المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

القرآن الكريم وعلومه
عدد المواضيع في هذا القسم 17644 موضوعاً
تأملات قرآنية
علوم القرآن
الإعجاز القرآني
قصص قرآنية
العقائد في القرآن
التفسير الجامع
آيات الأحكام

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر



إخوة يوسف  
  
6075   05:08 مساءً   التاريخ: 1-12-2020
المؤلف : الدكتور محمود البستاني .
الكتاب أو المصدر : قصص القرآن الكريم دلالياً وجمالياً
الجزء والصفحة : ج1 ، ص 290 - 308 .
القسم : القرآن الكريم وعلومه / قصص قرآنية / قصص الأنبياء / قصة النبي إسحاق ويعقوب ويوسف /

يجيء دورُ إخوة يوسف (عليه السلام) بصفتهم أبطالا ثانويين في الدرجة الثانية بعد البطل يعقوب (عليه السلام) من حيث تحركاتهم في القصة .

أمّا من حيث الأفكار فإنّ دورهم في القصة يُجسّد ظاهرة الحسد بأعتى أشكالها .

إنّ الحسد وفق التصوّر الإسلامي له ، يُعدّ أحد الدوافع الملحّة في الطبيعة الإنسانية ، حتى أنّ المشرّع الإسلامي صوّره لنا دافعاً لا تكاد تخلو منه نفسٌ إنسانية ، بما في ذلك عُظماء الرجال وأتقياؤهم ، كلّ ما في الأمر أنّ الأتقياء لا يُترجمون حسدهم إلى عمل ، بل يحتفظون به مجرّد مشاعر وأحاسيس .

ومن هنا جاء حديث الرفع المشهور الذي لا يُحاسب الإنسان على تسعة أنماط من السلوك ، منها : ما يُكره عليه ، وما يُضطرّ إليه ، وما لا يُطاق و . . . ، ثمّ الحسد ما لم يظهر بلسان أو يد .

ولقد تحدّثنا مفصّلا في دراساتنا عن علم النفس الإسلامي عن ظاهرة الحسد من الوجهة النفسية والتكييف الدافعي لها من خلال وجهة النظر الإسلامية .

أمّا الآن ، فحسبُنا أن نُشير إلى الحسد بنحو عابر مادامت دراستُنا للقصص القرآنية منحصرة في الجانب الفنّي منه .

ويكفينا من ذلك أن نقرّر بأنّ الحسد وفقاً لحديث الرفع المتقدّم يشكل دافعاً ملحّاً لا يُحاسَبُ الإنسان عليه مادام مجرد أحاسيس أو مشاعر . أمّا إذا تُرجمت هذه الأحاسيس إلى عمل من خلال اللسان مثلا ، كمن يُحاول أن ينتقص من شخصيتك بدافع من الحسد ، أو من خلال اليد ، كمن يحاول الاعتداء عليك ، أو السعي لإيقاعك في مكروه أو شدّة ، حينئذ فإنّ هذا السلوك يظل عُرضةً للمسؤولية ، حيث يتحمّل الحاسد مسؤولية سلوكه تبعاً لحجم الجريمة التي تصدر عنه .

إنّ الحسد في اُقصوصة أو حكاية قابيل هو الذي دفع قابيل إلى القيام بجريمة قتل ، كما لحظنا ذلك في دراستنا لاُقصوصة قابيل وهابيل .

وفي قصة يوسف يقدّم النص القرآني نموذجاً جديداً من السلوك الحاسد ، متمثلا في السلوك الذي أقدم عليه إخوة يوسف ، ونعني به : إلقاءهم إيّاه في الجبّ .

والآن ، لنحاول متابعة النظر في سلسلة الأحداث والمواقف التي رافقت هذه العملية من خلال الدور الذي اضطلع به إخوة يوسف (عليه السلام) ، بصفتهم أبطالا ثانويين في القصة .

* * *

لقد أدرك يعقوب (عليه السلام) عندما قصّ عليه يوسف (عليه السلام) حُلمه وعندما رأى هو بنفسه حُلُماً في هذا الصدد ، أدرك أنّ إخوة يوسف سيتحرّك الحسد من خلال أعماقهم مادام يوسف أثيراً لدى والده ويحظى بحنانه وبخاصة أ نّه كان صغيرهم ، وكان أجملهم وجهاً . وكذلك كان الأمر بالنسبة إلى أخ صغير آخر لهم ، هو بنيامين .

ولذلك حذّر يوسف (عليه السلام) من أن يحكي حلمه لإخوته ، إلاّ أنّ يوسف قصّ الرؤيا عليهم .

ليس في القرآن ما يدلّ على أنّ يوسف قصّ الرؤيا عليهم ، وإنّما أُثير حسدهم على يوسف ممّا رؤا أنّ يوسف أحبّ إلى أبيهم منهم ، كما نصّ القرآن عليه هنا ، وفي قوله : ﴿يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ﴾ حينما يحكي القرآن صورة المؤامرة من الإخوة على يوسف (عليه السلام) .

وفعلا جاء ردّ الفعل على قصّ الحُلُم عليهم في شكل محاولة شرّيرة سبقَتها مشاعر وأحاسيس واضحة الانتساب إلى الحسد . إذ قال بعضهم لبعض :

﴿قالُوا : لَيُوسُفُ وأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنّا ونَحْنُ عُصْبَةٌ

﴿إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلال مُبِين

إنّ هذا الحوار الجمعي بين الإخوة يكشف عن تحرّك الحسد في أعماقهم مادام الأمر متصلا بيوسف وأخيه لأبيه واُمه . فهذا الانتساب وحده كاف في تفجير الحسد مضافاً إلى ذلك أنـّهما كانا صغيرين . والصغير عادة يظلّ موضع حسد الأكبر منه .

يضاف إلى ذلك التفوّق في الملامح الجسدية . وهذا عنصر مثيرٌ ثالث للحسد .

أمّا العنصر الرابع المُثير للحسد ، فهو إيثار هذين الصغيرين لدى أبيهما .

وأخيراً . . . كان الحلم هو المثير أو المنبّه الأكبر لتفجير الحسد ، حيث أدرك الإخوةُ تماماً أنّ نجمَ أخيهم سيتألّق ، لأنّ رمز الحُلُم هو سجود الأحد عشر كوكباً له ، بل حتى الشمس والقمر يسجدان له أيضاً .

وإذن لنا أن نتصوّر كم سيكون حجم الحسد كبيراً لدى الإخوة مادام الأمر يصل إلى ذوبان شخصياتهم تماماً وتلاشيها قبال شخصية يوسف (عليه السلام) ؟

ومن هنا جاء ردّ الفعل أو الاستجابة على النحو الذي قصّه القرآنُ علينا :

﴿لَيُوسُفُ وأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنّا ونَحْنُ عُصْبَةٌ

إنّ تحاورهم فيما بينهم من أنّ يوسف (عليه السلام) وأخاه أحبّ إلى أبيهم منهم ، يفصح عن مرارة المشاعر التي تلفّ أعماقهم .

بل إنّ قولهم ﴿وَنَحْنُ عُصْبَةٌ﴾ يجسّد قمّة المشاعر الحاسدة ، ومعنى قولهم المتقدم : إنّهم جماعةً يتعصّب بعضهم لبعض ، ويعين بعضُهم البعضُ الآخر ، هذا النحو من التفكير بعقلية العُصبة إنّما يكشف عن أعماق لم تصل إليها يدُ التهذيب بعدُ .

بل إنّهم ذهبوا أكثر من ذلك :

لقد دفعهم الحسدُ إلى أن يتّهموا أباهم بالضلال .

لقد قالوها بصراحة :

﴿إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلال مُبِين

إذن ، كم هو حجم الحسد هنا ؟ إنّه بالغٌ أشدّ مستوياته خطورة ، حيث نتوقّع أن يترتّب على هذا الحوار فيما بينهم تخطيطٌ لمؤامرة ضخمة تتناسب وحجم الحسد المتفجّر في أعماقهم .

إنّ النص القرآني ـ من الوجهة الفنّية ـ يُهيّؤنا لأن نتوقّع حدوث تآمر على يوسف ، فتحذير يعقوب (عليه السلام) لولده يوسف (عليه السلام) من أن يقصّ رؤياه على إخوته ، يهيّؤنا لمثل هذا التوقّع .

كما أنّ طبيعة الحوار الجمعي الذي تمّ بين الإخوة على النحو الذي لحظناه ، يهيؤنا لتوقّع المؤامرة الكبيرة على يوسف (عليه السلام) . . .

كلّ هذه الارهاصات الفنّية ، تعدنا بمؤامرة ذات حجم كبير .

تُرى ، ماذا تمخّض عن هذا الاجتماع ؟

لقد تمخّض اجتماع الإخوة ـ إخوة يوسف ـ عن تجسيد عمليّ لسلوكهم الحاسد متمثّلا في هذين الاقتراحين :

﴿اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ

﴿وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ

ثمّ جاء اقتراحٌ ثالث ـ قدّمه أحد الإخوة ، ويُسمّى لاوي ـ حسب بعض النصوص المفسّرة ، حيث قال لهم :

﴿لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ

﴿يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ

ويبدو أنّ الاقتراح الثالث ، هو أخفّ الحلول وطأة من حيث التخلّص من يوسف (عليه السلام) . وبالرغم من أنّ طرح يوسف (عليه السلام) في أرض بعيدة عن أبيه ـ وهو الاقتراح الثاني ـ يُشكّل أحد اقتراحين متوازنين ، ويحمل نوعاً أقلّ عدواناً من القتل ، إلاّ أنّ القتل فيما يبدو كان قويّاً في أذهان المتآمرين . ولذلك جاء الاقتراح الثالث القاضي بإلقاء يوسف في الجُبّ كاشفاً عن الحقيقة المتقدّمة من خلال قول لاوي :

اطرحوه في البئر بدلا من قتله . أي : أنّ القتل كان هو المسيطر على أذهان المتآمرين .

* * *

على أيّة حال ، تمّ الاتفاق على إلقاء يوسف (عليه السلام) في البئر بدلا من إلقائه في التيه ، أو قتله .

ثمّ بدأت خطةُ التنفيذ من خلال مناورة أجروها مع أبيهم ، على النحو الآتي :

﴿قالُوا : يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنّا عَلى يُوسُفَ وإِنّا لَهُ لَناصِحُونَ﴾

﴿أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ ويَلْعَبْ وإِنّا لَهُ لَحافِظُونَ

لقد اختزل النصُ تفصيلات الخطّة التي تمّ الاتفاقُ عليها من حيث عملية التنفيذ والطريقة التي يتمّ من خلالها إقناع الأب .

لقد اختزلها النص تماماً ، ثمّ أبرزها من خلال محاورتهم للأب :

﴿يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنّا . . . ﴾

وواضحٌ أنّ النص بهذا الاختزال حقّق اقتصاداً فنّياً له خطورته في ميدان الشكل القصصي ، حيث تركنا نحن بأنفسنا نستخلص طريقة الاتفاق الذي تمّ بينهم ، والحوار الذي استغرق هذه الطريقة ، وكلّه قد حُذف من النص لم يبرزه لنا في عملية القصّ .

والمهم إذا تجاوزنا هذا الجانب الفنّي من الحوار واتّجهنا إلى جانبه الفكري ، أمكننا أن نُدرك مدى هول الجريمة التي تنطوي عليه هذه المناورةُ مع الأب ، إنّهما تكشف عن النزعة العدوانية التي ألبسها الإخوةُ لبوسَ النصيحة وحبّ الخير وافتعال الحرص على الحفاظ على حياة يوسف (عليه السلام) وكونهم اُمناء عليه وكونهم حريصين على توفير مُتعةِ اللعب معه .

إلاّ أنّ أباهم ـ وهو العارف بأعماقهم الحقيقية ـ لوّح لهم بحزنه على ولده والتخوّف من أن يأكله الذئب .

وسواء أكان هذا التخوّفُ ناجماً عن رؤيا رآها عن عشرة أذؤب يشدّون على يوسف ، وبخاصة أنّ الأرض التي كانوا يعتزمون الذهاب إليها كانت أرضاً مليئةً بالذئاب ، أو كان التخوّف ناجماً عن افتراسهم هم لأخيهم يوسف ، حيث يجيء الذئب هنا رمزاً فنّياً عن أعماقهم المفترسة . أقول : أيّاً كان الأمرُ فإنّ جواب الإخوة على هذا التخوف ، يظل استمراراً للغة المُناورة التي استخدموها مع أبيهم عندما افتعلوا الحرص على حياة يوسف ، حيث أنـّهم هنا استخدموا نفس المناورة ، فقالوا :

﴿لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ ونَحْنُ عُصْبَةٌ إِنّا إِذاً لَخاسِرُونَ

أي ، لا يُعقل أن نكون من العجز والضعف للدرجة التي نسمح فيها للذئب بأن يفترس يوسف ونحن جماعة نستطيع أن نحميه من أيّ خطر .

هنا يختزل النصُّ من جديد بعضَ المواقف ويُحسّسُنا بنحو فنّي لم يقصّه علينا ، أنّ أباهم قد وافقهم على ذلك وسمح ليوسف بالذهاب مع إخوته ، حيث يذكر لنا مباشرة ما يلي :

﴿فَلَمّا ذَهَبُوا بِهِ وأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ

﴿وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وهُمْ لا يَشْعُرُونَ

من هذا السرد ، نستخلص أنّ الأب وافق على اصطحاب يوسف مع الإخوة وإلى أنّ الإخوة عندما صحبوه وعزموا على إلقائه في البئر ، أوحى اللّه ليوسف عندئذ بأن يُخبرهم ويعظهم ويُشعرهم بخطورة ما يقدمون عليه من جريمة ، لعلّهم يرتدعون عنها .

والمُعطى الفكري لهذا التذكير يتمثّل في تحسيس الإنسان في لحظات الإقدام على الجريمة بهول مثل هذه العملية ، فلعلّه يرتدعُ عنه ويفيء إلى صوابه .

ولكن فيما يبدو أنّ الإخوة لم ينفعهم مثل هذا التذكير والعظة ، فنفّذوا عمليّة الإلقاء في البئر دون تردّد .

* * *

وعملية الإلقاء في البئر لم يسردها النص القصصي لنا ، بل تركها لنا ـ نحن المتلقّين ـ نستخلص ذلك وفقاً للفنّ القصصي الذي يختزل أو يقتطع من الحدَث بالقدر الذي يجعل المتلقّي يساهم في الكشف عن ذلك حتى يحقّق إمتاعاً جمالياً لنا .

إلاّ أنّ النصوص المفسّرة قد اضطلعت بعملية الكشف وقدّمت لنا تفصيلات مثيرة رافقت عملية إلقاء يوسف (عليه السلام) في البئر .

فقد ذكرت هذه النصوص أنّ الإخوة كانوا على تفاوت في درجة الشدّة أو التراخي بالنسبة إلى طريقة إلقاء يوسف في البئر . فكان التراخي في الموقف يتمثّل حيناً في اتفاقهم على أن يلقوه في بئر قليلة الماء بحيث لا تغرقه ، بل تُغيّبه فحسب ، أو أن يلقوه في جانب من البئر .

إلاّ أنّ الشدّة في التعامل كانت واضحةً أيضاً في نفس الوقت ، فقد ذكرت النصوص المفسّرة أنـّهم كانوا يضربونه وهو يستغيث بهم واحداً واحداً ، بل إنّهم همّوا بقتله ، إلاّ أنّ لاوي ، أحد الإخوة الذي قدّم اقتراح إلقائه في الجب بدلا من القتل ، هو الذي منعهم من جديد عندما همّوا بقتله .

والمهم أنّ الشدّة في التعامل تحدّدت بوضوح وفقاً للنصوص المفسّرة التي ذهبت إلى أنـّهم جعلوا يدلونه في البئر وهو متعلّقٌ بشفيرها حتّى أنـّهم نزعوا قميصه ، فاستغاث بهم قائلا : ردّوا عليّ القميص أتوارى به . فيجيبُونه بسخرية واستهزاء : أدعُ الشمس والقمر والأحد عَشَر كوكباً يؤنسنك .

وإذا صحّت هذه النصوص المفسّرة ، فإنّ هذا النمط من التعامل يفصح عن أحداث مثيرة غاية الإثارة تفسّر لنا مدى ما يفرزه الحسدُ من سلوك يجسّد قمة النزعة العدوانية لدى الحاسد ، إلى الدرجة التي تجعله ساخراً مستهزئاً في موقف يستدعي على الأقل نوعاً من الندم على هول العملية ، أو على الأقل سكوتاً ، لا سخريةً بذلك .

* * *

كان الدور الأوّل لإخوة يوسف (عليه السلام) هو إلقاؤه في البئر على نحو ما فصّلنا الحديث عنه .

ثمّ اختفى دور الإخوة إلاّ في عملية القافلة التي أخرجت يوسف من البئر ، حيث تقول بعض النصوص المفسّرة : إنّ إخوة يوسف أسرّوا كونه أخاً لهم ، عندما أنقذته القافلة ، وهدّدوه بالقتل في حالة إخباره الجماعة بحقيقة الأمر ، فكتم يوسف ذلك فعلا . وتقول هذه النصوص : إنّ أحد إخوة يوسف كان قد انتبذ بعيداً عن البئر ، فلما أخرجت القافلةُ يوسف أخبر إخوتَه بذلك ، فجاؤوا إلى المُخرج وباعوه بدراهم معدودة .

وإذا صحّ هذا التفسير ، فإنّ إخوة يوسف لم يكتفوا بما فعلوه ، بل إنّهم هدّدوه بالقتل عندما أنقذته القافلة .

ثمّ أنـّهم بعد ذلك باعوه بتلك الدراهم المعدودة . وهو أمرٌ يكشف عن مضاعفات عنصر الحسد فيهم ، حتى بلغ هذه الدرجة التي لحظناها .

* * *

على أيّة حال يبدأ دور الإخوة بالغياب بعد عملية الإنقاذ ، ثمّ يبدأ بالظهور من جديد في مرحلة ما يُسمّى بمرحلة الإنارة ـ حسب المصطلح القصصي ـ أي في مرحلة تأزّم الأحداث وإشرافها على الانفراج . حيث ينكشف الموقف على حقيقته عندما يعرّفهم يوسف ـ وهو متربّعٌ على عرش مصر ـ بكلّ شيء .

إلاّ أنّ هذه المرحلة أيضاً ، مسبوقة ببعض الأدوار التي نشط فيها الإخوة ، وهم يجهلون أنـّهم يتعاملون مع يوسف ، وقبلها أيضاً جسّدوا دوراً مع أبيهم بعد حادثة إلقاء يوسف في البئر ، ونعني به دور إقناع الأب ، أو في الواقع إخفاء الحقيقة على أبيهم بالنسبة لمصير يوسف (عليه السلام) .

ويجدر بنا أن نقف على هذه الأدوار جميعاً ، لنتعرّف على مضاعفات الحسد الذي اقتادهم لأمثلة هذا السلوك ، ثمّ ما تبع ذلك من ردود فعل متنوّعة في هذا الصدد .

والآن ، كيف واجه الإخوةُ أباهم بعد أن ألقوا يوسف في البئر وبعد أن أعطوه عهداً بأنـّهم سيحافظون عليه ؟

لقد واجهوا أباهم على هذا النحو الذي يحكيه النصُّ القرآني الكريم :

﴿وَجاؤُوا أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ قالُوا : يا أَبانا

﴿إِنّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ

﴿وَما أَنْتَ بِمُؤْمِن لَنا ولَوْ كُنّا صادِقِينَ

﴿وَجاؤُوا عَلى قَمِيصِهِ بِدَم كَذِب

﴿قالَ : بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ

﴿وَاللّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ

إنّ هذا الموقف وما يرافقه من حدَثَ الدم والقميص يحفل بعناصر قصصية مُثيرة على جانب كبير من الإمتاع الجمالي ، فضلا عمّا يحفل به من قيم فكريّة تنمّ عن مدى مفارقات الحسد ومضاعفاته .

لقد مارسوا عملية الكذب بأحد أشكاله مرارة ، ثمّ اصطنعوا عملية البكاء المُفتَعل ، ثمّ اصطنعوا عملية تلطيخ القميص بالدم . . . كلّ اُولئك بسبب من الحسد الذي جرّهم إلى ممارسات متنوّعة من السلوك ، كُلّها تنمّ عن المَرَض الداخلي الذي طبَعَ تصرّفاتهم .

* * *

إنّ هذا الدور ـ من الناحية الفنّية ـ قد مهّد له النص من خلال قول أبيهم من أنـّه يخاف أن يأكله الذئب .

ومادام أبوهم قد تخوّف من افتراس الذئب ليوسف ، فحينئذ ما أحسنَ أن يستغلّ الإخوةُ هذا التخوّف ، وما أحسنَ أن يجعلوه فعلا وثيقة إدّعاء لتغطية الجريمة .

وبالفعل تمّ الاتفاق على اصطناع هذا الحدث ، . . . ولكي يخلعوا طابع الصدق على إدعائهم ، فعليهم أن يظهروا بمظهر الكئيب الآسف على ما حَدَث .

إذن ، عليهم أن يصطنعوا عملية البكاء مادام البكاء يكشف عن صدق الأسى والحزن على فقد الحبيب .

وهكذا جاؤوا أباهم عشاء يبكون .

وطبيعيّاً أن يفزعَ أبوهم من هذا المظهر الباكي فيسألهم حينئذ عن ذلك .

وهنا تجيء الإجابةُ جاهزة ، مشحونةً بالكذب ، حيث إدعوا بأنـّهم تركوا يوسف عند رحالهم ليحفظها وانشغلوا باللعب : الاستباق في الركض أو السهام ، ثمّ جاء الذئب في فترة استباقهم وأكل يوسف (عليه السلام) . . .

إنّ مثل هذا الإدعاء المتهافت ، يبدو وكأنـّه غير مقنع فعلا ، لذلك بادروا أباهم سريعاً بأنـّه سوف لن يُصدّقهم حيث قالوا له :

﴿وَما أَنْتَ بِمُؤْمِن لَنا ولَوْ كُنّا صادِقِينَ

ومن الحقائق النفسيّة في هذا الصدد ، أنّ الخائف يعكس في تصرفاته كلّ ما تمارسه أعماقُه من سلوك قائم على التوتّر وما ترافقه من استجابات يخشى فضحها على حقيقتها ، ولذلك كان الإخوة يصدرون عن هذا الخوف حقيقةً عندما عكسوا إجابتهم المتمثلة في أنّ أباهم سوف لن يصدّقهم بهذه الإجابة المصطنعة .

المهمّ ، أنّ هذا الدور لإخوة يوسف (عليه السلام) بالنسبة إلى مواجهة الأب يكشف عن مضاعفات الحسد الذي جرّهُم إلى افتعال أكثر من حدث وأكثر من موقف بغية التستّر على الذنب .

* * *

ومن الوجهة الفنّية ينبغي أن ننتبه أيضاً إلى الرسم القصصي لهذا الدور .

فقد أبرز النص كلاّ من الملامح الداخلية والخارجية للأبطال كما أبرز بيئة الحدث بكلّ ملامحها الخارجية .

أمّا الملامح الخارجية للأبطال ، فهو : ملمحُ البكاء الذي افتعله الأبطال . فضلا عن المظهر القولي في إدّعاء السباق .

وواضح أنّ هذا الملمح الخارجي مرتبط بالملمح الداخلي ، أي : الحزن على فقدان يوسف .

وأمّا الملامح الخارجية للحدث ، فتتمثّل في الدم والقميص ، حيث تقول النصوص المفسّرة : إنّهم ذبحوا سخلةً ولطخوا قميصه بدمها .

وواضحٌ أيضاً صلة هذا الملمح الخارجي بالملمح الداخلي الذي يحرص على إظهار الصدق في إدعاءاتهم .

ولكن ، بالرغم من هذه الملامح الخارجية للأبطال وللبيئة من بُكاء ، ودم على القميص ، بالرغم من هذه الملامح التي تُضفي جماليةً في عملية التذوّق الفنّي ، فإنّ النص حَرِصَ على أن يفضح زيف هذه الملامح ، فأنطق يعقوب (عليه السلام) سريعاً بإجابة حاسمة هي قوله :

﴿بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ . . . ﴾

فهذه الإجابة الحاسمة تكشف عن أنّ كلّ الملامح الخارجية التي افتعلها الأبطال بالنسبة للحدث ولأنفسهم ، قد فقدت فاعليّتها ، وأنّ ملامح الجريمة هي التي طغت على كلّ شيء .

وفي هذا عظةٌ لمن اعتبر .

الدور الثالث لإخوة يوسف (عليه السلام) في هذه القصة ، يتمثّل في ذهابهم إليه وهو يتربّع على عرش مصر ، بيده خزائن الأرض وأقواتُ الناس .

لقد أصاب القحطُ الأرض ويوسف (عليه السلام) هو الذي يوزّع القوت على الجمهور وآل يعقوب إحدى الاُسر التي اضطُرّت إلى الذهاب لمصر لتحصيل القوت ، حيث جمع يعقوب (عليه السلام) أولاده وأمرهم بالذهاب إلى مصر . وفعلا قصدوا مصر :

﴿وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ

يبدو أنّ معرفة يوسف لهم ، وما تجدّد له من حياته معهم ، ثمّ ما رآهم عليه الآن من الحرمان والفقر والمأساة التي كانت تظهر بارزة في وجوههم وأشياء من هذا القبيل ، تلمح من خلال هذه الجملة «فعرفهم وهم له منكرون» وقد رأى انكارهم له أيضاً من جملة تلك المآسي والحرمان .

﴿وَلَمّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ قالَ ائْتُونِي بِأَخ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ

﴿أَلا تَرَوْنَ أَنـِّي أُوفِي الْكَيْلَ وأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ

كأنّ يوسف يريد بقوله (أَخ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ) أن يشعرهم ويلفتهم إلى واقع الأمر وأنـّه يعلم كلّ شيء ، ولكنهم لم يفهموا هذا التلميح .

﴿فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي ولا تَقْرَبُونِ

﴿قالُوا : سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ وإِنّا لَفاعِلُونَ

﴿وَقالَ لِفِتْيانِهِ : اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ

﴿لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ

﴿فَلَمّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا : يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ

﴿فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ وإِنّا لَهُ لَحافِظُونَ

﴿قالَ : هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاّ كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ

﴿فَاللّهُ خَيْرٌ حافِظاً وهُوَ أَرْحَمُ الرّاحِمِينَ

﴿وَلَمـّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ

﴿قالُوا : يا أَبانا ما نَبْغِي هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا

﴿وَنَمِيرُ أَهْلَنا ونَحْفَظُ أَخانا ونَزْدادُ كَيْلَ بَعِير ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ

﴿قالَ : لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ

﴿إِلاّ أَنْ يُحاطَ بِكُمْ فَلَمّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قالَ اللّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ

﴿وَقالَ يا بَنِيَّ : لا تَدْخُلُوا مِنْ باب واحِد وادْخُلُوا مِنْ أَبْواب مُتَفَرِّقَة . . . ﴾

﴿وَلَمّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللّهِ مِنْ شَيْء

﴿إِلاّ حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها . . . ﴾ .

﴿وَلَمّـا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخاهُ

﴿قالَ : إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ

﴿فَلَمّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ

﴿ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ : أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ

﴿قالُوا : وأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ما ذا تَفْقِدُونَ قالُوا : نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ . . . ﴾

﴿قالُوا : تَاللّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الأَْرْضِ وما كُنّا سارِقِينَ

﴿ قالُوا : فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ ؟ ﴾

﴿قالُوا : جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ . . . ﴾

﴿فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ . . . ﴾

﴿قالُوا : إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ

﴿فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ ولَمْ يُبْدِها لَهُمْ قالَ : أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً . . . ﴾

﴿قالُوا : يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ . . . ﴾

﴿قالَ : مَعاذَ اللّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلاّ مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ . . . ﴾

﴿فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا

﴿قالَ كَبِيرُهُمْ : أَ لَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللّهِ

﴿وَمِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ

﴿فَلَنْ أَبْرَحَ الأَْرْضَ حَتّى يَأْذَنَ لِي أَبِي . . . ﴾

﴿ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وما شَهِدْنا إِلاّ بِما عَلِمْنا . . . ﴾

﴿وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنّا فِيها والْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وإِنّا لَصادِقُونَ

* * *

 هنا ، النصوص القصصية تسرد لنا دوراً ثالثاً يضطلع به الإخوة .

طبيعيّاً لا نتحدث عن الأسباب التي دعت يوسف (عليه السلام) إلى أن يطالبهم بأخيه ، ثمّ يحتجزه لديه ، بل ذاك أمرٌ نرجئ الحديث عنه عندما نتناول البطل الرئيسي في القصة ، أي يوسف (عليه السلام) .

أمّا الآن فيهمّنا أن نوضّح دور الإخوة في هذه الشريحة من القصة ، وهو دورٌ مماثلٌ من جانب لدورهم مع يوسف (عليه السلام) من حيث عملية الاصطحاب ، لكنه مختلفٌ عنه من حيث دوافع السلوك .

إنّ نقاط التلاقي والافتراق في هذا الدور ، تتمثّل في ما يلي :

 

1 ـ من حيث نقاط التلاقي :

لقد اصطحبوا في هذا الدور أخاً أصغر لهم هو بنيامين ومن قبلُ اصطحبوا أخاً أصغر هو يوسف ، كما أنـّهم أعطوا أباهم عهداً بأن يحفظوا يوسف من الأخطار ، وهنا أيضاً ردّدوا نفس العبارة ، حيث قالوا : «وإنّا له لحافظون» بالنسبة إلى بنيامين . مع ملاحظة أنّ كلاّ من بنيامين ويوسف يشكّلان موضع حَسَد من الإخوة .

 2 ـ وأمّا من حيث نقاط الافتراق :

فإنّ دوافع السلوك في هذا الدور ، تظلّ مختلفةً عن الدور السابق مع يوسف .

فهنا بالرغم من كرههم لبنيامين ، إلاّ أنـّهم لم يظهروا نواياً سيئةً حياله في هذه الرحلة . ففي رحلتهم مع يوسف (عليه السلام) كانوا هم المطالبين بذلك ، أمّا في رحلتهم مع بنيامين فإنّ خازن الأرض هو الذي طالبهم بذلك ، أي إنّهم اُكرهوا على أن يصحبوا بنيامين لأسباب تتصل بالحصول على الطعام . وتبعاً لذلك اضطرّ أحدهم ـ وهو الأكبر ـ أن يعطي موثقاً لأبيه يتكفّل من خلاله بإرجاع بنيامين سالماً ، دون أن يكون ذلك بدافع من رغبة ، بل بدافع من الحصول على الطعام .

ولهذا السبب ، كما سنجد في الدور الرابع للإخوة ، أنّ الأخ الذي أعطى موثقاً لأبيه بإرجاع بنيامين ، هذا الأخ ظلّ باقياً في مصر ولم يرجع مع الإخوة عندما احتجز يوسف أخاه بنيامين في حادثة افتعال السرقة .

ومهما يكن ، فإنّ إخوة يوسف في هذا الدور ، لم يضمروا أيّة نوايا سيئة مع أخيهم الأصغر بنيامين ، بل إنّهم امتثلوا أمر أبيهم باصطحابه والمحافظة عليه والدخول من أبواب متفرقة . . . إلى آخره .

* * *

ولكنّ هذا الدور المتّسم بالحرص على بنيامين ، قد خبّأت له الأقدار حوادث مفاجأة لم تخطر ببال الإخوة قطّ .

وإذا كان الإخوةُ قد طبخوا مؤامرة خطيرة على يوسف ، فإنّ يوسف الآن يتهيّأ لطبخ مؤامرة عليهم من خلال الأخ الأصغر بنيامين ، حيث سيضع الكيل في رحل بنيامين ويتّهم الجماعة بالسرقة ، حتّى يحتفظ ببنيامين ويبقيه معه ، لأسباب نفصّلها فيما بعد ، حينما نتحدّث عن دور البطل الرئيسي يوسف (عليه السلام) .

أمّا الآن فيهمّنا أن نتحدّث عن ردود الفعل التي لحقت الإخوة في مواجهتهم ليوسف (عليه السلام) أولا وهم لا يعرفونه ، وفي ردود الفعل التي لحقتهم بعد اطلاعهم على حادثة السرقة المفتعلة ثانياً .

ثمّ يهمّنا بعد ذلك ، أن نبيّن هذا النمط من البناء الهندسي للقصة ، حيث يقوم البناء على خطوط متوازنة من طبخ المؤامرات ، ثمّ وقوع الإخوة الصغار ضحيّة هذا التآمر ، ثمّ وجود الفارق بين نمطين من التآمر ، أحدهما ينطلق من ظاهرة الحسد والنزعة العدوانية بعامّة ، مقابلا للنزعة الخيّرة التي انطوت المؤامرةُ الثانيةُ عليه ، حيث حيكت لأسباب انسانية تستهدف المصلحة الخيّرة التي ستسفر عنها كلّ الحوادث والمفاجآت في القصة .

وأخيراً يهمّنا أن نبيّن أيضاً عنصر المفاجأة في القصة وهو عنصر فنّي له خطورته الكبيرة في ميدان الشكل القصصي .

* * *

والآن نتقدّم أوّلا بتوضيح الجانب الفكري متمثّلا في ردود الفعل التي صدرت عن الإخوة تجاه يوسف (عليه السلام) عندما دخلوا عليه وهم لا يعرفونه .

وتقول النصوص المفسّرة : إنّ يوسف (عليه السلام) حينما قابلهم وهم يعتزمون الحصول على الطعام ، سألهم عن هويّتهم ، فأجابوه بأنـّهم من أرض الشام .

ولما قال لهم : أخشى أن تكونوا جواسيس على بلادنا ، أجابوه بأنـّهم أولاد نبيّ من أنبياء اللّه وهو يعقوب (عليه السلام) ، وأنّ أباهم لشخصٌ محزون .

ثمّ سألهم عن سبب حزن أبيهم ، فأجابوه بأنـّهم قد كان لهم أخ صغير صحبوه ذات يوم في الصيد ، فأكله الذئب .

هنا ، يُعنينا أن نشير إلى أنّ الإخوة مارسوا في هذا الموقف نفس السلوك السابق القائم على الكذب . وهو موقف سيترك أثره على يوسف (عليه السلام) دون أدنى شك ، حيث يقتنع تماماً بأنّ الإخوة لا يزالون عند سلوكهم السابق .

وممّا عزّز هذه القناعة ، أنّ إخوة يوسف أضافوا إلى موقفهم السابق موقفاً سلبياً جديداً يكشف عن إصرارهم على الصدور من الأعماق الحاسدة ، وإلى أنّ تنفيذهم لعملية إلقاء يوسف في البئر لم تُشف أعماقهم من الحسد . ففي حادثة افتعال السرقة للكيل وجّهوا ليوسف ـ وهم لا يعرفونه بطبيعة الحال ـ وجّهوا له تهمة السرقة عندما قال لهم : إنّ أخاهم الأصغر بنيامين قد سرق صواع الملك . هنا قال إخوةُ يوسف (عليه السلام) :

﴿إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ

هذه الإجابة تكشف عن أنّ إخوة يوسف (عليه السلام) لا يزالون يصدرون عن موقف حاسد ليوسف بالرغم من أنـّهم تخلّصوا منه في حادثة إلقائه في البئر ، إنّهم مع ذلك كلّه يتهمونه بالسرقة دون أن يكون هناك مسوّغ لهذه التهمة .

والمهم أنّ يوسف (عليه السلام) اكتشف هذه الحقيقة ، وأنّها لحقيقةٌ بالغةُ الأهمية دون أدنى شك مادامت تفصح عن حقيقة الأعماق الحاسدة لهؤلاء الإخوة ، حتّى أ نّه صرّح بمرارة متحدّثاً مع نفسه ، قائلا :

﴿أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً واللّهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ




وهو تفسير الآيات القرآنية على أساس الترتيب الزماني للآيات ، واعتبار الهجرة حدّاً زمنيّاً فاصلاً بين مرحلتين ، فكلُّ آيةٍ نزلت قبل الهجرة تُعتبر مكّيّة ، وكلّ آيةٍ نزلت بعد الهجرة فهي مدنيّة وإن كان مكان نزولها (مكّة) ، كالآيات التي نزلت على النبي حين كان في مكّة وقت الفتح ، فالمقياس هو الناحية الزمنيّة لا المكانيّة .

- المحكم هو الآيات التي معناها المقصود واضح لا يشتبه بالمعنى غير المقصود ، فيجب الايمان بمثل هذه الآيات والعمل بها.
- المتشابه هو الآيات التي لا تقصد ظواهرها ، ومعناها الحقيقي الذي يعبر عنه بـ«التأويل» لا يعلمه الا الله تعالى فيجب الايمان بمثل هذه الآيات ولكن لا يعمل بها.

النسخ في اللغة والقاموس هو بمعنى الإزالة والتغيير والتبديل والتحوير وابطال الشي‏ء ورفعه واقامة شي‏ء مقام شي‏ء، فيقال نسخت الشمس الظل : أي ازالته.
وتعريفه هو رفع حكم شرعي سابق بنص شرعي لا حق مع التراخي والزمان بينهما ، أي يكون بين الناسخ والمنسوخ زمن يكون المنسوخ ثابتا وملزما بحيث لو لم يكن النص الناسخ لاستمر العمل بالسابق وكان حكمه قائما .
وباختصار النسخ هو رفع الحكم الشرعي بخطاب قطعي للدلالة ومتأخر عنه أو هو بيان انتهاء امده والنسخ «جائز عقلا وواقع سمعا في شرائع ينسخ اللاحق منها السابق وفي شريعة واحدة» .