الحاجة من المجر. ومن ذلك التاج الإمبراطوري والصولجان وبقية الحلي التابعة للبيت المالك، منها ألماسة وزنها 133 قيراطًا تُقدَّر قيمتها بستين ألف جنيه كانت من جواهر شارل الجَسور أحد ملوك فرنسا وراحت منه، ثم قيل إن فلاحًا وجدها وباعها بفرنكين لأمير توسكانا وانتقلت منه إلى ملوك فيينَّا، ومن ذلك أيضًا الوسامات المشهورة، منها وسام فيليس فيه 150 حجرًا كريمًا في وسطها حجر وزنه 42 قيراطًا، وتاج الإمبراطورة ماريا تريزا وفيه 548 حجرًا ثمينًا، وحلي وجواهر أخرى غالية القيمة أودعتها العائلة المالكة وسواها هذا المتحف، بعضها على سبيل الأمانة وبعضها هدية للمملكة، مثل ملابس شارلمان وتاجه وصولجانه، وغير هذا مما لا يُحصى. علمت أنَّ فيينَّا يدخلها فرع من نهر الدانوب الشهير؛ فلهذا كانت محاسنها متفرِّقة ما بين قسميها الشرقي والغربي، وقد ذكرنا معظم ما يهمُّ ذكره في القسم الغربي. وأما القسم الشرقي فأهمُّ ما فيه ليوبولدستاد، وهو حيٌّ كبير من أحياء فيينَّا كله منازل مشيدة وطرق فسيحة ومخازن كبيرة، ومن أشهر مشاهده تمثال أمير البحر تجتوف الذي ذكرناه، والقوم يعتبرونه من أكبر رجالهم؛ لأنه أحيا الأمة النمسوية بانتصاره على الطليان مع تكاثر عديدهم، فهم اعتنوا بتمثاله وجعلوه على مدخل حديقة براتر المشهورة وجعلوا ارتفاعه 36 قدمًا، وهو على قاعدة تشبه مقدم السفينة صُنِعَتْ من النحاس والبرونز، ومن تحتها رسوم خيل البحر تجرُّها وتُذكِّر الناس بالنصر في تلك المعركة البحرية. ولقد ذكرنا أن هذا التمثال في أول حديقة براتر، والحقُّ يُقال إن في فيينَّا حدائق كثيرة والناس يهتمون لحدائقهم ويجعلون لها شأنًا خلافًا لما تعوَّدناه من إهمال الناس شأن الأزبكية في مصر مع أنها من أجمل الحدائق العمومية، وقد تضاهي الحدائق المشهورة في أوروبا ولكنها لولا الموسيقى الإنكليزية تصدح مدة وجيزة في بعض ليالي الصيف لَما رأيت فيها شيئًا من مظاهر الهيئة الاجتماعية، وحدائق براتر هذه مجموع حراج غضيضة غُرِسَتْ في أرض أريضة وغابات بهيَّة تتخلَّلها مروج من العشب شهيَّة فلا تقلُّ مساحة الكل عن أربعة آلاف فدَّان تُقسَّم أقسامًا ثلاثة، أولها متنزَّه هوبت وهو شارع عريض جميل تمرُّ به العربات عشرات ومئات، ويمرُّ الناس مشاة أو على ظهور الجياد، ويحفُّ بهذا الشارع غابات من شجر الكستنا تُشْرَح بمنظرها الصدور، وفي وسطها مطاعم يلذُّ للآكل فيها الطعام وحانات للبيرا وسواها يقعد الواحد فيها فيسمع شجيَّ الأنغام، وأكثر ما يكون اجتماع الخلق هنا في أيام الأحد أو يوم عيد الإمبراطور أو اليوم التالي لعيد الفصح، وهو هنالك بمثابة شم النسيم في القطر المصري، والقسم الثاني من هذه الحديقة يُعرف باسم «فورويك»، وفيه ألعاب كثيرة من خيل خشبية تسير بالبخار وأراجيح ومشاهد شتى يجتمع أهل الطبقة الوسطى لمشاهدتها في كلِّ حين ويقصدها أصحاب العائلات فيُرْكِبُون أولادهم تلك الخيول الصناعية ويجارونهم على اللعب والضحك، وهنالك بحيرة صغيرة تجري عليها زوارق صغيرة للأولاد أيضًا ويسيِّرها البخار وألعاب أخرى يلذُ التفرُّج عليها، وأولئك الصغار بملابسهم النظيفة يضحكون ويطربون.
|
|
"عادة ليلية" قد تكون المفتاح للوقاية من الخرف
|
|
|
|
|
ممتص الصدمات: طريقة عمله وأهميته وأبرز علامات تلفه
|
|
|
|
|
المجمع العلمي للقرآن الكريم يقيم جلسة حوارية لطلبة جامعة الكوفة
|
|
|