أقرأ أيضاً
التاريخ: 23-5-2019
2946
التاريخ: 20-3-2016
3576
التاريخ: 2-04-2015
5365
التاريخ: 8/11/2022
1914
|
الثورة الصحيحة هي الاحتجاج النهائي الحاسم على الواقع المعاش فبعد أن تخفق جميع الوسائل الاُخرى في تطوير الواقع تصبح الثورة قدراً حتميّاً لا بدّ منه . والقائمون بالثورة هم دائماً أصح أجزاء الاُمّة ؛ هم الطليعة هم النُّخبة التي لم يأسرها الواقع المعاش وإنّما بقيت في مستوى أعلى منه وإن كانت تدركه وتعيه وترصده وتنفعل به وتتعذّب بسببه.
تُصبح الثورة قدر هذه النُّخبة ومصيرها المحتوم حين تخفق جميع وسائل الصلاح الاُخرى وإلاّ فإنّ النُّخبة إذا لم تثر تفقد مُبررات وجودها ولا يمكن أن يُقال عنها إنّها نُخبة إنّها تكون نُخبة حين يكون لها دور تأريخي وحين تقوم بهذا الدور .
ولا بدّ أن تُبشر الثورة بأخلاق جديدة إذا حدثت في مجتمع ليس له تُراث ديني وإنساني يضمن لأفراده ـ إذا اتّبع ـ حياة إنسانيّة متكاملة أو تُحيي المبادئ والقيم التي هجرها المجتمع أو حرّفها إذا كان للمجتمع مثل هذا التُراث كما هو الحال في المجتمع الإسلامي الذي كانت سياسة الاُمويِّين المجافية
للإسلام تحمله على هجر القيم الإسلاميّة واستلهام الأخلاق الجاهليّة في الحياة .
وتُوفر هذا الهدف في الثورة الصحيحة من جملة مقوّمات وجودها ؛ لأنّ العلاقات الإنسانيّة في الواقع علاقات مُنحطّة وفاسدة وموقف الإنسان من الحياة موقف مُتخاذل وموسوم بالانحطاط والانهيار ؛ ولذلك انتهى الواقع إلى حدّ من السوء بحيث غدت الثورة علاجه الوحيد .
وإذاً فالدعوة إلى نموذج من الأخلاق أسمى ممّا يُمارسه المجتمع ضرورة لازمة ؛ لأنّه لا بدّ أن تتغيّر نظرة الإنسان إلى نفسه وإلى الآخرين وإلى الحياة ليمكن إصلاح المجتمع .
ولقد قدّم الحسين (عليه السّلام) وآله وأصحابه ـ في ثورتهم على الحكم الاُموي ـ الأخلاق الإسلاميّة العالية بكلّ صفاتها ونقائها ولم يُقدّموا إلى المجتمع الإسلامي هذا اللون من الأخلاق بألسنتهم وإنّما كتبوه بدمائهم وحياتهم .
لقد اعتاد الرجل العادي إذ ذاك أن يرى الزعيم القبلي أو الزعيم الديني يبيع ضميره بالمال وبعرض الحياة الدنيا . لقد اعتاد أن يرى الجباه تعنوا خضوعاً وخشوعاً لطاغية حقير لمجرد أنّه يملك أن يُحرم من العطاء .
لقد خضع الزعماء الدينيون والسياسيون ليزيد على علمهم بحقارته وانحطاطه وخضعوا لعبيد الله بن زياد على علمهم بأصله الحقير ومنبته الوضيع وخضعوا لغير هذا وذاك من الطغاة ؛ لأنّ هؤلاء الطغاة يملكون الجاه والمال والنفوذ ولأنّ التقرّب منهم والتودّد إليهم كفيل بأن يجعلهم ذوي نفوذ في المجتمع وإن عليهم النعمة والرفاه .
وكان هؤلاء الزعماء يرتكبون كلّ شيء في سبيل نيل هذه الحظوة . كانوا يخونون مجتمعهم فيتمالون مع هؤلاء الطغاة على إذلال هذا المجتمع وسحقه وحرمانه وكانوا يخونون ضمائرهم فيبتدعون من ألوان الكذب ما يدعم هذه العروش وكانوا يخونون دينهم الذي يأمرهم بتحطيم الطغاة بدل عبادتهم .
كان الرجل العادي في المجتمع الإسلامي آنذاك يعرف هذا اللون من الرجال ويعرف لوناً آخر منهم وهم اُولئك الزُّهّاد الدّجّالون الذين يتظاهرون بالزهد رياء ونفاقاً حتّى إذا تقربوا من الطغاة كانوا لهم أعواناً وأنصاراً .
إنّهم هذا الصنف الذي وصفه الإمام علي (عليه السّلام) بقوله : ومنهم مَنْ يطلب الدنيا بعمل الآخرة ولا يطلب الآخرة بعمل الدنيا . قد طامن من شخصه وقارب من خطوه وشمّر من ثوبه وزخرف من نفسه للأمانة واتّخذ ستر الله ذريعة إلى المعصية .
هؤلاء هم الزعماء الذين كان الرجل العادي يعرفهم وقد اعتادهم وأفهم بحيث غدا يرى عملهم هذا طبيعياً لا يثير التساؤل ولذلك فقد كان غريباً جدّاً على كثير من المسلمين آنذاك أن يروا إنساناً يُخيّر بين حياة رافهة فيها الغنى وفيها المتعة وفيها النفوذ والطاعة ولكن فيها إلى جانب ذلك كلّه الخضوع لطاغية والإسهام معه في طغيانه والمساومة على المبدأ والخيانة .
وبين الموت عطشاً مع قتل الصفوة الخلّص من أصحابه وأولاده وإخوته وأهل بيته جميعاً أمامه وحيث تنظر إليهم عينه في ساعاتهم الأخيرة وهم يلوبون ظمأ وهم يكافحون بضراوة وإصرار عدواً هائلاً يريد لهم الموت أو هذا اللون من الحياة ثم يرى مصارعهم واحداً بعد واحد وإنّه ليعلم أيّ مصير فاجع محزن ينتظر آله ونساءه من بعده ؛ سبي وتشريد ونقل من بلد إلى بلد وحرمان ... يعلم ذلك كله ثمّ يختار هذا اللون الرهيب من الموت على هذا اللون الرغيد من الحياة .
لقد كان غريباً جدّاً على هؤلاء أن يروا إنساناً كهذا ؛ لقد اعتادوا على زعماء يُمرّغون جباههم في التراب خوفاً من مصير أهون من هذا بكثير أمثال عمر بن سعد والأشعث بن قيس ونظائرهما . تعودوا على هؤلاء فكان غريباً عليهم أن يشاهدوا هذا النموذج العملاق من الإنسان هذا النموذج الذي يتعالى ويتعالى حتّى ليكاد القائل أن يقول : ما هذا بشر .
ولقد هزّ هذا اللون من الأخلاق هذا اللون من السلوك الضميرَ المسلم هزّاً مُتداركاً وأيقظه من سُباته المرَضي الطويل ؛ ليشاهد صفحة جديدة مُشرقة يكتبها الإنسان بدمه في سبيل الشرف والمبدأ والحياة العارية من الذلّ والعبودية .
ولقد كشف له عن زيف الحياة التي يحياها وعن زيف الزعماء ـ أصنام اللحم ـ الذين يعبدهم وشق له طريقاً جديداً في العمل وقدّم له اُسلوباً جديداً في العمل وقدّم له اُسلوباً جديداً في مُمارسة الحياة فيه قسوة وفيه حرمان ولكنّه طريق مُضيء لا طريق غيره جدير بالإنسان .
ولقد غدا هذا اللون المُشرق من الأخلاق وهذا النموذج الباهر من السلوك خطراً رهيباً على كلّ حاكم يُجافي روح الإسلام في حكمه . إنّ ضمائر الزعماء قليلاً ما تتأثّر بهذه المُثل المضيئة ولكنّ الذي يتأثّر هي الاُمّة وهذا هو ما كان يريده الحسين (عليه السّلام) . لقد كان يريد شقّ الطريق للاُمّة المُستعبدة لتناضل عن إنسانيتها .
وفي جميع مراحل الثورة منذ بدايتها في المدينة حتّى ختامها الدامي في كربلاء نلمح التصميم على هذا النمط العالي من السلوك .
ها هو الحسين (عليه السّلام) يقول لأخيه محمد بن الحنفيّة وهما بعد في المدينة : يا أخي والله لو لم يكن في الدنيا ملجأ ولا مأوى لما بايعت يزيد بن معاوية .
وها هو يتمثل بأبيات يزيد بن مفرغ الحميري حين انسلّ من المدينة في جنح الليل إلى مكة :
لا ذُعرت السّوام في فلقِ الصب حِ مُـغيراً ولا دُعـيت يزيدا
يـوم أُعطي على المهانةِ ضيماً والمنايا ترصدنني أن أحيدا
وها هو يجيب الحرّ بن يزيد الرياحي حين قال له : أذكرك الله في نفسك ؛ فإنّي أشهد لئن قاتلت لتُقتلن ولئن قوتلت لتهلكن .
فقال له الإمام الحسين (عليه السّلام) : أبالموت تخوفني ؟ وهل يعدو بكم الخطب أن تقتلوني ؟ ما أدري ما أقول لك ولكن أقول كما قال أخو الأوس لابن عمّه ولقيه وهو يريد نصرة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فقال له : أين تذهب فإنّك مقتول . فقال :
سأمضي وما بالموتِ عارٌ على الفتى إذا مـا نـوى خـيراً وجاهدَ مسلما
وواسـى رجـالاً صـالحينَ بنفسه وخـالفَ مـثبوراً وفـارقَ مجرما
فـإن عشتُ لم أندم وإن مُتُّ لم أُلمْ كفى بك ذُلاً أن تعيشَ وتُرغما
وها هو وقد أُحيط به وقيل له : انزل على حكم بني عمّك يقول : لا والله لا اُعطيهم بيدي إعطاء الذليل ولا أقرّ إقرار العبيد . عباد الله إنّي عذت بربّي وربّكم أن ترجمون أعوذ بربّي وربّكم من كلّ مُتكبّر لا يؤمن بيوم الحساب .
ألا وإنّ الدّعي ابن الدّعي قد ركز بين اثنتين ؛ بين السّلة والذلّة وهيهات منّا الذلّة يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون وجدود طابت وحجور طهرت واُنوف حميّة ونفوس أبيّة لا تؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام .
وها هو يخطب أصحابه فيقول : أمّا بعد فقد نزل من الأمر بنا ما ترون وإنّ الدنيا قد تغيّرت وتنكّرت وأدبر معروفها ولم يبقَ منها إلاّ صبابة كصبابة الإناء وخسيس عيش كالمرعى الوبيل . ألا ترون إلى الحقّ لا يُعمل به وإلى الباطل لا يُتناهى عنه ؟ ليرغب المؤمن في لقاء الله ؛ فإنّي لا أرى الموت إلاّ سعادة والحياة مع الظالمين إلاّ برماً .
وكان يقول كثيراً : موت في عزّ خير من حياة في ذلّ .
كلّ هذا يكشف عن طبيعة السلوك الذي اختطّه الحسين (عليه السّلام) لنفسه ولمَنْ معه في كربلاء وألهب به الروح الإسلاميّة بعد ذلك وبثّ فيها قوّة جديدة .
لقد عرفت كيف كان الزعماء الدينيون والسياسيون يُمارسون حياتهم . وهنا نرسم لك صورة عن نوع الحياة التي كان يُمارسها الإنسان العادي إذ ذاك . لقد كان همّ الرجل العادي هو حياته الخاصّة يعمل لها ويكدح في سبيلها ولا يُفكّر إلاّ فيها فإذا اتّسع اُفقه كانت القبيلة محلّ اهتمامه .
أمّا المجتمع وآلامه ـ المجتمع الكبير ـ فلم يكن ليستأثر من الرجل العادي بأيّ اهتمام كانت القضايا العامّة بعيدة عن اهتمامه . لقد كان العمل فيها وظيفة زعمائه الدينيين والسياسيين ؛ يُفكّرون ويرسمون خطّة العمل وعليه أن يسير فقط فلم تكن للرجل العادي مشاركة جدّية إيجابية في قضايا المجتمع العامّة .
وكان يهتم غاية الاهتمام بعطائه فيحافظ عليه ويطيع توجيهات زعمائه خشية أن يُمحى اسمه من العطاء ويسكت عن نقد ما يراه جوراً بسبب ذلك .
وكان يهتم بمفاخر قبيلته ومثالب غيرها من القبائل ويروي الأشعار في هذا وذاك .
هذا مُخطط لحياة الرجل العادي إذ ذاك .
أمّا أصحاب الحسين (عليه السّلام) فقد كان لهم شأن آخر لقد كانت العُصبة التي رافقت الحسين (عليه السّلام) وشاركته في مصيره رجالاً عاديين لكلّ منهم بيت وزوجة وأطفال وصداقات ولكلّ منهم عطاء من بيت المال وكان كثير منهم لا يزال في ميعة الصبا في حياته مُتّسع للاستمتاع بالحُبّ وطيّبات الحياة ولكنّهم جميعاً خرجوا عن ذلك كلّه وواجهوا مجتمعهم بعزمهم الكبير في سبيل مبدأ آمنوا به وصمموا على الموت في سبيله .
ولا أستطيع أن أقدّم هنا صورة كاملة وافية لسُلوك آل الحسين وأصحابه في هذه الثورة وعليك لكي تخرج بهذه الصورة الوافية أن تقرأ قصّة كربلاء بتمامها وغاية ما أستطيعه هنا هو أن أقدّم لك لمحات من سلوكهم العالي .
ـ في زُبالة استبان للحسين (عليه السّلام) مصيره حين علم بقتل رسوله إلى أهل الكوفة مسلم بن عقيل وأخيه من الرضاعة عبد الله بن يقطر فأخبر مَنْ معه بذلك وقال : أمّا بعد فإنّه قد أتاني خبر فظيع ؛ قتل مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة وعبد الله بن يقطر وقد خذلنا شيعتنا فمَنْ أحبّ منكم الانصراف فلينصرف في غير حرج ليس عليه منّا ذمام .
فتفرّق عنه الناس يميناً وشمالاً حتّى بقي في أصحابه الذين يُريدون الموت معه واستمروا على عزمهم هذا إلى اللحظة الأخيرة لكلّ منهم . اللحظة التي أدّى فيها ضريبة الدم كاملة .
ـ في كربلاء أقبل على أصحابه فقال : الناس عبيد الدنيا والدين لعق على ألسنتهم يُحوطونه ما درّت معايشهم فإذا مُحِّصوا بالبلاء قلّ الديّانون .
ثمّ قال : أمّا بعد فقد نزل من الأمر بنا ما ترون وإنّ الدنيا قد تغيّرت وتنكّرت وأدبر معروفها ولم يبقَ منها إلاّ صبابة كصبابة الإناء وخسيس عيش كالمرعى الوبيل . ألا ترون إلى الحقّ لا يُعمل به وإلى الباطل لا يُتناهى عنه ؟ ليرغب المؤمن في لقاء الله ؛ فإنّي لا أرى الموت إلاّ سعادة والحياة مع الظالمين إلاّ برماً .
فقال زهير بن القين : سمعنا يابن رسول الله مقالتك ولو كانت الدنيا لنا باقية وكنا فيها مخلّدين لآثرنا النهوض معك على الإقامة فيها .
وقال برير بن خضير : يابن رسول الله لقد منّ الله بك علينا أن نُقاتل بين يديك نقطع فيك أعضاؤنا ثمّ يكون جدّك شفيعنا يوم القيامة .
وقال نافع بن هلال : سر بنا راشداً مُعافى مشرقاً إن شئت أو مغرباً فوالله ما أشفقنا من قدر الله ولا كرهنا لقاء ربّنا وإنّا على نيّاتنا وبصائرنا نوالي مَنْ والاك ونعادي مَنْ عاداك .
ومرّة اُخرى جمع الحسين (عليه السّلام) أصحابه قرب المساء ـ مساء يوم العاشر ـ فخطبهم قائلاً : ... أمّا بعد فإنّي لا أعلم أصحاباً أوفى ولا خيراً من أصحابي ولا أهل بيت أبرّ ولا أوصل من أهل بيتي فجزاكم الله عنّي جميعاً . ألا وإنّي أظنّ أنّ يومنا من هؤلاء الأعداء غداً وإنّي قد أذنت لكم فانطلقوا جميعاً في حلٍّ ليس عليكم منّي ذمام . وهذا الليل قد غشيكم فاتّخذوه جملاً وليأخذ كلّ رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي فجزاكم الله جميعاً خيراً وتفرّقوا في سوادكم ومدائنكم ؛ فإنّ القوم إنّما يطلبوني ولو أصابوني لذهلوا عن طلب غيري ... .
هذه فرصة أخيرة منحهم إيّاها الحسين (عليه السّلام) فماذا كان ردّ الفعل ؟ قال له إخوته وأبناؤه وبنو أخيه وأبناء عبد الله بن جعفر : ولِمَ نفعل ؟ لنبقى بعدك ؟! لا أرنا الله ذلك أبداً .
والتفت الحسين (عليه السّلام) إلى بني عقيل وقال : حسبكم من القتل بمسلم اذهبوا فقد أذنت لكم.
فقالوا : فما يقول الناس وما نقول لهم ؟! إنّا تركنا شيخنا وسيّدنا وبني عمومتنا خير الأعمام ولم نرمِ معهم بسهم ولم نطعن برمح ولم نضرب بسيف ولا ندري ما صنعوا . لا والله لا نفعل ولكن نفديك بأنفسنا وأموالنا وأهلينا نقاتل معك حتّى نرد موردك فقبّح الله العيش بعدك .
وجاء دور أصحابه فقال مسلم بن عوسجة : أنحن نُخلي عنك ولمّا نُعذر إلى الله في أداء حقّك ؟ أما والله لا اُفارقك حتّى أطعن في صدورهم برمحي وأضربهم بسيفي ما ثبت قائمه في يدي ولو لم يكن معي سلاح اُقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة دونك حتّى أموت معك .
وقال سعد بن عبد الله الحنفي : والله لا نُخليك حتّى يعلم الله أنّا قد حفظنا غيبة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فيك . والله لو علمت أنّي اُقتل ثمّ اُحيا ثمّ اُحرق حيّاً ثمّ اُذرى يُفعل ذلك بي سبعين مرّة ما فارقتك حتّى ألقى حمامي دونك فكيف لا أفعل ذلك وإنّما هي قتلة واحدة .
وقال زهير بن القين : والله لوددت أنّي قُتلت ثمّ نُشرت ثمّ قُتلت حتّى اُقتل كذا ألف قتلة وإنّ الله يدفع بذلك القتل عن نفسك وعن أنفس هؤلاء الفتية من أهل بيتك .
وتكلّم جماعة من أصحابه بكلام يشبه بعضه بعضاً في وجه واحد فقالوا : والله لا نفارقك ولكن أنفسنا لك الفداء نقيك بنحورنا وجباهنا وأيدينا فإذا نحن قُتلنا كنّا وفينا وقضينا ما علينا .
وقال الحسين (عليه السّلام) لنافع بن هلال في جوف الليل : ألا تسلك بين هذين الجبلين في جوف الليل وتنجو بنفسك ؟ . فوقع نافع على قدميه يُقبّلها ويقول : ثكلتني اُمّي ! إنّ سيفي بألف وفرسي بمثله فوالله الذي مَنْ عليّ بك لا فارقتك حتّى يكلاّ عن فري وجري .
وصاح شمر بن ذي الجوشن بأعلى صوته : أين بنو اُختنا ؟ فخرج إليه العباس وجعفر وعثمان بنو علي فقالوا له : ما لك وما تريد ؟
قال : أنتم يا بني اُختي آمنون .
فقال له الفتية : لعنك الله ولعن أمانك لئن كنت خالنا ! أتؤمننا وابن رسول الله لا أمان له ؟!
هذا هو مستوى السلوك الذي ارتفع إليه الثائرون وهذه هي الأخلاق الجديدة التي قدّموها لمجتمعهم . هذا المجتمع الذي قدر لكثير من فئاته فيما بعد أن تأخذ نفسها بالسير على هذا المستوى العالي من الأخلاق ومُمارسة الحياة .
ولنا أن نتساءل هنا عن دور المرأة المسلمة في ثورة كربلاء ؛ لقد كان في الثائرين الزوج والأخ والولد فما كان موقف المرأة من مصارع هؤلاء ؟
ويأتينا الجواب من التأريخ فنهتزّ لموقف المرأة في كربلاء لقد كانت المرأة اُمّاً واُختاً وزوجة في طليعة الثائرين المُناضلين المُضحين الباذلين لضريبة الدم . ولا أتحدّث هنا عن زينب وعن أخواتها ؛ فمستوى سلوكهن لم يبلغه بشر وإنّما أتحدّث عن نساء عاديات جدّاً كنّ إلى أيّام قليلة قبل يوم كربلاء يشغلهن ما يشغل كلّ امرأة من شؤون بيتها وزينتها وتربية أولادها والتحدّث مع جاراتها .
نساء لا تربطهن بالثائرين رابطة دم ولكن تربطهن بهم رابطة مبدأ ورابطة عقيدة فضحّين بالولد والزوج مستبشرات ثمّ ضحّين بأنفسهن في النهاية .
هذا عبد الله بن عمير قال لزوجته إنّه يريد المسير إلى الحسين (عليه السّلام) فقالت له : أصبت أصاب الله بك أرشد اُمورك افعل وأخرجني معك . فخرج بها حتّى أتى حسيناً فأقام معه .
ثمّ برز ليُقاتل فأخذت امرأته عموداً ثمّ أقبلت نحو زوجها تقول : فداك أبي واُمّي ! قاتل دون الطيبين ذرّية محمد . فأقبل إليها يردّها نحو النساء فأخذت تجاذب ثوبه ثمّ قالت : إنّي لن أدعك دون أن أموت معك .
فناداها الحسين (عليه السّلام) فقال : جُزيتم من أهل بيت خيراً ارجعي رحمك الله إلى النساء فاجلسي معهنّ . فانصرفت ثمّ قُتل زوجها فخرجت تمشي إليه حتّى جلست عند رأسه تمسح التراب عنه وتقول : هنيئاً لك الجنّة .
فقال شمر بن ذي الجوشن لغلام يُسمّى رستم : اضرب رأسها بالعمود .
فضرب رأسها فشدخه فماتت مكانها وهي أوّل امرأة قُتلت من أصحاب الحسين (عليه السّلام) .
وهذا وهب بن حبّاب الكلبي قالت له اُمّه : قم يا بُني فانصر ابن بنت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) . فقال : أفعل . فحمل على القوم ولم يزل يُقاتل حتّى قتل جماعة ثمّ رجع وقال : يا اُمّاه هل رضيتِ ؟ فقالت : ما رضيت حتّى تُقتل بين يدي الحسين (عليه السّلام) . فقالت له امرأته : بالله عليك لا تفجعني بنفسك . فقالت له اُمّه : يا بُني اعزب عن قولها وارجع فقاتل بين يدي ابن بنت نبيّك تنل شفاعة جدّه يوم القيامة . فرجع ولم يزل يُقاتل حتّى قُطعت يداه ثمّ قُتل .
وبرز جنادة بن الحارث السلماني ـ وكان خرج بعياله وولده إلى الحسين (عليه السّلام) ـ فقاتل حتّى قُتل فلمّا قُتل أمرت زوجته ولدها عمراً ـ وهو شاب ـ أن ينصر الحسين (عليه السّلام) فقالت له : اخرج يا بُني وقاتل بين يدي ابن بنت رسول الله .
فخرج واستأذن الحسين (عليه السّلام) فقال الحسين (عليه السّلام) : هذا شاب قُتل أبوه ولعلّ اُمّه تكره خروجه .
فقال الشاب : اُمّي أمرتني بذلك . فبرز وقاتل حتّى قُتل وحُزّ رأسه ورُمي به إلى عسكر الحسين (عليه السّلام) فحملت اُمّه رأسه وقالت : أحسنت يا بُني . وأخذت عمود خيمة وهي تقول :
أنا عجوزٌ سيدي ضعيفهْ خـاويةٌ بـاليةٌ نـحيفهْ
أضربكم بضربةٍ عنيفهْ دونَ بني فاطمةَ الشريفهْ
وضربت رجلين فقتلتهما فأمر الحسين (عليه السّلام) بصرفها ودعا لها .
هذه نماذج من سلوك الثائرين في كربلاء .
ولقد أهمل التأريخ ذكر كثير من بطولات هؤلاء الثائرين ؛ فإنّ المؤرّخين يحرصون غالباً على تجنّب ذكر التفاصيل الدقيقة ويقصرون اهتمامهم على ما يلوح لهم أنّه جليل ولا ينال الناس العاديون شيئاً من اهتمامهم بينما يقصرون هذا الاهتمام على البارزين من القادة وإن كان الدور الحقيقي في المعركة هو ما يقوم به هؤلاء الناس العاديون . على أنّ أخبار ثورة كربلاء استهدفت لحملة من السلطة الحاكمة فأهمل المؤرّخون الرسميون ذكر كثير من تفاصيلها الدقيقة ذات المغزى .
ولقد عملت هذه الأخلاق الجديدة عملها في اكتساب الحياة الإسلاميّة سمة كانت قد فقدتها قبل ثورة الحسين (عليه السّلام) بوقت طويل وذلك هو الدور الذي غدا الرجل العادي يقوم به في الحياة العامّة بعد أن تأثّر وجدانه بسلوك الثائرين في كربلاء وقد بدأ الحكّام المُجافون للإسلام يحسبون حساباً لهؤلاء الرجال العاديين وبدأ المجتمع الإسلامي يشهد من حين لآخر ثورات عارمة يقوم بها الرجال العاديون على الحاكمين الظالمين وأعوانهم ؛ لبُعدهم عن الإسلام وعدم استجابتهم لأوامر الله ونواهيه في سلوكهم . ثورات كانت روح كربلاء تلهب أكثر القائمين بها وتدفعهم إلى الاستماتة في سبيل ما يرونه حقّاً .
ولقد تحطّمت دولة اُميّة بهذه الثورات وقامت دولة العباسيِّين بوحي من الأفكار التي تُبشّر بها هذه الثورات ولمّا تبيّن للناس أنّ العباسيين كمَنْ سبقهم لم يسكنوا بل ثاروا ... واستمرت الثورات التي تقودها روح كربلاء بدون انقطاع ضدّ كلّ ظلم وطغيان وفساد .
|
|
دراسة يابانية لتقليل مخاطر أمراض المواليد منخفضي الوزن
|
|
|
|
|
اكتشاف أكبر مرجان في العالم قبالة سواحل جزر سليمان
|
|
|
|
|
اتحاد كليات الطب الملكية البريطانية يشيد بالمستوى العلمي لطلبة جامعة العميد وبيئتها التعليمية
|
|
|