أقرأ أيضاً
التاريخ: 31-7-2017
1000
التاريخ: 23-5-2018
1182
التاريخ: 26-7-2017
937
التاريخ: 13-3-2018
1475
|
تولية الرشيد
في هذا الوضع، وفي هذا الجو، وفي بغداد هذه، وعلى هذا النظام الذي ذكرنا بعضه تولى الرشيد … وقد جلس على العرش في قصر فسيح يُسمَّى (قصر الخلد) بناه جَدُّه، المنصور، وجعله في الجانب الغربي من دجلة — وهو يقع في منحنى نهر دجلة بإزاء باب خراسان — حتى إذا شبت نار الثورة كان في استطاعته أن يفر إلى خراسان، وهي أهم مُؤسَّسٍ للدولة العباسية، وفي ناحية من نواحيه على الشاطئ الآخر قصور البرامكة… هذا قصر يحيى، وهذا قصر جعفر، وهذا قصر الفضل.
وله فناء واسع قد مُلئ بالجواري والغلمان على مختلف الأشكال والألوان، وقد كان الرشيد يغالي في أثمانهن، وخصوصًا إذا كانت الفتاة جميلةً أو متعلمة الغناء، أو أديبةً. واشتهر من جواري القصر اللاتي غلبن على الرشيد: ماردة، وهي التي ولدت منه المعتصم، وهيلانة، وهي يونانية كما يدل عليها اسمها، وقد ماتت، وحزن عليها الرشيد حزنًا شديدًا، وقال الشِّعر فيها:
اف للدنيا وللزينة فيها والاناث *** اذ حثا الترب على هيلان في الحفرة حاث
ويقول فيها أبان اللاحقي على لسان الرشيد:
بت ضجيع الحزن ما اغفى *** لحادث جل عن الوصف
حزنـــان حزن منهما ظاهر *** واوجع الحزنين ما أخفى
انت هـــل للترب من فوقها *** مواريا تحت الثرى انفي
لهفـــي علـى هيلان لو انه *** يـــرد شيئا فـــــاتنا لهفي
وهذا القصر كأنه مدينة صغيرة له أجنحة متعددة … هذا جناح للخيزران ام الرشيد بكتبها وغلمانها وجواريها.
وكانت مواكب الأمراء تأتي إلى بابها فنهاها الهادي عن ذلك، وقال لها: (متى وقف ببابك أمير ضربت عنقه، أمَا لك مغزل يشغلك، أو مصحف يذكرك، أو سبحة؟!) فقامت الخيزران، وهي ما تعقل من الغضب، وقد ذكروا أنها كان لها شأن في الدسيسة التي حيكت حول ابنها الهادي حتى قتل، فلما تولى الرشيد أعاد لها سطوتها وسلطانها.
ولكنها لم تطُلْ مدتها … فماتت بعد ثلاث سنوات من خلافته، وكان يوم وفاتها يومًا ممطرًا فمشى الرشيد في جنازتها، وكانت امرأة عاقلة قوية السلطان كبيرة الشخصية تتدخل في شئون الدولة وتسيرها، يعينها على ذلك يحيى البرمكي وأولاده، وقد خاف ابنها الهادي من سطوتها، وتدخلها وشخصيتها، فحجر عليها فكرهته …
وهذا جناح زبيدة زوج الرشيد، وهي كذلك شخصية قوية خَيِّرة، لها خدمها الخاصون، وغلمانها، وجواريها، وكانت كالخيزران في تدخلها السياسي، غيْر أنها لم تكُنْ مِثْلَها في دس الدسائس، بل كانت بارَّةً محسنةً، تنفق الأموال على الملاجئ والمستشفيات، ومن آثارها الخالدة عين الماء المسماة باسمها، والتي أنشأتها في الحجاز، ومدت بها الماء إلى مكة، ثم كان في حجرها ابنها محمد الأمين.
وهذا جناح عَليَّة أخت الرشيد، وكانت شاعرة جميلة مفتنة لها عشاقها، وزوارها، ومجالس أنسها، وسرورها.
وهذا جناح العباسة أخت الرشيد، فتاة جميلة أيضًا، شاعرة تحب جعفر البرمكي وتراسله.
وأخيرًا جناح الرشيد، وهو أعظم الأجنحة، فيه جواريه الكثيرة، وغلمانه الكثيرون، وأطباؤه، ومضحكوه، ومغنوه إلى آخر ما هنالك.
وعلى الجملة فكان القصر يموج بالفتيان والفتيات، والكبار والصغار … هذه جارية فارسية تتكلم بالفارسية، وهذه يونانية تتكلم باليونانية، وهذه حبشية تتكلم بالحبشية، وهذه بربرية تتكلم بالبربرية … إلخ، ثم كانت تموج في القصر تيارات مختلفة… تيارات سياسية من الخيزران وزبيدة، فالخيزران توالي البرامكة وتؤيدهم، وتكره الفضل بن الربيع وتبعده، وتيار من زبيدة تكره البرامكة وتعاكسهم، وتؤيد الفضل بن الربيع وتقربه، ثم تيارات أخرى غرامية بين شابات القصر وشبانه، والعباسة وعلية، والجواري والغلمان.
وكانت جواري الرشيد فيما يقولون تبلغ نحو ألفي جارية مختلفة الأجناس … منهن الروميات، والسنديات، والفارسيات، وقد قال خبير بالرقيق وأنواعه: إن لكل نوع من أنواع الرقيق ميزات خاصة يعرف بها، فالهنديات وديعات لينات الجانب، هادئات قادرات على حسن ورعاية الطفل، ولكن سرعان ما يعرض لهن الذبول، واشتهرت السنديات بالخصر النحيف، والشعر الطويل، واشتهرت مولدات المدينة بالدلال، والميل إلى السرور، والفكاهة والمجون، وبحسن الاستعداد للنبوغ في الغناء، وعرفت مولدات مكة بدقة المعصم والمفصل، والعيون الناعسة، وعرفت الإماء البربريات المغربيات بأنهن لا يُبارَين في حسن الإنتاج، وهن لدماثة خلقهن، ولين عريكتهن صالحات لأن يتعودن القيام بمختلف الأعمال.
والمَثَلُ الأعلى للجارية — كما يقول أبو عثمان الدلَّال — أَمَةٌ تكون مِن أصْل بربري فارقت بلادها في التاسعة مِن عُمرها، ومكثت ثلاث سنين في المدينة، ومثلها في مكة، ثم رحلت إلى العراق في السادسة عشرة مِن عُمرها لتتثقف بثقافته … فإذا بيعت في الخامسة والعشرين كانت قد جمعت من جودة الأصل، ودلال المدنيات، ورقة المكيات، وثقافة العراقيات.
والسودانيات كنَّ يغمرن الأسواق، وقد عُرِفن بقلة الثبات، والإهمال، كما عرفن بالميل إلى الضرب بالدف والرقص، وهن أحسن خلق لله بياض أسنان، ولكن يعاب عليهن نتن الإبط، وخشونة الملمس، والحبشيات عُرِفن بالضعف والترهل، والاستعداد لمرض الصدر، وهن على عكس السودانيات لا يُحسنَّ الغناء ولا الرقص، ولكنهن قويات الخَلْق مَوْضع للثقة أَهْل للاعتماد عليهن.
قصر الخلد
ولا يخلو قَصْر كهذا من العلاقات الغرامية، ولذة الوصال، وأَلَمِ الخصام، ونحو ذلك من ضروب العواطف؛ حتى لَيَحْكون أنَّ سبب اتصال الرشيد بأبي يوسف أنَّ الرشيد رأى مَرَّةً مَنظرًا غراميٍّا لم يعجبه، فاستدعى أبا يوسف لسؤاله: هل على الخليفة إذا رأى هذا المنظر أن يَحُدَّ الجناةَ؟ فأفتاه بِلا؛ لأنَّ القاضي لا يقضي بعلمه، فَسُرِّيَ عن الرشيد، وأجزل لأبي يوسف الصلات، وتوثقت الصلة بينه وبين أبي يوسف من ذلك الحين، حتى عيَّنه قاضيَ القضاة.
تُضِيف إلى عظمة قصر الخلد عظمة بغداد؛ فقد كانت مملوءة بالقصور الفخمة، والميادين الفسيحة، والأسواق الحافلة بالدكاكين الممتلئة بالسلع، وكان يأتيها من مصر البلسم، والكتان، والقمح، والنحاس، والذهب، وزمرد النوبة، ويأتيها من الحبشة العاج، ومن الأندلس الحرير، والصيني، والجلود، والأسلحة الصلبة، ومن اليونان النباتات ذات العطر الطيب، والصمغ، ومن سوريا الزجاج، والبلور، والأصداف …
ومن بلاد العرب البخور، ومن سو ماطرة البخور الجاوي والزعفران والقرفة، ومن جاوى الماس، والعاج، والأخشاب الثمينة، والصندل، ومن خليج فارس اللآلئ، والصدف. ومن سيلان الياقوت، واللازورد، ومن فارس الأصواف، ومن سيراز الفيروز، والعقيق، والمرجان، ومن أصفهان الأقمشة المختلفة، ومن بخارى الأصواف، والسجاجيد، والأقمشة، ومِنْ مَرْو الزبرجد، ومن الموصل صفائح الصلب. ومن سمرقند الأطلس، والفضة، والأقمشة الناعمة، ومن الصين الصيني، وحجر الشب، والحرير الخام، والصمغ، ومن التبت المسك، وهذه كلها تحول أحسن ما يرد إلى قصر الخلد، والقصور حوله، وأحيانًا كثيرةً يسير الشابان هارون الرشيد وجعفر ووراءهما مسرور الخادم متخفين للوقوف، وشراء خير ما في الأسواق … كما تروي لنا ألْف ليلة وليلة.
ويقول الاقتصاديون: إنَّ الدينار والدرهم ليس لهما قيمة ذاتية، وإن قيمتهما بقدرتهما الشرائية، وكانت قيمتهما في عهد الرشيد كبيرة لا تقاس بما نحن عليه اليوم؛ فقد عُثِرت على قائمة بتثمين بعض الأشياء فيها أن الكبش كان يباع بدرهم، والجمل بأربعة دنانير، والتمر ستون رطلًا بدرهم، والزيت ستة عشر رطلًا بدرهم، والسمن ثمانية أرطال بدرهم، وكان الرجل يعمل في سور بغداد كل يوم بخمس حبات، وكان ينادى على لحم البقر في جبانة كندي تسعون رطلًا بدرهم، ولحم الغنم ستون رطلًا بدرهم، والعسل عشرة أرطال بدرهم، والأستاذ البناء بخمس حبات، ومن المعلوم أنه في أيامهم كانت الحبة ثلث درهم، والدانق سدس درهم، والدينار كانت تختلف قيمته تبعًا لنقاء فضة الدراهم، أو عدم نقائها؛ فكان يساوي مرةً عَشَرةً، ومرةً خمسة عشر، ومرةً عشرين، وكان مقدار الدينار ذهبًا يساوي ستين قرشًا مصريٍّا تقريبًا …
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
مكتبة أمّ البنين النسويّة تصدر العدد 212 من مجلّة رياض الزهراء (عليها السلام)
|
|
|