المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

القرآن الكريم وعلومه
عدد المواضيع في هذا القسم 16325 موضوعاً
تأملات قرآنية
علوم القرآن
الإعجاز القرآني
قصص قرآنية
العقائد في القرآن
التفسير الجامع
آيات الأحكام

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر

الأفعال التي تنصب مفعولين
23-12-2014
صيغ المبالغة
18-02-2015
الجملة الإنشائية وأقسامها
26-03-2015
اولاد الامام الحسين (عليه السلام)
3-04-2015
معاني صيغ الزيادة
17-02-2015
انواع التمور في العراق
27-5-2016


تفسير الآية (29-35) من سورة فاطر  
  
6821   07:43 مساءً   التاريخ: 22-9-2020
المؤلف : إعداد : المرجع الإلكتروني للمعلوماتية
الكتاب أو المصدر : تفاسير الشيعة
الجزء والصفحة : .....
القسم : القرآن الكريم وعلومه / التفسير الجامع / حرف الفاء / سورة فاطر /

قال تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30) وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُو الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31) ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُو الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ} [فاطر : 29 ، 35]

 

تفسير مجمع البيان

- ذكر الطبرسي في تفسير هذه الآيات (1) :

 

وصف سبحانه العلماء فقال {إن الذين يتلون كتاب الله} أي يقرءون القرآن في الصلاة وغيرها أثنى سبحانه عليهم بقراءة القرآن قال مطرف بن عبد الله الشخير هذه آية القراء .

{وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم} أي ملكناهم التصرف فيه {سرا وعلانية} أي في حال سرهم وفي حال علانيتهم وعن عبد الله بن عبيد بن عمير الليثي قال قام رجل إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) فقال يا رسول الله ما لي لا أحب الموت قال أ لك مال؟ قال نعم قال فقدمه قال لا أستطيع قال : ((فإن قلب الرجل مع ماله إن قدمه أحب أن يلحق به وإن أخره أحب أن يتأخر معه)) .

{يرجون تجارة لن تبور} أي راجين بذلك تجارة لن تكسد ولن تفسد ولن تهلك {ليوفيهم أجورهم} أي قصدوا بأعمالهم الصالحة وفعلوها لأن يوفيهم الله أجورهم بالثواب {ويزيدهم} على قدر استحقاقهم {من فضله أنه غفور} لذنوبهم {شكور} لحسناتهم عن الزجاج وقال الفراء خبر إن قوله {يرجون تجارة لن تبور} وروى ابن مسعود عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أنه قال في قوله {ويزيدهم من فضله} هو الشفاعة لمن وجبت له النار ممن صنع إليه معروفا في الدنيا وعن الضحاك قال يفسح لهم في قبورهم وقيل معنى شكور أنه يقبل اليسير ويثيب عليه الكثير تقول العرب أشكر من بروقة وتزعم أنها شجرة عارية من الورق تغيم السماء فوقها فتخضر وتورق من غير مطر .

ثم خاطب سبحانه نبيه (صلى الله عليه وآله وسلّم) فقال {والذي أوحينا إليك} يا محمد وأنزلناه {من الكتاب} وهو القرآن {هو الحق} أي الصحيح الذي لا يشوبه فساد والصدق الذي لا يمازجه كذب والعقل يدعو إلى الحق ويصرف عن الباطل {مصدقا لما بين يديه} أي لما قبله من الكتب لأنه جاء موافقا لما بشرت به تلك الكتب من حاله وحال من أتى به {إن الله بعباده لخبير} أي عالم {بصير} بأحوالهم {ثم أورثنا الكتاب} يعني القرآن وقيل هو التوراة عن أبي مسلم وقيل أراد الكتب لأن الكتاب يطلق ويراد به الجنس عن الجبائي والصحيح الأول لأن ظاهر لفظ الكتاب لا يطلق إلا على القرآن .

{الذين اصطفينا من عبادنا} أي اخترناهم ومعنى الإرث انتهاء الحكم إليهم ومصيره لهم كما قال وتلك الجنة التي أورثتموها وقيل معناه أورثناهم الإيمان بالكتب السالفة إذ الميراث انتقال الشيء من قوم إلى قوم والأول أصح واختلف في الذين اصطفاهم الله تعالى عن عباده في الآية فقيل هم الأنبياء اختارهم الله برسالته وكتبه عن الجبائي وقيل هم المصطفون الداخلون في قوله إن الله اصطفى آدم إلى قوله وآل إبراهيم وآل عمران يريد بني إسرائيل عن أبي مسلم قال لأن الأنبياء لا يرثون الكتب بل يورث علمهم وقيل هم أمة محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) أورثهم الله كل كتاب أنزله عن ابن عباس وقيل هم علماء أمة محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) لما ورد في الحديث ((العلماء ورثة الأنبياء)) والمروي عن الباقر والصادق (عليهما السلام) أنهما قالا : ((هي لنا خاصة وإيانا عنى)) وهذا أقرب الأقوال لأنهم أحق الناس بوصف الاصطفاء والاجتباء وإيراث علم الأنبياء إذ هم المتعبدون بحفظ القرآن وبيان حقائقه والعارفون بجلائله ودقائقه .

{فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات} اختلف في أن الضمير في منهم إلى من يعود على قولين ( أحدهما ) أنه يعود إلى العباد وتقدير الكلام فمن العباد ظالم وروي نحو ذلك عن ابن عباس والحسن وقتادة واختاره المرتضى قدس الله روحه من أصحابنا قال والوجه فيه أنه لما علق توريث الكتاب بمن اصطفاه من عباده بين عقيبه أنه إنما علق وراثة الكتاب ببعض العباد دون بعض لأن فيهم من هو ظالم لنفسه ومن هو مقتصد ومن هو سابق بالخيرات ( والقول الثاني ) أن الضمير يعود إلى المصطفين من العباد عن أكثر المفسرين .

ثم اختلف في أحوال الفرق الثلاث على قولين ( أحدهما ) إن جميعهم ناج ويؤيد ذلك ما ورد في الحديث عن أبي الدرداء قال سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) يقول في الآية أما السابق فيدخل الجنة بغير حساب وأما المقتصد فيحاسب حسابا يسيرا وأما الظالم لنفسه فيحبس في المقام ثم يدخل الجنة فهم الذين قالوا {الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن} وعن عائشة أنها قالت كلهم في الجنة أما السابق فمن مضى على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) وشهد له رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) بالجنة وأما المقتصد فمن اتبع أثره من أصحابه حتى لحق بهم وأما الظالم فمثلي ومثلكم وروي عنها أيضا أنها قالت السابق الذي أسلم قبل الهجرة والمقتصد الذي أسلم بعد الهجرة والظالم نحن وروي عن عمر بن الخطاب أنه قال سابقنا سابق ومقتصدنا ناج وظالمنا مغفور له وقيل إن الظالم من كان ظاهره خيرا من باطنه والمقتصد الذي استوى ظاهره وباطنه والسابق الذي باطنه خير من ظاهره وقيل منهم ظالم لنفسه بالصغائر ومنهم مقتصد بالطاعات في الدرجة الوسطى ومنهم سابق بالخيرات في الدرجة العليا عن جعفر بن حرب .

وروى أصحابنا عن ميسر بن عبد العزيز عن الصادق (عليه السلام) أنه قال الظالم لنفسه منا من لا يعرف حق الإمام والمقتصد منا العارف بحق الإمام والسابق بالخيرات هو الإمام وهؤلاء كلهم مغفور لهم وعن زياد بن المنذر عن أبي جعفر (عليه السلام) قال وأما الظالم لنفسه منا فمن عمل عملا صالحا وآخر سيئا وأما المقتصد فهو المتعبد المجتهد وأما السابق بالخيرات فعلي والحسن والحسين (عليهما السلام) ومن قتل من آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) شهيدا .

والقول الآخر : أن الفرقة الظالمة لنفسها غير ناجية قال قتادة الظالم لنفسه أصحاب المشأمة والمقتصد أصحاب الميمنة والسابق بالخيرات هم السابقون المقربون من الناس كلهم كما قال سبحانه وكنتم أزواجا ثلاثة وقال عكرمة عن ابن عباس إن الظالم هو المنافق والمقتصد والسابق من جميع الناس وقال الحسن السابقون هم الصحابة والمقتصدون هم التابعون والظالمون هم المنافقون (2) .

فإن قيل لم قدم الظالم وأخر السابق وإنما يقدم الأفضل فالجواب أنهم يقدمون الأدنى في الذكر على الأفضل قال سبحانه يولج الليل في النهار وقال يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور وقال خلق الموت والحياة وقال فمنكم كافر ومنكم مؤمن وقيل إنما قدم الظالم لئلا ييأس من رحمته وأخر السابق لئلا يعجب بعلمه وقيل إنما رتبهم هذا الترتيب على مقامات الناس لأن أحوال الناس ثلاث معصية وغفلة ثم التوبة ثم القربة فإذا عصى فهو ظالم وإذا تاب فهو مقتصد وإذا صحت توبته وكثرت مجاهدته اتصل بالله وصار من جملة السابقين .

وقوله {بإذن الله} أي بأمره وتوفيقه ولطفه {ذلك هو الفضل الكبير} معناه أن إيراث الكتاب واصطفاء الله إياهم هو الفضل العظيم من الله عليهم {جنات عدن يدخلونها} هذا تفسير للفضل كأنه قيل ما ذلك الفضل فقال هي جنات أي جزاء جنات أو دخول جنات ويجوز أن يكون بدلا من الفضل كأنه قال ذلك دخول جنات {يحلون فيها من أساور} جمع أسورة وهي جمع سوار {من ذهب ولؤلؤا} ومن قرأ {ولؤلؤا} فالمعنى ويحلون فيها لؤلؤا {ولباسهم فيها حرير} وهو الإبريسم المحض وإذا قلنا إن المراد به الفرق الثالث فالظالم إنما يدخلها بفضل الله تعالى أو بالشفاعة .

{وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن} أخبر سبحانه عن حالهم أنهم إذا دخلوا الجنة يقولون الحمد لله اعترافا منهم بنعمته لا على وجه التكليف وشكرا له على أن أذهب الغم الذي كانوا عليه مستحقين لذلك فإذا تفضل الله عليهم بإسقاط عقابهم وأدخلهم الجنة حمدوه على ذلك وشكروه {إن ربنا لغفور} لذنوب عباده وقبيح أفعالهم {شكور} يقبل اليسير من محاسن أعمالهم وقيل إن شكره سبحانه هو مكافاته لهم على الشكر له والقيام بطاعته وإن كان حقيقة الشكر لا يجوز عليه سبحانه من حيث كان اعترافا بالنعمة ولا يصح أن يكون سبحانه منعما عليه .

{الذي أحلنا دار المقامة} أي أنزلنا دار الخلود يقيمون فيها أبدا لا يموتون ولا يتحولون عنها {من فضله} أي ذلك بتفضله وكرمه {لا يمسنا فيها نصب} لا يصيبنا في الجنة عناء ومشقة {ولا يمسنا فيها لغوب} أي ولا يصيبنا فيها إعياء ومتعبة في طلب المعاش وغيره .

________________

1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج8 ، ص242-247 .

2- وحكي عن بعض اهل العرفان ان الظالم : الذي يجزع عند البلاء والمقتصد : الذي يصبر على البلاء . والسابق الذي يتلذذ بالبلاء .

 

تفسير الكاشف

- ذكر محمد جواد مغنية في تفسير هذه الآيات (1) :

 

{إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ وأَقامُوا الصَّلاةَ وأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ} . المراد بكتاب اللَّه القرآن الكريم ، وبالتلاوة التدبر والعمل ، لأن قوله تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ} الخ بعد قوله : إِنَّما يَخْشَى اللَّهً مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ يومئ إلى أن المراد من {يتلون} ما قلناه ، وفي نهج البلاغة : ليس في ذلك الزمان سلعة أبور من الكتاب إذا تلي حق تلاوته ، ولا أنفق منه - أي اروج - إذا حرف عن مواضعه . . فقد دل السياق على أن المراد بحق التلاوة العمل . ومعنى الآية ان الذين يتدبرون القرآن ويعملون بأحكامه قاصدين وجه اللَّه فقد ربحت تجارتهم ، وكانوا هم الفائزين . وفي نهج البلاغة : باع المؤمنون قليلا من الدنيا لا يبقى بكثير من الآخرة لا يفنى {لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ ويَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} . آمنوا وعملوا وأخلصوا طلبا لمرضاة اللَّه ومثوبته ، وعفوه ورحمته فنالوا ما يبتغون . وتقدم مثله في الآية 274 من سورة البقرة ج 1 ص 428 والآية 22 من سورة الرعد ج 4 ص 398 .

{والَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُو الْحَقُّ} . المراد بالكتاب القرآن ، وهو يحمل معه الأدلة والبراهين على صدقه وحقيقته ، وهي أحكامه وتعاليمه التي تعطي الأولية للايمان بعدل اللَّه ووحدانيته ، وبكرامة الإنسان وحريته {مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ} من الكتب والشرائع التي تقوم على هذا الأساس ، أساس الايمان باللَّه وبالإنسان {إِنَّ اللَّهً بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ} بما يصلحهم وما يفسدهم ، فينهاهم عن هذا ، ويأمرهم بذاك . ولكن المسلمين تركوا ما أمر به القرآن ، وفعلوا ما نهى عنه ، وصدق عليهم قول الرسول الأعظم : يأتي على أمتي زمان ينهون فيه عن المعروف ، ويأمرون بالمنكر . . فلا بدع إذا تسلط عليهم شرار خلق اللَّه .

{ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا} . المراد بالكتاب القرآن ، ما في ذلك ريب ، واختلف المفسرون في المراد بالمصطفين ، فذهب أكثرهم أو الكثير منهم إلى انهم أمة محمد (صلى الله عليه واله وسلم) . والذي نراه نحن انهم محمد (صلى الله عليه واله وسلم) وأهل بيته وصحابته وعلماء أمته الذين ساروا بسيرته ، وعملوا بسنته لأن كلمة اصطفينا معناها اخترنا ، واللَّه سبحانه لا يختار إلا المتقين الأبرار ، وقد استعمل القرآن الكريم كلمة الاصطفاء بهذا المعنى في العديد من الآيات ، منها : {إِنَّ اللَّهً اصْطَفى آدَمَ ونُوحاً وآلَ إِبْراهِيمَ وآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ} [آل عمران - 33] . ومنها : {ولَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} [البقرة - 130] . أما ضمير {منهم} في قوله تعالى : {فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ ومِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ ومِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} أما هذا الضمير فإنه يعود إلى {عبادنا} لأنهم أقرب من {الذين اصطفينا} .

والظالم لنفسه من رجحت سيئاته على حسناته ، والسابق بالخيرات من رجحت حسناته على سيئاته ، وبالأولى من لا سيئات له ، والمقتصد بينهما أي الذي استوت حسناته وسيئاته .

{ذلِكَ هُو الْفَضْلُ الْكَبِيرُ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ ولُؤْلُؤاً ولِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ} . ذلك إشارة إلى الميراث والاصطفاء ، وجنات عدن الخ . بيان وتفسير لفضل اللَّه الكبير الذي جعله جزاء للذين اصطفى ، والذهب واللؤلؤ والحرير تعبير ثان عن قوله تعالى : {وفِيها ما تَشْتَهِيهِ الأَنْفُسُ وتَلَذُّ الأَعْيُنُ} [الزخرف - 71 ] وفي الحديث ان أعرابيا قال : يا رسول اللَّه هل في الجنة سماع أي غناء ؟ قال : نعم يا أعرابي .

{وقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ ولا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ} . حمدوا اللَّه وشكروه على الخلاص من الخوف والاضطراب ، والنجاة من الجحيم والعذاب ، والتحرر من الأتعاب والأرزاء ، وعلى الخلود في النعيم والهناء .

______________

1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج6 ، ص290-292 .

 

تفسير الميزان

- ذكر الطباطبائي في تفسير هذه الآيات (1) :

 

قوله تعالى : {إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية يرجون تجارة لن تبور} تلاوة الكتاب قراءة القرآن وقد أثنى عليها الله سبحانه ، وإقامة الصلاة إدامة إتيانها وحفظها من أن تترك ، والإنفاق من الرزق سرا وعلانية بذل المال سرا تحذرا من الرياء وزوال الإخلاص في الإنفاق المسنون ، وبذل المال علانية ليشيع بين الناس كما في الإنفاق الواجب .

وقوله : {يرجون تجارة لن تبور} أي لن تهلك بالخسران ، وذكر بعضهم أن قوله : {يرجون} إلخ .

خبر إن في صدر الآية وعند بعضهم الخبر مقدر يتعلق به قوله : {ليوفيهم} إلخ {أي فعلوا ما فعلوا ليوفيهم أجورهم} إلخ .

قوله تعالى : {ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله إنه غفور شكور} متعلق بقوله : {يتلون} وما عطف عليه في الآية السابقة أي إنهم عملوا ما عملوا لأن يوفيهم ويؤتيهم إيتاء تاما كاملا أجورهم وثوابات أعمالهم .

وقوله : {ويزيدهم من فضله} يمكن أن يراد بهذه الزيادة تضعيف الثواب أضعافا كما في قوله : {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا } [الأنعام : 160] وقوله : {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} [البقرة : 261] ، ويمكن أن يراد بها زيادة ليست من سنخ ثواب الأعمال كما في قوله : { لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق : 35] .

وقوله : {إنه غفور شكور} تعليل لمضمون الآية وزيادة فهو تعالى لكونه غفورا يغفر زلاتهم ولكونه شكورا يثيبهم ويزيد من فضله .

قوله تعالى : {والذي أوحينا إليك من الكتاب هو الحق} ضمير الفصل واللام في قوله : {هو الحق} للتأكيد لا للقصر أي هو حق لا يشوبه باطل .

قوله تعالى : {ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا} إلى آخر الآية .

يقال : أورثه مالا كذا أي تركه فيهم يقومون بأمره بعده وقد كان هو القائم بأمره المتصرف فيه ، وكذا إيراث العلم والجاه ونحوهما تركه عند الغير يقوم بأمره بعد ما كان عند غيره ينتفع به فإيراث القوم الكتاب تركه عندهم يتناولونه خلفا عن سلف وينتفعون به .

وتصح هذه النسبة وإن كان القائم به بعض القوم دون كلهم ، قال تعالى : {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ (53) هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [غافر : 53 ، 54] ، وقال {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ} [المائدة : 44] ، وقال : {وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ} [الشورى : 14] .

فبنو إسرائيل أورثوا الكتاب وإن كان المؤدون حقه القائمون بأمره بعضهم لا جميعهم .

والمراد بالكتاب في الآية على ما يعطيه السياق هو القرآن الكريم كيف ؟ وقوله في الآية السابقة : {والذي أوحينا إليك من الكتاب} نص فيه ، فاللام في الكتاب للعهد دون الجنس فلا يعبأ بقول من يقول : إن اللام للجنس والمراد بالكتاب مطلق الكتاب السماوي المنزل على الأنبياء .

والاصطفاء أخذ صفوة الشيء ويقرب من معنى الاختيار والفرق أن الاختيار أخذ الشيء من بين الأشياء بما أنه خيرها والاصطفاء أخذه من بينها بما أنه صفوتها وخالصها .

وقوله : {من عبادنا} يحتمل أن يكون {من} للتبيين أوللابتداء أو للتبعيض الأقرب إلى الذهن أن يكون بيانية وقد قال تعالى : { وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} [النمل : 59] .

واختلفوا في هؤلاء المصطفين من عباده من هم؟ فقيل : هم الأنبياء ، وقيل : هم بنو إسرائيل الداخلون في قوله : {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ } [آل عمران : 33] ، وقيل : هم أمة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فقد أورثوا القرآن من نبيهم إليه يرجعون وبه ينتفعون علماؤهم بلا واسطة وغيرهم بواسطتهم ، وقيل : هم العلماء من الأمة المحمدية .

وقيل : - وهو المأثور عن الصادقين (عليهما السلام) في روايات كثيرة مستفيضة - إن المراد بهم ذرية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من أولاد فاطمة (عليها السلام) وهم الداخلون في آل إبراهيم في قوله : {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ} [آل عمران : 33] ، وقد نص النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على علمهم بالقرآن وإصابة نظرهم فيه وملازمتهم إياه بقوله في الحديث المتواتر المتفق عليه : {إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي لن يفترقا حتى يردا علي الحوض} .

وعلى هذا فالمعنى بعد ما أوحينا إليك القرآن - ثم للتراخي الرتبي - أورثنا ذريتك إياه وهم الذين اصطفينا من عبادنا إذا اصطفينا آل إبراهيم وإضافة العباد إلى نون العظمة للتشريف .

وقوله : {فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات} يحتمل أن يكون ضمير {منهم} راجعا إلى {الذين اصطفينا} فيكون الطوائف الثلاث الظالم لنفسه والمقتصد والسابق بالخيرات شركاء في الوراثة وإن كان الوارث الحقيقي العالم بالكتاب والحافظ له هو السابق بالخيرات .

ويحتمل أن يكون راجعا إلى عبادنا - من غير إفادة الإضافة للتشريف - فيكون قوله : {فمنهم} مفيدا للتعليل والمعنى إنما أورثنا الكتاب بعض عبادنا وهم المصطفون لا جميع العباد لأن من عبادنا من هو ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق ولا يصلح الكل للوراثة .

ويمكن تأييد أول الاحتمالين بأن لا مانع من نسبة الوراثة إلى الكل مع قيام البعض بها حقيقة كما نجد نظيره في قوله تعالى : {وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ } [غافر : 53] .

وما في الآية من المقابلة بين الظالم لنفسه والمقتصد والسابق بالخيرات يعطي أن المراد بالظالم لنفسه من عليه شيء من السيئات وهو مسلم من أهل القرآن لكونه مصطفى ووارثا ، والمراد بالمقتصد المتوسط الذي هو في قصد السبيل وسواء الطريق والمراد بالسابق بالخيرات بإذن الله من سبق الظالم والمقتصد إلى درجات القرب فهو إمام غيره بإذن الله بسبب فعل الخيرات قال تعالى : { وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ } [الواقعة : 10 ، 11] .

وقوله تعالى : {ذلك هو الفضل الكبير} أي ما تقدم من الإيراث هو الفضل الكبير من الله لا دخل للكسب فيه .

هذا ما يعطيه السياق وتفيده الأخبار من معنى الآية وفيها للقوم اختلاف عجيب فقد اختلف في {ثم} فقيل : هي للتراخي بحسب الأخبار ، وقيل : للتراخي الرتبي ، وقيل : للتراخي الزماني .

ثم العطف على {أوحينا} أو على {الذي أوحينا} .

واختلف في {أورثنا} فقيل : هو على ظاهره ، وقيل : معناه حكمنا بإيراثه وقدرناه ، واختلف في الكتاب فقيل : المراد به القرآن ، وقيل : جنس الكتب السماوية ، واختلف في {الذين اصطفينا} فقيل : المراد بهم الأنبياء ، وقيل : بنو إسرائيل ، وقيل : أمة محمد ، وقيل : العلماء منهم ، وقيل : ذرية النبي من ولد فاطمة (عليها السلام) .

واختلف في {من عبادنا} فقيل : من للتبعيض أوللابتداء أوللتبيين ويختلف المراد من العباد بحسب اختلاف معنى {من} وكذا إضافة {عبادنا} للتشريف على بعض الوجوه ولغيره على بعضها .

واختلف في {فمنهم} فقيل : مرجع الضمير {الذين} وقيل : {عبادنا} واختلف في الظالم لنفسه والمقتصد والسابق فقيل الظالم من كان ظاهره خيرا من باطنه والمقتصد من استوى ظاهره وباطنه والسابق من كان باطنه خيرا من ظاهره ، وقيل : السابق هم السابقون الماضون في عهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من أصحابه والمقتصد من تبع أثرهم ولحق بهم من الصحابة والظالم لنفسه غيرهم ، وقيل : الظالم من غلبت عليه السيئة والمقتصد المتوسط حالا والسابق هو المقرب إلى الله السابق في الدرجات .

وهناك أقوال متفرقة أخر تركنا إيرادها ولو ضربت الاحتمالات بعضها في بعض جاوز الألف .

قوله تعالى : {جنات عدن يدخلونها يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير} التحلية هي التزيين والأساور جمع أسورة وهي جمع سوار بكسر السين قال الراغب : سوار المرأة معرب وأصله دستواره . انتهى .

وقوله : {جنات عدن} إلخ .

ظاهره أنه بيان للفضل الكبير قال في المجمع : هذا تفسير للفضل كأنه قيل : ما ذلك الفضل؟ فقال : هي جنات أي جزاء جنات أو دخول جنات ويجوز أن يكون بدلا من الفضل كأنه قال : ذلك دخول جنات . انتهى .

والباقي ظاهر .

قوله تعالى : {وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور} قيل : المراد بالحزن الذي يحمدون الله على إذهابه بإدخالهم الجنة الحزن الذي كان يتوجه إليهم في الحياة الدنيا وما يحف بها من الشدائد والنوائب .

وقيل : المراد به الحزن الذي كان قد أحاط بهم بعد الارتحال من الدنيا ، وقيل الدخول في جنة الآخرة إشفاقا مما اكتسبوه من السيئات .

وعلى هذا فالقول قول الظالم لنفسه منهم أو قوله وقول المقتصد وأما السابق بالخيرات منهم فلا سيئة في صحيفة أعماله حتى يعذب بها .

وهذا الوجه أنسب لقولهم في آخر حمدهم : {إن ربنا لغفور شكور} .

قوله تعالى : {الذي أحلنا دار المقامة من فضله لا يمسنا فيها نصب ولا يمسنا فيها لغوب} المقامة الإقامة ، ودار المقامة المنزل الذي لا خروج منه ولا تحول .

والنصب بفتحتين التعب والمشقة ، واللغوب بضم اللام : العي والتعب في طلب المعاش وغيره .

والمعنى : الذي جعلنا حالين في دار الخلود من فضله من غير استحقاق منا عليه لا يمسنا في هذه الدار وهي الجنة مشقة وتعب ولا يمسنا فيها عي ولا كلال في طلب ما نريد أي إن لنا فيها ما نشاء .

وفي قوله : {من فضله} مناسبة خاصة مع قوله السابق : {ذلك هو الفضل الكبير} .

 

_______________

1- الميزان ، الطباطبائي ، ج17 ، ص35-40 .

 

تفسير الامثل

- ذكر الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذه الآيات (1) :

 

التجارة المربحة مع الله :

بعد أن أشارت الآيات السابقة إلى مرتبة الخوف والخشية عند العلماء ، تشير الآيات مورد البحث إلى مرتبة «الأمل والرجاء» عندهم أيضاً ، إذ أنّ الإنسان بهذين الجناحين ـ فقط ـ يمكنه أن يحلّق في سماء السعادة ، ويطوي سبيل تكامله ، يقول تعالى أوّلا : {إنّ الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا ممّا رزقناهم سرّاً وعلانية يرجون تجارةً لن تبور} (2) .

بديهي أنّ «التلاوة» هنا لا تعني مجرّد القراءة السطحية الخالية من التفكّر والتأمّل ، بل قراءة تكون سبباً وباعثاً على التفكّر ، الذي يكون بدوره باعثاً على العمل الصالح ، الذي يربط الإنسان بالله من جهة ، ومظهر ذلك الصلاة ، ويربطه بخلق الله من جهة ثانية ، ومظهر ذلك الإنفاق من كلّ ما تفضّل به الله تعالى على الإنسان ، من علمه ، من ماله وثروته ونفوذه ، من فكره الخلاّق ، من أخلاقه وتجاربه ، من جميع ما وهبه الله .

هذا الإنفاق تارةً يكون (سرّاً) ، فيكون دليلا على الإخلاص الكامل . وتارةً يكون (علانية) فيكون تعظيماً لشعائر الله ودافعاً للآخرين على سلوك هذا الطريق .

ومع الإلتفات إلى ما ورد في هذه الآية والآية السابقة نستنتج أنّ العلماء حقّاً هم الذين يتّصفون بالصفات التالية :

* قلوبهم مليئة بالخشية والخوف من الله المقترن بتعظيمه تعالى .

* ألسنتهم تلهج بذكر الله وتلاوة آياته .

* يصلّون ويعبدون الله .

* ينفقون في السرّ والعلانية ممّا عندهم .

* وأخيراً ومن حيث الأهداف ، فإنّ اُفق تفكيرهم سام إلى درجة أنّهم أخرجوا من قلوبهم هذه الدنيا الماديّة الزائلة ، ويتأمّلون ربحاً من تجارتهم الوافرة . . الربح مع الله وحده ، لأنّ اليد التي تمتدّ إليه لا تخيب أبداً .

والجدير بالملاحظة أيضاً أنّ «تبور» من «البوار» وهو فرط الكساد ، ولمّا كان فرط الكساد يؤدّي إلى الفساد كما قيل «كسد حتّى فسد» عُبّر بالبوار عن الهلاك ، وبذا فإنّ «التجارة الخالية من البوار» تجارة خالية من الكساد والفساد .

ورد في حديث رائع أنّه جاء رجل إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال : يا رسول الله ، ما لي لا أحبّ الموت؟  قال : «ألك مال» قال : نعم . قال : «فقدّمه» قال : لا أستطيع . قال : «فإنّ قلب الرجل مع ماله ، إن قدّمه أحبّ أن يلحق به ، وإن أخّره أحبّ أن يتأخّر معه» (3) .

إنّ هذا الحديث في الحقيقة يعكس روح الآية أعلاه ، لأنّ الآية تقول إنّ الذين يقيمون الصلاة ، وينفقون في سبيل الله لهم أمل وتعلّق بدار الآخرة ، لأنّهم أرسلوا الخيرات قبلهم ولهم الميل للحوق به .

الآية الأخيرة من هذه الآيات ، توضّح هدف هؤلاء المؤمنين الصادقين فتقول : انّهم يعملون الخيرات والصالحات {ليوفّيهم اُجورهم ويزيدهم من فضله إنّه غفور شكور} (4) .

هذه الجملة في الحقيقة تشير منتهى إخلاصهم ، لأنّهم لا ينظرون إلاّ إلى الأجر الإلهي ، أي شيء يريدونه من الله يطلبونه ، ولا يقصدون به الرياء والتظاهر وتوقّع الثناء من هذا ومن ذاك ، إذ أنّ أهمّ قضيّة في الأعمال الصالحة هي «النيّة الخالصة» .

التعبير بـ «اُجور» في الحقيقة لطف من الله ، فكأنّ العباد يطلبون من الله مقابل أعمالهم أجراً !! في حال أنّ كلّ ما يملكه العباد منه تعالى ، حتّى القدرة على إنجاز الأعمال الصالحة أيضاً هو الذي أعطاهم إيّاها .

وألطف من هذا التعبير قوله (ويزيدهم من فضله) الذي يبشّرهم بأنّه علاوة على الثواب الذي يكون عادةً على الأعمال والذي يكون مئات أو آلاف الأضعاف المضاعفة للعمل ، فإنّه يزيدهم من فضله ، ويعطيهم من سعة فضله ما لم يخطر على بال ، وما لا يملك أحد في هذه الدنيا القدرة على تصوره .

جاء في حديث عن ابن مسعود عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال في قوله : (ويزيدهم من فضله) : هو الشفاعة لمن وجبت له النار ممّن صنع إليه معروفاً في الدنيا (5) .

وبذا فإنّهم ليسوا فقط من أهل النجاة ، بل إنّهم يكونون سبباً في نجاة الآخرين بفضل الله ولطفه .

وقال بعض المفسّرين بأنّ جملة : {ويزيدهم من فضله} إشارة إلى مقام «الشهود» الذي يكون للمؤمنين في يوم القيامة بأن يمكّنهم الله من النظر إلى جماله وجلاله والإلتذاذ من ذلك بأعظم اللذّات . ولكن يظهر أنّ الجملة المذكورة لها معنى واسع وشامل بحيث يشمل محتوى الحديث المذكور وعطايا ومواهب اُخرى غير معروفة أيضاً .

جملة {إنّه غفور شكور} تدلّل على أنّ أوّل لطف الله معهم ، هو «العفو» عن ذنوبهم وزلاّتهم التي تبدر منهم أحياناً ، لأنّ أشدّ قلق المؤمن يكون من هذا الجانب .

وبعد أن يهدأ بالهم من تلك الجهة ، فانّه تعالى يشملهم بـ «الشكر» أي انّه يشكر لهم أعمالهم ويعطيهم أفضل الجزاء والثواب .

نقل تفسير «مجمع البيان» مثلا تضربه العرب وهو «أشكر من بروقة» وتزعم العرب أنّها ـ أي بروقة ـ شجرة عارية من الورق ، تغيم السماء فوقها فتخضر وتورق من غير مطر (6) . وهو مثل يضرب للتعبير عن منتهى الشكر ، ففي قبال أقل الخدمات ، يُقدّم أعظم الثواب . بديهي أنّ خالق مثل هذه الشجرة أشكر منها وأرحم .

 

وقوله تعالى : { وَالَّذِي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَبِ هُو الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31) ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَبَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللهِ ذَلِكَ هُو الْفَضْلُ الْكَبِيرُ}

 

الورثة الحقيقيّون لميراث الأنبياء :

بعد أن كان الحديث في الآيات السابقة عن المؤمنين المخلصين الذين يتلون الكتاب الإلهي ويطبّقون وصاياه ، تتحدّث هذه الآيات عن ذلك الكتاب السماوي وأدلّة حقّانيّته ، وكذلك عن الحملة الحقيقيين لذلك الكتاب ، وبذا يستكمل الحديث الذي إفتتحته الآيات السابقة حول التوحيد ، بالبحث الذي تثيره هذه الآيات حول النبوّة .

تقول الآية الكريمة : {والذي أوحينا إليك من الكتاب هو الحقّ} .

مع الأخذ بنظر الإعتبار أنّ (الحقّ) يعني كلّ ما ينطبق مع الواقع وينسجم معه ، فإنّ هذا التعبير دليل على إثبات أنّ هذا الكتاب السماوي نازل من الله تعالى ، لأنّنا كلّما دقّقنا النظر في هذا الكتاب السماوي وجدناه أكثر إنسجاماً مع الواقع .

فليس فيه تناقض ، أو كذب أو خرافة ، بل فمبادئه ومعارفه تنسجم مع منطق العقل . قصصه وتواريخه منزّهة عن الأساطير والخرافات ، وقوانينه تتساوق مع إحتياجات البشر ، فتلك الحقّانية دليل واضح على أنّه نازل من الله سبحانه وتعالى .

هنا ولأجل توضيح موقع القرآن الكريم ، تمّت الإستفادة هنا من كلمة «الحقّ» ، في حال أنّه في آيات اُخرى من القرآن الكريم ورد التعبير عنه بـ «النور» و«البرهان» و«الفرقان» و«الذكر» و«الموعظة» و«الهدى» ، وكلّ واحدة منها تشير إلى واحدة من بركات القرآن وأبعاده ، بينما كلمة (الحقّ) تشمل جميع تلك البركات .

يقول الراغب في (مفرداته) : أصل الحقّ المطابقة والموافقة ، والحقّ يقال على أوجه :

الأوّل : يقال لمن يوجد الشيء على أساس الحكمة ، ولهذا قيل في الله تعالى هو الحقّ ، لذا قال الله : {فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ } [يونس : 32] .

الثّاني : يقال للشيء الذي وُجد بحسب مقتضى الحكمة ، ولهذا يقال فِعلُ الله تعالى كلّه حقّ ، قال تعالى : { مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ} [يونس : 5] أي الشمس والقمر وغير ذلك .

الثّالث : في العقائد المطابقة للواقع . قال تعالى : {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ} [البقرة : 213] .

والرّابع : يقال للأقوال والأفعال الصادر وفقاً لما يجب ، وبقدر ما يجب ، وفي الوقت المقرّر ، كقولنا : فعلك حقّ ، وقولك حقّ(7) .

وبناءً عليه ، فإنّ حقّانية القرآن المجيد هي من حيث كونه حديثاً مطابقاً للمصالح والواقعيات من جهة ، كما أنّ العقائد والمعارف الموجودة فيه تنسجم مع الواقع من جهة اُخرى ، ومن جهة ثالثة فإنّه من نسج الله وصنعه الذي صنعه على أساس الحكمة ، والله ذاته تعالى الذي هو الحقّ يتجلّى في ذلك الكتاب العظيم ، والعقل يصدق ويؤمن بما هو حقّ .

جملة (مصدّقاً لما بين يديه) دليل آخر على صدق هذا الكتاب السماوي ، لأنّه ينسجم مع الدلائل المذكورة في الكتب السماوية السابقة في إشارتها إليه وإلى حامله (صلى الله عليه وآله وسلم) .

جملة (إنّ الله بعباده لخبير بصير) توضّح علّة حقّانية القرآن وإنسجامه مع الواقع والحاجات البشرية ، لأنّه نازل من الله سبحانه وتعالى الذي يعرف عباده خير معرفة ، وهو البصير الخبير فيما يتعلّق بحاجاتهم .

لكن ما هو الفرق بين «الخبير» و«البصير» ؟

قال البعض : «الخبير» العالم بالبواطن والعقائد والنيّات والبُعد الروحي في الإنسان ، و«البصير» العالم بالظواهر والبعد الجسماني للإنسان .

وقال آخرون : «الخبير» إشارة إلى أصل خلق الإنسان ، و«البصير» إشارة إلى أعماله وأفعاله .

وطبيعي أنّ التّفسير الأوّل يبدو أنسب وإن كان شمول الآية لكلا المعنيين ليس مستبعداً .

الآية التّالية تتحدّث في موضوع مهم بالنسبة إلى حملة هذا الكتاب السماوي العظيم ، اُولئك الذين رفعوا مشعل القرآن الكريم بعد نزوله على الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) ، في زمانه وبعده على مرّ القرون والعصور ، وهم يحفظونه ويحرسونه ، فتقول : {ثمّ أورثنا للكتاب الذين اصطفينا من عباده} .

واضح أنّ المقصود من «الكتاب» هنا ، هو نفس ما ذكر في الآية السابقة وهو «القرآن الكريم» والألف واللام فيه «للعهد» . والقول بأنّ المراد هو الإشارة للكتب السماوية ، وأنّ اللام هنا «للجنس» يبدو بعيد الإحتمال ، وليس فيه تناسب مع ما ورد في الآيات السابقة .

التعبير بـ «الإرث» هنا وفي موارد اُخرى مشابهة في القرآن الكريم ، لأجل أنّ «الإرث» يطلق على ما يستحصل بلا مشقّة أو جهد ، والله سبحانه وتعالى أنزل هذا الكتاب السماوي العظيم للمسلمين هكذا بلا مشقّة أو جهد .

لقد وردت روايات كثيرة هنا من أهل البيت (عليهم السلام) في تفسير عبارة (الذين اصطفينا) بالأئمّة المعصومين (عليهم السلام) (8) .

هذه الروايات ـ كما ذكرنا مراراً ـ ذكر لمصاديق واضحة وفي الدرجة الاُولى . ولكن لا مانع من إعتبار العلماء والمفكّرين في الاُمّة ، والصلحاء والشهداء ، الذين سعوا واجتهدوا في طريق حفظ هذا الكتاب السماوي ، والمداومة على تطبيق أوامره ونواهيه ، تحت عنوان {الذين اصطفينا من عبادنا} .

ثمّ تنتقل الآية إلى تقسيم مهمّ بهذا الخصوص ، فتقول : {فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير} .

ظاهر الآية هو أنّ هذه المجاميع الثلاثة هي من بين {الذين اصطفينا} أي : ورثة وحملة الكتاب السماوي .

وبتعبير أوضح ، إنّ الله سبحانه وتعالى قد أوكل مهمّة حفظ هذا الكتاب السماوي ، بعد الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى هذه الاُمّة ، الاُمّة التي إصطفاها الله سبحانه ، غير أنّ في تلك الاُمّة مجاميع مختلفة : بعضهم قصّروا في وظيفتهم العظيمة في حفظ هذا الكتاب والعمل بأحكامه ، وفي الحقيقة ظلموا أنفسهم ، وهم مصداق (ظالم لنفسه) .

ومجموعة اُخرى ، أدّت وظيفتها في الحفظ والعمل بالأحكام إلى حدّ كبير ، وإن كان عملها لا يخلو من بعض الزلاّت والتقصيرات أيضاً ، وهؤلاء مصداق «مقتصد» .

وأخيراً مجموعة ممتازة ، أنجزت وظائفها العظيمة بأحسن وجه ، وسبقوا الجميع في ميدان الإستباق ، والذين أشارت إليهم الآية بقولها : (سابق بالخيرات بإذن الله) .

وهنا يمكن أن يقال بأنّ وجود المجموعة «الظالمة» ينافي أنّ هؤلاء جميعاً مشمولون بقوله «اصطفينا» ؟

وفي الجواب نقول : إنّ هذا شبيه بما ورد بالنسبة إلى بني إسرائيل في الآية (53) من سورة المؤمن : {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ } [غافر : 53] ، في حال أنّنا نعلم أنّ بني إسرائيل جميعهم لم يؤدّوا وظيفتهم إزاء هذا الميراث العظيم .

أو نظير ما ورد في الآية (110) من سورة آل عمران : {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران : 110] .

أو ما ورد في الآية (16) من سورة الجاثية بخصوص بني إسرائيل أيضاً {وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} [الجاثية : 16] .

وكذلك في الآية (26) من سورة الحديد نقرأ : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ } [الحديد : 26] .

وخلاصة القول : إنّ الإشارة في أمثال هذه التعبيرات ليست للاُمّة بأجمعها فرداً فرداً ، بل إلى مجموع الاُمّة ، وإن احتوت على طبقات ، ومجموعات مختلفة (9) .

وقد ورد في روايات كثيرة عن أهل بيت العصمة (عليهم السلام) في تفسير «سابق بالخيرات» بالمعصوم (عليه السلام) ، و«ظالم لنفسه» بمن لا يعرف الإمام ، و«المقتصد» العارف بالإمام (10) .

هذه التّفسيرات شاهد واضح على ما إخترناه لتفسير الآية ، وهو أنّه لا مانع من كون هذه المجاميع الثلاثة ضمن ورثة الكتاب الإلهي .

ولا نحتاج إلى التذكير بأنّ تفسير الروايات أعلاه هومن قبيل بيان المصاديق الأوضح للآية ، وهم الأئمّة المعصومون ، إذ هم الصفّ الأوّل ، بينما العلماء والمفكّرون وحماة الدين الآخرون في صفوف اُخرى .

كذلك فإنّ التّفسير الوارد في تلك الروايات للظالم والمقتصد ، هو أيضاً من قبيل بيان المصاديق ، وإذا لاحظنا أنّ بعض الرّوايات تنفي شمول الآية للعلماء في مقصودها فإنّ ذلك في الحقيقة لإلفات النظر إلى وجود الإمام في مقدّمة تلك الصفوف .

ومن الجدير بالذكر أنّ جمعاً من المفسّرين القدماء والمعاصرين احتملوا الكثير من الإحتمالات في تفسير هذه المجاميع ، والتي هي في الحقيقة جميعاً من قبيل بيان المصاديق (11) .

وهنا يطرح السؤال التالي : لماذا ابتدأ الحديث بذكر الظالمين كمجموعة اُولى ، ثمّ المقتصد ، ثمّ السابقين بالخيرات ، في حين أنّ العكس يبدو أولى من عدّة جهات؟

بعض كبار المفسّرين قالوا للإجابة على هذا السؤال : إنّ الهدف هوبيان ترتيب مقامات البشر في سلسلة التكامل ، لأنّ أوّل المراحل هي مرحلة العصيان والغفلة ، وبعدها مقام التوبة والإنابة ، وأخيراً التوجّه والإقتراب من الله سبحانه وتعالى ، فحين تصدر المعصية من الإنسان فهو «ظالم لنفسه» ، وحين يلج مقام التوبة فهو «مقتصد» ، وحين تقبل توبته ويزداد جهاده في طريق الحقّ ، ينتقل إلى مقام القرب ليرقى إلى مقام «السابقين بالخيرات» (12) .

وقال آخر : بأنّ هذا الترتيب لأجل الكثرة والقلّة في العدد والمقدار ، فالظالمون يشكّلون الأكثرية ، والمقتصدون في المرتبة التالية ، والسابقون للخيرات وهم الخاصّة والأولياء من الناس هم الأقلّية وان كانوا أفضل من الناحية الكيفيّة .

الملفت للتأمّل ما نقل في حديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال : (ما مؤدّاه) : «قُدّم الظالم لكي لا ييأس من رحمة الله ، وأخّر السابقون بالخيرات لكي لا يأخذهم الغرور بعملهم» (13) .

ويمكن أن يكون كلّ من هذه المعاني الثلاثة مقصوداً .

وآخر كلام في تفسير هذه الآية حول المشار إليه في جملة {ذلك هو الفضل الكبير} ؟

قال البعض ، بأنّه ميراث الكتاب الإلهي ، وقال آخرون بأنّه إشارة إلى التوفيق التي شمل حال السابقين بالخيرات ، وطيّهم لهذا الطريق بإذن الله ، لكن يبدو أنّ المعنى الأوّل أنسب وأكثر إنسجاماً مع ظاهر الآية .

 

وقوله تعالى : {جَنَّتُ عَدْن يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَب وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِى أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ لاَ يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلاَ يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ

 

الحمد لله الذي أذهب عنّا الحزن :

هذه الآيات في الحقيقة نتيجة لما ورد ذكره في الآيات الماضية ، يقول تعالى : {جنّات عدن يدخلونها} (14) .

«جنّات» جمع «جنّة» بمعنى (الروضة) وكلّ بستان ذي شجر يستر بأشجاره الأرض .

و«عدن» بمعنى الإستقرار والثبات ، ومنه سمّي المعدن لأنّه مستقر الجواهر والمعادن . وعليه فإنّ «جنّات عدن» بمعنى «جنّات الخلد والدوام والإستقرار» .

على كلّ حال فإنّ هذا التعبير يشير إلى أنّ نعم الجنّة العظيمة خالدة وثابتة ، وليست كنعم الدنيا ممزوجة بالقلق الناجم عن زوالها وعدم دوامها ، وأهل الجنّة ليست لهم جنّة واحدة ، بل جنّات متعدّدة تحت تصرّفهم .

ثمّ تشير الآية إلى ثلاثة أنواع من نعم الجنّة ، بعضها إشارة إلى جانب مادّي وبعضها الآخر إلى جانب معنوي وباطني ، وبعض أيضاً يشير إلى عدم وجود أي نوع من المعوّقات ، فتقول الآية : {يحلّون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤاً ولباسهم فيها حرير} .

فهؤلاء لم يلتفتوا في هذه الدنيا إلى بريقها وزخرفها ، ولم يجعلوا أنفسهم أسرى لزبرجها ، ولم يكونوا أسرى التفكير باللباس الفاخر ، والله سبحانه وتعالى يعوّضهم عن كلّ ذلك ، فيلبسهم في الآخرة أفخر الثياب .

هؤلاء زيّنوا حياتهم الدنيا بالخيرات ، فزيّنهم الله سبحانه وتعالى في يوم تجسّد الأعمال يوم القيامة بأنواع الزينة .

لقد قلنا مراراً بأنّ الألفاظ التي وضعت لهذا العالم المحدود لا يمكنها أن توضّح مفاهيم ومفردات عالم القيامة العظيم ، فلأجل بيان نِعم ذلك العالم الآخر نحتاج إلى حروف اُخرى وثقافة اُخرى وقاموس آخر ، على أيّة حال ، فلأجل توضيح صورة وإن كانت باهتة عن النعم العظيمة في ذلك العالم لابدّ لنا أن نستعين بهذه الألفاظ العاجزة .

بعد ذكر تلك النعمة الماديّة ، تنتقل الآية مشيرة إلى نعمة معنوية خاصّة فتقول : {وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنّا الحزن} .

فهؤلاء يحمدون الله بعد أن أصبحت تلك النعمة العظيمة من نصيبهم ، وتلاشت عن حياتهم جميع عوامل الغمّ والحسرة ببركة اللطف الإلهي ، وتبدّدت سحب الهمّ المظلمة عن سماء أرواحهم ، فلا خوف من عذاب إلهي ، ولا وحشة من موت وفناء ، ولا قلق ، ولا أذى الماكرين ، ولا إضطهاد الجبابرة القساة الغاصبين .

اعتبر بعض المفسّرين ذلك الغمّ والحسرة إشارة إلى نظير ما يتعرّض له في الدنيا ، واعتبره البعض الآخر إشارة إلى الحسرة في المحشر على نتائج أعمالهم ، ولا تضادّ بين هذين التّفسيرين ، ويمكن جمعهما في إطار المفهوم العام للآية .

«الحزن» : (على وزن عدم) ، و«الحزن» ـ على وزن عُسر ـ كليهما لمعنىً واحد كما ذهب إليه أرباب اللغة ، وأصله الوعورة والخشونة في الأرض واطلق على الخشونة في النفس لما يحصل فيها من الغمّ ويضادّه الفرح (15) .

ثمّ يضيف أهل الجنّة هؤلاء {إنّ ربّنا لغفور شكور} .

فبغفرانه أزال عنّا حسرة الزلاّت والذنوب ، وبشكره وهبنا المواهب الخالدة التي لن يلقى عليها الغمّ بظلاله المشؤومة . غفر وستر بغفرانه الكثير الكثير من ذنوبنا ، وبشكره أعطانا الكثير الكثير على أعمالنا البسيطة القليلة القليلة !

أخيراً تنتقل الآية مشيرة إلى آخر النعم ، وهي عدم وجود عوامل الإزعاج والمشقّة والتعب والعذاب ، فتحكي عن ألسنتهم {الذي أحلّنا دار المقامة من فضله لا يمسّنا فيها نصب ولا يمسّنا فيها لغوب} .

الدار الآخرة هناك دار إقامة لا كما في الدنيا حيث أنّ الإنسان ما أن يألف محيطه ويتعلّق به حتّى يقرع له جرس الرحيل!  هذا من جانب . . ومن جانب آخر فمع أنّ العمر هناك متّصل بالأبد ، إلاّ أنّ الإنسان لا يصيبه الملل أو الكلل ، أو التعب أو النصب مطلقاً ، لأنّهم في كلّ آن أمام نعمة جديدة ، وجمال جديد .

«النصب» بمعنى التعب ، و«اللغوب» بمعنى التعب والنصب أيضاً . هذا على ما تعارف عليه أهل اللغة والتّفسير ، في حين أنّ البعض فرّق بين اللفظتين فقال بأنّ (النصب) يطلق على المشاقّ الجسمانية ، و«اللغوب» يطلق على المشاقّ الروحية (16) . أو أنّه الضعف والنحول الناجم عن المشقّة والألم ، وبذا يكون «اللغوب» ناجماً عن «النصب» (17) .

وبذا فلا وجود هناك لعوامل التعب والمشقّة ، سواء كانت نفسية أو جسمانية .

______________

1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج11 ، ص64-77 .

2 ـ يلاحظ أنّ «يرجون» خبر «أنّ» .

3 ـ مجمع البيان ، ج4 ، ص407 .

4 ـ جملة «ليوفّيهم» إمّا أنّها متعلّقة بجملة «يتلون كتاب الله . . .» وعليه يكون معناها «إنّ هدفهم من التلاوة والصلاة والإنفاق الحصول على الأجر الإلهي» أو أنّها متعلّقة بـ «لن تبور . . .» وبذا يكون معناها «إنّ تجارتهم لن يصيبها الفساد لأنّ المثيب لهم هو الله تعالى» .

5 ـ مجمع البيان ، ج4 ، ص407 .

6 ـ مجمع البيان ، ج 4 ، ص 407 .

4 ـ مفردات الراغب ـ مادّة حقّ . «مع تلخيص وإختصار» .

8 ـ راجع تفسير نور الثقلين ، المجلّد 4 ، صفحة 361 .

9 ـ أمّا ما احتمله البعض من أنّ التقسيم الوارد في الآية يعود على «عبادنا» وليس على «الذين اصطفينا» ، بحيث أنّ هذه المجموعات الثلاثة لا تدخل ضمن مفهوم ورثة الكتاب ، بل ضمن مفهوم «عبادنا» و«الذين اصطفينا» فقط المجموعة الثالثة أي «السابقين بالخيرات» ، فيبدو بعيداً ، لأنّ الظاهر هو أنّ هذه المجموعات ممّن ذكرتهم الآية ، ونعلم أنّ الحديث في الآية لم يكن عن كلّ العباد ، بل عن (الذين اصطفينا) ، ناهيك عن إضافة «نا» إلى «عباد» وهو نوع من التمجيد والمدح ، ممّا يجعل ذلك غير منسجم مع التّفسير المذكور .

10 ـ راجع تفسير نور الثقلين ، المجلّد 4 ، صفحة 361 ، كذلك الكافي ، المجلّد 1 ، باب من إصطفاه الله من عباده .

11 ـ ذهب بعض بأنّ السابق بالخيرات هم أعوان الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والمقتصد طبقة التابعين ، والظالم لنفسه أفراداً آخرون .

والبعض الآخر فسّروا «سابق بالخيرات» بالذين يفضّل باطنهم على ظاهرهم و«المقتصد» بالذين يتساوى ظاهرهم وباطنهم ، و«الظالم لنفسه» بالذين يفضّل ظاهرهم على باطنهم .

والبعض الآخر قالوا إنّ «السابقين» هم الصحابة ، و«المقتصدين» هم تابعيهم ، و«الظالمين» هم المنافقون .

وقال آخرون بأنّ الآية تشير إلى المجموعات الثلاثة الواردة في سورة الواقعة ـ الآيات 7 إلى 11 . (وكنتم أزواجاً ثلاثة فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة وأصحاب المشئمة ما أصحاب المشئمة والسابقون السابقون اُولئك المقرّبون) .

وفي حديث أنّ «السابق بالخيرات» هم الأئمّة علي والحسن والحسين وشهداء آل محمّد عليهم الصلاة والسلام ، والمقتصد المتديّنون المجاهدون ، والظالم لنفسه الذي خلط عملا صالحاً وآخر غير صالح .

وكلّ هذه التّفسيرات كما قلنا من قبيل بيان المصاديق ، وكلّها قابلة للتعقّل ، عدا التّفسير الأوّل الذي لا يحتوي على مفهوم صحيح .

12 ـ مجمع البيان ، تفسير الآية مورد البحث .

13 ـ تفسير أبوالفتوح الرازي ، المجلّد 9 تفسير الآيات مورد البحث .

14 ـ «جنّات عدن» : يمكن أن تكون خبراً لمبتدأ محذوف تقديره «جزائهم» أو «اُولئك لهم جنّات عدن» ، نظير الآية (31 ـ سورة الكهف) بعضهم أيضاً قال : إنّها (بدل) عن «الفضل الكبير» ، ولكن باعتبار أنّ «الفضل الكبير» إشارة إلى ميراث الكتاب السماوي ، فلا يمكن أن تكون «جنّات» بدلا عنها ، إلاّ إذا اعتبرنا المسبّب في مقام السبب .

15 ـ مفردات الراغب .

16 ـ اُنظر تفسير روح المعاني ، مجلّد 22 ، صفحة 184 .

17 ـ المصدر السابق .




وهو تفسير الآيات القرآنية على أساس الترتيب الزماني للآيات ، واعتبار الهجرة حدّاً زمنيّاً فاصلاً بين مرحلتين ، فكلُّ آيةٍ نزلت قبل الهجرة تُعتبر مكّيّة ، وكلّ آيةٍ نزلت بعد الهجرة فهي مدنيّة وإن كان مكان نزولها (مكّة) ، كالآيات التي نزلت على النبي حين كان في مكّة وقت الفتح ، فالمقياس هو الناحية الزمنيّة لا المكانيّة .

- المحكم هو الآيات التي معناها المقصود واضح لا يشتبه بالمعنى غير المقصود ، فيجب الايمان بمثل هذه الآيات والعمل بها.
- المتشابه هو الآيات التي لا تقصد ظواهرها ، ومعناها الحقيقي الذي يعبر عنه بـ«التأويل» لا يعلمه الا الله تعالى فيجب الايمان بمثل هذه الآيات ولكن لا يعمل بها.

النسخ في اللغة والقاموس هو بمعنى الإزالة والتغيير والتبديل والتحوير وابطال الشي‏ء ورفعه واقامة شي‏ء مقام شي‏ء، فيقال نسخت الشمس الظل : أي ازالته.
وتعريفه هو رفع حكم شرعي سابق بنص شرعي لا حق مع التراخي والزمان بينهما ، أي يكون بين الناسخ والمنسوخ زمن يكون المنسوخ ثابتا وملزما بحيث لو لم يكن النص الناسخ لاستمر العمل بالسابق وكان حكمه قائما .
وباختصار النسخ هو رفع الحكم الشرعي بخطاب قطعي للدلالة ومتأخر عنه أو هو بيان انتهاء امده والنسخ «جائز عقلا وواقع سمعا في شرائع ينسخ اللاحق منها السابق وفي شريعة واحدة» .



جامعة الكفيل تكرم الفائزين بأبحاث طلبة كلية الصيدلة وطب الأسنان
مشروع التكليف الشرعي بنسخته السادسة الورود الفاطمية... أضخم حفل لفتيات كربلاء
ضمن جناح جمعيّة العميد العلميّة والفكريّة المجمع العلمي يعرض إصداراته في معرض تونس الدولي للكتاب
جامعة الكفيل تعقد مؤتمرها الطلابي العلمي الرابع