أقرأ أيضاً
التاريخ: 13-4-2017
769
التاريخ: 6-08-2015
748
التاريخ: 20-11-2014
699
التاريخ: 6-08-2015
926
|
التكليف .. حدّ بأنّه إرادة المريد من غيره ما فيه كلفة ومشقّة إذا كان المريد أعلى رتبة ممّن يريد منه ذلك، وإنّما حدّ التكليف بذلك ليدخل فيه التكاليف العقلية والشرعية.
ولكنّه يرد على هذا الحدّ نقض وهو خروج التكليف المتعلّق
بأن لا يفعل عنه، لأنّ الإرادة لا تتعلّق بأن لا يفعل. هذا إذا عني بالإرادة معنى
زائد على الداعي على ما يقوله أصحابنا.
وقد حدّ بأنّه إعلام الغير أنّ له في أن يفعل وأن لا
يفعل نفعا أو ضرّا مع مشقّة تلحقه فيه، إذا لم يبلغ الحال فيه حدّ الإلجاء، وهذا
الحد يدخل فيه سائر أنواع التكليف من العقليّ والشرعيّ والفعل وأن لا يفعل.
وقد طعن في هذا الحدّ بأن قيل: الإعلام إنما يكون بفعل
العلم في الغير أو نصب الدليل له، فلو كان التكليف إعلاما لوجب أن لا يكون أحدنا
مكلّفا في الشاهد، إذ لا يتأتى من أحدنا فعل العلم في الغير، ولا نصب الدليل له.
ويمكن الجواب عن ذلك بأن يقال: الإرشاد من جهتنا والتنبيه
بالأمر أو الخبر يسمّى إعلاما، فهذا الطعن ساقط.
وقد حدّه أبو الحسين بأنّه البعث على ما يشقّ على الغير
من فعل أو ترك، وبيّن ذلك بأنّ قال: المفهوم من قول الغير: كلّفني فلان، كذا، أي
بعثني عليه، ولا بدّ من اعتبار المشقّة فيه لأنّه مأخوذ من الكلفة وهي المشقة، وإذا
كان كذلك فما حدّدنا به التكليف جمع المعنيين، ويدخل فيه التكليف العقليّ والشرعيّ.
وهذا التحديد عند التحقيق يرجع إلى ما قاله من حدّه بالإعلام الذي وصفناه، وإلّا
فما معنى البعث، ولكنّه لم يورد فيه التقييد الذي اعتبره ذلك الحادّ في قوله «إذا
لم يبلغ الحال به حدّ الإلجاء» اعتقادا منه بأنّ الملجأ أيضا يكون مكلّفا بما
ألجأه إليه، وهذا قريب، لأنّها أيضا مبعوث على ذلك، بالالجاء، فإذا شقّ عليه الفعل
أو الترك كان مكلّفا، ولكنّه لا يستحقّ بما يفعل أو يترك ثوابا أو عقابا ولا مدحا
ولا ذمّا.
ويمكن تصحيح الحدّ الأوّل بأن يقال: التكليف إنّما هو
إرادة المريد من غيره ما يشقّ عليه، أو كراهته منه ما يشقّ عليه الامتناع منه بشرط
أن يكون أعلى رتبة فيستقيم الحدّ ولا ينتقض، وإن اريد بالإرادة والكراهة معنيان
زائدان على الداعي والصارف، هذا هو الكلام في حدّ التكليف.
فأمّا حسن تكليف اللّه تعالى إيّانا فظاهر، وذلك لأنّه
تعالى قد كلّفنا.
فلو كان التكليف قبيحا لما فعله تعالى، وإذا لم يكن
قبيحا وجب أن يكون حسنا، لأنّ فعله لا يخلو من الحسن والقبح...
أمّا وجه حسنه، فهو أنّه تعريض للثواب الذي لا يحسن
إيصاله إلى الغير إلّا بالاستحقاق بوسيلة التكليف، وقد ثبت أنّ تعريض الشيء في
حكم إيصاله، ألا ترى أنّه كما يحسن منّا التوصّل إلى المنافع بتحمّل المشاقّ في
طلبها يحسن من غيرنا أن يعرضنا لها.
وإنّما قلنا إنّه تعريض للثواب من حيث انّه تبارك وتعالى
بعثنا على تحمّل المشاقّ فيما كلّفناه فيجب أن يقابل ذلك بمنافع بضمنها، وإلّا
يحسن منه إلزامنا تحمل المشاقّ فينا، وقد علمنا أن ما كلّفناه من الإتيان
بالواجبات والمندوبات والامتناع من المقبّحات ممّا يستحقّ به المدح والتعظيم فيحصل
للمكلّف بتحمّل المشقّة في أداء ما كلّف باستحقاق المنفعة والتعظيم جميعا، فتحقق
أنّ التّكليف تعريض للثواب الذي وصفناه.
وإنّما قلنا: «لا يحسن إيصال الثواب إلّا بوسيلة
التكليف» من حيث علمنا انّه يقبح من أحدنا أن يعظم صبيّا يأخذه من قارعة الطريق
على حدّ ما يعظم إماما من أئمة المسلمين. وإنما يقبح ذلك، لأنّه لا يستحقّ ذلك
التعظيم، ولا يجوز أن تكون المنفعة التي يضمنها تبارك وتعالى في مقابلة التكليف
بصفة العوض او التفضّل، لأنّه لو كان كذلك لكان يحسن الابتداء به من غير تكليف،
فيقبح التكليف له. كمن يستأجر أجيرا لينقل التراب من مزبلة إلى مزبلة أو الماء من
أوّل الساقية إلى آخرها، أو من آخرها إلى أوّلها، ولا غرض له في ذلك إلّا إيصال
الاجرة إليه.
فإن قيل: إذا كان الثواب الذي عرّض المكلّف له في مقابلة
المشقّة التي تلحقه بامتثال التكليف كان جاريا مجرى الاجرة عليها وحسن الاستيجار
موقوف على التراضي، فكيف يحسن منه تعالى التكليف من دون رضا المكلّف؟
قلنا: إنّما يراعى التراضي فيما يختلف أحوال العقلاء
فيه، كالأجرة على العمل الشاقّ فانّه قد يؤثر عاقل عملا شاقا بمقدار معيّن من
الاجرة، وغيره من العقلاء لا يرضى بذلك المقدار من الأجرة في مثل ذلك العمل. فأمّا
إذا كانت المنافع كثيرة عظيمة بحيث لا يختلف العقلاء فيه لكثرتها وخاصّة لاقترانها
بالتعظيم والتبجيل حتّى تسفه من لا يختار تحمّل المشاقّ للوصول إلى مثل تلك
المنافع فانّه يصحّ أن يختاره تعالى لعبده من دون رضاه.
فإن قيل: إذا بنيتم أن في التكليف وجه حسن، وهو كونه
تعريضا للثواب، فبيّنوا أنّه ليس فيه وجه من وجوه القبح، لأنّ الفعل لا يحسن
عندكم، وإن ثبت فيه وجه حسن أو عدّة من وجوه الحسن حتّى ينتفي عنه وجوه القبح.
قلنا: لو كان فيه وجه من وجوه القبيح لكان قبيحا، ولو
قبح لما فعله اللّه تعالى.
فإن قيل: ما
ذكرتموه بيّن في تكليف من المعلوم من حاله أنّه يؤمن ويطيع. ولكنّه غير ظاهر في
تكليف من المعلوم من حاله أنّه يكفر، فلم قلتم إنّ تكليفه حسن؟ وما وجه حسنه؟
قلنا: دلالة حسن التكليفين واحدة، ووجه حسنهما واحد، وذلك
لأنّ دلالة حسن تكليف المؤمن ... هي أنّ اللّه تعالى قد كلّفه وهو تعالى لا يفعل
إلّا الحسن فهذه الدلالة بعينها قائمة في تكليف الكافر، لأنّه تعالى كلّفه أيضا
بالإجماع معرفته ومعرفة توحيده وعدله، وإنّما النزاع في أنّه هل هو مكلّف
بالشرعيّات أم لا ؟ فلو كان تكليفه قبيحا، لما كلّفه وفعله تعالى لا يخلو من الحسن
والقبح، فيجب أن يكون حسنا.
ووجه الحسن أيضا واحد في التكليفين وهو التعريض للثواب
الذي لا طريق للوصول إليه الّا التكليف وقد فعل تعالى بالكافر كلّ ما فعله بالمؤمن
ممّا يرجع إلى إزاحة العلّة في التكليف من الإقدار والتمكين وإعطاء الآلة والعقل ونصب
الأدلة ولا فرق بينهما إلّا من حيث يعلم تعالى أنّ المؤمن يحسن الاختيار لنفسه،
فيصل إلى ما عرّض له، ولا يعلم هذا من الكافر، بل يعلم وهو أنّه يسيء الاختيار
لنفسه، فلا يصل إلى ما هو معرّض له بجنايته وسوء اختياره.
والّا فمتى أعرضنا عمّا ذكرناه فانّا لا نجد بين
التكليفين فرقا....
وبيان أنّ فقد العلم بأنّه يؤمن لا يقتضي قبح تكليف
الكافر انّه لو اقتضاه لوجب قبح سائر التكاليف في الشاهد، لثبوت هذا الوجه فيه، وهو
فقد العلم، لأنّ من كلّفناه يطيع، وبيان أنّ علمه تعالى بأنّه يكفر ولا يؤمن لا
يقتضي قبح هذا التكليف، هو انّه لو اقتضاه لوجب ان يقبح منّا تقديم الطعام إلى
الجائع الذي يغلب في ظنّنا أنّه لا يتناوله، لأنّ ما طريق حسنه وقبحه المنافع والمضارّ،
فانّ الظنّ فيه يقوم مقام العلم، كالتجارة، فانّها تحسن مع ظنّ الربح كما تحسن مع
العلم بالربح، ويقبح مع ظنّ الخسران كما يقبح مع العلم بالخسران، وقد علمنا حسن
تقديم الطعام إلى من وصفناه.
وبعد، فانّا نعلم حسن استدعاء جميع الكفّار إلى الدين في
حالة واحدة لو جمعوا في مجمع واحد مع ما قد علمنا ضرورة من طريق العادة أنّهم
بأجمعهم لا يدخلون في الدين في تلك الحالة.
فبطل أن يكون علمه تعالى بأنّه يكفر ولا يؤمن يقتضي قبح
تكليف الكافر.
وتحقق ما ذكرناه من حسن تكليفه، لأنّ وجه الحسن ثابت
فيه، ووجوه القبح منتفية عنه، لأنّ وجوه القبح معقولة مضبوطة مثل كونه كذبا وعبثا
ومفسدة وظلما وتكليفا لما لا يطاق. وكلّ هذه الوجوه منتفية عن تكليف من المعلوم من
حاله أنّه يكفر.
على أنّه لا يلزمنا بيان وجه الحسن على التفصيل في تكليف
الكافر، ولا في تكليف المؤمن ولا بيان انتفاء وجوه القبح عن التكليفين مفصّلا،
لأنّا قد علمنا على الجملة أنّ في كلّ واحد منهما وجه حسن وأنّه ليس فيهما ولا في
أحدهما وجه من وجوه القبح بما قد علمنا من حسنهما ... فلو لا ثبوت وجه الحسن فيهما
وانتفاء وجوه القبح عنهما لما حسنا. وهذا القدر يكفينا، ولا نحتاج إلى بيان
التفصيل في ذلك غير أنّا نتكلّم في التفصيل استظهارا في الحجّة.
فإنّ قيل: فيه وجه من الوجوه التي عددتموها، وهو كونه
تكليفا لما لا يطيقه المكلّف. وبيان ذلك أنّه تعالى علم من حاله أنّه يكفر ويعصي ولا
يؤمن ولا يطيع، فإذا كلّفه الإيمان والطاعة فقد كلّفه ما لا يطيقه ولا يقدر عليه،
إذ لو قدر على الإيمان والطاعة التي علم تعالى أنّه لا يفعلها لكان قد قدر على أن
يجعل علم اللّه تعالى غير علم، لأنّه لو آمن وأطاع، لكان علم اللّه تعالى بأنّه يعصي
غير علم، وذلك يقتضي كونه علما وغير علم، وهذا محال.
قلنا: أليس اللّه
تعالى علم أنّه لا يحرّك ورق الشجر في الوقت الذي لا يحرّكه ومع ذلك فانّه لا يقدر
على تحريكه بالاتفاق، إذ أضعف القادرين يقدر على ذلك، ثمّ اقتداره تعالى على ذلك
ليس اقتدارا على أن يجعل علمه غير علم.
وأصحابنا يجيبون عن هذا السؤال بأن يقولوا إنّما كان
يلزم ما قالوه أن لو قلنا أنّه لو وقع من الكافر الإيمان لكان تعالى غير عالم
بأنّه لا يؤمن وأن علمه تعالى بأنّه يكفر صار علما بأنّه يؤمن، ونحن لا نقول ذلك
بل نقول خطا أن يقال إنّه يكون علما بانّه يكفر، لأنّه يقتضي تعلّقه بالشيء لا على
ما هو به وخطاء قول من يقول يكون علما بأنّه لا يكفر، لأنّه يكون فيه انقلاب علمه.
والجواب الصحيح عن هذا السؤال أن يقال: إذا فرضنا وقوع
الإيمان منه أنّه تبارك وتعالى ما كان يكون عالما من الأزل بأنّه لا يؤمن، بل كان
بدله عالما بأنّه يؤمن وإنّما أشكل الأمر على السائل لأنّه قدّر وقوع الإيمان من
الكافر مع إثباته كونه تعالى عالما بأنّه لا يؤمن. وهذا تقدير محال، لأنّ العلم،
من حيث انّه يتعلّق بالمعلوم على ما هو به تبع للمعلوم في التعلّق، فصار العلم والمعلوم
من هذا الوجه من الامور المتضايفة التي لا يمكن تقدير الإضافة في أحد المتضائفين
مع نفي ما يقابله في الآخر. كالأبوة والبنوّة، فانّه يستحيل أن يقدر في شخص أنه
ابن شخص آخر، مع تقديرك أنّ الآخر ليس أبا له، بل مهما فرضت في أحدهما أنّه ولده
فانّه يتضمّن هذا الفرض فرض الآخر بأنّه أبوه لا يتصوّر إلّا كذلك.
كذلك في مسألتنا، إذا فرضت المعلوم على وجه فلا بدّ من
أن تفرض في مقابلته تعلّق العلم به على ذلك الوجه ولا يمكن خلافه. ألا ترى أن
القائل إذا قال: في بسرة صفراء كيف يعلمها اللّه سبحانه، فجوابه أن نقول: يعلمها
صفراء لأنّه كذلك في نفسها.
فإن قيل: فلو كانت
حمراء كيف كان الحال في كون تعالى عالما؟
لكان الجواب عنه أن نقول: لو كانت حمراء لعلمها اللّه
تعالى حمراء، كذلك في مسألتنا، والأصل في الباب والتحقيق فيه: أنّ العلم يتبع
المعلوم في الرتبة، وإن كان قد يسبقه في الثبوت ونسبة العلم إلى المعلوم كنسبة
المرآة إلى الصورة التي ترى فيها. فإذا أرتنا المرآة صورة حسناء كانت تلك الصورة
حسناء، كما أرتناها. ولكن لم تكن الصورة كذلك، لأنّ المرآة أرتناها كذلك، بل إنّما
أرتنا المرآة الصورة حسناء، لأنّها كانت كذلك في نفسها.
وقد يورد المخالف هذا السؤال بعبارة أخرى، وهي أن يقول:
لو صحّ من الكافر الإيمان وقدر عليه وفرضنا وقوعه منه لكان يقتضي انقلاب كونه
عالما، وذلك لأنّه إمّا أن يبقى عالما بأنه لا يؤمن فيكون ذلك جهلا، لأنّ تعلّقه
على هذا التقدير ليس على ما هو المعلوم عليه، وإمّا أن يصير عالما بأنّه يؤمن وفيه
انقلاب كونه تعالى عالما.
والجواب عنه أن نقول: أ تعني بقولك: «انقلب علمه تعالى
لو أطاع الكافر» انّه لو أطاع الكافر لكان عالما بانّه يؤمن لم يزل ولا يزال،
فكذلك نقول وليس فيه انقلاب كونه تعالى عالما، وإنما هو إثبات علم بدل علم أو نعني
به أنّه تعالى كان يكون عالما لم يزل بأنّه يؤمن ثمّ يصير عالما بأنّه يؤمن، فهذا
ممّا لا نقوله ولا يصحّ تقديره، إذ فيه أنّ علمه الازليّ تعلّق بالمعلوم، لا على
ما هو به.
فإن قالوا: في هذا التكليف وجه آخر من وجوه القبح وهو
أنّه إضرار بالكافر.
قلنا: أتقولون إنّ نفس التكليف والأمر والبعث إضرار،
فهذا قائم في حقّ المؤمن، فيجب أن يكون إضرارا به أيضا. على أنّ الأمر والتكليف
كيف يتصوّر أن يكون مضرّة؟ ولئن تصوّر أن تكون مضرّة كيف يستضرّ به المكلّف؟ وهو
مباين له غير حالّ فيه.
فإن قالوا: إنّما
استضرّ بالفعل الشاقّ الذي الزمه المكلّف.
قلنا: فهذا الوجه قائم في تكليف المؤمن، وقد خرج من أن
يكون إضرارا به بالثواب الذي ضمن في مقابلته.
فإن قالوا: إنّما استضرّ بالعقاب النازل به.
قلنا: العقاب ليس تكليفا وإنما استضرّ الكافر بالعقاب ونزوله
به لاسائته الاختيارية لنفسه في فعل المعصية وترك الطاعة. ولو أحسن الاختيار لنفسه
بان فعل الطاعة وترك المعصية لانتفع كالمؤمن.
فإن قالوا: إنّما كان تكليفه مضرّة من حيث علمه تعالى
أنّه يكفر فيعاقبه.
قلنا: لو انفرد علمه تعالى عن معصية الكافر لما استضرّ.
فإن قالوا: إذا علم تعالى أنّه يكفر ويعصي فلا بدّ من
وقوع الكفر والمعصية منه فاذا كلّفه مع هذا العلم فقد أضرّ به لأجل التكليف مع هذا
العلم.
قلنا: هذا كلام من يظنّ انّ اللّه تعالى قد اختار أن
يعلم أن الكافر قد يكفر فعلم وانّ علمه ساق الكافر إلى الكفر. وليس الأمر على ما
ظنه السائل، لأنّ الكافر ما عصى لعلم اللّه تعالى بأنّه يعصي، بل انّما علم تعالى
أنّه يعصي، لأنّه يعصي لما بيّناه من أنّ العلم يتعلّق بالمعلوم. على ما هو به ولا
يجعله على ما هو به حتّى لو فرضنا أن لا يعلم تعالى وقوع المعصية منه، ووقوع
الطاعة من المطيع لكان الذي يطيع يطيع والذي يعصي يعصي وعلى هذا فإذا علمنا أنّه
تعالى سيقيم القيامة ويثيب المطيعين ويعاقب الكفّار لم يكن علمنا هذا سبب إقامة
القيامة وإثابة المطيعين وعقوبة الكفّار.
فإن قالوا: هذا التكليف قبيح لأنّه عبث من حيث انّه أجرى
به إلى غرض لا يتحصل، وهو وصوله إلى الثواب.
قلنا: هذا التكليف من فعل حكيم، فلا بدّ من أن يكون فيه
وجه حكمة وغرض صحيح، فلا يكون عبثا، وهذا القدر يكفينا على طرق الجملة.
ثمّ نقول استظهارا
في الحجّة ما قاله بعض الأصحاب وهو: أن تكليف الكافر لطف ومصلحة لغيره من
المكلّفين، فيخرج بذلك من أن يكون عبثا.
فإن قالوا: كيف يجوز إضرار الكافر لمنفعة غيره؟
قلنا: هذا رجوع إلى الوجه الذي ذكرتموه قبل هذا وقد
أجبنا عنه وبيّنا أنّ تكليفه ليس بإضرار، وإنّما نتكلم الآن في أنّ تكليفه ليس
بعبث، فإذا حصل فيه الغرض الذي ذكرناه يخرج به من كونه عبثا، ألا ترى انّه يقبح
منّا استئجار الغير لينقل الماء من ساقية ويتركه في تلك الساقية، لكونه عبثا، ولكن
لو استأجرناه ليستقي الماء من الساقية لغيرنا لخرج بذلك من كونه عبثا، وإن رجع
النفع إلى غيرنا.
وقد اجيب عن هذا السؤال بأن قيل: ليس الغرض في التكليف
إيصال الثواب، وإنما الغرض فيه التعريض للثواب وجعل المكلّف بحيث يمكنه الوصول
إليه. وهذا الغرض متحقق في تكليف الكافر، لأنّه تعالى عرّضه بتكليفه للثواب وجعله
متمكنا من أن يؤمن ويطيع، فيستحقّ الثواب، فبطل بذلك قولهم «أجري بتكليفه إلى غرض
لم يتحصّل».
فإن قيل: أليس زارع السبخة مع علمه بأنّها لا تنبت يسفّه
ويعدّ عابثا ولا يقبل منه الاعتذار بأنّي إنّما أزرعها تعرّضا لمنفعة الزرع من حيث
انّه لا تحصل تلك المنفعة، فهكذا الحال في تكليف الكافر، لأنه تعالى علم أنّه لا
يصل إلى الثواب الذي عرّضه له.
قلنا: زارع السبخة فاعل للقبيح ومستحقّ للذمّ من حيث
انّه يتلف ماله الذي هو البذر ويتعب نفسه في طلب نفع يعلم أنّه لا يصل إليه،
فيتمحّض فعله إضرارا بنفسه، فكذلك يقبح فعله، وهذا محال فيه تعالى، ولهذا قيل إنّ
تكليف اللّه تعالى عبيده لا نظير له في الشاهد.
فإن قيل: تكليف الكافر مفسدة من حيث انّه يقع عنده
الفساد الذي هو الكفر. ولولاه ما كان يقبح قبيح من هذا الوجه.
قلنا: المفسدة ليست هي مجرّد ما ذكره السائل، بل هي التي
يقع عندها الفساد، ولولاها ما كان يقع ولا يكون تمكينا ولا له حظّ في التمكين، والتكليف
تمكين من أن يجعل المكلّف نفسه مستحقّا للثواب أو العقاب، فلا تكون مفسدة، ألا ترى
انّ القدرة يقع عندها الفساد، ولولاها لم يقع ولم تكن مفسدة لما كانت تمكينها من
الصلاح والفساد.
فإن قيل: تكليف الكافر يقبح من حيث علمه تعالى أن يكفر ولا
يؤمن ولا يصل إليه الثواب الذي عرضه له. وزائدا على ذلك، ليستحقّ العقاب ويعاقب
كإدلاء الواحد منّا الحبل إلى الغريق الذي يعلم أو يغلب في ظنّه أنّه لا يخلص نفسه
من الغرق بل يخنق نفسه وإعطاء السكّين إلى الغير ليذبح به غنمه مع العلم أو غلبة
الظنّ بانّه لا يذبح الغنم وإنّما يقتل به نفسه أو غيره من المسلمين.
قلنا: ما ذكره السائل ليس وجها يقبّح التكليف، وبيانه
انّه يحسن من الواحد منّا تقديم الطعام إلى الجائع الذي يكاد يموت من الجوع مع
غلبة ظنّه أو علمه بأنّه لا يتناوله للجاج أو سوء خلق، فيستحقّ عند ذلك ذمّا من
العقلاء وعقابا من اللّه تعالى ما كان يستحقّهما لو لا تقديم الطعام.
فأمّا ما ذكره السائل من إدلاء الحبل إلى الغريق، فانّما
يقبح لأنّه مفسدة من حيث كان الغريق متمكنا من اتلاف نفسه بغير الحبل المدلى عليه
فصار إدلاء الحبل إليه مفسدة. وكذا القول في إعطاء السكين، لأنّ الغير كان متمكّنا
من ذلك الفساد من دون السكّين فصار إعطاء السكين مفسدة، وقد بيّنا أنّ تكليف اللّه
تعالى تمكين فلا يكون مفسدة.
وقد سألوا عن مؤمن وطفل وكافر يردون القيامة، فيقول
المؤمن لربّه تعالى: لم كلّفتني تحمّل المشاقّ في أداء الطاعات وتجنّب الملاذّ
التي كانت في ارتكاب المقبّحات؟ فيقول تعالى: لأنّي عوّضتك بذلك الدرجة الرفيعة، والمنزلة العظيمة
المقرونة بالتعظيم والتبخيل التي أنت فيها ولو لا التكليف
لما وصلت إليها. فيقول الطفل: يا ربّ! فلم لم تكلّفني ذلك حتّى أصل إلى هذه
الدرجة؟
فيقول اللّه تعالى: لأنّي قلت إنّي لو كلفتك لكفرت واستحققت
العقاب، فكنت معاقبا الآن ولم يصل إليك النفع الذي هو حاصل لك الآن، فيقول الكافر
عند ذلك: يا ربّ! إنّك علمت أنّي أكفر واستحقّ العقاب واعاقب، فلم كلّفتني؟ فعند
ذلك يلزم اللّه تعالى الحجّة على مذهبكم.
والجواب عن هذا أن نقول: نحن لا نرتضي الأجوبة التي
حكيتموها، بل لأصحابنا في ذلك جوابان على اختلاف مذهبهم في الأصلح: أمّا من ذهب
إلى أن الاصلح في الدنيا غير واجب، فانّه يقول: إنّ اللّه تعالى يجيب المؤمن: بأني
إنّما كلّفتك، لأني عرضتك للثواب الذي هو حاصل لك، وهذا كان غرضي أيضا في تكليف
الكافر، غير أنّك أحسنت الاختيار لنفسك فأطعت واستحققت الثواب ووصلت إليه والكافر
أساء الاختيار فاستحقّ العقاب ولم يصل إلى ما عرّضته له. ويقول للطفل: إنّ تكليفي
لمن اكلّفه تفضل منّي عليه، وللمتفضّل أن يتفضّل على من يريد ولا يتفضّل على غيره.
ولا يلزم على هذا الجواب أن يقول الكافر. لم كلّفتني وهلّا احترمتني لأنّا في هذا
الجواب لم نوجب احترام الطفل بسبب علمه تعالى بأنّه يكفر وإنّما قلنا بانّ اللّه تعالى
لم يتفضّل عليه بالتكليف، فلا يتأتى عليه سؤال الكافر.
وأمّا من قال بوجوب الأصلح في الدنيا فانّه يقول: إنّ
اللّه تعالى انّما كلّف المؤمن لأنّه عرّضه بتكليفه الثواب ولم يكن تكليفه مفسدة
لغيره وإنّما لم يكلّف الطفل من حيث علم انّه لو كلّفه لكان تكليفه مفسدة لغيره، والكافر
إنّما كلّفه لأنّه عرّضه للثواب ولم يكن تكليفه أيضا مفسدة للغير، فاستقام الجواب
على المذهبين ولم يلزم تناقض.
ثمّ نقول لهم: وأمّا الجواب عن هذا السؤال على مذهبكم
فمن قولهم انّه تعالى لا يسأل عمّا يفعل على ما قاله عزّ وجلّ، فليس لأحد منهم أن
يعترضه ويسأله عن شيء ممّا فعله، إذ لا يقبح منه شيء. فنقول لهم فلعلّه- تبارك وتعالى
عن ذلك علوّا كبيرا- كذب فيما قال وأظهر المعجزات على يد الكذّابين، ولعلّه يدخل
الأنبياء النار والكفّار الجنّة، فيلزمكم التناقض دوننا.
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
مكتبة أمّ البنين النسويّة تصدر العدد 212 من مجلّة رياض الزهراء (عليها السلام)
|
|
|