الفساد الإداري ظاهرة اجتماعية سلبية
المؤلف:
صباح عبد الكاظم شبيب الساعدي
المصدر:
دور السلطات العامة في مكافحة ظاهرة الفساد الإداري في العراق
الجزء والصفحة:
ص 66-70
2025-10-27
44
يوصف الفساد بصفة عامة بأنه وباء أو مرض معدٍ أو (سرطان) (1) ، القابليته على الانتشار والأستشراء في الدولة والمجتمع وبسرعة ولعدة أسباب، لعل أهمها الكسب المادي السهل والكثير الذي يشكل إغراء للآخرين وضعف الرقابة واسباب أخرى سنتناولها في المبحث الثالث (2) لذلك فهو يتحول إلى ظاهرة عامة Public Phenomenon تمارس من قبل مجموعة من الناس (3) ويصبح الأمر أشبه بالعادة أو السلوك المتبع من قبل الفاسدين والذين بدورهم يفسدوا غيرهم أما ترغيباً أو ترهيباً، ويتحول الأمر إلى ظاهرة اجتماعية عامة، ويشير القرآن الكريم في (أثنتين وعشرين آية ) إلى علاقة الفساد بالأرض مما يدل على انتشاره كما لو كان وباء مستشريا (4).
والظاهرة الاجتماعية كما عرفتها العلوم الاجتماعية هي: (النظم الاجتماعية والاتجاهات العامة التي يشترك باتباعها أفراد المجتمع ويتخذون منها أساسا لتنظيم حياتهم العامة وتنسيق العلاقات التي تربطهم ببعضهم، كالنظم التي يسير عليها المجتمع في شؤونه السياسية والاقتصادية والخلقية والعقائدية وما إلى ذلك)(6).
وبناء على هذا التعريف تم تقسيم الظاهرة الاجتماعية تسهيلا لدراستها والتحديد نوعية النشاط الاجتماعي الذي يمارسه الإنسان داخلها أو من خلالها، ولقد عالج ابن خلدون الظواهر الاجتماعية وكشف القوانين التي تخضع لها، ورغم أن كثيراً من العلماء قبله اكتفوا بوصفها، لكنهم لم يستخلصوا القوانين التي تفسر العوامل والأسباب التي ادت الى الظاهرة، وهناك من درس الظواهر الاجتماعية وبين ما يجب أن تكون عليه حسب مبادئ مثالية. كما أن التفكير في المجتمع قديم وقد تعرض كثير من الفلاسفة إلى دراسة مجتمعاتهم، فرسموا نماذج لمجتمعات فاضلة، ولكن ابن خلدون درس الظواهر الاجتماعية وبيّن أنها تسير حسب قوانين ثابتة، فهو يخضع الظواهر الاجتماعية للقوانين ويبحث عن مدى الارتباط بين الأسباب والمسببات، ولم يكتف بالوصف وعرض الوقائع وإنما اتجه اتجاهاً جديداً في بحوثه الاجتماعية، حيث أعلن أن التطور سنة الحياة الاجتماعية، ذلك أن الظواهر الاجتماعية غير قابلة للركود، ومن ثم كانت الأنظمة الاجتماعية متباينة حسب المكان والزمان(7)
وهناك من يميز بين الظاهرة الاجتماعية والمشكلة الاجتماعية، إذ غالباً ما يكون هناك خلط بين المفهومين وكأنهما مترادفان ، ويرى أن كل مشكلة اجتماعية هي ظاهرة اجتماعية لأن علاجها لن يكون بمعزل عن محددات وظروف هذا المجتمع ومعاييره الاجتماعية الإيجابية والسلبية، وبناء على ذلك فكل مشكلة اجتماعية يمكن تصنيفها على أنها ظاهرة عندما يبرزها تكرارها عن الإطار الطبيعي لوقوعها من ناحية، ومن ناحية أخرى فهي مرتبطة بالمعايير والقيم الاجتماعية والأخلاقية والثقافية السائدة.
بمعنى أن ما يمكن تصنيفه كظاهرة اجتماعية مقبولة في مجتمع ما قد يكون نقيض ذلك في مجتمع آخر، فمثلاً أن تغادر الفتاة منزل أهلها بعد بلوغ سن 18 في المجتمع الأميركي ظاهرة طبيعية لكنها ظاهرة لا يمكن قبولها في المجتمعات الشرقية، أما عن العتبة التي يمكن أن نطلق على حدث اجتماعي بأنه ظاهرة فهذا أمر مرتبط بنمط السلوك أو الحدث الاجتماعي ونوعه وطبيعة المجتمع الذي وقع فيه. ولا يرى البعض مبرراً علمياً أو منهجياً لوضع نسبه مئوية معينة على أنها العتبة التي تحدد الظاهرة لأن التحديد الاحصائي هنا لا يكون دليل لوصف حدث ما بأنه ظاهرة، لأن ذلك مرتبط بنوع السلوك، فقد تكون نسبة العنوسة أو الطلاق في المجتمع على سبيل المثال 1% فهي لا تشكل ظاهرة اجتماعية، ويختلف الأمر إذا كانت هذه النسبة للانتحار أو إذا كانت تعبر عن نسبة اللصوص في المجتمع أو - الفاسدين في نظام إداري ما - عندها تشكل مشكلة وظاهرة في غاية الخطورة بل هي مرض لا بد من معالجته(8).
ومن وجهة القانون الجنائي تعرف الظاهرة الإجرامية بأنها (انتشار وازدياد الجريمة)، ويمثل بعض الباحثين لذلك، أنه إذا قلنا هناك ظاهرة انحراف معنى هذا أن الانحراف انتشر وكثرت حوادثه وأصبح مرضاً يحتاج الى علاج، وهنا لا يمكن مثلاً إذا كانت عقوبة الدعارة أو المخدرات هي الإعدام أو السجن، وأصبحت الدعارة وتجارة وتعاطي المخدرات ظاهرة أن نقوم بإعدام كل المتعاطين والتجار أو وضع آلاف الشواذ في السجن، بل يجب على الجهات المسؤولة اعتبار ذلك مرضاً يجب معالجته بشكل يضمن إنهاءه لتنتهي معه الظاهرة، والواقع أن هذا التعريف يقتصر على الظاهرة الاجتماعية السلبية، حيث استدركوا بالقول (ليست الظواهر الاجتماعية جميعها مرضاً فزيادة عدد المثقفين وحملة الشهادات الجامعية هي ظاهرة صحية، فالظاهرة الاجتماعية إذا لم تناف قيم المجتمع فهي ليست مرضاً يحتاج الى العلاج بل تحتاج الى الدعم).(9) ويعرف آخرون الظاهرة الاجتماعية بأنها التصرف الذي ينتشر بين الناس بحيث يصبح جزءاً من حياتهم اليومية دون شعور بالحرج في تطبيقه أو اتباعه ولو كان سيئاً. والظواهر الاجتماعية برأيهم كثيرة ومتعددة منها السليم ومنها السيء خصوصاً اذا تحول إلى مرض مثل (اللامبالاة، النفاق، الغش، الفساد... وغير ذلك). أما كيف تتحول هذه الظاهرة إلى مرض فالجواب حينما يفقد المواطن الشعور بالمسؤولية ولا يتقيد بالقوانين والتعليمات التي تضعها الدولة، وعندما لا يسعى إلى تثقيف نفسه وتوعيتها وانما يسكت على ما يراه من الخطأ بل يساهم فيه (10). ويضيف البعض بالقول: حتى ندرك معنى أن تتحول الظاهرة إلى مرض اجتماعي يجب أن يكون لدينا تصور عن معنى الظاهرة ومعنى المرض، فالظاهرة هي كل سلوك ثابت أو غير ثابت يعم المجتمع بأسره ويكون ذا وجود مستقل عن الصور التي يتشكل بها في الحالات الفردية حسب تعريف (دوركهايم). لكن الظاهرة ليست وليدة ذاتها وإنما تخضع لمجموعة من المحددات الفكرية والنفسية والثقافية، بمعنى أنها نتيجة و ليست سبباً وبالتالي يمكن التعامل معها بشكل عمومي وبالطريقة ذاتها عبر الثقافات على عكس المرض الذي يكون العلاج فيه عاماً، لا نميز في علاجه بين الشرق والغرب وبين إنسان وآخر، ومن هنا يصح القول: مشكلة اجتماعية في مجتمع ما لا تكون مشكلة في مجتمع آخر، وعلاجا ناجعا في مجتمع ما لا يكون مقبولاً في مجتمع آخر. أما متى تشكل المشكلة خطراً على البناء الاجتماعي ؟ فيمكن القول: إن ظاهرة اجتماعية تتحول إلى مشكلة اجتماعية عندما تبدأ بانتاج آثار سلبية على الاقتصاد، مثل ( التضخم الكساد، البطالة..الخ)
أو آثاراً سلبية على الصحة مثل ( التدخين، الإدمان على الكحول) أو آثاراً سلبية على المجتمع مثل (التشرد، الطلاق، العنوسة، التفكك الأسري)، وهذه لا تتفق المجتمعات في النسبة ذاتها من الخطر، وتكون الظواهر خطرة إذا أثرت على النظام القانوني والأخلاقي والتي تختلف حولها المجتمعات أيضاً، فمثلاً مخالفة قواعد المرور في مجتمع ما تعتبر ظاهرة خطيرة وفي مجتمعات أخرى لا يؤبه لها إلا حينما تؤدي إلى حادثة وأيضاً مخالفات الآداب العامة هي مشكلة اجتماعية خطيرة في بعض المجتمعات وتحتاج لعلاج وهناك مجتمعات تتكيف معها لتصبح نمطأ اجتماعياً. وهناك اختلاف على مستوى الحلول... فظاهرة العنوسة تعالج في بعض المجتمعات عن طريق الاباحية الجنسية، في حين الحل ذاته في المجتمعات الشرقية هو مشكلة وبصورة عامة فأن الظاهرة التي تفرز آثاراً سلبية اقتصادية وصحية تكون أسهل على التمييز كمشكلة من الظاهرة التي تفرز آثاراً قانونية وأخلاقية (11)
وخلاصة القول أن الفساد الإداري ظاهرة اجتماعية سلبية، فقد أكد البعض، بأن الفساد بشكل عام ظاهرة اجتماعية لا تقتصر على بلد بعينه، لكن ما يجعله نسبياً هو مستوى النمو السياسي والاجتماعي والاقتصادي في بلد ما مقارنة ببلد آخر، وطبيعة شكل الحكم (12).
أن الفساد الإداري في الأصل جرائم ومخالفات فردية لكنها اذا تكررت وانتشرت أصبحنا أمام ظاهرة اجتماعية، فلا يمكن القول بوجود فساد إداري إن لم نكن أمام ظاهرة، ولكن يبقى المعيار او نقطة الانطلاق لاعتبار مجموعة أفعال تشكل ظاهرة فساد، أعتقد أن الأمر في غاية الحساسية والصعوبة، ذلك أنه من غير الممكن وضع نسبة معينة - وكما مر بنا، لأن ذلك يعني أن الرقم دون النسبة المحددة سوف لا يعتبر فساداً وهذا يعني إضفاء نوع من المشروعية على تلك الأفعال.
ونرى من جانبنا أن الأفعال حتى يمكن اعتبارها ظاهرة فساد إداري هي التي تتجاوز حدود المألوف في معدل الجريمة أو المخالفة في مجتمع ما، لتصبح أمراً متعارفاً عليه عند التعامل مع المؤسسات الحكومية، فعلى سبيل المثال: إذا أصبح الحصول على جواز سفر أو هوية الأحوال المدنية أو وظيفة مشروطاً بدفع مبلغ من المال فنحن إذن أمام ظاهرة فساد إداري بغض النظر عن عدد الذين يدفعون والذين لا يدفعون بسبب استغلال نفوذهم أو استخدام الواسطة أو المحسوبية أو غير ذلك.
والواقع يشير الى أن الفساد ليس مجرد ممارسات فردية، خاصة فيما يتعلق بقضايا الفساد الكبرى، وإنما تعكس التحرك من خلال أطر) شبكية واضحة وإن كانت معقدة، وهذه الأطر هي تشابك عناصر الفساد مع بعضها البعض في بعض الممارسات كشركاء ، كالتحالف مع المسؤولين الكبار أو الذين يشغلون مواقع رسمية مهمة في مجال تسهيل أنشطتهم (13).
____________
1- أنظر د. أحمد محمد عبد الهادي، الانحراف الإداري في الدول النامية، الإسكندرية، مركز الإسكندرية للكتاب، 1997، ص 14
2-but. Corruption will always be with us (like illness :Jp7 Robert Kligaard-cit op: as this sad fact does not keep us from attempting to reduce disease)
ويذكر أن مدير البنك الدولي (دلفنسون) ومدير صندوق النقد الدولي (كامديسو) في اجتماع المؤسستين في تشرين الأول عام 1996 قد أطلقا هذا الاسم على الفساد بسبب سرعة انتشاره وصعوبة القضاء عليه، أنظر - www.worldbank.org
3- يقول بيتر آيغن مؤسس منظمة الشفافية الدولية ( أن الفساد شر مستطير يزدهر في الخفاء، والعدد المجهول من ظاهراته كبير جداً وحتى المدعون العامون الناشطون ورجال الشرطة، يجدون مشقة كبيرة في التغلغل للوصول إلى هذا المجهول والكشف عن حوادث الفساد ) للمزيد، أنظر بيتر أيغن شبكات الفساد العالمية ترجمة محمد جديد ط1 ، قدمس للنشر والتوزيع دمشق 2005 ، ص153.
4- تؤيد منشورات البنك الدولي أن الفساد أصبح ظاهرة عالمية الإنتشار ووصل في السنوات الأخيرة الى مستويات غير مسبوقة للمزيد، أنظر
The International Bank for Combating Corruption، W.Paattii Ofosu Amaah pvi. ،1999 Washington، Reconstruction and Development
5- الآيات- البقرة / 11 و 27 و 205 و 251 ، الأعراف / 56 و 85 محمد / 22 هود / 116 ، القصص / 77 و 83، الروم / 41 غافر / 26، الفجر / 12 ، المائدة / 32 و 33 و 64 الإسراء / 4، الرعد / 25 ، الشعراء / 152، النمل / 48، الأنبياء /22، المؤمنون / 71.
6- أنظر:- د. عز الدين دياب، مقاربة أنثروبولوجية لمفهوم الدور الحضاري مقال منشور على موقع:www.kitabat.org
7- أنظر علال البوزيدي، نظرات في الفكر المنهجي عند ابن خلدون، الجزء الثاني مجلة الفسطاط، العدد / 38 تموز / 2003، ص 8 وما بعدها.
8- أنظر:- د. عبد الله المجيدل، جامعة دمشق، كلية التربية مقال منشور في جريدة الثورة السورية العدد 29 / 4 / 2007 ملف عيادة المجتمع، ص 3 وما بعدها.
11- أنظر فيصل ،سرور ، مقال منشور في جريدة الثورة السورية العدد 29 / 4 / 2007.
10 أنظر- نزار ،ترجمان مقال منشور في جريدة الثورة السورية العدد 29 / 4 / 2007.
11- أنظر:- د. إبراهيم المصري، مقال منشور في جريدة الثورة السورية العدد 29 / 4 / 2007.
12- أنظر:- د. يوسف مكي على الموقع /http://www.saudiaffairs.net
وإنظر
no Uk University of Durham، Corruption in the Developed World Robert Williams p2..dated
13- للمزيد عن قضايا الفساد في مصر التي تتمثل بها هذه الخاصية أنظر د صلاح سالم زرنوقة، تحليل قضايا الفساد في مصر، محرر د. مصطفى كامل السيد ود. صلاح سالم زرنوقة، الفساد والتنمية القاهرة، 1999، ص 296.
الاكثر قراءة في القانون الاداري
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة