أقرأ أيضاً
التاريخ: 9-3-2019
1461
التاريخ: 5-08-2015
1440
التاريخ: 3-7-2015
1321
التاريخ: 25-10-2014
1378
|
اعلم! أنّ المعلوم بالضرورة من دين نبيّنا ـ صلى الله عليه وآله - ,ـ إنّه ـ تعالى ـ سميع بصير ، وقد نطق بذلك الكتاب والسنة بحيث لا يمكن انكاره ، وانعقد عليه اجماع الأمّة بحيث لم يخرج منه أحد.
وقد اختلفوا في المراد من السمع والبصر
، فذهب بعض أشياخنا الامامية ـ ومنهم العلاّمة الطوسي في شرح رسالة العلم ـ إلى انّهما
نفس العلم بالمسموعات والمبصرات علما حضوريا جزئيا. وإليه ذهب الشيخ ابو الحسن الأشعري
، لكنّه قائل بكونهما زائدين على الذات. فهما عند المحقّق وشركائه من الامامية نفس
الذات ، فالذات من حيث هو مدرك للمبصرات بذاته هو البصير ومن حيث هو مدرك للمسموعات
بذاته هو السميع ؛ وعند الأشعري زائدتان على الذات ـ كما هو الأمر في سائر الصفات عندهم
ـ ، إلاّ أنّهما غير زائدتين على العلم بل هما نفسه ، فالزيادة على الذات عند الأشعري
لكون العلم زائدا كما أنّ العينية عند المحقّق لعينية العلم للذات.
وذهب الفلاسفة النافون لعلمه على الوجه
الجزئي المخصوص المثبتون علمه ـ تعالى ـ بكلّ شيء على الوجه الكلّي إلى انّهما نفس
العلم بالمسموعات والمبصرات على
الوجه الكلّي ، فيكون الواجب عالما بالمسموعات
والمبصرات علما حصوليا كلّيا مستفادا من الاسباب والعلل الكلّية كعلمه بسائر الأشياء.
وذهب اكثر المتكلّمين إلى انّهما صفتان
زائدتان على العلم مغايرتان له ، وليس هذا مبنيا على اعتقادهم التجسّم أو مباشرة الأجسام
، بل على اعتقادهم أنّ الاحساس في حقّه ـ سبحانه ـ يحصل بلا آلة ـ لبراءته عن القصور
ـ ، فانّهم قالوا :
الاحتياج لنا إلى الآلة بسبب عجزنا وقصورنا
وذات الباري ـ تعالى ـ لبراءته عن القصور يحصل له بلا آلة ما لا يحصل لنا إلاّ بها.
فتلك الأشياء الّتي ندركها نحن بالحواسّ الظاهرة والباطنة وبتلك القوى الجسمانية يدركها
الواجب أيضا بهذا الوجه الّذي ندركها لكن لا بالآلات المذكورة ، لغنائه ـ جلّ شأنه
ـ عنها ، وفقرنا إليها انّما هو لأجل نقصاننا.
ثمّ إنّ القائلين بكونهما نفس العلم الحضوري
الجزئى احتجّوا بانّ كونهما زائدين على نفس العلم بالمسموعات على الوجه الجزئى لا يتصوّر
إلاّ بأن يكون ادراك المسموعات والمبصرات بالاحساس ـ إذ غير الاحساس في ادراك المبصرات
والمسموعات على الوجه الجزئى ليس إلاّ العلم بهما على الوجه الشهودي الاشراقي ـ ، وحقيقة
الاحساس لا يحصل إلاّ بتأثّر الحاسّة وهو في حقّه ـ سبحانه ـ محال ، وإذا كان هذا محالا
فلا يبقى لادراكهما على الوجه الجزئي معنى آخر سوى العلم بهما على الوجه الحضوري الاشراقى.
والحاصل : إنّ السمع والبصر إمّا مجرّد الاحساس ، أو العلم بالمحسوسات ؛ وقد علم أنّ
مناط الجزئية امّا الاحساس ـ وهو لا يحصل إلاّ بتحقّق الآلة وتأثّر الحاسة ولا يتصوّر
ذلك في الواجب ـ ، وإمّا الشهود الاشراقي ، فهو لا ينافي التجرّد عن الموادّ والآلات.
وقد علم أنّه ـ تعالى ـ عالم بجميع الجزئيات على جزئيتها وماديتها ومن جملتها المسموعات
من الحروف والأصوات والمبصرات من الأجسام والأضواء والالوان ، فثبت منه أنّ الواجب
ـ سبحانه ـ يعلم الاصوات والالوان علما حضوريا اشراقيا وينكشف لديه انكشافا شهوديا
نوريا بنفس ذاته المقدّسة الّتي به يظهر ويتنور جميع الأشياء ، فذاته ـ تعالى ـ بهذا
الاعتبار سمعه وبصره بلا تأويل. وأمّا عدم وصفه بالشام والذائق مع علمه بالمشمومات
والمذوقات علما حضوريا شهوديا على الوجه الجزئي ـ
كعلمه بالمبصرات والمسموعات من دون تفاوت
ـ فلعدم ورود هذه الألفاظ في الشريعة النبوية لايهامه التجسّم والنقص. قال المحقّق
الطوسي في شرح رسالة العلم : « ولمّا كان السمع والبصر ألطف الحواسّ واشدّها مناسبة
للعقل عبّر بهما عن العلم ، ولأجل ذلك وصفوا الباري ـ تعالى ـ بالسميع والبصير دون
الشامّ والذائق واللامس وعنوا بهما العلم بالمسموعات والمبصرات » (1).
قيل : وإلى هذا المذهب ـ أي : كون السميع
والبصير وسائر اخواتهما نفس العلم بمتعلّقاتها على الوجه الجزئى الحضوري ـ اشار المحقّق
الطوسي في التجريد بقوله : « والنقل دلّ على اتصافه بالادراك والعقل على استحالة الآلات
» (2) ، لأنّ مراده من هذه العبارة أنّه ـ تعالى ـ متصف شرعا بالادراك ـ أي : ادراك
المسموعات والمبصرات وسائر اخواتها ـ ، وإذا ثبت بالشرع أنّه ـ تعالى ـ متّصف بالادراك
ثبت أنّه ـ تعالى ـ عالم بجميع المحسوسات وغيرها بذاته ، فكان بذاته عالما بالمسموعات
والمبصرات وسائر اخواتهما بالوجه الّذي ندركه بالحواسّ ؛ فيكون مدركا لجميع المحسوسات
بذاته من دون الاحتياج إلى الآلات ، لأنّ العقل يدلّ على استحالة الآلات وبالجملة المراد
من الادراك هو نفس العلم بمتعلّقه الّذي هو المدرك باعتبار الوجود العيني. غاية ما
في الباب أنّه ورد في الشريعة السميع والبصير بمعنى العلم بالمسموعات والمبصرات باعتبار
وجودهما العيني ولم يرد فيها سائر اخواتهما بالمعنى المذكور.
ثمّ تخصيص الادراك الواقع في عبارة المحقّق
بالسميع والبصير ـ كما ارتكبه الشارح الجديد (3) ـ لا يناسب عموم عبارة المتن ، لأنّ
الادراك أعمّ من السمع والبصر ؛ بل المناسب أن يقال : مراده إنّ السمع يدلّ على أنّه
ـ تعالى ـ متصف بادراك جميع المحسوسات وهو نوع من العلم المطلق ، والعقل دلّ على استحالة
الآلات ، فذاته ـ تعالى ـ مدرك جميع المحسوسات. فذاته ـ سبحانه ـ بذاته سميع بمعنى
أنّه عالم بالمسموعات باعتبار
الوجود العيني وبصير بمعنى أنّه عالم بالمبصرات
، وكذلك عالم بذاته بجميع المذوقات والمشئومات ومدركات اللامسة. قال سيد المحقّقين
: لا شكّ أنّ السماع والابصار نحوان مخصوصان من العلم بالمعنى الاعمّ وإنّ تخصيصهما
انّما هو بانكشاف معلوميهما بوجهين مخصوصين بهما ، وإنّ السمع والبصر ما يتّصف به الشيء
بالسماع والابصار. ولمّا ثبت أنّ الباري ـ تعالى ـ عالم بجميع الأشياء الموجودة بذاته
فلا محالة يكون عالما بالمسموعات والمبصرات بالوجه الّذي يدرك الحواسّ بذاته ، فيكون
له هذان النحوان من العلم ـ اللذان هما السماع والابصار ـ بمنزلة السمع والبصر ؛ فعلى
هذا يصدق عليه السميع والبصير بالحقيقة بلا تكلّف. ولا يلزم تعدّد القدماء ، لأنّ السمع
وكذا البصر كالعلم نفس الذات باعتبار. قال بعض المشاهير بعد نقل هذا الكلام من السيد
: هذا كلام حقّ وهو بعينه ما اختار المحقّق الطوسي في شرح الرسالة في ادراك جميع المحسوسات.
ولا غبار عليه على ما قرّره المحقّق من أنّ الجزئيات على الوجه الجزئي الّذي هو مانع
من فرض الشركة موجود في الخارج ، وامّا على الوجه الّذي قرّره السيد المذكور في موضع
آخر غير ما نقلناه منه هنا من أنّ منع الشركة انّما نشأ من نحو الادراك الحسّي فيكون
هذا الكلام منه متغيرا ، إذ يلزم حينئذ أن لا يكون الشيء الجزئي من حيث أنّه مانع للشركة
مدركا له ـ تعالى ـ لعدم امكان ادراك الحسّي له ـ تعالى ـ. والحاصل : إنّه على تقدير
كون مناط منع الشركة هو الادراك الحسّي الممتنع بالنسبة إليه ـ تعالى ـ ، كما قال به
السيد ـ كيف يمكن تصحيح هذين النحوين من العلم ـ أعني : انكشاف المسموع من حيث أنّه
مسموع وكذا انكشاف المبصر من حيث أنّه مبصر له تعالى ـ؟! ، وأمّا على تقدير كون مناط
منع الاشتراك هو نفس وجود المدرك الحسّي ـ كما قال به المحقّق ـ فلاعتبار علمه. وتوضيح
ذلك : انّ مذهب المحقّق إنّ الجزئية صفة للموجود الخارجي ، والكلّية والجزئية انّما
هو بالتفاوت في المدرك ـ لأنّ الكلّية والجزئية بنحو الادراك لا التفاوت في المدرك
ـ ، ولا يتصف بهما المعلوم ، بل الموصوف بهما انّما هو العلم ـ كما قال به السيّد والمحقّق
الدواني وأشرنا إلى فساده ـ ، فالمحقق الطوسي لمّا كان قائلا بأنّ الموجود الخارجي
متصف بالجزئية والجزئية وصف له وما لم يكن الشيء مشخّصا جزئيا
في الخارج لا يتصف بالجزئية وما لم يكن
كلّيا غير متشخّص فيه لا يتصف بالكلّية نظرا إلى أنّ التفاوت بين الجزئية والكلّية
انّما هو بالتفاوت في المدرك لا بمجرد التفاوت في نحو الادراك ، فيصح أن يقول : إنّ
المسموعات والمبصرات وكذا غيرهما من المحسوسات على الوجه الّذي تكون مدركة لنا تكون
مدركة للواجب أيضا للعلم الحضوري الشهودي من دون افتقار إلى الآلات. وامّا من قال
: إنّ الكلّية والجزئية ليسا وصفين للمدرك بل هما وصفان للادراك نظرا إلى كون التفاوت
بينهما بنحو الادراك والثابت للواجب هو الادراك على سبيل الكلّية ـ كما اختار السيّد
السند في توجيه كلام الفلاسفة ـ فلا يصحّ له أن يقول : إنّ المسموعات والمبصرات وغيرهما
على الوجه الّذي يدركهما الحواسّ يكون مدركة للواجب ـ سبحانه ـ ، لأنّ تلك الأمور مدركة
لنا على الوجه الجزئي المانع من فرض الشركة بناء على اصلهم من أنّ الكلّية والجزئية
وصفان للادراك وأنّ الأشياء مدركة له ـ تعالى ـ على الوجه الكلّي دون الجزئي ـ كما
صرّح به السيد السند فيما تقدّم في تصحيح كلام الفلاسفة ـ لم يمكن له أن يقول : إنّ
المسموعات والمبصرات معلومة له ـ تعالى ـ على الوجه الّذي يدركه الحواسّ.
فان قيل : السيد وغيره ممّن قال بذلك قائلون
بأنّه لا يعزب عن علمه ـ سبحانه ـ مثقال ذرّة في الارض ولا في السماء ـ كما صرّحوا
به ونقلناه من كلام الشيخ أيضا ـ ، فالمحسوسات الّتي ندركها نحن بالحسّ وإن لم يكن
جزئية في نفس الأمر بزعمهم لكنهم يقولون إنّه معلومة له ـ تعالى ـ على النحو الموجود
في الخارج بدون الاحساس على سبيل الكلّية ، وهذه المعلومية هو الابصار والسماع ، فهما
أيضا بالنسبة إلى الواجب ـ تعالى ـ على الوجه الكلّي عندهم إلاّ أنّ فهمه يحتاج إلى
لطف قريحة ـ كما صرّح به الشيخ ـ. فمن زعم أنّ الادراك على الوجه الكلّي الحصولي لا
يتصوّر بالنسبة إلى الموجود العيني من حيث هو كذلك وحكم بانّه على القول بالحصولي يخرج
العلم بالوجود العيني من حيث هو كذلك ـ لتوقّفه على العلم الحضوري ـ ، حكم بكون كلام
السيد متغيّرا.
قلت : قد تقدّم إنّ العلم الحصولي لكونه
كلّيا يخرج عنه التشخّص ولا يعلم به الموجودات العينية من حيث أنّها موجودات عينية
، وحينئذ فمع تسليم كون
علمه ـ سبحانه ـ بالمحسوسات من المسموعات
والمبصرات وغيرها حصوليا كلّيا لا يمكن أن يقال مع ذلك انّها مدركة له ـ تعالى ـ على
الوجه الكلّي الّذي لنا مدرك بالحسّ ـ لكون المحسوسات لنا مدركة لنا بتشخّصاتها ووجوداتها
الخارجية ـ ، فالكلام المنقول من السيد السند هاهنا وإن كان صحيحا إلاّ أنّه لا يوافق
ما صرّح به فيما قبل من اعتقاده بالعلم الحصولى. نعم! ، يمكن أن يقال : ما صرّح به
السيد فيما قبل انّما هو لتصحيح كلام الحكماء وتوجيهه وذلك لا يستلزم أن يكون موافقا
لهم في الاعتقاد ، بل اعتقاده ما نقلناه منه هنا ، فيكون قائلا بالعلم الحضوري ؛ هذا.
ثمّ لا يخفى أنّ الكلام المنقول من السيد
هاهنا ليس صريحا في أنّ السمع والبصر عين العلم بالمسموعات والمبصرات ، بل يحتمل كونها
زائدا على العلم الحضوري ، فانّ قوله : « يكون عالما بالمسموعات والمبصرات بالوجه الّذي
يدركه الحواسّ بذاته » ظاهر في أنّ ادراكه ـ تعالى ـ للمسموعات والمبصرات على الوجه
الزائد على وجود العلم الحصولي ، لأنّ ادراك الشيء بالعلم الحضوري ليس مثل ادراك البصر
للمبصر المسمّى بالرؤية ، فان الرؤية مشتملة على أمر زائد على العلم الحضوري. وإطلاق
السيد لفظ العلم عليه لا ينافي ذلك ، لأنّ كلّ واحد من الاحساسات قسم من العلم ، إلاّ
أنّ هذا القسم من العلم غير العلم الحضوري المتعارف بينهم ؛ وسيجيء بيان ذلك مفصّلا.
وكذا قوله : « ويصدق عليه السمع والبصر
بالحقيقة بلا تكلّف أيضا » يدلّ على ما نقلناه ـ كما لا يخفى ـ ؛ هذا.
وامّا القول بكون السمع والبصر نفس العلم
بالمسموعات والمبصرات على الوجه الكلّي كما ذهب إليه الحصوليون فيعلم فساده ممّا تقدّم.
وأمّا القائلون بكونهما صفتين زائدتين على
العلم فاحتجّوا على كونهما غير العلم بأنّا إذا علمنا شيئا كاللون مثلا علما تامّا
ثمّ رأيناه فانّا نجد بين الحالتين فرقا ضروريا ، ونعلم بالضرورة أنّ الحالة الثانية
تشتمل على أمر زائد مع حصول العلم ، فذلك الزائد هو الابصار.
وأجاب عنه بعض المشاهير : بانّ ذلك الفرق
لا يمنع كونه علما مغايرا لسائر العلوم ،
فانّ في كلّ من افراد العلوم زيادة خصوصية
لا توجد في غيره.
ومن الأفاضل من اجاب عن هذا الاحتجاج :
بانّ هذا الاستدلال انّما يصحّ لو امكن العلم بمتعلّق الادراك الحسّي بطريق آخر غير
الحسّ ، وهو باطل ؛ لأنّ الحسّ لا يتعلّق إلاّ بالجزئيات من حيث خصوصياتها ولا سبيل
إلى ادراكها من هذه الجهة سوى الحسّ. وحاصله : إنّه لا يمكن ادراك الأمر المحسوس بغير
الاحساس حتّى يصحّ أن يقال : نجد الفرق بين الادراكين ، لأنّ المدرك بالحسّ ليس ممّا
يدرك بغير هذا الوجه من الادراك ، فلا يصدق حينئذ تحقّق الادراكين ، فلا يتمّ الدليل
المبني على تحقّقهما.
وغير خفيّ بانّ هذا الجواب يمكن توجيهه
بوجهين : الأوّل : إنّه إنّما ينفع استدلالكم بالفرق بين الحالتين إن امكنت الحالة
الثانية ـ أعني : الرؤية بدون الاحساس ـ حتّى يتصور ثبوته للواجب ـ تعالى ـ ، وهذا
باطل ؛ لانّه لا سبيل إلى تحصيل الحالة الثانية إلاّ بالحسّ وهو ممتنع في حقّه ـ سبحانه
ـ.
ويرد على هذا التوجيه : إنّه يمكن ادراك
الجزئيات من حيث خصوصياتها بطريق الاطّلاع الحضوري.
فان قيل : الاطّلاع الحضوري لا يشتمل على
أمر زائد على العلم سيّما مع كون مطلق علمه ـ سبحانه ـ حضوريا ، فبطل ما ذكره المستدلّ
من اشتمال الحالة الثانية على أمر زائد ، وهو يكفي للجواب ؛
قلنا : لو سلّم القول بأنّ الاطّلاع الحضوري
للمسموعات والمبصرات للواجب القائم مقام الاحساس فينا ليس مغايرا لمطلق علمه ولا يشتمل
على أمر زائد فهو جواب آخر عن الاستدلال المذكور ، ولا ينطبق كلام المجيب المذكور عليه.
وكذا إن لم يسلّم عدم المغايرة وسلّم اشتماله على أمر زائد لكنه قيل : إنّه علم مغاير
لسائر العلوم لأنّ في كلّ فرد من افراد العلوم زيادة خصوصية لا توجد في غيره لانه هو
الجواب الّذي نقلناه عن بعض المشاهير. وما ذكره هذا المجيب على هذا التوجيه لا ينطبق
عليه ، لانه منع تحقّق أصل الحالة الثانية في الواجب. فاذا قيل : إنّ الحالة الثانية
هو الاطّلاع الحضوري يدفع جوابه. والتوجيه الثاني إنّه انّما يصحّ فرقكم بين الحالتين
لو كان الجزئى هو معلوما بعينه قبل الرؤية حتّى يصحّ أن يقال : إنّه لما
كان العلم حاصلا قبل الرؤية فما يزيد عليه بعدها هو الابصار ، لكن لا نسلّم إنّه معلوم
قبل الرؤية إذ لا يمكن العلم بالمحسوسات بطريق آخر سوى الحسّ فلا يكون هو معلوما قبل
الرؤية ، فلا يثبت قبل رؤية الجزئي العلم به حتّى يثبت شيء زائد حتّى يكون هو الابصار.
قيل : على هذا التقرير للجواب لا يصحّ ردّه
على التقرير الأوّل بأن يقال : يمكن ادراك الجزئي قبل الرؤية بطريق الاطّلاع الحضوري
، لأنّ ذكر امكان الاطّلاع الحضوري على هذا التقرير لو ارتبط انّما يكون لتصحيح العلم
بالمحسوسات قبل الاحساس بالرؤية مثلا ، ولا يخفى حينئذ أنّ كون الحالة الثانية مشتملة
على أمر زائد على الحالة الأولى الّتي هي الاطّلاع الحضوري ليس أمرا ضروريا ، بل يكون
ممنوعا ؛ انتهى.
والظاهر عدم الفرق بين التقريرين في امكان
الدفع بالرد المذكور وعدمه ، فكما أنّه على التقرير الأوّل بعد الردّ بامكان ادراك
الواجب المحسوسات بطريق الاطّلاع الحضوري ـ إن جاز أن يقال ـ فحينئذ لا يثبت شيء زائد
على العلم السابق عليه. ويجاب بأنّ هذا جواب آخر غير ما ذكره المجيب ، فيجوز ذلك ـ
أي : ايراد هذا السؤال مع الجواب على التقرير الثاني أيضا ـ ، وإن لم يجز ذلك على التقرير
الأوّل ـ لضرورة المغايرة ـ فلا يجوز على التقرير الثاني أيضا.
ثمّ يمكن رد التقرير الثاني بأنّ الفرق
بين الحالين لا يتوقف على كون الجزئي هو المعلوم بل يكفى وجدان الفرق بين العلم بشيء
ورؤية شيء آخر وإنّ هذه الحالة غير تلك الحالة ، فللمستدلّ أن يقول : انّا إذا علمنا
شيئا ورأينا شيئا آخر فانّا نجد بين الحالتين فرقا ضروريا ، فانّ الحالة الثانية بالنسبة
إلى الشيء الثاني يشتمل على أمر زائد على مرتبة العلم ، وهو الابصار. وحينئذ فالجواب
عن الاستدلال أن يقبل الفرق ويقال : إنّ الفرق لا يمنع كونهما نوعين من العلم ، لأنّ
في كلّ فرد من العلم خصوصية لا توجد في غيره.
أقول : غير خفيّ بانّ مراد المستدلّ إنّ
التفاوت والزيادة حاصل في حقيقة الرؤية المعبّر عنه بالفارسية ب : « ديدن » بالنسبة
إلى مطلق العلم ـ سواء كان حصوليا أو حضوريا وبالنسبة إلى جميع افرادهما كائنا ما كان
ـ ، لأنّه لا ريب في أنّ لكلّ واحد من
الادراكات الحسّية ـ أعني : الابصار والسمع
والذوق والشمّ واللمس ـ خصوصية لا توجد في شيء من افراد العلم حصوليا كان أو حضوريا.
فانّ من علم بدنه بالعلم الحضوري من دون أن يراه بالباصرة ـ كمن يولد أعمى ـ ثمّ فرض
رؤيته له فلا ريب في أنّه يحصل له من الرؤية خصوصية لم تكن حاصلة له من العلم الحضوري
، كيف وكلّ أحد يعلم أنّ الادراك بهذا الوجه الحاصل ـ أي : ما يعبر عنه بالفارسية بـ
« ديدن » ـ مغاير لأيّ فرد فرض من افراد العلم الحضوري والحصولي! ؛ وكذا من علم بالعلم
الحضوري بأنّ زيدا مثلا في وقت كذا يتكلّم بكلمات خاصّة من غير استماعه لها ثمّ سمعها
فلا ريب أنّه يحصل من الاستماع خصوصية لم تكن حاصلة من العلم بها ، كيف لا وكلّ عاقل
يعلم أنّ هذا الاحساس الخاصّ ـ المعبّر عنه بالفارسية بـ « شنيدن » ـ مغاير للعلم بالكلمات
والأصوات! ؛ وقس عليهما الحال في سائر المحسوسات.
وإذا علمت ما ذكر فنقول : ما ذكر في جواب
هذا الاستدلال من أنّ الفرق والتفاوت بين العلم والرؤية لا يمنع كونهما نوعين من العلم
ـ فانّ في كلّ من افراد العلوم زيادة خصوصية لا توجد في غيره ـ لا يخفى ما فيه من الوهن
والفساد! ، لأنّ بناء الاستدلال إنّ هذا المعنى البديهي المعبر عنه بـ « ديدن » مغاير
لأيّ فرد فرض من افراد العلم ، فاذا كان الابصار في الواجب ـ سبحانه ـ بمعنى العلم
ـ سواء كان حصوليا أو حضوريا ـ لا يثبت له ـ تعالى ـ هذا الأمر البديهى المغاير لكلّ
فرد من العلم سواء كان كلّيا حصوليا أو اطّلاعا حضوريا مع أنّ الظواهر دالّة على ثبوت
هذا الأمر البديهى له ـ تعالى ـ. فالجواب الابصار في الواجب ـ تعالى ـ إذا كان بمعنى
الاطّلاع الحضوري يكون مغايرا لسائر افراد العلوم لا مدخلية له في ردّ الاستدلال أصلا
، لأنّ للمستدلّ أن يقول : مغايرة هذا الاطّلاع الحضوري القائم مقام الرؤية في الواجب
لسائر افراد العلم غير قادح في دليلي ، لأنّ دليلي : انّ حقيقة الرؤية مغايرة لهذا
الاطّلاع الحضوري أيضا لا من افراد العلم الحضوري ، والرؤية مغايرة لكلّ فرد من افراد
العلم الحضوري والحصولي. على أنّ الكلام في علم الواجب ـ سبحانه ـ ، فاذا كان الابصار
فيه بمعنى اطّلاعه الحضوري بالمبصرات لم يكن هذا مغايرا لسائر علومه ، فانّ علمه بجميع
الأشياء انّما هو بالاطّلاع
الحضوري على نحو واحد. وبالجملة ليس في
علومه مغايرة وتفاوت جلاء وخفاء سواء قيل بأنّ علمه حصولي أو حضوري ، لأنّ علمه بالأشياء
جميعا إمّا بحصول صورها في ذاته أو بانكشافها لديه ، وعلى التقديرين يكون علمه بنحو
واحد. ولا يوجد في بعض علومه خصوصية بالظهور والخفاء لا يوجد في غيره وإلاّ لزم النقص
والجهل. وعلى هذا فينحصر الجواب عن الاستدلال المذكور بأن يقال : هذه الخصوصية المتحققة
في الرؤية والسمع وغيرهما من الاحساسات دون الاطّلاع الحضوري ليست صفة كمالية حتّى
يكون عدمها نقصا للواجب ، بل ربما صحّ القول بانّ وجودها نقص ، وما هو صفة الكمال في
مطلق الادراك ـ أعني : الظهور والجلاء ـ فهو في العلم الحضوري الّذي للواجب أشدّ من
الظهور والجلاء الّذي في الرؤية والسمع بمعناهما المتعارف.
وبما ذكرناه ظهر أنّه لا بدّ من التأمّل
في أنّ اثبات هذه الاحساسات على الوجه الجزئي الخاصّ البديهي الّذي يعرفه كلّ أحد للواجب
ـ سبحانه ـ بدون الآلات هل هو نقص أم لا؟! ، وهل الظهور الّذي فيها أشدّ من الظهور
في مطلق العلم الحضوري أم لا؟!.
فنقول : ذهب جماعة إلى أنّ اثبات الرؤية
بهذا المعنى الخاصّ للواجب ـ سبحانه ـ بدون الآلة على الوجه الّذي ثابت لنا بالآلة
ليس فيه نقص واستحالة ، وثبوت هذا الأمر بدون الآلة ليس فيه استبعاد. وممّا يكسر سورة
الاستبعاد مشاهدة النفس في الرؤيا اشياء كثيرة رؤيتها لها من دون استعانة بآلة البصر.
ثمّ الابصار بهذا الوجه الخاصّ وإن كان نوعا من العلم إلاّ أنّه ليس من العلم الحصولى
ولا الحضوري بالمعنى المعروف ، بل هو نوع آخر من العلم ربما كان الجلاء والظهور فيه
بالنسبة إلى بعض الهيئات وبالنسبة إلى الأشياء المبصرة أشدّ من العلم الحضوري المتعلّق
بهذه الأشياء المبصرة ، وحينئذ تقدّم ثبوته للواجب نقص للزوم فقد خصوصية الأظهرية الثابتة
للابصار عنه ـ سبحانه ـ. ولا يوجب ثبوته أيضا للواجب تكثّر ولا تركّب ولا اختلاف حيثيات
وجهات ، لكونها صفة اضافية كسائر الصفات الاضافية. وقس عليه الحال في السمع ، فانّ
نفس استماع الصوت ـ المعبّر عنه بالفارسية ب : « شنيدن » ـ غير العلم به ، لأنّ الجلاء
والظهور في نفس الاستماع أشدّ من العلم به ، فعدم ثبوته للواجب
يوجب فقدان مرتبة من الظهور عنه ـ سبحانه
ـ مع أنّ اثباته له بدون الآلة لا يوجب نقصا ولا تكثّرا. فمن أرجعهما إلى الاطّلاع
الحضوري وصرّح بأنّ جميع المبصرات والمسموعات حينئذ مدركة له ـ تعالى ـ بالوجه الّذي
تدركه الحواسّ من دون الاحتياج إلى الآلات إن أراد بهذا الاطّلاع الحضوري والادراك
بالوجه المدرك للحواسّ هو الرؤية والسماع بالمعنى الخاصّ البديهي الّذي يعبّر عنه ب
: « ديدن » وب : « شنيدن » فنعم الوفاق! ؛ وهو بعينه مذهب المتكلّمين القائلين بمغايرة
السمع والبصر للعلم بالمعنى المعروف وكونهما زائدين عليه ؛ وإن أراد منه العلم بالألوان
والأصوات من دون تحقّق نفس الرؤية والاستماع له ـ تعالى ـ بأن يعلم أنّ الجسم الفلاني
اخضر وعلم أنّ الخضرة ما ذا وإنّ زيدا حصل منه في وقت كذا صوت خاصّ وعلم أنّ الصوت
ما ذا ـ كما يحصل لنا أيضا بعينه ـ من دون حصول نفس الرؤية والاستماع ؛
ففيه : إنّ سلب نفس الرؤية والاستماع من
الواجب مع كونهما صفتي الكمال وعدم نقص فيهما لا باعث له بعد ثبوتهما من الشرع ودلالة
الظواهر المتواترة عليهما. نعم! ، سائر الاحساسات ـ أعني : الشمّ والذوق واللمس ـ فهي
راجعة إلى الاطّلاع الحضوري بمعنى أنّه ـ سبحانه ـ عالم بانّ كلّ واحد من الأشياء المشمومة
يتضمّن رائحة كذا وكلّ واحد من المذوقات يتضمّن طعم كذا وكلّ واحد من الملموسات يتضمّن
أيّ كيفية من الكيفيات الملموسة من الحضونة والنعومة وغيرهما ، وتعلم أنّ حقيقة كلّ
رائحة وكلّ طعم وكلّ كيفية ملموسة ما ذا ، وكيف هو. وليس الشمّ والذوق واللمس بأنفسها
ثابتة له ـ سبحانه ـ بان يحصل له نفس الشمّ المعبر عنه بـ « بوئيدن » ونفس الذوق المعبر
عنه ب : « چشيدن » ونفس اللمس المعبر عنه ب : « ماليدن » ، لأنّ هذه من خواصّ الأجسام
واثباتها نقص ، فسلبها عن الواجب لا يوجب نفي صفة كمالية عنه ، بل اثباتها يوجب اثبات
النقص له ـ تعالى ـ.
وهذا هو السرّ في إطلاق البصير والسميع
عليه ـ تعالى ـ في الشريعة دون الشامّ والذائق واللامس. وإلى ما ذكر اشار المحقّق الدوانى
حيث قال : إنّه لا يظهر وجه لارجاع هذين الوصفين بخصوصهما ـ أعني : السمع والبصر ـ
إلى العلم دون سائر الصفات من
القدرة والإرادة والحياة. مع أنّ ظواهر
النصوص المشعرة بالمغايرة الذاتية والاحتياج إلى الآلة انّما هو في حقّنا ، فانّ الباري
ـ تعالى ـ يدرك المبصرات والمسموعات على النحو الجزئي بذاته بناء على ما ذهب إليه جمهور
المتكلّمين من أنّه ـ تعالى ـ يدرك الجزئيات بالوجه الجزئى ، فما الباعث حينئذ على
تخصيص هذين الادراكين بالرجوع إلى العلم؟!. بل الظاهر انّهما صفتان زائدتان على العلم
بخلاف ادراك سائر المحسوسات ، فانّه يرجع إلى العلم حيث لم يرد السمع باثبات صفة اخرى
بإزائهما ـ كالذائق والشامّ واللامس ـ ، فيحكم برجوعه إلى العلم. وليت شعري ما الباعث
للشيخ الأشعري على ذلك مع شيمته وطريقته المحافظة على ظواهر النصوص؟! ؛ انتهى.
وأورد عليه بعض المشاهير : بأنّه إذا كان
ادراك المحسوسات الّتي هي غير المبصرات والمسموعات راجعا إلى العلم ـ كما قرّره هذا
القائل ـ كان ذلك كافيا في كون ادراكهما راجعا إلى العلم أيضا ـ كما لا يخفى ـ ، فذلك
هو وجه ارجاع الابصار والسماع إلى العلم المخصوص ، فانّ مجرّد إطلاق لفظي السميع والبصير
في الشرع على الباري ـ تعالى ـ لا يكفي في الحكم بانّهما صفتان مغايرتان للعلم ، فبملاحظة
أنّ الابصار والسماع فينا ليسا إلاّ ادراكين متعلّقين بالمبصرات والمسموعات بآلتين
مخصوصتين يعلم أنّ استعمالهما في الباري ـ تعالى ـ بحسب الشرع ليس إلاّ بمعنى ادراك
المبصرات والمسموعات على النحو الجزئي بذاته ، فيكونان راجعين إلى العلم ؛ انتهى.
وأورد عليه بانّ ارجاع غير السمع والبصر
من الاحساسات إلى العلم ـ لكونها من خواصّ الأجسام واستلزامها للنقص ـ وعدم ورود الشرع
باثباتها بخصوصها لا يوجب ارجاع السمع والبصر أيضا إليه مع ورود الشرع باثباتهما بخصوصهما
وعدم استلزامهما لنقص مطلقا ، فالفرق بينهما وبين سائر الاحساسات قائم شرعا وعقلا ،
فاثبات السمع والبصر بخصوصهما على النحو الخاصّ البديهى الّذي يعرفه كلّ أحد للواجب
ـ سبحانه ـ بدون آلة كانّه ممّا يجب الاذعان به من حيث الشرع ، ولم تقم دلالة عقلية
على امتناعه ، فارجاعهما إلى العلم مع عدم ضرورة عقلية خارج عن صوب الصواب.
وقال بعض المحقّقين : الظاهر إنّ السمع
والبصر حقيقتان في الادراكين المخصوصين مطلقا أعمّ من أن يكون حقيقة لهما بآلة أو بدونها
، ولو فرضنا كون الحصول بآلة معتبرا في معناهما الحقيقي فلا شكّ أنّ المعنى المذكور
ـ أعني : الادراك المخصوص بلا آلة ـ أقرب المجازات إلى المعنى الحقيقى وهو ممكن في
حقّه ـ سبحانه ـ ، إذ كون الآلة شرطا في حصوله مطلقا ممنوع. والتحقيق أنّ ذلك الادراك
ثابت له ـ تعالى ـ في جميع انواع المحسوسات وذلك غير العلم الحضوري بها ، إلاّ أنّ
السمع ورد في خصوص السمع والبصر لكونهما ألطف الحواسّ وكون الادراك بهما بلا مباشرة
جسم ، فلا حاجة إلى تأويل بخلاف سائر الحواس. وحينئذ فكون السمع والبصر عبارة عن العلم
بالمسموعات والمبصرات مطلقا ـ كما هو مذهب الأشعري ـ ليس بصحيح. وما ذكره المحقّق الخفري
ـ ; ـ من أنّ المراد بهما هو العلم الحضوري محلّ نظر.
فان قلت : ما الفرق بين العلم الحضوري والاحساس؟
؛
قلت : الفرق بينهما مثل الفرق بين العلم
الحصولي والحضوري ـ وهو التفاوت بالشدّة والضعف في الجلاء والخفاء ـ ، ألا ترى أنّ
علم النفس بذاتها علم ضروري وكذا علمها بالصورة الحاصلة فيها ، ولو فرض أن يتعلّق الرؤية
بواحدة منها لم يشكّ العقل في أنّ الانكشاف حينئذ يكون أتمّ ما دام العالم متلبّسا
بهذه الخصوصية وحاصلا في هذه النشأة؟!. نعم! ، يمكن أن يتبدّل له نشأة وخصوصية اخرى
يكون فيها ادراكها العقلي اجلى من الحسّي ، والغرض ثبوت التفاوت بين العلمين.
ثمّ اقول : فرق بين العلم بالمعقولات والمهيات
وبين العلم بالجزئيات سيّما المحسوسات ، فانّ الاحساس بالمعقول لو فرض تحقّقه لم يكن
أتمّ من العلم به ، لكن الاحساس في المحسوسات أتمّ من العلم بها. وأيضا أقول : العلم
الحضوري انّما كان أتمّ من الحصولي لأنّ الأوّل يستلزم انكشاف وجود المعلومات وحقيقتها
والثاني انكشاف ماهيتها فقط ، ولا شكّ أنّ الخصوصية في الوجود الحسّي أزيد من الخصوصية
في الوجود العقلي ، فانّ الخصوصيات في العقليات إمّا عين ذواتها أو من لوازمها ؛ بخلاف
ما في المحسوسات ، فالعلم الحضوري انّما هو علم بأصل الوجود دون العلم بالخصوصية ،
فاثبات أصل العلم الحضوري لا يغني عن اثبات
الاحساس الّذي المراد به هو انكشاف الخصوصيات الزائدة على أصل الوجود ؛ انتهى.
وأنت تعلم أنّ العلم الحضوري الّذي للواجب
بالنسبة إلى جميع الأشياء يكون أشدّ ظهورا وانجلاء من جميع الادراكات سواء كان علما
كلّيا أو جزئيا حضوريا أو احساسيا بالحواسّ الباطنية أو الظاهرية ، فحينئذ علمه الحضوري
بالمبصرات والمسموعات يكون الظهور والانجلاء فيه أشدّ من الرؤية والسماع البديهيين
الّذين فينا ، ولا يخرج منه شيء من الخصوصيات الّتي فيهما ، وبالجملة : علمه الحضوري
بالمبصرات والمسموعات من الظهور والانجلاء بحيث لا يخرج شيء عن الخصوصيات الثابتة للاحساسات
سوى ما هو نقص من تأثير الحواسّ والانطباع وخروج الشعاع والمباشرة وغير ذلك ، ولا شبهة
في أنّ ادراك المحسوسات بخصوصياتها المعينة بدون الآلات والمباشرة والتأثير ـ وغير
ذلك ممّا يعتبر في الاحساسات الّتي فينا ـ ليس إلاّ علما حضوريا. فالحقّ أنّ ادراكه
ـ تعالى ـ للمحسوسات مطلقا سواء كانت مبصرات أو مسموعات أو مذوقات أو ملموسات أو غير
ذلك راجع إلى علمه الحضوري بها. وهذا العلم لا يخرج عنه شيء من الخصوصيات ، والظهور
والانجلاء فيه أشدّ من الاحساسات البديهية الّتي فينا. فما ورد في الشريعة من إطلاق
السميع والبصير عليه ـ تعالى ـ دون الشامّ والذائق واللامس انّما هو لكونهما ألطف الحواسّ
واقربيتهما إلى العلم واشعار غيرهما بالملاصقة والمباشرة.
ثمّ الظاهر إنّ مذهب الامامية بأسرهم هو
ذلك ـ أي : كون السمع والبصر راجعين إلى العلم ـ. وقيل : الظاهر إنّ مذهب المحقّق الطوسي
وغيره من أساطين الامامية هو مذهب المعتزلة دون ما اختاره الأشعري ؛ كما اشار إليه
بعض أهل التحقيق بقوله : إنّ ما هو المشهور بين طلبة أصحابنا من كون السمع والبصر العلم
بالمسموعات والمبصرات مطلقا وهو مذهب اصحابنا موضع تأمّل ، سيّما كون ذلك مذهب المحقّق
الطوسي ؛ بل الحقّ انّهما صفتان زائدتان على العلم كما هو مذهب المعتزلة. والدليل على
أنّ المحقّق قال بزيادتهما على العلم إنّه
بعد ما بيّن في التجريد أنّ علمه ـ تعالى ـ بجميع الأشياء كلّية كانت أو جزئية ، مجرّدة
كانت أو محسوسة قال : « والنقل دلّ على اتصافه بالإدراك » (4) ، ومعلوم أنّ الادراك
في عبارته هذه ليس هو المطلق ، المرادف للعلم المطلق ولا العلم بالجزئيات مطلقا ، ولا
العلم بالمحسوسات بايّ طريق كان ، لأنّ جميع ذلك ممّا سبق بالأدلّة السابقة ؛ بل المراد
منه هو الادراك المتعلّق بالمحسوس بما هو محسوس ـ أي : الّذي إذا كان صادرا يسمّى احساسا
ـ. وهذا النحو الخاصّ من الادراك له ـ تعالى ـ لم يثبت بما ذكر سابقا من أدلّة العلم
، بل ربما يدعى عدم امكان اثباته بالدليل العقلي والعلم الحضوري الثابت له ـ تعالى
ـ بجميع الأشياء وإن كان شبيها بهذا النحو من الادراك المسمّى عندنا بالاحساس ، إلاّ
أنّه ليس احساسا حقيقة ، ولهذا جزم المحقّق ـ ; ـ بانّ ثبوت هذا النحو من الادراك انّما
هو بالسمع. فحصر دليل اثباته على السمع دليل واضح على أنّ المراد به ليس شيئا من معانى
العلم المذكورة ، بل المراد به ما هو المسمّى عندنا بالاحساس. فحاصل كلامه : إنّ السمع
دلّ على أنّ له ـ تعالى ـ احساسا ، فانّ النصوص متظافرة متواترة على كونه ـ تعالى ـ
سميعا بصيرا والسمع حقيقة ليس إلاّ احساس المسموعات وكذا البصر ليس إلاّ احساس المبصرات
، إلاّ أنّ ذلك الاحساس فينا لا يمكن إلاّ بآلة جسمانية ودلّ العقل على استحالتها عليه
ـ تعالى ـ ؛ فيجب بمقتضى اثبات الاحساس له ـ تعالى ـ وبمقتضى العقل نفي كونه بآلة.
وامّا كلامه المنقول عن شرح الرسالة ـ أعني
قوله : « عبر بهما عن العلم » ـ ليس المراد به أنّ المراد بهما هو العلم المطلق ، بل
مراده من العلم هو الادراك الاحساسى كما يدلّ عليه آخر كلامه المنقول ـ أعني قوله
: « على النحو الّذي يدركه الحواسّ » ـ.
أقول : كلام المحقّق في التجريد وإن امكن
حمله على ما ذكره هذا القائل ـ أعني : على أنّ المراد بالادراك في كلامه هو الاحساس
ـ إلاّ أنّ كلامه في شرح الرسالة صريح في ارجاعهما إلى العلم ـ كما لا يخفى على المتأمّل
فيه ـ.
ثمّ لا ريب في أنّه بعد ارجاع السمع والبصر
إلى العلم الحضوري يمكن اثباتهما
بالعقل ، لأنّ كلّ ما يدلّ حينئذ على كونه
ـ تعالى ـ عالما بالاشياء يدلّ على كونه سميعا بصيرا ؛ ومن جعلهما زائدين على العلم
قال : دليلهما منحصر بالسمع. وربما قيل بامكان اثباتهما حينئذ بالدليل العقلي أيضا
، وهو : إنّ ادراك المحسوسات من حيث أنّها محسوسات بالوجه الاحساسي يدخل فيه بعض خصوصياتها
الّتي يخرج عنها لو لم يدرك بهذا الوجه وادراك العلم بالعلم الحضوري ، ولا ريب في أنّ
الادراك على وجه يشمل جميع الخصوصيات أكمل من الوجه الّذي خرج منه بعضها. ولمّا حكم
العقل بأنّ الواجب ـ سبحانه ـ علّة لجميع الأشياء بجميع خصوصياتها وإنّ العلم بالعلّة
يوجب العلم بالمعلول فيحكم أنّه يجب أن لا يخرج شيء من الخصوصيات من علمه ـ سبحانه
ـ ، فيجزم بانّ الواجب يرى المبصرات بالنحو الاحساسي البديهي بدون آلة ويسمع المسموعات
بهذا الوجه أيضا.
وفيه : إنّ الادراك بالعلم الحضوري لا يخرج
شيء من الخصوصيات أصلا ، بل الواجب ـ سبحانه ـ يعلم المبصرات والمسموعات بجميع خصوصياتها
المعينة بالعلم الحضوري ، فلا حاجة إلى الاحساس على النحو الثابت لنا مع اشتماله على
النقص ـ كما يظهر ذلك عند التحقيق والتدبّر ـ.
وقد استدلّ على السمع والبصر الزائدتين
أيضا بأنّه ـ تعالى ـ حيّ ، وكلّ حيّ يصحّ كونه سميعا بصيرا ، وكلّما يصحّ له ـ تعالى
ـ من الكمالات ثبت له بالفعل ؛ لأنّ الخلو من صفات الكمال في حقّ من يصحّ اتصافه بها
نقص وهو على الله ـ تعالى ـ محال.
وأورد عليه : بأنّ هذا الدليل لا بدّ فيه
من بيان أنّ الحياة في الغائب أيضا يقتضي صحّة السمع والبصر. وغاية متشبّثهم في ذلك
طريق السبر والتقسيم ، فانّ الجماد لا يتصف بقبول السمع والبصر وإذا صار حيا يتّصف
به إن لم تقم به آفة. ثمّ إذا سبرنا صفات الحيّ لم نجد ما يصحّ قبوله للسمع والبصر
سوى كونه حيا ، ولزم القضاء بمثل ذلك في حقّ الباري ـ تعالى ـ. وأيضا لا سبيل إلى بيان
استحالة النقص والآفة على الباري ـ تعالى ـ سوى الاجماع المستند حجّيته إلى الأدلّة
السمعية ، ولا خفاء في ثبوت الاجماع وقيام الأدلّة السمعية على كونه ـ تعالى ـ سميعا
بصيرا ، فليعوّل على الاجماع في هذه المسألة بل على الأدلّة السمعية القطعية ابتداء
، لأنّ الظواهر الدالّة على السمع والبصر أقوى من الظواهر الدالّة على حجية الاجماع
، إذ يتّجه على هذه اعتراضات كثيرة احتاجوا إلى دفعها ؛ وإن اثبتنا حجية الاجماع بالعلم
الضروري من الدّين ، فذلك العلم الضروري ثابت في المسألة الّتي نحن فيها سواء بسواء.
وحاصل هذا الايراد أنّ الحياة في الواجب يجوز أن يغاير الحياة في الحيوان ، بل الحقّ
تغايرهما ، لأنّ الحياة في الحيوان ما يصحّ لاجله الحسّ والحركة وفي الواجب ما يصحّ
لاجله العلم والقدرة ، فكما أنّ حياة الحيوان تقتضي الحركة وحياة الواجب لا تقتضيها
فكذلك يجوز أن تقتضي السمع والبصر وحياة الواجب لا تقتضيهما. نعم! ، من ارجع السمع
والبصر إلى العلم ـ كما اخترناه ـ يمكن أن يستدلّ بمثل هذا الدليل بأن يقول : لمّا
كان معنى الحيّ في الواجب هو الدرّاك الفعّال كان لا محالة سميعا بصيرا بمعنى أنّه
ـ تعالى ـ مدرك لجميع المسموعات والمبصرات بالعلم الحضوري ، فانّ كمال الحياة ـ لا
سيّما كونها مع كمال التجرد ـ تقتضي ادراك المسموعات والمبصرات بل ادراك المحسوسات
، ولا خفاء في تحقّق كمال الحياة مع كمال التجرد فيه ـ تعالى ـ. وبهذا ثبت أنّه ـ تعالى
ـ سميع بصير مدرك بالمعنى المذكور. وعلى هذا فما قيل : « إنّ طريق اثبات السمع والبصر
ليس إلاّ بالشرع والعقل لا يدلّ عليه » يكون المراد منه : إنّ استعمال الفاظ الادراك
والسمع والبصر في صفاته ـ تعالى ـ يكون بالسمع ، وامّا اثبات معانيها المذكورة ـ أعني
: كونه تعالى عالما بالمسموعات والمبصرات ، بل بجميع المحسوسات ـ يكون بالعقل أيضا.
وغير خفيّ أنّ الايراد المذكور على الاستدلال
المذكور لاثبات السمع والبصر بمعناهما الخاصّ البديهى المغاير للعلم الحضوري متّجه
، إذ مجرّد الحياة لا يقتضي صحّة ذلك. على أنّ المحقّق الطوسي قال في نقد المحصل :
« إنّ قولهم الحيّ يصحّ اتصافه بالسمع والبصر ليس بمطّرد ، لأنّ اكثر الهوامّ والسمك
لا سمع له والعقرب والخلد لا بصر لهما والديدان لا سمع لها ولا بصر ، فلو لم يمتنع
اتصاف تلك الانواع بالسمع والبصر لما خلا جميع
أشخاصها منها » (5).
ثمّ ما ذكر في الايراد المذكور من أنّه
لا سبيل إلى بيان استحالة النقص والآفة على الباري ـ تعالى ـ سوى الاجماع ، ففساده
ظاهر ؛ إذ لا شكّ في أنّ صفة الوجوب الذاتي مستلزم لاستحالة النقص والآفة على واجب
الوجود ، فلا حاجة إلى التمسّك بالاجماع في استحالة هذين الأمرين على الباري ـ تعالى
ـ ؛ هذا.
ثمّ النافي لثبوت السمع والبصر للواجب ـ
سبحانه ـ رجّح بوجهين :
الأوّل : أنّهما تأثّر الحاسّة عن المسموع
والمبصر أو مشروطا به كسائر الاحساسات ، وأنّه محال في حقّه ـ تعالى ـ
واجاب عنه القائلون بالزيادة : بمنع المقدّمة
الأولى ، إذ لا يلزم من حصولهما مقارنا للتأثير فينا كونهما نفس ذلك التأثير أو مشروطين
به ، وإن سلّم أنّه كذلك في الشاهد فلا نسلّم أنّه في الغائب كذلك ، فانّ صفاته ـ تعالى
ـ مخالفة بالحقيقة لصفاتنا ، فجاز أن لا يكون سمعه وبصره نفس التأثير ولا مشروطا به.
وأنت خبير بأنّ الاظهر هو الجواب الآخر
، وحاصله : إنّ العقل لمّا دلّ على استحالة الآلات في حقّه ـ سبحانه ـ ولم يقم دلالة
عقلية على وجوب كون الاحساس على النحو الخاصّ مطلقا بالآلة وتأثّرها فيحكم بجواز كون
الاحساس في الواجب غير منوط بتأثر الآلة. وعلى ما اخترناه من ارجاعهما إلى العلم اندفاع
الايراد ظاهر.
وبما قرّرناه تعلم جلية الحال في الجواب
الّذي ذكره القائلون بالزيادة.
الثاني : إنّ اثبات السمع والبصر في الأزل
ولا مسموع ولا مبصر فيه خروج عن المعقول ؛
وأجاب عنه القائلون بالزيادة : بأنّ كلاّ
منهما نفس ذات الواجب وله تعلّقات حادثة كالعلم والقدرة. والحاصل إنّ مصحّحهما ومناطهما
ليس إلاّ ثبوتهما له ـ سبحانه ـ بمعناهما الاضافي في الأزل مع عدم تحقّق مسموع ومبصر
فيه ، كثبوت العلم بالحوادث له
ـ تعالى ـ في الأزل مع عدم تحقّق المعلوم
فيه ـ أي : بما يصحّح به هذا يصحّح به ذاك أيضا ـ ؛ وهو ظاهر.
وعلى ما اخترناه جواب هذا الايراد مع كيفية
الحال في الجواب الّذي ذكره القائلون بالزيادة ظاهر.
__________________
(1)
راجع : رسالة شرح مسئلة العلم ، المسألة التاسعة ص 37.
(2)
راجع : المسألة الخامسة من الفصل الثاني من المقصد الثالث ؛ كشف المراد ، ص 224.
(3) راجع : الشرح الجديد على التجريد ،
ص 315.
(4) راجع : المسألة الخامسة من الفصل الثاني
من المقصد الثالث ؛ كشف المراد ، ص 224.
(5) راجع : نقد المحصّل ، ص 288.
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
قسم شؤون المعارف ينظم دورة عن آليات عمل الفهارس الفنية للموسوعات والكتب لملاكاته
|
|
|