كان ما يسميه بعض المؤلفين في السيرة بغزوة الحديبية ، ويسميه آخرون بصلح الحديبية في مطلع ذي القعدة بعد ست سنوات مضت على خروجه من مكة مهاجرا بمن معه من المسلمين إلى المدينة ، وما ان استقر في المدينة حتى تتابعت الأحداث ، وظل النبي ومن معه من المسلمين منذ الأيام الأولى لهجرته وهم في جهاد مستمر وغزوات متصلة بينهم وبين قريش وبينهم وبين اليهود وعرب الجزيرة تتخللها انتصارات وغنائم امدت المسلمين بالقوة ، وساعدت على انتشار الاسلام ، كما تتخللها نكسات ولكن آثارها كانت محدودة لم تؤثر على مسيرة الدعوة وانتشارها .
وكان النبي ( ص ) بما أوتي من حكمة يطوقها قبل ان يستغلها أعداء الاسلام لصالحهم ، وقد استطاع خلال هذه المدة القصيرة القضاء على الطوائف الثلاث من اليهود ومن كان يناصرهم من الأعراب ، واتجه الكثير من عرب الجزيرة إلى الدين الجديد وارتفعت معنويات المسلمين وأيقنوا بالنصر في النهاية على جميع اخصامهم وأعدائهم في الجزيرة بكاملها . وخلال تلك السنين من مبعثه مع ما كان يعانيه من المشركين واليهود والمنافقين كان يبلغ ما يتلقاه من الوحي من التشريعات التي تنظم صلة الانسان بربه وبمجتمعه وأسرته ومعاملاته والتي تناولت جميع جوانب الحياة ، ومن بين تلك التشريعات ما يتعلق بشأن الحج والمسجد الحرام الذي جعله اللّه مثابة للناس وامنا .
وكان المسلمون خلال ذلك يتحرقون شوقا إلى الحج وزيارة الكعبة وقد أصبحت قبلتهم في صلاتهم منذ السنة الأولى التي غادر النبي ومن معه مكة مكرهين ، ولكن قريشا لم تكن لتمكنهم من ذلك أو تتساهل معهم في امر من هذا النوع مهما كان الحال .
وفيما كان المسلمون يتحرقون لتلك الرحلة ، وإذا بالنبي ( ص ) يخبرهم بما عزم عليه بأمر من اللّه سبحانه لتجديد العهد بزيارة البيت وأداء بعض المناسك في العشرة الأولى من شهر ذي القعدة وسرى نبأ هذه الرحلة في جميع انحاء المدينة بأسرع من البرق ، وأعلن النبي ( ص ) بأنه لا يفكر في حرب قريش ولا في استعمال القوة ما دام يجد سبيلا لذلك . ودعا عامة المسلمين في المدينة وخارجها وأوفد رسله إلى القبائل من غير المسلمين يدعوهم إلى الخروج معه إلى بيت اللّه مسالمين غير محاربين وظهر بمظهر الحريص على أن يدخل مكة بأكبر عدد من المسلمين وغيرهم ، لتعلم قريش وغيرها انه قد خرج في الشهر الحرام لا يريد قتالا ولا حربا ، وإنما خرج لأداء فريضة فرضها الاسلام كما فرضتها شريعة العرب وبعض الأديان من قبل ، وعلامة ذلك أنه قد خرج ومعه جمع كبير ممن لا يؤمنون بدينه ولا يعترفون بنبوته ، فما على قريش بعد ذلك ، أتراها تستقبله كما تستقبل الحجاج لا سيما وان معه من سيقف إلى جانبها إذا كان ناويا للفتح أو للحرب ، أم تراها تعلن عليه الحرب وإن علمت أنه جاءها معتمرا لا غازيا ومسالما لا محاربا ، وما ذا يكون موقفها عند ذلك من تلك القبائل المشركة التي لا ترى لموقفها هذا مبررا من رجل جاءها مسالما يريد ان يعتمر في الأشهر الحرم كما كانت تصنع العرب في جاهليتهم مع ما كان بينهم من احقاد وحروب وثارات .
ومن الجائز القريب أن تكون دعوته لغير المسلمين بالاشتراك معه في تلك الرحلة لإحراج قريش وإتمام الحجة عليها كما ذكرنا .
وبالفعل ارسل إلى العرب الذين لا يزالون على شركهم يدعوهم إلى هذه المسيرة ، ولكن المؤلفين في سيرة النبي ( ص ) يؤكدون ان الأعراب لم يتجاوبوا معه ، ومع ذلك فقد اصر على الخروج بمن معه من المهاجرين والأنصار ، وكانوا ألفا وأربعمائة وقيل أكثر من ذلك واستخلف على المدينة ابن أمّ مكتوم .
وقال المفيد في ارشاده انه اعطى لواءه لعلي ( ع ) كما أعطاه إياه في أكثر حروبه وغزواته وساق من الهدي سبعين بدنة وخرج يتقدمهم على ناقته القصوى ومعهم سيوفهم في اغمادها ومضى بمن معه من المسلمين وغيرهم حتى بلغ ذا الحليفة[1] فأحرم فيها ولبى ودعا بالبدن وجرح عددا منها في الشق الأيمن من سنامها ووضع في أعناقها قطعا من الجلد تشير إلى أنها هدي .
ولما بلغ عسفان بلغ قريشا خبره ، فاجتمعوا على صده عن المسجد الحرام وخرجوا ومعهم النساء والصبيان ونزلوا بذي طوى ، وأرسلوا مائتي فارس بقيادة خالد بن الوليد إلى كراع الغميم[2] ليقطع الطريق عليه ، وكان قد دخل بشر ، أو بشير بن سفيان مكة واطلع على موقف قريش وخروجها بعدتها وعددها لمنعه من دخول المدينة فخرج من مكة والتقى بالنبي ( ص ) بعسفان ، فقال له يا رسول اللّه : هذه قريش قد سمعت بمسيرك فخرجوا ومعهم النساء والصبيان وقد لبسوا جلود النمور ونزلوا بذي طوى يعاهدون اللّه لا تدخلها عليهم ابدا ، وهذا خالد بن الوليد في خيلهم قد قدموها إلى كراع الغميم ، وقد روى ذلك ابن هشام وغيره .
وهذه الرواية تؤكد ان خالد بن الوليد كان لا يزال مشركا يكيد للإسلام والمسلمين مع قريش وغيرها من الأعراب ولكن رواية الطبري تنص على أن الذي جاء بالخيل عكرمة بن أبي جهل فانتدب له النبي خالدا فهزمه حتى ادخله حيطان مكة وهكذا كان يصنع به كلما عاد ليهاجم المسلمين .
ولكن أكثر المؤلفين في السيرة والمؤرخين يصرحون بأن خالدا كان لا يزال مشركا وقد تولى للمشركين قيادة الخيل لصد الرسول وأصحابه عن دخول مكة ، وقد أورد الطبري الروايتين ورجح الرواية المشهورة .
وعندما اخبر بشير بن سفيان رسول اللّه بموقف قريش قال ( ص ) يا ويح قريش لقد اكلتهم الحرب ما ذا عليهم لو خلوا بيني وبين العرب ، فإن هم أصابوني كان الذي أرادوه ، وإن أظهرني اللّه عليهم دخلوا في الاسلام وافرين ، وإن لم يعقلوا قاتلوا وبهم قوة ، فما تظن قريش ، فو اللّه لا أزال أجاهد على الذي بعثني اللّه به أو تنفرد هذه السالفة[3].
ووقف عند ذلك يفكر ما ذا يصنع ما دامت قريش مصرة على منعه من دخول مكة ومستعدة لحربه وهو لم يخرج من المدينة لذلك ، وكان كل همه ان يتجنب الصدام معهم حتى لا تكون لهم الحجة عليه عند العرب الذين يقدسون الأشهر الحرم ويحرمون فيها القتال ، وفي الوقت ذاته لا يرى القتال في مثل هذا الظرف من مصلحته لا سيما وانه لم يخرج بالعتاد اللازم .
وجاء في كتب السيرة أنه قال لأصحابه : من منكم يخرج بنا على غير طريقهم التي هم عليها فتقدم إليه رجل من اسلم وقال انا يا رسول اللّه :
فسلك بهم طريقا وعرا كثير الحجارة بين شعاب مضنية فساروا فيه إلى أن خرجوا منه إلى ارض سهلة سلكوا فيها ذات اليمين في طريق أوصلتهم إلى ثنية المراد مهبط الحديبية من أسفل مكة .
فلما رأت خيل قريش ما صنع النبي كروا راجعين ادراجهم إلى جهة مكة ليقفوا مدافعين عنها إذا أراد محمد ( ص ) دخولها ، ومضى رسول اللّه في ثنية المراد حتى بلغ الحديبية فبركت ناقته القصوى ، فقال الناس خلأت الناقة يعنون بذلك انها حرنت أو أجهدت ، فقال النبي ما خلأت وما هو لها بخلق ، ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة ، واللّه لا تدعوني قريش إلى خطة يسألونني فيها صلة الرحم إلا أعطيتهم إياها .
ثم قال للناس : انزلوا فقيل له يا رسول اللّه ما بالوادي ماء ننزل عليه ، فأخرج سهما من كنانته وأعطاه رجلا من أصحابه فنزل به في بئر من تلك الآبار الموجودة في ذلك المكان وغرزه في جوفه فجاش بالرواء حتى ضرب الناس منه بعطن على حد تعبير المؤلفين في السيرة يعنون بذلك ان الماء قد ظهر منه وارتفع ، وأضاف ذلك أبو الفداء في تاريخه ان هذه الكرامة من مشاهير معجزات النبي ( ص ) وبقي النبي في مكانه وقريش ترابط بكل قوتها على حدود مكة لجهة الحديبية .
ويدعي بعض المؤلفين في السيرة ان قريشا اوفدت إليه بديل بن ورقاء الخزاعي في رجال من خزاعة فكلموه وسألوه ما الذي جاء به ، فأخبرهم بأنه لا يريد حربا ، وإنما جاء زائرا للبيت ومعظما لحرمته ، وقال لهم نحوا مما قاله لبشير بن سفيان فرجعوا إلى قريش وأخبروها بما سمعوه منه ، وقالوا : يا معشر قريش انكم تتعجلون على محمد ، انه لم يأت لقتال وإنما جاء زائرا هذا البيت وحاولوا إقناعهم فلم يفلحوا وقالوا واللّه لا يدخلها علينا عنوة أبدا ولا تتحدث بذلك العرب .
ثم بعثوا مكرز بن حفص بن الأحنف من بني عامر بن لؤي ، فلما رآه رسول اللّه مقبلا قال هذا رجل غادر ، فلما انتهى إلى رسول اللّه وكلمه أجابه بمثل ما أجاب بديلا وأصحابه ، فرجع إليهم وأخبرهم فرفضوا ما جاءهم به .
ثم ارسلوا إليه الحليس بن علقمة وكان يوم ذاك سيد الأحابيش والأحابيش يشكلون قوة لقريش وتعتمد عليهم في القتال ، وقد ارسلوه على امل ان يزداد حماسا إذا رأى أن محمدا لا يسمع له ولا يستجيب لطلبه .
وخرج الحليس متوجها نحو معسكر النبي ( ص ) فلما رآه مقبلا قال النبي ان هذا من قوم يتألهون ، فأمر بالهدي ان تعرض امامه ليرى بعينه ان محمدا قد جاء حاجّا لا مقاتلا ، ولما رأى الحليس سبعين بدنة تتجه نحوه من الوادي في قلائدها قد اكلت اوبارها من طول الحبس تأثر بهذا المنظر ورجع إلى قريش قبل ان يتصل بالرسول ، وهو مقتنع بأن المسلمين لا يريدون حربا ولا عدوانا على أحد ، وأخبرهم بما شاهد ورأى ، فأجابوه إنما أنت رجل اعرابي لا تدرك أهدافهم .
وقال ابن هشام انه لما سمع منهم ذلك غضب وقال يا معشر قريش واللّه ما على هذا حالفناكم ولا على هذا عاقدناكم ، أيصدّ عن بيت اللّه من جاء معظما له ، والذي نفس الحليس بيده لئن لم تتركوا محمدا وما جاء لأجله أو لأنفرن بالأحابيش نفرة رجل واحد .
وخشيت قريش عاقبة غضبه لأنه بمن معه من الأحابيش يشكلون الجزء الأكبر من قوة قريش ، وطلبوا منه ان يتريث حتى ينتهوا مع محمد إلى نتيجة لصالحهم وترضي حليسا وأصحابه .
ورأت قريش بعد ذلك ان توفد إلى محمد ( ص ) عروة بن مسعود الثقفي وكانوا يطمئنون إلى رأيه وحكمته في معالجة المشاكل ، ولكنه اعتذر إليهم بعد ما رأى وسمع من تعنيفهم وسوء مقابلتهم لمن سبقه من رسلهم .
وبعد ان اكدوا له انهم يثقون بحكمته وتدبيره ولا يتهمونه بسوء ، خرج إلى النبي وجلس بين يديه ، ثم قال له يا محمد : لقد جمعت الناس على اختلاف اجناسهم وجئت بهم إلى بيضتك لتفضها بهم ، انها قريش لقد خرجت إليك ومعها الصبيان والنساء قد لبسوا جلود النمور وهم يعاهدون اللّه على أن لا تدخلها عليهم عنوة مهما كلفهم ذلك من تضحيات ، وأيم اللّه لكأني بهؤلاء قد انكشفوا عنك غدا ومد يده إلى لحية رسول اللّه وهو يفاوضه في امر قريش وتصلبها في موقفها منه ومن اتباعه ، والمغيرة بن شعبة واقف فوق رأس النبي يقرع يد عروة كلما مد يده إلى لحية رسول اللّه ؛ ويقول ارفع يدك عن وجه رسول اللّه قبل ان لا تصل إليك ، وعروة يقول له : ويحك ما افظك وأغلظك ورسول اللّه يبتسم .
ثم قال له عروة من هذا يا محمد ؟ قال هذا ابن أخيك المغيرة بن شعبة فقال له يا غادر : وهل غسلت سوءتك إلا بالأمس ، وأشار عروة بذلك إلى ما كان من غدر المغيرة وقتله لثلاثة عشر رجلا من بني مالك من ثقيف ، فهاج الحيان من ثقيف بنو مالك رهط القتلى ، والأحلاف رهط المغيرة ، فأصلح بينهم عروة وادى ثلاثة عشر دية عوضا عن القتلى من ماله .
ولما انتهى عروة من حديثه مع النبي اجابه بما أجاب به الوفود السابقة وأكد له بأنه لم يقصد حربا ولا عدوانا ، وقد رأى عروة أصحاب النبي محدقين يتفانون في سبيله ويتبركون بالتراب من تحت قدميه ، فرجع إلى قريش وقال لهم : يا معشر قريش اني جئت كسرى في ملكه وقيصر في ملكه والنجاشي في ملكه ، وإني واللّه ما رأيت ملكا في قوم قط مثل محمد في أصحابه ، ورأيت قوما لا يسلمونه لشيء ابدا .
وجاء في المؤلفات في السيرة ان النبي بعد هذه المحاولات من قبل قريش ارسل خراش بن أميّة الخزاعي إليهم على بعير له ليبلغهم ما جاء من اجله فعقروا به البعير وأرادوا قتله لولا ان الأحابيش قد حالت بينهم وبين ما يريدون ، فرجع إلى رسول اللّه واخبره بما جرى معه .
وحدث ابن إسحاق عن ابن عباس ان قريشا أرسلت خمسين رجلا ليصيبوا من أصحاب محمد أحدا واخذوا يقذفونهم بالحجارة فأسرهم أصحاب النبي وجاءوا بهم إليه فعفا عنهم وخلى سبيلهم ، فدعا عمر بن الخطاب وامره بأن يأتي قريشا ويبين لهم أهداف محمد من هذه الرحلة ، فقال له : اني أخاف قريشا على نفسي ، ولا أجد من بني عدي من يمنعهم عني[4].
ثم دعا بعثمان بن عفان فأرسله إليهم ليبلغهم انه جاء معتمرا لا غازيا ولا محاربا وجاء معه بالهدي لينحرها في سبيل اللّه وينصرف إلى حيث اتى ، فوفد عثمان على أبان بن سعد بن العاص فأجاره من القوم وبلغهم رسالة النبي فرفضوا ان يمكنوه من دخول مكة رفضا قاطعا واحتبسوا عثمان عندهم ثلاثة أيام حتى ظن المسلمون انه قد قتل ، وبلغ ذلك رسول اللّه ( ص ) ، فقال لا نبرح حتى نناجز القوم ، ودعا أصحابه إليه وقد وقف تحت شجرة في ذلك الوادي فبايعوه جميعا ان لا يفروا عنه حتى الموت وهي المعروفة ببيعة الرضوان وهذه البيعة هي التي انزل اللّه فيها كما يدعي المفسرون الآية التالية :
لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً ( الفتح 18 ) .
وبعد اتمام البيعة بلغ النبي ان عثمان لم يصب بأذى ، وقد بلغ رسالة النبي إليهم ولكنهم رفضوها وأصروا على موقفهم الأول وهم على يقين بأن محمدا لم يخرج إلا لأداء المناسك وبعد هذا الموقف المتصلب بدا لهم ان يكونوا أقل تصلبا مما هم عليه ولعلهم قدروا بأن الحرب قد لا تكون لصالحهم ، وانهم لا يستطيعون ان ينالوا من محمد ما يريدون مهما كلفهم ذلك من تضحيات لا سيما بعد ان وصف لهم عروة بن مسعود التفاف أصحابه به وتفانيهم في سبيله .
لقد بدا لهم ان يكونوا أقل تصلبا مما هم عليه وان يستأنفوا المفاوضات مع محمد ( ص ) بروح أكثر مرونة مما كانوا عليه ، ولعل عثمان قد حمل إلى النبي وجهة نظرهم التي يمكن أن تكون الأساس للمفاوضات ، وكان المفاوض الأخير من قبلهم سهيل بن عمرو ومعه حويطب بن عبد العزى ، وقد اخذت عليهما قريش ان لا يتساهلا مع محمد في امر دخوله إلى مكة في رحلته هذه ، واتصل وفد قريش بالنبي ( ص ) .
ويبدو من كتب السيرة والحديث انه جرت محادثات طويلة ومحاولات شتى بين الفريقين واضطر سهيل خلال المفاوضات ان يراجع قريشا فيما دار بينه وبين النبي ، ثم يعود ليبدي له وجهة نظرهم ، ويظهر مما جاء في بعض مجاميع الحديث ان المفاوضة بين الطرفين لم تقتصر على دخول النبي مكة لأداء مناسك الحج بل تناولت ارجاع من أسلم من أهالي مكة إلى عائلاتهم وأهاليهم .
فقد جاء في صحيح الترمذي ج 2 وكنز العمال ج 6 ص 407 وخصائص النسائي ص 11 وتاريخ بغداد ص 633 ان المفاوضة لم تقتصر على موقف الطرفين من دخول النبي لمكة هذا العام أو عدمه بل تناولت أمورا أخرى ، فقد روى الترمذي وغيره بسنده إلى ربعي بن خراش عن علي بن أبي طالب أنه قال : لما كان يوم الحديبية خرج إلينا ناس من المشركين فيهم سهيل بن عمرو وأناس من رؤساء المشركين فقالوا يا محمد خرج إليك ناس من اربابنا وإخواننا وارقائنا وليس لهم فقه في الدين وإنما خرجوا فرارا من أموالنا وضياعنا فارددهم إلينا ، فقال إذا لم يكن لهم فقه في الدين سنفقههم فيه واستطرد يقول يا معشر قريش لتنتهن أو ليبعثن اللّه عليكم من يضرب رقابكم بالسيف قد امتحن اللّه قلبه على الايمان ، فقال له أبو بكر وعمر والمشركون من هو هذا ؟ فقال خاصف النعل وكان قد اعطى عليا نعله ليخصفها .
ورواها النسائي في خصائصه والحاكم في مستدرك الصحيحين وغيرهما ، ولكن رواية النسائي والحاكم تنص على أن النبي ( ص ) حينما طلب منه المشركون ارجاع من فروا إليه التفت إلى أبي بكر وعمر وقال لهما ، ما تقولان : قالا صدق الرجل ، فتغير وجه رسول اللّه والتفت إلى الوفد وقال لن تنتهوا يا معشر قريش حتى يبعث اللّه رجلا منكم قد امتحن اللّه قلبه للايمان يضرب أعناقكم ، فقال أبو بكر انا هو يا رسول اللّه ، وقال عمر انا هو يا رسول اللّه ، فقال لا ولكنه خاصف النعل ، فالتفتوا وإذا بعلي يخصف نعلا لرسول اللّه ( ص ) .
ويدعي السيد مرتضى الفيروزآبادي في كتابه فضائل الخمسة من الصحاح الستة ان هذه الحادثة رواها الكثيرون من المحدثين والمؤرخين ، وقد عرض في كتابه المذكور رواية الترمذي والنسائي والخطيب وأشار إلى مصادرها في مجاميع الحديث السنية[5].
وعلى اي الأحوال فيدعي المؤلفون في السيرة والتاريخ ان المفاوضات بين النبي وسهيل بن عمرو وان تكن قد تناولت أمورا كثيرة كما تدعي بعض المصادر إلا انها تركزت حول عدم دخول النبي مكة هذا العام ودخوله لها في العام القادم واتفقا على جميع بنود المعاهدة ، ولم يبق إلا كتابة تلك البنود في نسختين إحداهما للنبي والأخرى للمشركين .
وكان من أهم بنود الاتفاق رجوع النبي بمن معه هذا العام ، وفي العام الذي يليه يأتي مكة بمن معه من المسلمين ويخرج منها أهلها ويبقى فيها النبي ثلاثة أيام بدون سلاح غير السيوف في اغمادها ، وان من أحب من المشركين ان يدخل في عهد محمد كان له ذلك ، ومن أحب ان يدخل مع المشركين فله ذلك أيضا من غير حرج عليه من أحد الطرفين .
وجاء في كتب السيرة انه لما تم الاتفاق بين النبي ومشركي مكة ولم يبق إلا تسجيل الاتفاق وتوقيع الطرفين وثب عمر بن الخطاب بعد حوار دار بينه وبين أبي بكر وجاء إلى النبي وقال له : ألست برسول اللّه قال بلى قال ألسنا بالمسلمين وهم مشركون قال بلى ، قال فعلام نعطي الدنية في ديننا فقال له النبي : انا عبد اللّه ورسوله ولن أخالف امره ، ولم يقتنع بذلك بالرغم من أن جواب النبي صريح بأنه مأمور بهذه المهادنة من قبل اللّه سبحانه ، حيث قال له النبي : ولن أخالف امره .
وجاء في البداية والنهاية لابن كثير أنه قال له : أو لست كنت تحدثنا انا سنأتي البيت ونطوف به قال بلى ، ولكني هل أخبرتك بأنك تأتيه هذا العام ، فقال لا قال النبي ( ص ) انك آتيه .
وجاء في رواية ثانية أنه قال ما شككت منذ أسلمت إلا ذلك اليوم .
وفي سيرة ابن هشام ان بعض من كان مع رسول اللّه قال له بعد ان قدم المدينة ألم تقل انك تدخل مكة آمنا قال بلى أفقلت لكم في عامي هذا قال لا .
وجاء في الطبري وسيرة ابن هشام وغيرهما انه بينا علي بن أبي طالب يكتب الكتاب بحضور رسول اللّه وسهيل بن عمرو وإذا بأبي جندل بن سهيل بن عمرو قد انفلت من المشركين وجاء إلى النبي ( ص ) مقيدا بالحديد فلما رأى سهيل ابنه قام إليه وضرب وجهه واخذ بتلابيبه وقال يا محمد لقد تمت القضية بيني وبينك قبل ان يأتيك هذا ، فقال له النبي صدقت ، وجعل يجر ولده ليرده إلى قريش وولده يصرخ بأعلى صوته يا معشر المسلمين أأرد إلى المشركين ليفتنوني عن ديني ، فقال له رسول اللّه : يا ابا جندل اصبر واحتسب فإن اللّه سيجعل لك ولمن معك مخرجا وفرجا ، انا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحا وأعطيناهم واعطونا العهود على ذلك وإنا لا نغدر بهم ، ووثب عمر بن الخطاب مع أبي جندل يمشي إلى جانبه ويدني منه قائم السيف ويقول له ، انما هم المشركون وإنما دم أحدهم دم كلب ، قال الراوي ان عمر بن الخطاب كان يقول لقد أدنيت منه قائم السيف وقلت له ان دم أحدهم دم كلب رجاء ان يأخذه ويضرب أباه ، ولكنه ضن بأبيه ونفذت القضية[6].
والذي يدعو إلى التساؤل في موقف عمر بن الخطاب هذا كما اتفق عليه المؤرخون هو انه كيف اقدم على عمل من هذا النوع مع أن رسول اللّه قال له بأني لم أفعل ما فعلت الا بأمر من اللّه ، ومع أنه رأى من النبي الحرص والاصرار على تنفيذه ووضع بنود الاتفاق في كتاب خاص يلتزم به الطرفان ، فكيف يقدم سيفه لأبي جندل ويحرضه على قتل والده وهو في مقام التفاوض مع رسول من قبل قريش ولو قدر لأبي جندل ان ينفذ رغبة عمر بن الخطاب ويقتل أباه بسيفه فما ذا يكون موقف النبي من قريش وقد قتل مندوبها واحد زعمائها المبرزين فيها ، بل وحتى عند جميع العرب الذين يعدون هذا النوع من الفتك من أقبح أنواع الفتك القذر الذي يترفعون عنه مهما كانت النتائج .
ثم إن قريشا هل تسكت فيما لو تحققت أمنية عمر بن الخطاب ، وبلا شك بأنها كانت ستخوض مع النبي هي واحلافها معركة من أشرس المعارك على أبواب مكة وبطاحها والمسلمون لا يملكون الا سيوفهم حين ذاك ، ومن الصعب ان يتخلص المسلمون من أيديهم وهم على مثل هذا الحال وكل الملابسات تشير إلى أن النصر سيكون لقريش ، وكما ذكرنا لو نجح عمر في تخطيطه لكان ذلك سببا لاتهام المسلمين بالغدر ونقض المواثيق ، وتكذيب النبي فيما اعلن عنه منذ خروجه من المدينة فلقد صرح في عشرات من المناسبات بأنه لم يخرج غازيا ولا مقاتلا ولا يريد الإساءة إلى أحد ، ولم يتحرك إلا لأداء مناسك الحج لا غير .
ومجمل القول إن هذا الموقف من ابن الخطاب لو صح يسيء إلى النبي وإلى سمعته ويوشك ثم إن يعرض المسلمين لحرب ضارية لا بد وان يكون النصيب الأكبر من اخطارها للمسلمين حسب تقديرنا للملابسات التي كانت تحيط بهم حين ذاك .
وعلى اي الأحوال فقد اتفق المؤلفون في السيرة ان عليا ( ع ) هو الذي تولى وضع بنود الاتفاق في كتاب خاص ، وذكروا ان النبي قال لعلي وهو يكتب : اكتب بسم اللّه الرحمن الرحيم ، فقال له سهيل لا اعرف من هو الرحمن الرحيم ، بل اكتب باسمك اللهم فوافق النبي على ذلك ، ثم قال له : اكتب هذا ما تصالح عليه محمد رسول اللّه وسهيل بن عمرو ، واعترضه سهيل قائلا لو كنا نعترف بأنك رسول اللّه لما قاتلناك ، فاكتب اسمك واسم أبيك ، فقال النبي لعلي امحها واكتب ما يريد .
وجاء في رواية البخاري ان عليا قال واللّه لا امحوها ، فأخذها النبي من يده ومحا كلمة رسول اللّه .
وروى النسائي في خصائصه ان النبي قال لعلي عند ذلك ، اما ان لك مثلها وستأتيها وأنت مضطر لذلك[7].
وجاء في عهد الصلح انهما قد اصطلحا على رفع الحرب عن الناس لمدة عشر سنين وفي رواية اليعقوبي لمدة ثلاث سنين يأمن فيهن الناس ويكف بعضهم عن بعض وعلى أنه من اتى محمدا من قريش بدون اذن وليه رد عليهم ، ومن جاء قريشا من اتباع محمد لم يردوه عليه ، وانه من أحب من العرب محالفة محمد فلا جناح عليه ومن أحب محالفة قريش فله ذلك ، وان يرجع محمد وأصحابه عن مكة عامهم هذا على أن يعودوا إليها في العام المقبل فيدخلوها ويقيموا فيها ثلاثة أيام ومعهم من السلاح السيوف في اغمادها ولا سلاح غيرها ، ووقعه جماعة من المشركين بالإضافة إلى سهيل بن عمرو كما وقعه جماعة من المسلمين مع النبي ، وأسرعت خزاعة فعقدت حلفا مع النبي ( ص ) ، كما عقد بنو بكر حلفا مع قريش ، واحتفظ كل من الطرفين بنسخة عن عهد الصلح .
وجاء في سيرة ابن إسحاق انه بعد ان تم الصلح بين الطرفين نحر رسول اللّه هديه وحلق رأسه ، فلما رأى الناس رسول اللّه ينحر ويحلق تواثبوا ينحرون ويحلقون .
وروي في البداية والنهاية انه قبل خروجه من الحديبية جاءه نسوة مؤمنات من مكة فأنزل اللّه عليه في أمرهن .
إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ ، فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ .
والصحيح كما يستفاد من أكثر كتب السيرة ان المؤمنات اللواتي تعنيهن الآية قد هاجرن إلى المدينة بعد صلح الحديبية كما سننبه على ذلك ، وأقام النبي بالحديبية نحوا من عشرين يوما لم يدخل فيها مكة ورجع إلى المدينة ، وفيما هو في طريقه انزل اللّه عليه سورة الفتح كما يدعي أكثر المفسرين والمؤلفين في سيرة النبي . واختلفوا في الفتح الذي تعنيه الآية إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً فقيل وهو الأرجح انه صلح الحديبية قد أتاح لكثير من العرب ان يدخلوا الاسلام ، وقد دخل فيه خلال سنتين اي من السنة السادسة إلى الثامنة عدد كبير من العرب ، وقيل أكثر مما دخله من تاريخ دخول النبي إلى المدينة لذلك التاريخ . فقد خرج النبي إلى مكة في السنة السادسة في الف وأربعمائة ، وخرج في الثامنة لفتح مكة في عشرة آلاف مقاتل ، فكانت رحلته إلى مكة وما تم فيها من الاتفاق من أسباب انتشار الاسلام ، بل كان في واقعه فتحا ، لأن وقوف قريش معه موقف المفاوض والمعاهد يشكل اعترافا من قريش بوجود محمد ورسالته في الجزيرة العربية بعد ان كانت لا ترى له وجودا .
وروى ابن هشام في سيرته عن الزهري أنه قال ما فتح اللّه فتحا قبله كان أعظم منه ، فلما كانت الهدنة وامن الناس بعضهم بعضا فلم يكلم أحد في الاسلام يعقل شيئا الا دخل فيه ولقد دخل في تينك السنتين أكثر ممن كان على الاسلام .
وقيل إن المراد من الفتح في الآية فتح خيبر لأن صلح الحديبية قد مهد للمسلمين غزوة خيبر والتغلب على من بها من اليهود وقيل غير ذلك .
كما اختلف المفسرون فيما تعنيه الآية الثانية :
لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ ( الفتح 2 ) .
وقد خلط الكثير من المفسرين في تفسيرها ووضعوا النبي في مستوى سائر الناس وألصقوا به الذنوب والمعاصي من حيث لا يشعرون حتى قال بعضهم ليغفر لك اللّه ذنوبك قبل النبوة وبعدها إلى غير ذلك من الهذيان الذي لا يتناسب مع مقام النبي وعصمته عن الذنوب صغيرها وكبيرها قبل النبوة وبعدها .
والأرجح في تفسيرها ان ذلك الفتح الذي تسبب في انتشار الاسلام واتساعه ودخول قريش في الاسلام قد غير موقف قريش وغيرها من العرب منك وأصبحوا يرونك بارا رحيما وشفوقا عطوفا بعد ان كانوا يرونك عاقا وظالما وخارجا على دينهم وعاداتهم وتقاليدهم ، هذه النظرة التي كانت تنظر إليك قريش بها قد تبدلت وأصبحت تراك بارا ورحيما ومشفقا قبل دخولك مكة وبعده وتبين لها خطأها فيما ارتكبته منك ونسبته إليك من الذنوب وقيل غير ذلك .
على أن نزولها بعد صلح الحديبية ليس امرا مفروغا منه عند جميع المفسرين فقد رجح بعضهم ان نزولها بعد فتح مكة وليس ذلك ببعيد .
وجاء في بعض المرويات ان النبي لما قرأها على الناس قال له رجل : ما هذا بفتح لقد صدونا عن البيت ، فقال النبي : بئس الكلام هذا بل هو أعظم الفتح لقد رضي المشركون ان يدفعوكم بالراح عن بلادهم ويسألوكم القضية ويرغبوا إليكم في الأمان وقد رأوا منكم ما كرهوا وأظفركم اللّه عليهم وردكم سالمين مأجورين فهو أعظم الفتح .
فقال المسلمون : صدقت يا رسول اللّه ، ويبدو ان الرجل هو عمر بن الخطاب لأنه كان يكثر التردد في موقف النبي ( ص ) كما نصت على ذلك أكثر المؤلفات في السيرة .
وجاء في البداية والنهاية رواية البخاري في صحيحه عن زيد بن اسلم عن أبيه ان عمر بن الخطاب كان يسير مع النبي ليلا فسأله عن شيء فلم يجبه ، ثم سأله فلم يجبه ، وكرر عليه السؤال فلم يجب ، فخشي عمر على حد زعم الراوي ان يكون قد نزلت فيه آية من اللّه سبحانه ، قال عمر فحركت بعيري وتقدمت امام المسلمين وخشيت ان ينزل في قرآن ، فما نشبت ان سمعت صارخا يصرخ بي ، فقلت لقد نزل بي قرآن فجئت إلى رسول اللّه مستعلما فأخبرني بنزول سورة الفتح .
وجاء في كتب السيرة ان رسول اللّه لما انتهى إلى المدينة جاءه عتبة بن أسيد بن جارية المكنى بأبي بصير ، وكان من المسلمين المحبوسين في مكة ، فلما بلغ امره المشركين كتبوا إلى رسول اللّه كتابا مع رجلين منهم ليرده عليهم عملا بالاتفاق الذي تم بينهم وبينه في الحديبية ، فقال رسول اللّه لأبي بصير :
يا أبا بصير انا قد أعطينا هؤلاء القوم ما قد علمت ، ولا يصلح لنا ان نغدر ، وان اللّه سيجعل لك ولمن في مكة من المسلمين فرجا ومخرجا وامره ان يرجع مع الرجلين إلى مكة ، فانطلق معهما حتى إذا كانوا بذي الحليفة تناول السيف من أحدهما بحجة انه يريد ان ينظر إليه فاستله من غمده وضرب به صاحبه فقتله وفر الرجل الثاني ورجع إلى المدينة ، فلما اقبل على الرسول وهو جالس مع أصحابه ، قال إن هذا الرجل قد جاءكم فزعا ، فلما انتهى إليه اخبره بما فعل أبو بصير بصاحبه .
وفيما هو يقص على الرسول ما جرى لهما وإذا بأبي بصير قد اقبل متوشحا بالسيف حتى وقف على رسول اللّه وقال يا رسول اللّه قد واللّه وفيت ذمتك ورددتني إليهم ثم أنجاني اللّه منهم ، فلم ير من النبي ارتياحا لقوله وظهرت على وجهه ملامح الغضب ، فعلم أنه سيرده إليهم ، فخرج من المدينة إلى مكان تمر به قوافل قريش في تجارتها إلى الشام ، وتسلل إليه جماعة من المسلمين المحتجزين في مكة حينما بلغهم خبره منهم أبو جندل بن سهيل بن عمرو الذي رده النبي إليهم في الحديبية ، وجعل كل من يدخل الاسلام في مكة يلتحق بأبي بصير ، لأن الاتفاق بين النبي والمشركين لا يسمح لأحد ان يلتحق به في المدينة ، وجعلوا يتسللون إلى أبي بصير حتى بلغوا سبعين رجلا ، وانضم إليهم جماعة من العرب كانوا قد دخلوا في الاسلام حتى تكامل عددهم ثلاثمائة مقاتل فقطعوا الطريق على تجارة قريش ، وأصبحت لا تمر في طريقها إلى الشام الا اعترضوها فقتلوا الرجال واستولوا على القافلة ، وضاق الأمر بقريش ، فلم تجد وسيلة للتخلص منهم الا بالتوسل بالنبي ( ص ) فأرسلوا إليه يناشدونه باللّه والرحم ان يردعهم ويؤويهم إلى المدينة ، فأرسل إليهم النبي فرجعوا إلى المدينة وانضموا إلى المسلمين ، ولم تعد قريش تطالب بأحد ممن يتسلل إلى المدينة مخافة ان يمثل الدور الذي مثله أبو بصير وأصحابه ، وتنازلت عن هذا البند من بنود المعاهدة على كره منها .
اما النساء المسلمات اللواتي كن في مكة وهاجر بعضهن إلى المدينة فلم يردهن الرسول وكان يرى أن عهد الحديبية لا يشمل النساء المسلمات لأن الاسلام لا يقر زواج المسلمة من المشرك ولا بقاءها على زوجيته ويجب التفريق بينهما .
وجاء في كتب السيرة ان أمّ كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط خرجت بعد الهدنة مع نسوة كن يتسترن في اسلامهن فخرج اخواها عمارة والوليد يطلبان من الرسول ان يردها إلى مكة فأبى عليهما النبي ان يردها معهما وقد انزل اللّه عليه بهذه المناسبة :
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ .
ويدعي الزهري كما جاء في سيرة ابن هشام انه لما نزلت وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ طلق عمر بن الخطاب زوجتيه قريبة بنت أميّة بن المغيرة وأمّ كلثوم بنت جرول أمّ ولده عبد اللّه فتزوج الأولى معاوية بن أبي سفيان ، وتزوج الثانية أبو جهم بن حذيفة بن غانم وهما مشركان .
[1] هو ميقات أهل المدينة الذي يحرمون منه للحج ويقع على ستة أميال من المدينة .
[2] كراع الغميم منزل بين مكة والمدينة قبل عسفان بثمانية أميال .
[3] السالفة صفحة العنق ويعني بذلك اني لا أزال أجاهد حتى الموت .
[4] انظر ابن هشام ج 2 ص 315 .
[5] انظر ص 337 من الجزء الثاني فضائل الخمسة من الصحاح الستة .
[6] انظر سيرة ابن هشام ج 2 ص 318 و 319 وتاريخ الطبري والبداية والنهاية وغيرها .
[7] وقد رواها جماعة من المحدثين منهم ابن أبي الحديد في شرح النهج ، وصدق رسول اللّه فيما اخبر به فعند ما وقعت الهدنة بين علي ( ع ) ومعاوية في صفين نتيجة لمكيدة ابن العاص وأرادوا ان يكتبوا بنود الاتفاق كتب هذا ما اتفق عليه أمير المؤمنين ومعاوية ، فقال له وفد معاوية ، لو كنا نعلم أنك أمير المؤمنين لما قاتلناك ولكن اكتب اسمك واسم أبيك فأمر علي الكاتب ان يكتب اسمه واسم أبيه وكان الكاتب عبد اللّه بن العباس فامتنع عن ذلك فأخبره علي بما قاله له النبي في صلح الحديبية وذلك من دلائل نبوته التي لا تحصى .
الاكثر قراءة في حاله بعد الهجرة
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة