الفساد الإداري في العراق في صدر الإسلام والخلافة الراشدة
المؤلف:
صباح عبد الكاظم شبيب الساعدي
المصدر:
دور السلطات العامة في مكافحة ظاهرة الفساد الإداري في العراق
الجزء والصفحة:
ص 14-20
2025-10-25
63
كان العرب قبل الإسلام (1) يعيشون في ظلام الفوضى والفساد، لا رابطة تربطهم ولا نظام يحميهم، ولا دين ينير لهم سبل الحياة ولا قانون يهذب عندهم ما اضطرب من أمورهم، وما انتشر من انظمة اجتماعية، لا يعرفون معروفاً ولا ينكرون منكراً، ولا يردون الحقوق إلى أصحابها، ليس فيهم تقديس لدماء الناس وأموالهم، ولا احترام لحرمهم وأعراضهم، فالأموال تنهب والمحارم تستباح والعهود تنقض ويعتدى على الأمن في وضح النهار دون رهبة من سلطان ولا خشية من حاكم (2).
ولم تكن آنذاك حكومة جامعة يخضع لها سكان البلاد بل كانت هناك حكومات متعددة هم رؤساء القبائل، فلم يكن هناك قانون مكتوب بل كان العرف والعادات والتقاليد هي السائدة، والواقع أن سلطان رؤساء القبائل سلطان معنوي لأن السلطة الحقيقية بيد أفراد العشيرة، وبذلك لم تكن هناك دواوين أو أعمال إدارية حتى يمكن القول عن وجود فساد إداري بالمعنى المتعارف عليه، بالرغم من وجود النظر في المظالم (3).
فلما أرسل نبينا محمد (صلى الله عليه واله وسلم ) بالهدى ودين الحق، دعاهم إلى خير الدنيا والآخرة، فهذب أوضاعهم وعدل نظامهم وجمع شتاتهم، وجعلهم امة واحدة مترابطة متألفة قوية الدعائم، بما سن من شرائع وما أشاع فيها من آداب، وما أوجب عليهم أن يتبعوه من قوانين ويخضعوا له من الأنظمة، فأصلح الإسلام قلوبهم وهذب أخلاقهم، وخلق منهم امة قوية لا تبغي على أحد ولا تظلم ،مخلوقاً، فقد شرع الإسلام للناس ما ينفعهم في حياتهم ويحفظهم من الفساد والفوضى في دنياهم، فلم يدع ناحية إلا أضفى عليها النور وبسط عليها النظام وجعل السيادة فيها للقانون (4).
لقد نجح النبي الكريم (ص) في تكوين أمة واحدة تخضع لحكومة واحدة ووضع الأسس العامة السياسة الدولة الجديدة وشرع لها القوانين وكان إحلال الوحدة الدينية محل العصبية القبلية الأثر الواضح في طاعة القبائل المختلفة (5).
إن نظرة واحدة إلى ما شرعه الباري عز وجل في القرآن الكريم من أنظمة وسنن قويمة، وما دعا إليه من آداب كريمة، تجعل المرء يؤمن من أعماق قلبه أن الإسلام جعل هذه الأمة خير امة، قال تعالى: ( كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ...)(6).
وقد أعطى الإسلام للأخلاق أهمية قصوى وحارب الفساد بكل أشكاله قال تعالى مخاطباً النبي الكريم (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (7) ، كما قال الرسول الكريم (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ) وهذا الحديث الشريف يدل بكل وضوح على أهمية الأخلاق في الدين الإسلامي ونبذه الفساد والمفسدين، ولسنا هنا بصدد ما سنه الإسلام من شرائع لإصلاح نواحي الحياة و نظام الحكم فيها فبالإمكان الرجوع الى العديد من المصادر (8) . إنما الذي يهمنا هو ما جاء به الإسلام من قواعد وأحكام تنهى عن الفساد، قال تعالى: (وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحها .....)(9). وقال سبحانه: (... وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) (10) . وقال عز وجل: تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلَا فَساداً ....)(11). كما نهى سبحانه عن الرشوة بالقول: (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فريقاً مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ) (12).
وقد أوجب الله على المؤمنين التأسي بالنبي الكريم لما فيه من مثل رائع للأخلاق الحميدة، قال تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أَسْوَةٌ حَسَنَةٌ ...) (13).
وجاء في السنة النبوية الكثير من الأحاديث الشريفة التي تنهى عن أكل المال الحرام والرشوة والفساد، قال النبي الكريم: (لعن الله الراشي والمرتشي في الحكم ) ، وقال أيضا (كل لحم أنبته السحت فالنار أولى به )، قيل وما السحت ؟ قال الرشوة في الحكم). وقال ( من استعملناه على عمل فرزقناه رزقاً فما أخذ فوق ذلك فهو غلول ) أي من عيناه في وظيفة وحددنا له راتباً فأخذ زيادة على ذلك فهو سرقة، لأن الغلول هو سرقة الأموال العامة (14)، قال تعالى (وَمَا كَانَ لِنَبِي أَن يَغُلُّ وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ....)(15).
وعن أبي حميد الساعدي، قال: استعمل رسول الله رجلاً من الأزد على صدقات بني سليم، يدعى ابن اللتيبة، فلما جاء للحساب، قال هذا مالكم وهذا اهدي إلي فقال رسول الله: فهلا جلست في بيت أبيك وأمك حتى تأتيك هديتك إن كنت صادقاً. ثم قام على المنبر فحمد الله وأثنى عليه وقال: (أما بعد، فأني أستعمل الرجل منكم على العمل مما ولأني الله فيأتي فيقول: هذا مالكم وهذا أهدي إلي، أفلا جلس في بيت أبيه وأمه حتى تأتيه هديته إن كان صادقاً ! والله لا يأخذ أحد منكم منها - أي من أموال المسلمين شيئاً إلا لقي الله يحمله يوم القيامة)(16).
كان العراق في عهد النبي (صلى الله عليه واله وسلم ) تحت الاحتلال الفارسي ولم يدخل ضمن الدولة الإسلامية إلا بعد معركة القادسية، حيث دخل مرحلة جديدة، فقد أصبح جزءاً من الدولة الإسلامية وشهد نوعاً من النظام الإداري لم يكن معهوداً سابقاً وهو نظام الإمارة أو الولاية، أي أن البلاد يحكمها أمير أو وال معين من قبل الخليفة، وتحت إمرته موظفون وكتبة (17) ، وتكونت فيه حكومة على يد الخلفاء الراشدين وكانت مستقلة في إدارتها إلا في بعض الشؤون كالولاية والقضاء والاستشارة في المهمات (18). وكان الخلفاء الراشدون يحكمون وفق الحدود الشرعية باستثناء عثمان الذي قرب الأصهار وبعثر الأموال.(19) فمن صفات الخلفاء الراشدين الزهد والتواضع وعدم التساهل مع الباطل، فقد كان الخليفة عمر بن الخطاب يتشدد مع عماله وألزم الكثير منهم بعدم مغادرة المدينة المنورة بعد الفتوحات خشية تأثرهم بتيار الترف والبذخ الذي يسود البلاد المفتوحة. وقد كتب إلى أبي عبيدة حين ولاه على الجيش وعزل خالد بن الوليد، قائلاً: أوصيك بتقوى الله الذي يبقى ولا يفنى الذي هدانا من الضلالة وأخرجنا من الظلمات إلى النور... لا تقدم المسلمين إلى هلكه رجاء غنيمة ...... وسن نظاماً يقضي بعمل إحصاء دقيق لثروة الولاة قبل توليهم ثم إلزامهم عند اعتزالهم بدفع نصف الأموال التي جمعوها لأنفسهم في أثناء ولايتهم إذا تبين أن رواتبهم لا تسمح لهم بادخار هذه الأموال كلها (20).
وعن احترامه بيت المال يذكر أنه وصل إلى المدينة يوماً يعطي أموال الأقاليم فجاءته أبنته حفصة لتأخذ نصيبها فقالت له مداعبة : - حق أقاربك في هذا المال فقد أوصى الله بالأقربين فأجابها (يا بنية، حق أقاربي في مالي أما هذا فمال المسلمين قومي إلى بيتك...) وعند توزيع الفيء وضع بني عدي ــــــ آل عمر في آخر الأسماء. أما موقفه من تولية الأقارب فقد وضع مبدأ هو:- ( من استعمل رجلاً لمودة أو قرابة لا يحمله على استعماله إلا ذلك فقد خان الله ورسوله والمؤمنين) (21).
إلا أن هذا الوضع لم يستمر في عهد الخليفة عثمان الذي سمح للصحابة بمغادرة المدينة والسكن في الأمصار المفتوحة وامتلاك الدور الفخمة والأراضي والضياع فيها، والتف الناس من حولهم وافتتنوا بمظاهر الحياة والترف في تلك الأمصار (22).
كما أنه كان غنياً يعيش حياة الترف والتمتع بطيب الطعام والملبس ويسكن داراً فخمة مبنية بالحجر والكلس ويمتلك الأموال والجنان والأراضي في المدينة وفي غيرها، مما جعل كبار الصحابة مثل ـ أبي ذر الغفاري - ينكر عليه ذلك (23) ، الأمر الذي أدى إلى نفيه من المدينة المنورة إلى (الربذة) ومات فيها(24). وقد انتقد بعض الصحابة تصرفات الخليفة، منها عزله الولاة والعمال القدامى والأكفاء، وتوليته آخرين من أقربائه بني أمية، الذين أساءوا السيرة في الرعية وتجاوزوا الحدود حتى وصل الأمر بالثورة على سعيد بن العاص أمير الكوفة، وكذلك إقطاعه أراضي بسواد العراق إلى نفر من أثرياء الصحابة(25).
كما أخذوا عليه سماحه لبعض الناس بالإثراء وامتلاك القصور والضياع، وإغداقه الأرزاق والأعطيات على أقوام في الأمصار لم يكونوا من الصحابة أو السابقين في الإسلام، ولم يجاهدوا في سبيل نصرة الدعوة الإسلامية (26). وكذلك قيامه بتوليته نفراً من أقربائه، وإعادة عمه الحكم بن أبي العاص إلى المدينة التي طرده النبي منها وأبعده عنها لإيذائه له بلسانه (27).
وكان يرى في إيثاره ذوي الكفاءة والمقدرة على ذوي الورع والتقوى الأمر الحسن، وهذا ما كان يرفضه الأمام علي ويطالب بتنحيتهم، لأنه يرى أن تقوى الأمير أهم من كفاءته، وإخلاصه أرجح من ذكائه وأنه إذا كان عمر قد آثر أحياناً ذوي الكفاءة والدهاء والمقدرة فلأنه كان يحكم قبضته على ولاته وأمرائه جميعاً بصورة لا تمكن أحدهم من أن يغمض عينه عن الحق لحظة واحدة، أما والخليفة عثمان في الثمانين من عمره وهو هادئ الطبع مأمون الغضب فأن أولئك الأمراء يتصرفون تصرفاً ليس عليه رقيب، وكان الأمام علي يرى أن طباعهم وتكوينهم النفسي والعائلي لا يجعلهم أنسب الناس للمناصب التي يتولونها وأنهم سيتمادون في الأخطاء ويستثمرونها حتى تبلغ بهم المنزلق الوعر، والحق أن الحوادث مضت نحو نتائج سلبية كشفت عن فراسة الإمام علي وعن سداد نظرته، فقد تصرف بعض الأمراء والولاة تصرفاً غير صحيح فعندما ولى الخليفة الحارث بن الحكم أمانة سوق المدينة استغل وظيفته فراح يشتري النوى ويحتكره ثم استدعاه الخليفة وعزله (28)
ويذكر أن الإمام علياً جاء إلى عثمان يوم حاصره القوم ولامه على توليته أقاربه، فقال له عثمان إن عمر كان يفعل ذلك، قال الإمام علي : (إن عمر كان كلما ولى أميراً فإنما يطأ على صماخيه... وأنت لا تفعل، ضعفت ورفقت على أقربائك). وهكذا ظهر الفساد بين الولاة والعمال والمتنفذين، حتى أن مروان بن الحكم حينما حاصر القوم عثمان استأذنه في الخروج إلى الناس والحديث إليهم فقال لهم: (ما شأنكم كأنكم قد جئتم لنهب، شاهت الوجوه كل إنسان أخذ بأذن صاحبه ألا من أريد جئتم تريدون أن تنزعوا ملكنا من أيدينا اخرجوا عنا ...)، وأن نائلة زوجة عثمان لامته بعد أخذه كلام مروان بن الحكم وعدم أخذه كلام الإمام علي حينما لامه قائلاً: (ما أنا بعائد لمعاتبتك) قائلة له: (سمعت قول علي أنه ليس يعاودك وقد أطعت مروان حيث شاء...... ومروان ليس له عند الله قدر ولا هيبة ولا محبة)(29). ويرى بعض الباحثين أن تصرف الخليفة ببيت المال كان أحد الأسباب الرئيسة التي أدت إلى مقتله(30). واذا كانت هذه التصرفات تسمى تجاوزاً أو تعدياً على المال العام، فهي في الواقع فساد مالي وأداري لأن القائمين به هم القائمون على بيت المال والمسؤولون عن الإدارة، وان سوء استخدام المال العام للمصلحة الشخصية أو لمصلحة الغير هو فساد مالي، وتولية الأقارب والمحاباة والمحسوبية هو فساد إداري.
وعندما تسلم الإمام علي الخلافة جهد أن يعيد النظام والاستقرار إلى الدولة الإسلامية وعزم على أن يزيل الشكوى التي كثرت في عهد الخليفة عثمان (31). ومما قاله مخاطباً الناس بعد البيعة (... اتقوا الله في عباده وبلاده، إنكم مسؤولون حتى عن البقاع والبهائم... وإذا رأيتم الخير فخذوه وإذا رأيتم الشر فدعوه... ألا وأنه ليس لي دونكم إلا مفاتيح مالكم معي وليس لي أن أخذ درهماً دونكم...)(32). وقام برد طريقة العطاء من بيت المال إلى النهج الذي كان يسير عليه الخليفة الأول حيث كان يعطي جميع الصحابة والمسلمين بالسوية دون تفريق بين ما سبق للإسلام ومن جاء متأخراً، فقد كان الخليفة عمر يجعل للسابقين الأولين أكثر مما يجعل للذين تأخر إسلامهم ، وقد فسر الأمام علي رأيه بأن الدولة لا تعطي المسلمين بمثوبة دينهم وثمن إيمانهم فمثوبة الدين والإيمان عند الله إنما تعطيهم حاجتهم ليعيشوا ومن ثم فلا داعي للتفضيل كما أن التفاوت في العطاء يخلق تراكماً للثروة لدى بعض الأفراد مما يشكل فساداً من أ مع مرور الزمن ، كما قام في أول خلافته بعزل ولاة الخليفة الثالث الذين لم يكونوا في رأيه أهلاً لهذه الولاية ووضع بدلاً منهم آخرين معهم من الدين والاستقامة والمقدرة ما يجعلهم موضع ثقة الخليفة، ومن بين المعزولين معاوية الذي كان يومئذ والياً على الشام ،بأسرها، وقد تسلم الولاة الجدد عملهم إلا سهيل ابن حنيف الذي عين مكان معاوية فأنه لم يكد يصل تبوك حتى استقبلته كتيبه من جيش معاوية حالت دون دخوله البلاد ولما رجع حاملاً هذا النبأ إلى الأمام لم يفاجأ بما سمع فقد كان يتوقع من معاوية مثل هذا التمرد غير المشروع.(33)
وهو أول من جلس للمظالم بنفسه إذ احتاج إلى ذلك بعد أن اختلط الناس وتجوروا وتطلب الأمر إلى الصرامة في السياسة، فقد كان الخلفاء السابقون يتعقبون المظالم لكنهم لم يجلسوا خصيصاً لذلك، ولم ينتدب للمظالم أحد في عهدهم، لأن الإيمان كان قوياً والوازع الديني مسيطراً على الناس، فكانت المنازعات تجري بين الناس في أمور مشتبه فيها يوضحها حكم القضاء وينفذها الأفراد طواعية(34). والنظر في المظالم من فروع القضاء في الدولة الإسلامية، فهو نوع من القضاء العالي له سلطة أوسع من سلطات القاضي، إذ يمتزج فيه القضاء بالرهبة والزجر وهو وظيفة ممتزجة من سطوة السلطنة وعدل القضاء.... وتحتاج إلى علو يد وعظم رهبة لقمع الظالمين، وكان الغرض الأساس من وجود ناظر المظالم هو وقف تعدي ذوي الجاه والحسب أو كبار الموظفين وعمال الدولة إذا اعتدوا على الناس(35).
إن ما يميز فترة خلافة الإمام علي فيما يخص العراق والتنظيم الإداري هو اتخاذه الكوفة عاصمة للدولة الإسلامية، مما يعني أن الحكومة المركزية قريبة من الأفراد الأمر الذي يؤدي إلى تقليل حالات الفساد من قبل الولاة والعاملين من خلال الرقابة عليهم وسهولة شكواهم إلى الخليفة، إضافة إلى العامل المهم والأساس وهو ما عرف عن الإمام علي من عدل وانصاف، فقد قال فيما رده على المسلمين من قطائع عثمان والله لو وجدته تزوج به النساء وملك به الإماء لرددته، فأن في العدل سعة، ومن ضاق عليه العدل فالجور أضيق. وكذلك عدم التفرقة بين الناس، فقد قال لما عوتب على التسوية في العطاء أتأمروني أن أطلب النصر بالجور فيمن وليت عليه والله لا أطوربه - أي لا أمر به ولا أقاربه ـــ ما سمر سميراً مدى الدهر وما أم نجم في السماء نجماً لو كان المال لي لسويت بينهم، فكيف وإنما المال مال الله) (36) . وكان يختار الولاة والعاملين على أساس الأمانة والكفاءة، ولم يحاب أو يقرب أحداً لأسباب شخصية، فقد هرب زياد ابن أبيه وغيره إلى معاوية في حين كانوا من أصحاب الأمام علي لأنه لم يجاملهم في الدين كما هرب عبيد الله بن عمر بن الخطاب لأن الإمام علياً أراد تنفيذ العقاب بحقه لقتله لؤلؤة الفارسي قاتل أبيه بعدما اسلم وتاب(37).
وهناك شواهد كثيرة تدل على عدله وإحقاقه الحق، فقد قال عنه الرسول الكريم (ص) (علي مع الحق والحق مع علي)، ومن حرصه على بيت المال فقد قال .... والله لو أعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصي الله في نملة أسلبها شعيرة ما فعلته وإن دنياكم عندي لأهون من ورقة في فم جرادة تقضمها ....) (38).
ولسنا هنا بصدد الحديث عن شخصية الإمام علي فبالإمكان الرجوع إلى الكثير من المراجع، بل نريد القول أن الفساد في عهده قد قل إلى مستويات كبيرة، فمن الطبيعي أن يتأثر الأفراد بالحاكم، لذلك قيل صلاح الرعية من صلاح (الحاكم ولكن هذا لا يعني عدم وجود إساءات فردية. وكان يمكن للدولة الإسلامية في عهد الإمام علي أن تصل إلى درجة من التطور والرقي لولا الحرب التي نشبت بينه وبين معاوية، والتي تعتبر تمرداً من جانب معاوية على السلطة الشرعية للإمام علي الذي بويع مبايعة عامة وعلنية. وبسبب هذه الحرب وقضية التحكيم فيها ظهرت فرقة الخوارج الذين خرجوا على الإمام علي مما أضطره إلى حربهم في معركة النهروان والقضاء عليهم (39) وبعد استشهاد الإمام علي، بويع الإمام الحسن خليفة للمسلمين، إلا أن الحرب لم تنته، وأخيراً تم عقد الصلح بينه وبين معاوية عام 41 للهجرة، حقناً للدماء وخوفاً على وحدة المسلمين، وقد تعرض الإمام الحسن إلى نقد شديد جراء هذا الصلح لكنه اضطر إليه(40).
____________
1- للمزيد :أنظر د لبيد إبراهيم و د. فاروق عمر ، عهد النبوة والخلافة الراشدة، جامعة بغداد، كلية الشريعة، 1986.
2- أنظر: عبد المنعم علي سعيد الإسلام والأنظمة السياسية، بأقلام عشرة من علماء الإسلام الدين والسياسة، دار الكاتب العربي، القاهرة، بدون سنة طبع، ص 87.
3- أنظر:- د. علي إبراهيم حسن التاريخ الإسلامي العام القاهرة، مكتبة النهضة المصرية بدون تاريخ، ص489و492.
4- أنظر: عبد المنعم علي سعيد المصدر السابق، ص 88.
5- أنظرد. علي إبراهيم حسن ، مصدر سابق، ص 520 و 519
6- سورة آل عمران الآية / 110.
7- سورة القلم، الآية / 4.
8- أنظر على سبيل المثال: د. محمد يوسف موسى، نظام الحكم في الإسلام محاضرات ألقيت على طلبة قسم الدراسات القانونية في معهد الدراسات العربية العالية، جامعة الدول العربية 1962، ص 114 وما بعدها.
9- سورة الأعراف الآية / 56.
10- سورة القصص، الآية / 77.
11- سورة القصص، الآية / 83.
12- سورة البقرة، الآية / 188.
13- سورة الأحزاب الآية / 21
14- محمد المبارك، نظام الإسلام الحكم والدولة ، ط/2، بيروت، دار الفكر، 1974، ص 41.
15- سورة آل عمران الآية / 161.
16- صحيح مسلم، ج 6، ص -11-12 وانظر أيضا: د. محمد يوسف موسى، نظام الحكم في الإسلام محاضرات ألقيت على طلبة قسم الدراسات القانونية في معهد الدراسات العربية العالية، جامعة الدول العربية 1962، ص 133.
17- أنظر عباس العزاوي تاريخ العراق بين احتلالين، ج1، منشورات الشريف الرضي، مطبعة بغداد، 1935، ص 192.
18- كان العراق في عهد الخلافة الراشدة يتكون من ولايتين هما (البصرة والكوفة ) لكل منهما وال وتتبع هذه الولايات المدن والمناطق القريبة، لمزيد من التفصيل انظر: رمزية عبد الوهاب الخيرو إدارة العراق في صدر الإسلام بغداد، دار الحرية للطباعة، 1978، ص 37 وما بعدها.
19- أنظر د. علي إبراهيم حسن التاريخ الإسلامي العام القاهرة، مكتبة النهضة المصرية بدون تاريخ ، ص 521.
20- أنظر ابن كثير، البداية والنهاية، الجزء السابع، بيروت، مؤسسة التاريخ العربي، ص 23.
21- أنظر خالد محمد خالد خلفاء الرسول، دار الفكر بيروت بغداد، 1986،ص، 159 وما بعدها.
22- للمزيد انظر : د. عبد القادر سلمان المعاضيدي و د. محمد باسم المشهداني عثمان بن عفان ،بغداد، دار الشؤون الثقافية العامة، 1989 ص 18 وما بعدها.
23- للمزيد أنظر: أ.د. كمال السيد أبو مصطفى ود أسامة أحمد حماد، في تاريخ الدولة العربية الإسلامية، تاريخ صدر الإسلام والدولة الأموية، مركز الإسكندرية للكتاب، الإسكندرية 2003، ص 144.
24- ابن كثير، البداية والنهاية، الجزء السابع، بيروت، مؤسسة التاريخ العربي ، ص22.
25- للمزيد انظر: د. محمد الشحات الجندي، معالم النظام السياسي في الإسلام، الطبعة الأولى، دار الفكر العربي، القاهرة، 1986، ص 163
26- كما أنكر الناس عليه عندما بنى فسطاطاً أثناء الحج في منى سنة 29 للهجرة - ابن كثير، البداية والنهاية، الجزء السابع، بيروت، مؤسسة التاريخ العربي ، ص 173.
27- أ. د كمال مصطفى المصدر السابق ص 145 وللمزيد عن تقريب الخليفة عثمان لأقاربه من بني أمية الذين عبثوا بالمال العام، أنظر أماني عبد الحميد صالح، أزمة الشرعية في مؤسسة الخلافة الإسلامية، دراسة تحليلية لركائز ولآليات الشرعية في نظام الخلافة، رسالة دكتوراه، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة، 1998، ص 366 وما بعدها.
28- خالد محمد خالد خلفاء الرسول، دار الفكر بيروت بغداد، 1986 ، ص 314 وما بعدها.
29- أنظر ابن كثير ، مصدر سابق، ص 189 وما بعدها.
30- أنظر- رمزية عبد الوهاب الخيرو إدارة العراق في صدر الإسلام بغداد، دار الحرية للطباعة، 1978، ص 180.
31- أنظر :- د. محمد الشحات الجندي، معالم النظام السياسي في الإسلام، الطبعة الأولى، دار الفكر العربي، القاهرة، 1986 ، ص 165.
32- أنظر أبن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج1، ط1، 1959، ص221 وما بعدها.
33- أنظر خالد محمد خالد خلفاء الرسول، دار الفكر بيروت بغداد، 1986، ص 421 424
34- أنظر د. علي إبراهيم حسن التاريخ الإسلامي العام القاهرة، مكتبة النهضة المصرية بدون تاريخ، ص 531.
35- أنظر د محمود حلمي نظام الحكم الإسلامي مقارناً بالنظم المعاصرة، دار الفكر العربي، 1973 ، ص 338
36- أنظر نهج البلاغة الخطبة ،15، ص 45، والخطبة 124، ص 230
37- للمزيد عن السياسة الإدارية عند الإمام علي، أنظر رحيم محمد سالم الاتجاهات الفكرية عند الإمام علي رسالة دكتوراه، كلية الآداب، جامعة بغداد ،2006، ص 238 وما بعدها.
38- نهج البلاغة الخطبة 221، ص 421
39- د. محمد الشحات الجندي، معالم النظام السياسي في الإسلام، الطبعة الأولى، دار الفكر العربي، القاهرة، 1986، ص 200.
40- تنازل الإمام الحسن عن الخلافة بعد أن أرسل رسالة إلى معاوية يطلب فيها الموافقة على شروطه مقابل تنازله عن الخلافة، وأجاب معاوية برسالة فيها توقيعه وطلب من الحسن أن يضع الشروط لمزيد من التفصيل، انظر: محمد باقر الصدر، دور الأئمة في الحياة الإسلامية، ط/2، أنصار الله للطباعة والنشر والتوزيع، 1425 هجرية، ص 237. وانظر: the two grandsons of the Massenger AL-Hassan and Al-Hussein Mohammad Redha
. p.31.1999، daral-kutob al- ilmiyah interpreted by Mohammad Aghaof Allah
الاكثر قراءة في القانون الاداري
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة