زوجة صالحة وكريمة
المؤلف:
الخطيب الشيخ حسين انصاريان
المصدر:
الاُسرة ونظامها في الإسلام
الجزء والصفحة:
ص 83 ــ 88
2025-11-23
52
في عام 60 هـ توجه زهير بن القين البجلي وبعض ذويه إلى مكة المكرمة لأداء مناسك الحج، وبعد أن أدى الحج قفل عائداً بقافلته الصغيرة إلى دياره.
كان يدور في خلد زهير أنه عائد إلى بيته، الا ان المصير كان يخبئ عكس ذلك، فزهير كان يتوجه من بيت الله إلى الله، غير أنه لم يكن على علم بهذه الحقيقة.
لم يكن زهير اثناء عودته يرغب أن يحل في منزل يجمعه مع الحسين، فاذا حط ركب الحسين (عليه السلام) رحالة في منزل ما رحل ركب زهير لينزل في مكان آخر، فكان يحاول جاهداً أنه لا يرى الحسين (عليه السلام) أو يقابله! وعلى طول الطريق ثمة نهر عذب المياه ينبع من جبال مكة لينتهي عند البحر!
لقد كانت مكانة زهير الاجتماعية تحتم عليه أن يفعل ذلك، فهو لم يكن من اتباع علي وآل علي (عليه السلام) بل لم يكن على صلة بهذه الاسرة وانما كان عثماني الهوى ومن المقربين لدى الحكم الأموي ومن أنصار الجهاز الحاكم.
ومن جانب آخر فهو يعرف الحسين (عليه السلام) جيداً ويكن فائق الاحترام لآل على (عليه السلام) ولم يكن يرغب المشاركة في قتل الحسين بن علي (عليهما السلام) بل يريد الوقوف على الحياد، فيحافظ على علاقته بالنظام الأموي ولا يقاتل الحسين (عليه السلام)، ومقابلته للحسين (عليه السلام) تعارض هذا المراد، وقد وصلت الاخبار إلى يزيد بما مفاده أن زهيراً قد التقى الحسين (عليه السلام).
ماذا يصنع إذا دعاه الحسين (عليه السلام) لنصرته؟ فإن نصره فذلك يعني الافتراق عن رفاق دربه ومسلكه، وأن أبي فليس من الوارد رد الحسين (عليه السلام) فهو ابن علي وفاطمة رجل عظيم المنزلة، سبط رسول الله (صلى الله عليه وآله)، كيف يعصى أمره، وبم يجيب الحق تعالى يوم القيامة، وكيف يتحمل عذاب نار أوقدها بارؤها؟
الحياد أفضل الخيارات، فلابد أذن أن ينزل ركب زهير في مكان لا يتوقع فيه مقابلة الحسين (عليه السلام)، ... وكان زهير يريد شيئاً والمصير يريد شيئاً آخر.
كانت المنازل في الجزيرة العربية متباعدة ولا مناص من أن تضع القوافل رحالها في منزل ما شاءت أم ابت، وأجبرت قافلة زهير على أن تجتمع مع قافلة الحسين (عليه السلام) في أرض واحدة، الأرض التي صنعت من العثماني علوياً ومن اليزيدي حسينياً!!
فنصبت خيام زهير، وعلى مقربة منها خيام الحسين (عليه السلام)، وقد كان الحسين (عليه السلام) على علم ببطولة زهير ورجولته وشهامته وفصاحته وبأسه وعلمه، اذن من الغبن بقاؤه خارج نطاق الانسانية بما يمتلكه من مؤهلات ويبقى قابعاً في ظل وحوش كاسرة من امثال بني امية، ولا ينتفع هذا الحر من حريته، وليس من الملائم أن تدفن هذه الجوهرة الثمينة بين الانقاض وتنطفئ جذوة هذا الانسان العظيم.
وفي هذا المنزل أيضاً لم ينفك زهير عن التزام الحذر، فقد سعى جاهداً أن لا يواجه الحسين (عليه السلام) ولا يدنو منه، فالحسين (عليه السلام) ثائر بوجه الحكم القائم. وزهير من أنصار هذا الحكم، والنظام يتوقع من انصاره معاداة اعدائه والمبادرة إلى قمع المتمردين عليه، فيما يعتبر التقرب إلى هؤلاء الاعداء جرماً لا يغتفر.
وفيما كان زهير جالساً في خيمته يتناول الطعام مع ذويه فاذا برسول الحسين (عليه السلام) يطل عليهم مسلما قائلاً: زهير! الحسين بن علي (عليه السلام) يدعوك.
هنا أصبح زهير أمام ما كان يحذر، فلم يستطع الكلام لما أصابه من اضطراب، وسدت أمامه جميع نوافذ التفكير اذ لم يكن يتوقع ذلك، وأصابته الحيرة، ماذا يصنع؟ هل يتجاهل دعوة الحسين (عليه السلام) ويتمرد عليها، أم يتنكر ليزيد وينطلق نحو الحسين (عليه السلام)؟ فكلا الخيارين يتناقضان مع ما كان يبتغيه من حياد. وقد بلغ الحال حداً يتعذر معه التزام الحياد.
استحوذ صمت مروع على الجميع، والقت الافواه ما فيها من طعام، اذ دهشوا عن الأكل والكلام، فيما كان رسول الحسين (عليه السلام) واقفاً يرقب الاوضاع قد استحوذته الحيرة، فأخذ يتساءل مع نفسه: لم هذا السكوت، ولم لا يأت زهير معه، ولماذا لا يرفض المجيء؟ فليس هنالك ضغط من قبل الحسين (عليه السلام). وزهير حر في اتخاذ القرار.
مضت دقائق على هذا المنوال وزهير لم يقو على اتخاذ القرار، فلا بد هنا من بصيص نور ينقذ زهيراً من الحيرة والازدواجية ويدفعه إلى اتخاذ القرار.
لقد كانت أصعب اللحظات على زهير مدى حياته، ففيها وقف على مفترق طريقي الموت والحياة، فهو كان على علم بصرامة النظام، أنه على معرفة بأصحاب الحسين (عليه السلام)، ويعلم أن الحسين (عليه السلام) مقتول لا محالة هو ومن معه. وان عياله تسبى، ويعرف إلى ما يدعوه الحسين (عليه السلام)، وأن طريق الحسين (عليه السلام) هو طريق الجنة وطريق يزيد طريق النار، وتلك السعادة وهذه الشقاء.
وإذا بالبارقة تتقد وتبادر امرأة إلى اختراق جدار الصمت وتعيد إلى زهير القدرة على اتخاذ القرار، ولم تكن تلك المرأة سوى دلهم زوجته، فقالت: سبحان الله ايدعوك ابن رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولا تجبه؟! واسمع ما يقول!
لاحظوا أي عمل صالح تفعله المرأة الصالحة؟!
نهض زهير وتوجه نحو الحسين (عليه السلام)، ولم يطل المقام حتى عاد زهير والبسمة تعلو محياه قد زال عنه الهم، وطفح السرور على تقاسيم وجهه، فقد انجلى الظلام وحل النور، ولى زمان الحياد وحل زمان الانحياز إلى الحق.
ولم يكن لأحد علم بما قاله الحسين (عليه السلام) لزهير وما سمعه زهير في غضون. تلك المدة الوجيزة.
لما عاد زهير إلى خيمته أمر بنقلها إلى جانب خيام الحسين (عليه السلام) فالتحق النهر بالبحر، وتحول زهير من معسكر يزيد إلى معسكر الحسين (عليه السلام) وتحرر من قيود الظلم، ودخل رحاب العدالة، وأصبح علوي الهوى بعد أن كان عثمانياً. تأملوا كيف تبحث السعادة بنفسها عن ابن آدم؟
ثم خاطب زهير من كان معه قائلاً: من أرادني فليتبعني والا فالوداع. فالتحق به سلمان البجلي وهو ابن عمه وأصبح من أنصار الحسين (عليه السلام)، وقد استشهد يوم عاشوراء بعد أن أدى صلاة الظهر خلف الحسين (عليه السلام).
لقد هجر زهير الدنيا وما فيها والتحق بالحسين (عليه السلام)، فقد كان مع الحسين واستشهد معه وهو معه الآن خالد في ذلك العالم.
ودع زهير زوجته قائلاً: الحقي بقومك كي لا يمسكِ سوء بسببي، واعطاها ما لها من حقوق وسرحها مع ابن عمها إلى قومها، فبكت دلهم بكاء شديداً وودعت زوجها قائلة: رعاك الله ونصرك واراك خيراً، ولا أريد منك الا ان تذكرني يوم القيامة عند رسول الله (صلى الله عليه وآله).
نعم، لقد صودرت الحرية وحق الاختيار من زهير من قبل الأمويين، بيد ان زوجته كانت السبب في عودتها اليه، وفي رحاب تحرره من قيود الطاغوت عروج إلى السعادة الابدية!!
بناءً على ذلك، ليس عبثً إذا ما قيل إن الزواج يضمن الحرية والاختيار أو يكون سبباً في استعادة حرية الانسان واستقلاله.
علينا أن نحافظ من خلال الزواج على النعمة الالهية الكامنة في أنفسنا، ونصون مقام الخلافة الذي وهبه الله لنا من أن تخطفه الشهوات والمفاسد، ونعزز ايماننا وعملنا الصالح، ونعمل على احراز نصف ديننا ونحافظ على النصف الآخر من خلال التزام التقوى وتجنب المحرمات.
فالرجل في ظل الزواج يعد شريكاً في تنامي كمال المرأة، وهي شريكة في تسامي مراتبه.
أن المرأة مخلوق عظيم وجدير وهذا ما حدا بالعظماء إلى التصريح قائلين: وراء كل عظيم امرأة، والرجل مخلوق مقدس وعظيم وكريم حتى قيل بحقه انه الدافع الذي يقف وراء ارتقاء المرأة المراتب السامية.
يقول علي (عليه السلام): أول من يدخل الجنة من النساء خديجة.
وهذا يدلل ما تحمله المرأة من روح الهية، ومنزلتها الجليلة في خلافة الله على أرضه، وتمتعها بالخصال السامية والذخائر الانسانية والاخلاقية والايمانية.
نعم، فالمرأة المتحررة من قيود الهوى والطاغوت والغرائز المحرمة، وكذا الرجل، كلاهما بمثابة الجوهرتين النفيستين وعبارة عن حقيقتين شامختين في عالم الخلق الرحب.
لقد نسب الامام الحسين (عليه السلام) حرية الحر بن يزيد الرياحي إلى امه، وكان امير المؤمنين (عليه السلام) يؤكد ان عظمة مالك الاشتر انما هي نفحة من حجر امه الطاهر الذي تربى فيه.
على الرجل ان يكون قدوة وأسوة لكل خير في بيته، وهكذا المرأة، وكلاهما يكونان أسوة حسنة وقدوة صالحة لأبنائهما.
الاكثر قراءة في الزوج و الزوجة
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة