المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار
المؤلف:
هاشم معروف الحسني
المصدر:
سيرة المصطفى "ص"
الجزء والصفحة:
ص264-269
2025-10-31
41
لقد سبق من النبي ( ص ) ان آخى بين المهاجرين في مكة قبل هجرتهم إلى المدينة كما جاء في السيرة الحلبية ، فقد آخى بين أبي بكر وعمر ، وآخى بين الحمزة وزيد بن حارثة ، وبين عبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان ، وبين الزبير بن العوام وابن مسعود ، وهكذا وترك عليا ( ع ) فقال له : أما ترضى يا علي ان أكون أخاك قال : بلى يا رسول اللّه ، قال فأنت أخي في الدنيا والآخرة ، وأنكر بعضهم هذه المؤاخاة لا سيما مؤاخاة النبي ( ص ) لعلي ( ع ) ، ولعل السبب في انكار من انكر هذه المؤاخاة هو انه ( ص ) قد اختار عليا لنفسه وخصه بهذه المنزلة الرفيعة ، بينما ترك غيره وواساه بسائر الناس .
ولكن انكار المنكرين لها لا يثير الشك حولها بعد ان كان حديث المؤاخاة يكاد ان يكون أشبه بالأحاديث المتواترة .
وقد تعرض الأستاذ الغزالي في كتابه فقه السيرة إلى المؤاخاة ، ورجح انه آخى بينه وبين علي ( ع ) ، ولكنه أراد ان يثير الشك حول حديث مؤاخاته لعلي ( ع ) فقال : بعد ان ذكر حديث مؤاخاة النبي ( ص ) لعلي ، قال ومن العلماء من يشك في اخوة الرسول مع علي ( ع ) ، ولكن ما صح ان رسول اللّه جعل عليا منه بمنزلة هارون من موسى يؤيد هذه الرواية وهذا لا يخدش من منزلة أبي بكر ومكانته في الاسلام .
وقد شق على الأستاذ الشيخ محمد ناصر الدين الألباني المعلق على الطبعة السادسة من فقه السيرة شق عليه ان يمر بحديث المؤاخاة من غير أن يبدي ما في نفسه على الشيعة ويصف رواتهم ومحدثيهم بالكذب ، لينتهي من ذلك إلى أن حديث المؤاخاة لعلي لم يثبت إلا من طريق بعض رواة الشيعة وهو حكيم بن جبير أو جميع بن عمير وعيبهما الوحيد انهما متهمان بالتشيع فقد نقل الألباني في معرض التعليق على مؤاخاة النبي لعلي ، ان حكيم بن جبير ضعيف مرمي بالتشيع ، وجميع بن عمير رافضي يضع الحديث ، وأضاف إلى ذلك عن ابن حبان ان عميرا كان من أكذب الناس[1].
ويكفي عند أكثر محدثي السنة وعلمائهم ليوصف الحديث بالكذب أو الضعف أن يكون راويه متهما بالتشيع لعلي وأبنائه ، وإذا كان الشيعي يفضل عليا على الخلفاء الثلاثة ، أو يذهب إلى أحقيته بالخلافة بعد الرسول فهو رافضي خبيث كذاب على حد تعبير أكثر محدثيهم .
وبلا شك لو أن النبي ( ص ) قد آخى بينه وبين عثمان أو أبي بكر ، وحتى لو جاءت الرواية بأنه آخى بينه وبين أبي سفيان لمر عليها الألباني بدون تعليق أو تشكيك حتى ولو كان الراوي لها شيعيا رافضيا وخبيثا .
ولكن مشكلة أحاديث المؤاخاة انها تركت أبا بكر وعمر كسائر الناس وربطت بين علي ومحمد بن عبد اللّه ( ص ) ، ولا يستطيع الألباني وغيره من الحاقدين ان يتحملوا هذه الميزة لعلي ( ع ) ، هذا مع العلم بأن المؤاخاة رواها جميع المؤلفين في السيرة النبوية كابن إسحاق وابن هشام والحلبي وابن دحلان وغيرهم ، ومن المؤرخين الطبري وابن الأثير وابن كثير واليعقوبي وأبو الفداء ، كما رواها من المحدثين الترمذي في صحيحه جلد 2 ص 299 بسنده عن ابن عمر ، فقد قال : آخى رسول اللّه بين أصحابه فجاء علي ( ع ) تدمع عيناه فقال يا رسول اللّه آخيت بين أصحابك ولم تؤاخ بيني وبين أحد ، فقال له النبي : أنت أخي في الدنيا والآخرة ، ورواه الحاكم في المجلد 3 ص 14[2]، والمناوي في كنوز الحقائق وابن ماجة في صحيحه ص 12 عن عباد بن عبد اللّه عن علي ( ع ) ، وجاء فيما رواه عنه عباد أنه قال :
انا عبد اللّه وأخو رسوله وانا الصديق الأكبر لا يقولها بعدي الا كذاب . كما رواه النسائي في خصائصه ج 3 ص 18 ، والمتقي في كنز العمال ج 9 ص 394 كما رواه السيوطي في تفسير قوله تعالى : إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ .
ورواه البيهقي والعقيلي وسعيد بن منصور وابن عساكر إلى غير ذلك من عشرات المحدثين والرواة الذين ذكروا أحاديث المؤاخاة عمن رواها من الصحابة وغيرهم ، ولم يتردد بها سوى الألباني وابن تيمية ونفر غيرهما ممن أعماهم التعصب عن رؤية الحق .[3]
وعلى اي الأحوال فما جاء في طبقات ابن سعد وغيرها وبنى عليه السيد الأمين في أعيان الشيعة من أن الأخوة التي عقدها النبي بين أصحابه المهاجرين وبينهم وبين الأنصار كانت تقتضي ترتيب جميع الآثار الثابتة للأخوين حتى التوارث دون الأقرب إليه من بنيه وآله ، وظلت على ذلك إلى أن جاءت الآية الناسخة لهذا الحكم وهي قوله تعالى :
وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ * هذا الشيء ، لم يثبت وليس له مصدر موثوق به ، وكل ما تهدف إليه قصة المؤاخاة هو تمتين الروابط بين المسلمين وتأكيدها بتلك الأخوة التي جعلها النبي ( ص ) بينهم في مكة والمدينة .
ومجمل القول إن النبي ( ص ) لقد آخى بين المسلمين بعد هجرته إلى المدينة بين مهاجر وأنصاري وربط بينهم برباط الايمان والاسلام واعتبره أوثق من رابطة العرق والدم والتحالف وأكد بتلك الأخوة وحدة الهدف والغاية فيما بينهم بحيث لا يحبون ولا يكرهون ولا يرضون ولا يغضبون الا للّه وفي سبيل اللّه ، وأراد من كل فرد ان ينظر للآخر كما ينظر لأخيه النسبي فيحس باحساسه وآلامه وأفراحه ويشاركه في السراء والضراء .
وبلا شك فإن لهذا التآخي بين المهاجرين والأنصار مغزاه الدقيق الذي يدل على بعد نظر النبي ( ص ) وعمق تفكيره ، فالمهاجرون قد نزلوا ضيوفا على قوم لا يرتبطون بهم بأي من الروابط التي كانت تشد العرب بعضهم لبعض والأوس والخزرج سكان المدينة بينهم حروب وثارات قديمة وكانت المعارك تنشب فيما بينهم بين الحين والآخر ولو لكلمة عابرة أو تصرف طائش من أحد الفريقين والاسلام مقبل على تحرك سريع وجهود شاقة تتطلب قبل اي شيء آخر تناسي الأحقاد وتراص الصفوف ووحدة الهدف والغاية .
هذا بالإضافة إلى أن الوافدين إلى المدينة قد تركوا كل شيء وراءهم في مكة وأكثرهم كانوا لا يملكون قوت يومهم ، فتركت تلك المؤاخات إحساسا في نفوس الأنصار بالمسؤولية تجاه اخوانهم الوافدين ، فآثروهم على نفوسهم ووفروا لهم وسائل العمل المنتج ، وأصبح الكثير منهم في بضع سنوات معدودات في مصاف غيرهم من سكان المدينة الأثرياء .
وجاء في سيرة ابن هشام انه ( ص ) آخى بين أبي بكر وخارجة بن زهير من الخزرج وبين عمر بن الخطاب وعتبان بن مالك أخي بني سالم بن عوف ، وبين عامر بن عبد اللّه المعروف بابي عبيدة بن الجراح وبين سعد بن معاذ ، وبين عبد الرحمن بن عوف الذي أصبح بعد ذلك من أثرياء المدينة بعد ان كان لا يملك قوته آخى بينه وبين سعد بن الربيع من الخزرج ، وبين الزبير بن العوام وسلامة بن سلامة بن وقش من بني عبد الأشهل ، وبين عثمان بن عفان وأوس بن ثابت من بني النجار ، وبين طلحة بن عبد اللّه وكعب بن مالك من بني النجار وترك عليا لم يؤاخ بينه وبين أحد ، فأخذ بيده وقال له : أنت أخي في الدنيا والآخرة ، وأضاف إلى ذلك ابن هشام انه كان رسول اللّه سيد المرسلين وإمام المتقين وعلي بن أبي طالب أخوين .
وروى جماعة من المحدثين أنه قال له : أنت أخي في الدنيا والآخرة لا يقولها غيرك الا كاذب وتمت المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار ، وأصبح كل مسلم أنصاري يحس بحقوق الاخوة نحو أخيه المهاجر ويؤاسيه حتى بقوته الضروري وذابت الروابط التي كانت تشد الناس بعضهم لبعض وحلت مكانها تلك الأخوة اخوة الاسلام والحقوق والمصير المشترك ، ولعبت تلك الأخوة دورها في الانتصارات التي حققها الاسلام في بضع سنوات معدودات ، ولما بدأت تلك الروح الإسلامية تضعف في نفوس المسلمين بدأ الضعف يدب في جسم الدولة الاسلامية حتى انتهى الاسلام إلى ما هو عليه اليوم من الانهيار وأصبحوا عبيدا لغيرهم بعد ان كانوا السادة الأعزاء في جميع بقاع الأرض .
[1] انظر ص 195 من فقه السيرة للغزالي .
[2] الظاهر أن رواية المستدرك التي يقول فيها آخى بين أبي بكر وعمر وبينه وبين علي هي المؤاخاة التي وقعت في مكة لأن الثانية في المدينة آخى فيها بين مهاجري وأنصاري كما سنتعرض لذلك .
[3] انظر فضائل الخمسة ج / 1 ص 320 و 321 و 322 .
الاكثر قراءة في حاله بعد الهجرة
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة