غزوة مؤتة
المؤلف:
هاشم معروف الحسني
المصدر:
سيرة المصطفى "ص"
الجزء والصفحة:
ص565-572
2025-12-07
66
تلك هي صورة عن الحوادث التي وقعت خلال الأشهر الخمسة أو الستة بين عمرة القضاء وغزوة مؤتة التي جهز إليها النبي ( ص ) جيشا من ثلاثة آلاف مقاتل وامرهم بالخروج إلى بلاد الشام لدعوة أهلها إلى الاسلام ، وقتالهم إذا هم رفضوا ولم يقبلوا بشروط المسلمين ، وكان ذلك في الشهر الخامس من السنة الثامنة للهجرة .
وقد اختلف المؤرخون في الدوافع إلى هذه الغزوة ، فقال بعضهم ان الدافع إليها هو الانتقام للحارث بن عمير الأزدي ، وكان قد وجهه النبي ( ص ) بكتاب إلى ملك بصرى ، فلما نزل مؤتة تعرض له شرحبيل بن عمرو الغساني وقال له اين تريد فقال الشام ، قال لعلك من رسل محمد قال : نعم فأوثقه رباطا ثم قدمه وضرب عنقه ، ولم يقتل غيره من الرسل الذين وجههم النبي إلى الملوك والرؤساء خارج الحجاز ، فكان لهذه الحادثة وقع شديد على النبي والمسلمين ، فأرسل رسول اللّه هذا الجيش المؤلف من ثلاثة آلاف للاقتصاص من ذلك الوالي واتباعه .
وقيل إن هذه السرية كانت للانتقام لسرية كعب بن عمير التي ارسلها النبي ( ص ) إلى ذات اطلاح في بلاد الشام يدعوهم إلى الاسلام ، وكان من امرها ان قابلتهم تلك الحشود التي تجمعت في ذلك المكان بالسيوف والنبال ولم يفلت منهم سوى رجل واحد وقع جريحا ، ثم تحامل بعد انتهاء المعركة وانصراف الناس وانسل من بين القتلى مثخنا بالجراح ورجع إلى المدينة ليخبر النبي بما جرى له ولأتباعه إلى غير ذلك مما قيل حول أسباب هذه الغزوة ودوافعها .
وليس ببعيد ان يكون الدافع إلى هذه الغزوة المؤلفة من جيش لا يتجاوز الثلاثة آلاف مقاتل كما تجمع الروايات على ذلك بعد ارسال الرسل إلى هرقل وغيره من الملوك والامراء ، هو ان النبي ( ص ) لم يرسل إلى عرب الحجاز وحدهم بل ارسل إلى العالم بأسره ، وبعد ان أصبح بحكم المطمئن على دعوته في شبه الجزيرة كان يفكر ان يجد لها منفذا لخارج المنطقة التي انطلقت منها ، وكانت الدولة الرومانية هي الدولة الكبرى التي امتد نفوذها لبلاد الشام المتصلة بحدود الحجاز وصلة المكيين والحجازيين بتلك البلاد أوثق من صلتهم بأي بلد آخر ، فأرسل دعاته أولا وقواته ثانيا لا للحرب ولكن للدعوة إلى الاسلام ، اما الحرب فهي آخر ما كان يفكر فيه ، ولذا فقد أوصى قواد تلك السرية بالدعوة إلى الاسلام وبذل جميع المحاولات لإقناعهم وان لا يستعملوا القوة الا إذا اضطروا إليها كما كان يصنع هو نفسه في غزواته مع مشركي مكة وعرب الحجاز ويهودها .
ولم يكن يحسب بأنهم سيصطدمون بتلك الحشود الهائلة التي يقدرها فريق من الرواة بمائة الف وفريق آخر بمائتي ألف ، وحتى لو كان يعلم ذلك فلم يكن في سائر غزواته وحروبه يقدر للكثرة قدرا أو يحسب لها حسابا ، ومع أن جيشه رجع كالمنهزم من تلك المعركة ومني بخسائر فادحة في الأرواح الا انه ترك اثرا عميقا في نفوس أولئك الحكام الذين كانوا يتصورون ان بإمكانهم القضاء على محمد وأصحابه متى أرادوا .
لقد أيقنوا بعد تلك الغزوة ان محمدا واتباعه قد أصبحوا قوة بين القوى الموجودة في العالم ، وانهم بإيمانهم وإخلاصهم لعقيدتهم ومبادئهم يطمحون إلى اخضاع الدول الكبرى ولا يهابون العدة والعدد مهما بلغ شأنهما ، وقد رأوا من اقدامهم بهذا العدد اليسير على تلك الحشود الهائلة واستبسالهم في القتال ومرونتهم في إدارة المعارك ما بهر عقولهم وزرع في قلوبهم بذور الرعب والخوف ، وأصبحوا يحذرون ويتهيبون هذه الدولة الفتية الناشئة التي لا تستهدف تسلطا على البشر ولا استغلالا لموارد الأرض ولا ضم بقاع منها إلى نفوذها وسلطانها ، وإنما تستهدف ان تجمع البشرية على الايمان بإله واحد أحد لا شريك له ولا ولد وتخليصها من سيطرة الطغاة والمتجبرين وتحرير الضعفاء والمظلومين من تسلط الأقوياء واستغلالهم للانسان ليكون حرا في تفكيره وسلوكه وحياته لا يخضع لغير الخالق الذي يؤتي الملك من يشاء وينزعه ممن يشاء .
ومهما كانت دوافع تلك الغزوة فلا شك ان محمدا ( ص ) كان حكيما يستمد من حكيم خبير وتتسع نظراته لما وراء زمانه بزمن طويل ، مهما كانت دوافعها فلقد جهز هذا الجيش وعين ثلاثة من الصفوة بين أصحابه يتولون قيادته على التعاقب .
وتجمع المصادر الشيعية انه جعل القيادة لجعفر بن أبي طالب ، ومن بعده لزيد بن حارثة ، ومن بعدهما لعبد اللّه بن رواحة ، وترك للجيش ان يختار لقيادته من يراه صالحا إذا أصيب الثلاثة .
كما تجمع المصادر السنية انه جعل القيادة لزيد بن حارثة ومن بعده لجعفر بن أبي طالب ومن بعدهما لعبد اللّه بن رواحة .
وجاء في شرح النهج لابن أبي الحديد عن الواقدي ان النبي ( ص ) خرج مع من بقي في المدينة لوداع الجيش ومشى معهم حتى بلغ ثنية الوداع ووقف عندها يوصيهم بتقوى اللّه والاعتماد عليه والصبر والثبات في ساعات الشدة ، وقال لهم : انكم ستجدون رجالا في الصوامع معتزلين الناس فلا تتعرضوا لهم ، وستجدون آخرين للشيطان في رؤوسهم مفاحص فاقلعوها بالسيوف ، ولا تقتلوا امرأة ولا صغيرا ضرعا ولا كبيرا فانيا ، ولا تقطعوا نخلا وشجرا ولا تهدموا بناء لأحد .
ولما ودع عبد اللّه بن رواحة قال له عبد اللّه : زودني يا رسول اللّه بشيء احفظه عنك فقال له يا عبد اللّه : انك قادم إلى بلد السجود فيه قليل فأكثروا من السجود للّه فقال له زدني يا رسول اللّه : فقال له اذكر اللّه واستغن به فإنه عون لك على ما تطلب ، ولما طلب منه المزيد أوصاه بالاحسان إلى الناس ، وقال يا بن رواحة ما عجزت فلا تعجز ان أسأت عشرا ان تحسن واحدة ، فقال له ابن رواحة لا أسألك بعد هذه عن شيء ، ثم ودعهم النبي ( ص ) ومن معه وانشد عبد اللّه يرد على دعاء المسلمين لهم بالعودة سالمين :
لكنني أسأل الرحمن مغفرة * وضربة ذات فرغ تقذف الزبدا
أو طعنة بيدي حران مجهزة * بحربة تنفذ الأحشاء والكبدا
حتى يقال إذا مروا على جدثي * يا أرشد الناس من غاز وقد رشدا
وانطلق الجيش متجها نحو مشارف الشام فنزل وادي القرى واستراحوا بها وهم يفكرون ان يأخذوا القوم على غرة منهم كما هي عادتهم في أكثر الغزوات ويرجعون ظافرين منتصرين ، ولكن اخبارهم كانت قد سبقتهم وبلغت المناطق التي يتولاها شرحبيل عامل هرقل فجمع القبائل من حوله ، وأرسل إلى هرقل ليمده بجيش من عنده فأمده بعدد كبير من العرب .
وتذهب بعض الروايات ان هرقل بنفسه خرج على رأس ذلك الجيش كما تذهب بعضها انه أرسله بقيادة أخيه ( تيودور ) حتى اجتمع من الروم والعرب لمقابلة جيش المسلمين مائة الف ، أو مائتا الف حسب اختلاف الروايات في ذلك . ولما انتهى المسلمون إلى معان بلغتهم اخبار تلك الحشود ، وقيل إن اخبارها بلغتهم وهم في وادي القرى فأقاموا ليلتين يتداولون الرأي بينهم في الرجوع والمضي ، فارتأى فريق منهم ان يكتبوا إلى النبي ويخبروه باستعداد القوم وعدد جيوشهم ، فإما ان يمدهم بالرجال ويأمرهم بالمضي ، أو يأمرهم بالرجوع ، وكاد هذا الرأي ان يتغلب لولا ان عبد اللّه بن رواحة وقف في القوم يشجعهم ويقول : يا قوم واللّه إنا لم نكن نقاتل الناس بعدد وكثرة بل نقاتل بهذا الدين الذي أكرمنا اللّه به ، فإنما هي احدى الحسنيين اما ظهور على العدو ، واما الشهادة فكان لهذه الكلمات اثرها الطيب على تلك النفوس المؤمنة فصمموا على المضي والقتال مهما كانت النتائج ومضوا في طريقهم ، فلما بلغوا ارض البلقاء بلغهم ان جيش الروم يرابط في قرية من قرى البلقاء يقال لها مشارف ، فانحاز المسلمون إلى قرية يقال لها مؤتة وعبأوا جيوشهم بها ولما التقى الجمعان ثلاثة آلاف مسلم من جهة ، ومائتا الف من جيوش الروم في مقابلهم في الجهة الثانية ، فأخذ الراية زيد بن حارثة وحمل على القوم بمن معه من المسلمين بسيوفهم ورماحهم يقاتلون قتال المستميت الذي لا يطمع في الحياة ابدا وظل يقاتل لفترة من الزمن حتى قتل فأخذ الراية جعفر بن أبي طالب ومضى بها يقاتل ويشد على القوم بسيفه فينفرجون عنه وهم كالسيل لا يدرك البصر آخرهم .
ويروي المؤرخون عمن حضروا تلك المعركة انه لما احتدم القتال اقتحم عن فرس له شقراء وعقرها حتى لا يبقى له امل بالفرار وحمل على القوم راجلا ومضى يقاتل ويقتل كل من دنا منه حتى أحاطوا به من كل جانب فضربه رومي على يمينه فقطعها فأخذ الراية بيساره ، فضربه آخر على يساره فقطعها فاحتضن الراية فضربه أحدهم بالسيف فقطعه نصفين ، فوجدوا في أحد نصفيه خمسة وثلاثين جرحا .
وجاء في رواية ثانية انهم وجدوا في مقدم بدنه تسعين جرحا ما بين طعنة برمح وضربة بسيف .
وجاء في مجاميع الحديث السنية والشيعية ان النبي ( ص ) قال لقد أبدله اللّه بهما جناحين يطير بهما مع الملائكة في الجنة .
وروى البخاري في صحيحه عن الشعبي عن ابن عمر انه كان إذا سلم على عبد اللّه بن جعفر يقول له : السلام عليك يا بن ذي الجناحين .
وروى ابن كثير في بدايته ان جعفر بن أبي طالب لما نزل عن فرسه وعقرها حمل على جيوش الروم وهو يقول :
يا حبذا الجنة واقترابها * طيبة وبارد شرابها
والروم روم قد دنا عذابها * كافرة بعيدة أنسابها
علي إذ لاقيتها ضرابها
ومضى يقول هو وغيره من المؤلفين في السيرة انه لما قتل جعفر بن أبي طالب اخذ الراية عبد اللّه بن رواحة فاعتراه بعض التردد والخوف ثم قال مخاطبا نفسه :
يا نفس إلا تقتلي تموتي * هذا حمام الموت قد صليت
وما تمنيت فقد أعطيت * ان تفعلي فعلهما هديت
ثم نزل عن فرسه وحمل على القوم بمن معه من المسلمين وفيما هو يقاتل اتاه ابن عم له بعظم عليه لحم وقال شد به صلبك ، فإنك قد لقيت في أيامك هذه ما لقيت فأخذه من يده وانتهش منه نهشة ، ولما رأى المسلمين يشتدون في القتال ألقاه من يده وحمل على القوم وقاتل حتى قتل .
وجاء في تاريخ ابن كثير ان رسول اللّه نعى زيدا وجعفرا وعبد اللّه بن رواحة إلى الناس ساعة قتلوا وقال لهم : لقد اخذ الراية زيد وأصيب ، ثم جعفر وأصيب ، ثم اخذها ابن رواحة وقاتل بها بعد تردد وأصيب .
وجاء في كتب السيرة انه دخل على أسماء بنت عميس زوجة جعفر فقال لها : اين بنو جعفر فجاءته بهم وهم ثلاثة عبد اللّه وعون ومحمد فأجلسهم في حجره وجعل يمسح على رؤوسهم كما يمسح على رؤوس الأيتام ثم ذرفت عيناه بالدموع وبكى ، فقالت له : يا رسول اللّه انك تمسح على رؤوسهم كالأيتام فهل بلغك عن جعفر وأصحابه شيء فعجب من عقلها وقال لها يا أسماء ألم تعلمي بأن جعفرا قد استشهد فبكت ، فقال لها لا تبكي ، فإن اللّه أخبرني ان له جناحين في الجنة من ياقوت احمر يطير بهما مع الملائكة .
فقالت له يا رسول اللّه : لو جمعت الناس وأخبرتهم بفضل جعفر فقام رسول اللّه وصعد المنبر وتحدث عن جعفر وفضله والحزن ظاهر على وجهه ، ثم رجع إلى بيته وقال لأهله اصنعوا لأولاد جعفر طعاما ودخل على ابنته فاطمة وهي تقول : وا عماه فقال على جعفر فلتبك البواكي .
وجاء في كتب السيرة والتاريخ انه لما قتل عبد اللّه بن رواحة انهزم المسلمون فاخذ الراية ثابت بن أرقم وجعل يصيح بالأنصار فرجع إليه جماعة منهم فقال لخالد بن الوليد خذ الراية يا أبا سليمان فأخذها خالد بن الوليد وحمل بمن معه على جيش الروم وجعل المشركون يحملون عليه حتى دهمه منهم بشر كثير ، فانحاز بالمسلمين وانكشفوا راجعين وأضاف إلى ذلك الواقدي انه روي أن خالدا ثبت بالناس ، ولم ينهزم والصحيح انه انهزم .
وفي شرح النهج عن أبي سعيد الخدري أنه قال : أقبل خالد بالناس منهزمين ، فلما سمع أهل المدينة بهم استقبلوهم إلى الجرف وجعلوا يحثون في وجوههم التراب ، ويقولون لهم يا فرار فررتم في سبيل اللّه ، فقال النبي لهم : ليسوا بالفرار ولكنهم كرار ، وأضاف إلى ذلك الواقدي انه ما لقي جيش بعث مبعثا ما لقي أصحاب مؤتة من أهل المدينة لقد قابلوهم بالشر حتى أن الرجل كان يأتي أهله وبيته فيدق عليهم الباب فيأبون ان يفتحوا له ويقولون الا تقدمت مع أصحابك فقتلت كما قتلوا ، وجلس الكبار منهم في بيوتهم استحياء من الناس حتى ارسل إليهم رسول اللّه رجلا رجلا وقال لهم أنتم الكرار في سبيل اللّه .
ومهما كان الحال فلقد رجع خالد بن الوليد إلى المدينة منهزما كما تؤكد ذلك أكثر كتب السيرة .
وجاء في بعضها انه استطاع ان يدير المعركة ببطولة ومهارة وينظم الجيش تنظيما أوهم العدو بأن المدد قد جاءهم من المدينة وانهم في المرحلة الثانية بعد هذا المدد المتصل بالمدينة سيكون موقفهم اصلب وأشد من مواقفهم الأولى ، ولذلك فقد تقاعس الروم عن مهاجمتهم ، واستبشروا بانسحابهم ولكن مهما كانت الطريقة التي استعملها لم تكن الا لتسهيل وسائل الانسحاب لا غير ولقد قابلهم المسلمون في المدينة بالجفاء والسخرية حتى لزم جماعة منهم بيوتهم خجلا من الناس في حين ان الرسول قد هون عليهم الأمر واستقبلهم استقبال الفاتحين كما ذكرنا .
اما الآثار التي تركتها هذه الغزوة ، فلقد ارتاحت لها قريش واعتبرتها هزيمة منكرة واستخفت بعدها بمكانة المسلمين ومعنوياتهم ، ولم يعد لوثيقة الصلح ذلك الأثر الذي يفرض عليهم الالتزام بها ، لذلك فقد أسرعت إلى نقض بنود المعاهدة وناصرت بني بكر على خزاعة احلاف النبي ( ص ) وامدتهم بالسلاح والرجال حتى قتلوا من خزاعة رجالا وأصبحت قريش حربا على المسلمين ومن دخل في عهدهم .
الاكثر قراءة في حاله بعد الهجرة
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة