المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

القرآن الكريم وعلومه
عدد المواضيع في هذا القسم 16676 موضوعاً
تأملات قرآنية
علوم القرآن
الإعجاز القرآني
قصص قرآنية
العقائد في القرآن
التفسير الجامع
آيات الأحكام

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر
من آداب عصر الغيبة: طلب التشرف بلقائه
2024-07-03
ما الفرق بين الأفعال الأخلاقيّة وغيرها؟
2024-07-03
ما الأخلاق؟
2024-07-03
من آداب عصر الغيبة: الزيارة
2024-07-03
صور الرقابة الإدارية
2024-07-03
وسائل الرقابة الإدارية
2024-07-03

الأفعال التي تنصب مفعولين
23-12-2014
صيغ المبالغة
18-02-2015
الجملة الإنشائية وأقسامها
26-03-2015
اولاد الامام الحسين (عليه السلام)
3-04-2015
معاني صيغ الزيادة
17-02-2015
انواع التمور في العراق
27-5-2016


الإعجاز .. من ابعاد القران  
  
3707   06:24 مساءاً   التاريخ: 23-04-2015
المؤلف : الشيخ عبد الشهيد الستراوي
الكتاب أو المصدر : القران نهج وحضارة
الجزء والصفحة : ص94-113.
القسم : القرآن الكريم وعلومه / الإعجاز القرآني / مواضيع إعجازية عامة /

لعل فصاحة القرآن وبلاغته ليست الدلالة الوحيدة على عظمته وإعجازه، بل للقرآن عظمة أخرى، تجلت في تحديه بما جاء به من قيم خالدة، لم يستطع العرب أن يقفوا أمامها، كما وقفوا أمام فصاحة القرآن وبلاغته، لأن هذه القيم كانت ثورة على الأفكار الجاهلية، وتصحيحا لمسار البشرية جمعاء. فلم يكن هذا الكتاب مقتصرا على نوع واحد من التحدي، كما يصوره أكثر من يكتب عن القرآن، وهو التحدي في جانب البلاغة والفصاحة ، وكأنه لا يحتوي غير ذلك من الأعجاز، صحيح أن ذلك هو أحد أنواع التحدي والأعجاز في كتاب اللّه عز وجل. ولكن هناك جوانب أخرى ، ومؤشرات كثيرة تدلل على عظمة وإعجاز القرآن في مواضيع مختلفة، علينا أن لا نهمل تلك الجوانب وهي التي تتمثل في أبعاد هذا الكتاب، فما هي أبعاده ؟

أولا : البعد الثبوتي‏

ليس المقصود بهذا البعد إثبات القرآن من الناحية السندية أو الانتسابية، والى أي مدى يصح نسبة هذا الكتاب إلى اللّه عز وجل، إن القرآن غني عن ذلك لأنه كتاب فريد فلم ترد عليه شبهة، ولم تناله يد التحريف من بين الكتب السماوية {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر : 9] ونحن لسنا بصدد إثبات صدوره ، فهو ثابت بالتواتر من جيل إلى جيل عند المسلمين، ولعل بيان معالمه التي أحدها هو هذا البعد يكفي لإثبات صدوره من اللّه عز وجل خالق الكون.

فهذا البعد في ثبوت القرآن يكمن في عدم تناقض القرآن في ثلاثة أوجه وهي  :

1) لا تناقض مع نفسه.

2) لا تناقض مع العقل.

3) لا تناقض مع الإنسان.

الوجه الأول‏

قد تعرض القرآن الكريم لمختلف الشئون فتوسع فيها بشكل كامل، وقد أعطى كل شأن حقه، فبحث في الإلهيات، وفي نبوة الأنبياء، وبحث في العقائد السابقة، ووضع الأصول لكل التعاليم والأحكام التي يحتاجها البشر من نظم اجتماعية، وقواعد أخلاقية، كما أنه تعرض للفلك والتاريخ وقوانين السلم والحرب، فلم يترك مجالا من المجالات إلا وتطرق إليه على أحسن ما يكون.

يقول الإمام الصادق (عليه السلام) : «ما من أمر يختلف فيه اثنان إلا وله اصل في كتاب اللّه عز وجل ولكن لا تبلغه عقول الرجال».(1)

مع هذه الموضوعات المختلفة في القرآن لم نجد فيه تناقض مع بعضه البعض ولا أدنى اختلاف، وربما قد يستعرض القرآن الحادثة مرة ومرتين، والقصة تتكرر مرات عديدة، وفي كل مرة تجد لها مزية خاصة دون أن تجد أي تهافت أو تدافع.

{ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا } [النساء : 82]

فعدم الاختلاف والثبات هو الطابع الذي يتصف به القرآن، وهو ظاهرة من الظواهر القرآنية في إثبات القيمومة للقرآن حينما لا يكون فيه عوجا، فيكون هذا الكتاب كاملا في نفسه مكمّلا لغيره وقيّما عليه. قال سبحانه وتعالى  : {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1) قَيِّمًا} [الكهف : 1، 2]

فحتى يكون القرآن إماما وقائدا على الناس فلم يجعل له عوجا.

عن الإمام على (عليه السلام)  : «عليكم بالقرآن فاتخذوه إماما وقائدا» (2).

فهو مستقيم في كل جهاته، في ألفاظه ومعانيه، فصيح في تعبيره، بليغ في إيصال فكره، ومصيب في هدايته، في حججه وبراهينه. فيقول سبحانه وتعالى : { ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة : 2] .

«يقول المسيحي الفاضل يا ركزان في الكتب المقدسة ثلاثون ألف غلط والقسيس ميل وكريستياج ينهيانه إلى نيف ومائة ألف غلط وشولزان أغلاطها لا تحصى وفي دائرة المعارف البريطانية والفرنسية أنها مليون غلط وكما يعترف بهذه الأغلاط والاختلافات في الكتب المقدسة كثيرون مثل اكهارن- كيسر- هيس- ديوت- وبزفوش» (3).

كل ذلك بفعل ما عرض عليها من تحريف وتزييف على طول التاريخ فحاشا للّه أن تكون كتبه فيها تناقض، وما ذكرناه لدلالة على عدم وجود التناقض في القرآن بالمقارنة بينه وبين الكتب المقدسة الأخرى التي حرفت بفعل العابثين وأصحاب المصالح، فمن المستحيل عقلا وواقعا كون النقص‏ والتناقض منسوبا إلى اللّه عز وجل، فكما أن القرآن مطبوع بطابع الربانية، كذلك الكتب المقدسة الأخرى التي جاءت من اللّه عبر أنبيائه إلى البشر فهي نقية من كل رواسب ومخلفات التحريف.

أما غير الكتب المقدسة كالنظم البشرية فهي واضحة في قصورها الذاتي لأنها متأثرة بالظروف وبمتغيرات الحياة، وقاصرة عن الإحاطة بجميع الأمور والملابسات، فقد تعالج مشكلة فردية وتخلق مشكلة اجتماعية لا علاج لها، بينما نجد في القرآن مع ما يحمل في طياته من مناهج ورؤى وبصائر للإنسان في الحياة فردا أو مجتمعا التنسيق والتلاؤم والوئام التام دون أي اختلاف أو تناقض بين آياته، فإنها منسقة على نسق واحد لا اختلال فيه، ولا فيما يحمله من معاني في مختلف الحقول.

الوجه الثاني :

العقل له أحكامه الخاصة وقواعده الأساسية التي تدله في أكثر الأحيان على الصواب، ونقصد بالعقل هنا المدرك البعيد عن الهوى والضلالة والانحراف. وبما أن القرآن يعتبره سندا وحجة فينبغي على الإنسان أن يعمل بموجبه.

فإذا كان العقل نور يهدي الإنسان إلى الصواب، وآيات القرآن توجيهات اللّه إليه، وهو خالق العقل وواهبه. فهل يمكن أن يكون تناقضا بينهما؟! العقل نور يميز به الإنسان بين الرشد من الغي، والخير من الشر، والحق من الباطل والممكن من المستحيل، جاء

في الحديث عن النبي (صلى الله عليه واله وسلم) : «العقل عقال‏ من الجهل والنفس مثل أخبث الدواب فإن لم تعقل حارت» (4).

وكتاب اللّه ليس مجرد توجيهات غير مترابطة أو غير متكاملة. فجميع الآيات مكية أو مدنية، محكمة أو متشابهة، ناسخة أو منسوخة، مجملة أو مبينة، لا اختلاف ولا تناقض بينها وبين العقل، لأنه يستحيل أن يكون اختلاف بين خالق العقل في أحسن صوره وكماله وبين العقل.

وهل يعقل أن يدعو اللّه الإنسان للتعرف على وحدانيته، وعلى إثبات النبوة وإرسال الرسل عن طريق العقل ثم يكون مناقضا لها؟

وكيف ترد مجموعة من الآيات في القرآن تشير إلى العقل ثم يكون متناقضا معها. أ ليس هذا هو عين التناقض ؟ مع أن هذه الآيات أشارت إلى عدم وجود ذلك التناقض في القرآن بينه وبين العقل، وقد أشار ربنا إلى ذلك في عدة آيات، بقوله تعالى :

{كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [البقرة : 242] {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ } [البقرة : 269]

{قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} [آل عمران : 118]

{فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ } [المائدة : 100]

{لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة : 164]

{وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [إبراهيم : 52]

{ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الرعد : 19]

{كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [البقرة : 242]

{قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الحديد : 17]

وكثير من الآيات التي وردت بهذه الصيغة، كما وردت الكثير من الأحاديث عن النبي (صلى الله عليه واله وسلم) وأهل بيته (عليه السلام) تشير إلى العقل وأهميته، وأنه الحجة الباطنة التي يحتج بها اللّه على عباده يوم القيامة، وبه يثاب المرء ويعاقب، ولا يتحقق ذلك الثواب ولا العقاب إلا لمن امتلك العقل.

ورد عن الإمام الباقر (عليه السلام) : «لما خلق اللّه العقل استنطقه ثم قال له أقبل فاقبل ثم قال له أدبر فأدبر ثم قال وعزتي وجلالي ما خلقت خلقا أحسن منك ولا أطوع منك ولا أرفع منك ولا أشرف منك ولا أعز منك، إياك آمر وإياك أنهى وإياك أثيب وإياك أعاقب» (5).

والأحاديث كثيرة وحسبنا كتاب اللّه في ذلك، فآياته ناطقة على أهمية العقل ودوره في بيان وحدانيته سبحانه وتعالى واثبات نبوة نبيه. فهل يتناقض ذلك وأصول شرائعه ونظمه وقوانينه التي أرسلها للإنسان مع العقل! حاشا للّه ذلك.

الوجه الثالث :

يقدم القرآن الكريم صورة متكاملة للطبيعة البشرية وما يلائمها، وما لا يتفق معها، ولا يفصل بين أجزائها فيتحدث عنها باعتبارها أجزاء مترابطة. فالإنسان كل متكامل، وما هذه المكونات من الروح والعقل والنفس والجسم تشكل طبيعته، وهي فطرته التي فطر عليها{ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ } [الروم : 30]

هذه الفطرة متى ما نمت نموا سليما، وفي أجواء خاليه من الأمراض الاجتماعية، وبعيدة عن الأهواء يصبح الإنسان بها سليما. وعلى ضوء هذه الفطرة السليمة تصبح متطلبات هذا الإنسان وفق المكونات الأربعة (الروح- العقل- النفس- الجسم) متطابقة مع برامج القرآن الكريم.

وكما أن القرآن كتاب هداية وإرشاد، يقتضي توجيه الإنسان إلى حقيقة يحتاج إلى معرفتها، وهي تذكيره بهوانه وضعفه، فيلفته إلى خلقه من تراب، أو من طين، أو من نطفة ثم علقة، أو من ماء دافق يخرج من بين الصلب والترائب كما في قوله سبحانه وتعالى { فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} [الطارق : 5 - 7] { أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى} [القيامة : 37، 38]

{ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا } [الكهف : 37]

أ ليست هذه هي حقيقة الإنسان ! أو هل زاد القرآن شيئا على هذه الحقيقة أو نقص! وهل هذه الحقيقة تصب في الجانب السلبي ، أم معرفتها تشكل نقطة قوة في شخصية الإنسان. نعم إنها تشكل نقطة قوة في شخصيته.

فحينما يحرص النص القرآني على بيان هذه الحقيقة، فانه يكبح جماح‏ غروره، فلا يتجاوز قدره حتى لا يطغى ولا يستكبر، ويكون التعقل والتبصر هما الميزان بين الخير والشر، لكي يحافظ على إنسانيته كإنسان دون أن يتناقض معها فجاءت أحكامه وقوانينه متفقة ومنسجمة معه، تستوعب كل أبعاده الجسدية والعقلية والعاطفية والروحية سواء الفردية منها أو الاجتماعية في مختلف المجالات والحقول.

يقول الإمام الشيرازي «يلزم أن يكون القانون- ويقصد به الإسلامي- مستوعبا بأن يعطى حوائج الإنسان الجسدية والعقلية والعاطفية سواء منها الحوائج الفردية أو الحوائج الاجتماعية في مختلف أبعاد الإنسان. فلو لم يكن القانون كذلك حصل الاصطدام والتبعثر والانفصام من ناحية والنقص والفراغ من ناحية ثانية. فإن الإنسان مركب له جسد، له حوائجه، وعقل له موازينه وخصوصياته ومزاياه وعاطفة لها شروطها وملائماتها ومنافرتها، فإذا لم يكن القانون بهذا النمو من الاستيعاب والشمول يكون قانونا ناقصا وقانونا مصطدما من غير فرق بين أن يكون القانون في جهة الوضع أو في جهة التطبيق، لأن القانون يلزم أن يراعى فيه أمران :

الأول : القانونية الثاني : التطبيق» (6) هكذا هو حال القرآن الكريم بالنسبة إلى توافقه مع الإنسان . فقوانين القرآن وأنظمته والشرائع التي جاء بها ملبية لحاجات الجسد والروح، ومستوعبة لكل أبعاد حياته.

ثانيا : البعد الزمني

المعارف الحقة والحقائق الثابتة والأصول الأخلاقية والقوانين العملية المتفقة مع فطرة الإنسان، هي حقائق ثابتة لا تتغير مع مرور الزمن، ولا تتحدد بوقت معين. فالمنهج القرآني الذي يمتاز بالوضوح، أحكامه ثابتة لا تؤثر عليها الحركة التطورية بل هو يؤثر فيها، ويصحح مسارها.

«في القرآن الكريم إشارات ولمحات معجزة عن البعد الزمني في الكون تثير الدهشة والتساؤل، ولو تيسر جمعها وتنسيقها وتحليلها عالم طبيعي أو رياضي (مؤمن) وقارنها بنسبية (اينشتاين) التي أدخلت البعد الزمني كبعد جديد ثالث في دراسة الكتلة الكونية لرأى بأم عينه العجب العجاب، ولأدرك يقينا أن هذه الإحاطة الرياضية الشاملة بأبعاد الكون وعدم التقيد بمقاييس الأرض ونسبياتها المحدودة سيما في زمن نزول القرآن حيث علوم الطبيعة والرياضة لا زالت تحبو بعد لم تتجاوز مرحلة طفولتها، وهذه النظرة الكلية التي تطل على الكون ولا تندمج إنما هي جميعا من لدن العليم الخبير الذي أحاط بكل شي‏ء علما» (7).

القرآن كتاب ابدي دائم مع مر العصور والأزمان، لا تطرأ عليه التغيرات، ولا يتطرق إليه البطلان. يقول سبحانه وتعالى : { إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ } [الطارق : 13، 14]. ويتميز بالحق والحق ثابت لا يتغير ولا يختص بزمن دون زمن يقول ربنا في محكم كتابه الكريم‏ {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ} [الإسراء : 105] فهو مشروع دائم لهذا الإنسان ما دام موجودا على الأرض فالقرآن رسالة حق تعكس حقائق الحياة المشهودة والمغيبة المادية والمعنوية، وخط يمتد من الدنيا إلى الآخرة. ويتجاوز المصالح العاجلة إلى المنافع الآجلة.

فهذا البعد الزمني يلعب دورا رئيسيا ليس في خلود وبقاء الرسالة، وإنما في صلاحية أحكامها وقوانينها لكل عصر، فكلما تقدم الزمن اكتشفنا إننا بحاجة إليها.

كلما تقدم الزمن وتقدم العلم وتقدم الإنسان ازدادت حاجته إلى القرآن أكثر فاكثر. فتعقد الحياة، وزيادة العلاقات الإنسانية نتيجة التقدم العلمي، لم يغير من القرآن شيئا، فهو مهيمن من غير فرق بين عصر العلم والتقدم أو عصر البداوة.

وكلما تباعد الزمن لا يشعر الجيل الحاضر بأن هناك انفصال أو انقطاع عن الجيل الماضي، إذا اعتمد القرآن همزة الوصل، لأن وجود القرآن بينهم يعني أن هناك تواصلا زمنيا، فالجيل القادم يواصل نفس المسيرة التي بدأها الجيل الماضي بإبداع وتطوير، تاركا آثار وبصمات القرآن على ذلك الإبداع والتطوير كما أن ذلك يعنى أن هذا الجيل يختزل التجارب ويختصر المسافة، ويطوي الزمن بما حققه الجيل الماضي، حيث يستفيد منه دون أن يبقى عليه متحجرا دون تطويره.

والتواصل الزمني بين الأجيال أي أن يكون القرآن كحلقة الوصل بين جيل وجيل آخر، والامتداد للحضارة الإسلامية عبر الزمن، فلا يكون هناك مجالا للانقطاع بين الأجيال فتحدث الفجوة والفراغ بينها، فيكون الضياع والانحراف والتيه.

قال ربنا سبحانه وتعالى : {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا } [طه : 124]

والانقطاع والفجوة التي خلفتها الأمة بابتعادها عن القرآن فترة زمنية أي عن مصدر ثقافتها في الحياة في هذا الكون لكفيلة بتشويش الرؤية، وعدم وضوحها حول المستقبل.

وهنا سؤل يراود الذهن لما ذا تأخر وتخلف المسلمون عن ركب الحضارة العالمي مع ما وصلوا إليه؟ فالحركة التي قادها النبي (صلى الله عليه واله وسلم) ودوره القيادي في إعلاء شأن الأمة من حالة التردي إلى حالة السمو والرفعة، جعلت منهم سادة العالم حينما ساروا على نهج تلك الحركة، واتبعوا قيادة النبي، والتزموا بتعاليم القرآن. ولكن عند ما تخلت هذه الأمة عن أصالتها، تاركة مبادئها وقيمها وراء ظهرها بعد رحيل قائد الحركة، حدثت الانعطافة التاريخية التي أدت بالرجوع إلى مسافات زمنية إلى الوراء بدلا من اختصار الزمن إلى الأمام.

فأدّت بها إلى النزول عن قمة الهرم التي وصل إليها النبي (صلى الله عليه واله وسلم)، وهكذا كانت انتكاسات وانتصارات تأرجح المسلمون عبر الزمن فيها. أما الانتصارات فهي عامل إيجابي للأجيال القادمة تؤدى به إلى الإبداع والتطوير، وأما الانتكاسات فهي عامل سلبي، ولكن يمكن للجيل القادم أن يقوم بدراسة خلفية تلك الانتكاسات، وعوامل الخطأ، والدروس والعبر، ولم تكن تلك القصص التاريخية التي وردت في القرآن، والتي تشكل ثلثه إلا لاختصار المسافة الزمنية، ولتمكن الأجيال المتعاقبة من تفادي الأخطاء التي وقع فيها السابقون.

ثالثا : البعد الكمالي

الإنسان والأمة، الفرد والدولة، الشريعة والمكلف، المنهج الأخلاقي‏ والمجتمع، مفردات تناولها القرآن بدقة تامة وشمولية واسعة. ولأن القرآن يهدى إلى الحق والى الصراط المستقيم فلا بد أن يكون قد احتوى كل شي‏ء حتى لا تلتبس الأمور على الإنسان في الحياة، ويبقى في حيرة من أمره، كي يسترشد ويهتدي إليه عبر طريق القرآن، فكانت تلك النظرة الواقعية والشمولية للكون والإنسان، قد بينها ربنا سبحانه وتعالى بقوله : {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ } [النحل : 89]

لأن نظرة المبادئ والقوانين الأرضية الموضوعة من قبل الإنسان نظرة أحادية. فهي تنظر من بعد واحد وزاوية واحدة، فهي لا تستطيع أن تحقق طموح الإنسان، لأنها لا تستطيع أن تستوعب حقائق الكون لضيق أفقها، ومحدودية تفكيرها، فان العقل مهما كان فإنه متأثر بخصوصيات الزمان والمكان والتقليد، ومثل هذا العقل لا يستطيع أن يستوعب الحقائق.

كما أن هذه المبادئ تعطى رؤية غير مسئولة وغير متكاملة، بينما القرآن يعطى الرؤية المسئولة يحمّل الناس المسئولية عن واقعهم ومجتمعهم بعد أن أرشدهم، وهداهم إلى دينه، ففيه تفصيل لمناهج الحياة والبرامج التي توصل الإنسان إلى الحقائق. لان القرآن يفصل تلك الحقائق التي لا يراها الفرد واضحة.

عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) «قال : أن اللّه تبارك وتعالى أنزل في القرآن تبيان كل شي‏ء حتى واللّه ما ترك شيئا يحتاج إليه العباد حتى لا يستطيع عبد يقول لو كان هذا أنزل في القرآن إلا وقد أنزله اللّه فيه» (8)

عن عمر بن قيس عن أبي جعفر (عليه السلام) : «قال : سمعته يقول أن اللّه تبارك‏ وتعالى لم يدع شيئا تحتاج إليه الأمة إلا أنزله في كتابه وبينه لرسوله (صلى الله عليه واله وسلم) وجعل لكل شي‏ء حدا وجعل عليه دليلا يدل عليه وجعل على من تعدى ذلك الحد حدا» (9)

فما جاء في القرآن ليس ذا بعد واحد يتصل بالفرد دون المجتمع، أو الاقتصاد دون السياسة، أو الماديات دون المعنويات، أو الآن دون المستقبل، أو هذه الطبقة دون تلك، أو يهتم بالعواطف دون العقول، بل هو كتاب تحدث عن كل شي‏ء، وفي كل الأبعاد بتكامل وتناسب وعدالة بين مختلف أبعاد الحياة البشرية، وهذا التفصيل والبيان الذي حمل كل أبعاد الحياة البشرية ربطه القرآن بالعقل والفكر والعلم. فالعاقل والمفكر والعالم هو الذي يستطيع أن يقارن بين القرآن وأفكاره، أو أفكار البشر، فيرى الحقيقة الواضحة قد تجلت في كتاب اللّه فيقول سبحانه :

{كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الروم : 28]

{كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [الأعراف : 32]

{كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [يونس : 24]

فالقرآن الحكيم اتصف بهذا البعد لأنه فلسفة كاملة للحياة، فلا بد أن يسيطر عليها بجميع أبعاده، لأن البشر بحاجة إلى تحقيق السعادة، وهي الغاية التي يطمح إليها كل إنسان.

والسعادة التي يحققها القرآن ذات البعدين الروح والجسد، فإنها تستند إلى الثبات لا إلى التغيير، لأن القرآن ثابت لا يتغير، ونابع من قوة أزلية لا تتغير، فهو القادر على إعطاء هذا الإنسان الحياة الكاملة {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا} [فاطر : 43]

وقد ثبت فشل كل الفلسفات في الحياة التي أرادت أن تحقق السعادة للإنسان لأنها لم تتميز بالثبات، ولم تكن تستند إلى قوة أزلية فانتهت، وبقى الإسلام متمثل في القرآن‏ {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ } [التوبة : 33]

رابعا : البعد العالمي

لا زال العالم يبحث عن خلاص مع ما توصل إليه من رقي، وتقدم في جميع المجالات، وعلى كل الأصعدة في ابتكار النظريات، ووضع القوانين، والتحليق في فضاء هذا الكون، وكأنه يبعث ببالونات الهواء في الجو.

لما ذا يبحث عن الخلاص؟

حضارة اليوم لم تستطع أن تخفف من آلام الإنسان، ولم تتمكن أن ترفع عنه الويلات التي تحل به، وتضع العلاج لمشاكله.

لم يعد بإمكان العقول الإلكترونية التي تعالج ملايين المعادلات الرياضية أن تحل مشاكل البشر التي هجمت عليه، وهي آخذة في التفاقم، كالأزمات الاقتصادية والأزمات السياسية.

لذا يكتب جاك أتالي مستشار الرئيس الفرنسي السابق فرنسوا ميتران كتابا تحت عنوان آفاق المستقبل، يتحدث فيه عما وصل إليه العالم، والأزمات التي يمر بها، وتحول الصراع من صراع عسكري إلى صراع اقتصادي، تتبادل‏ فيه القوى والمراكز الدول الكبرى، والضحية هي الشعوب. وبعد بحث طويل يتطرق الكاتب فيه إلى مشاكل العالم، ويحددها بمشكلة البيئة والتلوث والسكان والمخلفات الضارة وتقلص الغابات، وبعد ذلك يطرح حلا لهذه المشاكل بعد أن يحدد دور الأمم المتحدة، وبأنه دور قد تقلص نتيجة الظروف السياسية المحيطة بها، وإنها لم تعد مستقلة. فيبين أن الحل هو وجود سلطة عالمية تجمع هذه الدول تكون ديمقراطية، وقادرة على إيجاد الحلول المناسبة. (10)

إن العلم الحديث استطاع أن يحقق للإنسان ما لم يحلم به، لكنه لم يستطع أن يوصل الإنسان إلى حقيقته، وأن يعرفه بنفسه وبخالقه.

غاص في أعماق الطبيعة درس كل التطورات الحاصلة فيها، سخرها لخدمته، لكنه لم يستطع أن يغوص في أعماق الإنسان ليدرسه حتى يرفع عنه تلك الغشاوة التي تحجبه عن حل مشاكله.

يا ترى أين الخلاص ؟ وما هو المخرج ؟

يتصور البعض أن الجاهلية الأولى لم تكن صاحبة علم، ولم تكن متقدمة في الجوانب العلمية، كانت العرب مشهورة في الفصاحة والبلاغة وعلوم العربية، وما يوازيها في ذلك أحد، وفي الأشعار ووقائع العرب وتاريخهم، ومع ما يملك العربي من قيم العروبة كالوفاء بالعهد والصدق وكرم الضيافة ... الخ.

إلا أن العرب لم يستطيعوا وضع الحلول المناسبة للحروب، التي كانت تدور بينهم مع بعضهم البعض، ومعالجة مشكلة التمايز الطبقي والعنصري.

لم تستطع أن توقف الانحلال الخلقي المنتشر بصورة تدعو إلى الرثاء ...

هكذا كان حال مجتمع الجاهلية الأولى، وكذلك الحال بالنسبة إلى عالم اليوم‏ المتحضر الذي يمثل الجاهلية الثانية، فهو لا زال يعاني من مشاكل عالمية متوارثة، مشكلة العنصرية، مشكلة القومية، المشكلة الإقليمية، مشكلة الطبقية، التمايز العرقي. أ ليست هذه المشاكل لم تجد لها حلول في حضارة التقدم اليوم! في مثل هذا الوضع المتأزم والنفق المظلم والطريق الشائك، العالم بحاجة إلى رسالة عالمية منقذة تتحول إلى برامج عمل لتنقذ العالم كله، ويكون فيها نجاته من الدمار والانحراف والسقوط، وليس هناك إلا رسالة القرآن العالمية التي جاءت تحمل البشرى لكل البشرية، جيلا بعد جيل إلى يوم يبعثون. أ لم يقل ربنا سبحانه وتعالى : {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [الأنفال : 26]

وقال أيضا : { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران : 103]

ويقول أيضا : {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [الأعراف : 157]

نعم إنها رسالة العالمين، فهي لا تختص بقوم ولا بأرض ولا بمذهب ولا بزمن، فهي من رب العالمين، دعت الأديان التي سبقتها، أن تنضوي تحت راية واحدة، بعقيدة واحدة، وأنظمة وتشريعات صادرة من كتاب واحد وهو القرآن، بفكرة التوحيد الأصيلة.

فالقرآن كتاب الناس، كل الناس، وهو لجميع الناس، لأنه جاء من رب الناس، وهذا دليل على أنه لم يخضع لحدود الزمان والمكان.

فحينما يكون الكتاب صادر من رب العالمين فهي نقطة قوة وعظمة فيه.

يقول ربنا سبحانه : { لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الواقعة : 79، 80]

ويقول أيضا : {وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الحاقة : 42، 43]

وأيضا يقول ربنا { أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف : 54]

وكما انه من رب العالمين خالقهم وموجدهم، فهو أيضا للعالمين أي لكل الناس لذا يقول سبحانه وتعالى : { وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ } [القلم : 52]

ويقول أيضا سبحانه : {فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} [التكوير : 26، 27]

{وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ } [يوسف : 104]

لذا نلاحظ أن هناك تكرار لكلمة الناس، البشر، بنى آدم، الإنسان. فقد تكررت كلمة البشر في (35) موضعا منها (25) موضعا في بشرية الرسل، وقد تكرر لفظ الناس (240) مرة بدلالة واضحة على اسم الجنس لهذه السلالة الآدمية، وقد ورد لفظ الإنسان في القرآن أيضا في (65) موضعا.

وكل ذلك يضعنا أمام حل مشكلة كبيرة، وهى التمايز على أساس‏ العنصر أو القوم أو الإقليم أو الطبقية.

فالقرآن يضع مقياسا في ذلك وهو العمل الصالح والتقوى، لأن مقياس الأفضلية قائم على هذا الأساس، وعلى التزام الفرد بالأحكام والتعاليم {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } [الحجرات : 13]

فهو رسالة مترامية الأبعاد تسع البشرية كلها، يقول ربنا سبحانه وتعالى :

{تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان : 1]

ويمضى القرآن، في سياقه للآيات والحديث عن وضع الحلول لكل مشاكل العالم، لا للبيئة العربية ولا للمشاكل العربية فقط، وإنما يتجاوز ذلك، فهو يضع حلولا للبيئة الجاهلية الضيقة، والموبوءة بتلك الدعايات التافهة، ويتسامى فوق تلك الحواجز التي وضعها أنصاف المثقفين، دعاة التحرر المنسلخين من أصالتهم، المنتمين إلى العروبة المزيفة، أو القومية السقيمة، أو المبادئ المنحرفة التي التفوا حولها. وهذا التجاوز يدل على أن القرآن ليس وليد تلك البيئة، وأن النبي ليس مجرد داعية ومصلح أفرزه ذلك المحيط، بل هو رسول رب العالمين بعثه اللّه إلى الناس جميعا.

يقول سبحانه وتعالى : {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا } [الأعراف : 158]

فعالمية القرآن قائمة على أساس القيادة الموحدة المتمثلة في النبي (صلى الله عليه واله وسلم)، والكتاب الذي يحوى أنظمة وتشريعات، يشترك فيها البشر تحت سلطة عالمية قائمة، تجمع الناس تحت راية التوحيد والعدالة الاجتماعية القائمة على مبادئ الدين الحنيف.

خامسا : البعد المنهجي

يتميز القرآن الكريم بمنهج خاص فريد في العرض والمضمون والنزول والأسلوب، فهو ليس كتابا عاديا، ولا بحثا كتبته يد باحث أراد أن يتوصل إلى حقيقة ما، وإنما هو كتاب يتمتع بمنهجية خاصة نابعة من تلك الأهداف السامية التي تجلت فيه، والمعالم الواضحة التي ارتفعت به إلى مستوى الكمال، فأصبح في ذلك السمو والعظمة، بما يحوي من بصائر وحقائق ورؤى.

والأمة اليوم هي أحوج من الأمس إلى رؤية واضحة، ومنهج قويم يضي‏ء لها معالم الطريق، ويوسع آفاق الطموح.

وفي هذه المرحلة الدقيقة الحرجة التي تمر فيها الأمة، بحاجة إلى نظره ثاقبة وشاملة في كتابها القرآن الكريم، لتأخذ منه المنهج المتكامل، والأمثل لتحقيق أهدافها وطموحاتها، بعد أن جربت كل المناهج، فتأخذ بالمنهج القرآني الذي يعتمد الطريق المستقيم والقويم في تحكيم الأهداف على أرض الواقع، لذا نلاحظ أن ربنا يبين في كتابه، أن مواصفات هذا المنهج الرباني إنه قويم ومستقيم. فيقول سبحانه وتعالى : { قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا } [الأنعام : 161] وقال أيضا { وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [يس : 61] ويقول أيضا { يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ } [الأحقاف : 30]

وقد تكررت لفظة مستقيم في القرآن واصفة المنهج الرباني بهذه الصفة واحد وثلاثين مرة، وتكررت بلفظ (مستقيما) ست مرات، ومن هنا جاء القرآن ليرسم المنهج المتكامل الشامل للإنسان، لأنه يمثل الجزء الأكبر في هذا الكون، فهو يحرك فيه أسباب التقدم، وينظف الفطرة التي تلوثت، ويعيدنا إلى رشدنا، ويثير فينا دفائن عقولنا.

المنهج يعنى الخطة المرسومة في الحياة، القائمة على أسس علمية متينة، تنسجم مع نظام الكون، وتتفق مع فطرة الإنسان، ومع تطورات هذه الحياة، فهو الكفيل بتحديد علاقاته العامة في هذا الكون ضمن دائرة هذا المنهج.

فعلاقة الإنسان مع ربه، وعلاقته مع أخيه الإنسان فردا ومجتمعا، وعلاقته مع الطبيعة وما فيها من مخلوقات أخرى من شجر وجماد وأرض وسماء، كيف تكون هذه العلاقة، وما هي نوعها، وكيف يحافظ بها على هذا الكون من التلوث والانحراف والدمار!؟

كل ذلك يحتاج إلى منهج ثابت شامل دائم عالمي حتى يحدد هذه العلاقة ويبينها لهذا الإنسان.

فالقرآن كتاب الحق الخالد، وكل ما فيه من ضوابط وأنظمة وقوانين تعبر عن هذا المنهج، وما هي إلا سنن ثابتة لا تتغير، فحينما يحدثنا عنها هذا المنهج، لا يعنى أنها قواعد للظروف التي مرت بها البشرية فترة زمنية، وانتهى دور هذا المنهج بانتهاء تلك الظروف، فحينها نحتاج إلى منهج آخر.

القرآن حينما رسم هذا المنهج لم يكن إلا وفق القيم التي تحدث عنها، فأراد من خلاله (أي الخطة المرسومة) أن يلتزم الإنسان بتلك القيم، وأن تتجسد في شخصه ومجتمعه وأمته.

وهذا المنهج القرآني له معالم يأخذ الإنسان دوره منها.

______________________

(1) الكافي (ج1) ص 60 .

(2) كنز العمال (ج9) ص 402 .

(3) الفرقان في تفسير القرآن (ج1) ص 239 .

(4) البحار(ج1) ص 117 .

(5) أصول الكافي (ج1) ص 26 .

(6) الصياغة الجديدة ص 34 .

(7) مع القرآن في عالمه الرحب ص 37 .

(8) الكافي (ج1) ص 59  .

(9) الكافي (ج1) ص 59 .

(10) يراجع كتاب آفاق المستقبل- دار العلم للملايين .




وهو تفسير الآيات القرآنية على أساس الترتيب الزماني للآيات ، واعتبار الهجرة حدّاً زمنيّاً فاصلاً بين مرحلتين ، فكلُّ آيةٍ نزلت قبل الهجرة تُعتبر مكّيّة ، وكلّ آيةٍ نزلت بعد الهجرة فهي مدنيّة وإن كان مكان نزولها (مكّة) ، كالآيات التي نزلت على النبي حين كان في مكّة وقت الفتح ، فالمقياس هو الناحية الزمنيّة لا المكانيّة .

- المحكم هو الآيات التي معناها المقصود واضح لا يشتبه بالمعنى غير المقصود ، فيجب الايمان بمثل هذه الآيات والعمل بها.
- المتشابه هو الآيات التي لا تقصد ظواهرها ، ومعناها الحقيقي الذي يعبر عنه بـ«التأويل» لا يعلمه الا الله تعالى فيجب الايمان بمثل هذه الآيات ولكن لا يعمل بها.

النسخ في اللغة والقاموس هو بمعنى الإزالة والتغيير والتبديل والتحوير وابطال الشي‏ء ورفعه واقامة شي‏ء مقام شي‏ء، فيقال نسخت الشمس الظل : أي ازالته.
وتعريفه هو رفع حكم شرعي سابق بنص شرعي لا حق مع التراخي والزمان بينهما ، أي يكون بين الناسخ والمنسوخ زمن يكون المنسوخ ثابتا وملزما بحيث لو لم يكن النص الناسخ لاستمر العمل بالسابق وكان حكمه قائما .
وباختصار النسخ هو رفع الحكم الشرعي بخطاب قطعي للدلالة ومتأخر عنه أو هو بيان انتهاء امده والنسخ «جائز عقلا وواقع سمعا في شرائع ينسخ اللاحق منها السابق وفي شريعة واحدة» .