قوّة العصمة في الأنبياء حاكمة على وجودهم في جميع الأحوال
المؤلف:
السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ
المصدر:
معرفة الإمام
الجزء والصفحة:
ج1/ ص87-91
2025-10-06
128
انّ قوّة العصمة في الأنبياء والأئمّة عليهم السّلام موهبةٌ إلهيّة، وهى نوعٌ من المعرفة والحالة القلبيّة لديهم لا تماثل سائر العلوم البشريّة، كما انّها لا تغلبها ولا تقهرها الواردات الطبيعيّة ولا الخيالات الخسيسة الماديّة في النوم أو اليقظة، في اليسر أو العُسر، في الرخاء أو الشدّة، بل تشرق في القلب دائماً كالشمس المنيرة فتخرج النقاط السوداء المظلمة من زواياه. وهذا النوع من العلم ليس فقط قويّاً بحيث لا تغلبه القوي الشعوريّة ولا ينكبه طغيانُ الإحساسات، بل انّه يُصيّرها جميعاً تحت سيطرته، ويستخدمها في مصالحه، ويأمرها بأمره ونهيه، فلا قدرة لها على التخطّي والتجاوز.
وبناءً على هذا فانّ قوّة العلم والنور المضيء تصون صاحبها عن الضلالة والمعصية والخطأ دائماً.
وقد ورد في الروايات انّ هناك روحاً لدى الأنبياء والأئمة تسمّى بـ(روح القدس) تحفظهم في مقام الإنسانية الرفيع، وتصونهم عن الانزلاق والإثم والخطأ.
وقد وردت في الآية المباركة التي ذُكرت سابقاً في مطلع الحديث كلمةُ الكتاب، والمقصود بها الوحي الذي نزل على قلب النبيّ بواسطة جبرئيل، والمتعلّق بقوانين الشريعة؛ كما ان المراد بالحكمة العلم بالمعارف الكلية والأسرار الالهيّة، والمراد من العلوم التي تعلمها سائر العلوم من الإدراكات الجزئية وتشخيص المطالب الحقة.
ولأنّ جملة {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ} امّا ان تكون حالية، وامّا بمنزلة تعليل للجملة السابقة؛ لذا نستفيد انّ العلّة لعدم تأثير كلام المنافقين في الرسول يعود إلى تلك الملكة القلبيّة التي يكون قادراً بها على تلقّي الوحي بواسطة الأمين جبرئيل بالنسبة إلى أحكام الشريعة وقوانينها، وبالنسبة إلى المعارف الالهيّة، ويكون قادراً أيضاً على تلقّي الإلهامات نسبةً إلى الاطّلاع على الأسرار والمغيّبات، وتبين واقعيّة الأمور والتفريق بين الحق والباطل.
وبناء على هذا فإننا نستفيد من الآية بأنّ العلّة لعدم انحراف النبيّ أو ضلاله حتى في بعض الامور الجزئيّة تستند إلى ذلك العلم الخاصّ الذي وهبه الله سبحانه له بعنايته، فهو يتلقّى الوحي بواسطته، وهو ذلك العلم الخاصّ الذي يُعبّر عنه في الروايات بـ(روح القُدس) الذي يحفظ الأنبياء ويصونهم عن الإثم والخطأ في كلّ مرحلة من مراحل التشخيص.
استدلال آخر من القرآن على عصمة الأنبياء: ومن الاستدلالات[1] الأخرى على عصمة الأنبياء ضمّ آيتين من آيات القرآن الكريم، الاولى قوله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ والرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ والصِّدِّيقِينَ والشُّهَداءِ والصَّالِحِينَ وحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً}[2].
والثانية قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ ، صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ولَا الضَّالِّينَ}[3].
ونستفيد من الآية الاولى انّ الله قد أنعم على الأنبياء والشّهداء والصّديقين والصّالحين، ومن الآية الثانية انّ الذين أنعم الله عليهم لن يضلّوا ولن ينحرفوا. وبناءً على هذا فانّ الأنبياء والشهداء والصدّيقين والصالحين لن يضلّوا. ولأنّ كلّ معصيةٍ وذنب ضلالة، لذا فان المعصية والذنب لا يصدران منهم، أي انّ شأنهم ومقامهم في أنهم يمتلكون مَلَكةً حافظة عن المعصية والإثم، وهذا هو معنى العصمة من الذنب.
وكذلك لأنّ الخطأ في تلقّي الأحكام والوحي الالهي، وفي المعارف الالهيّة الكلية، وفي تشخيص الأمور الجزئية، والخطأ في التبليغ هو ضلالٌ أيضاً، فانهم لا يُخطئون ولا يزلّون في أي مرحلة من هذه المراحل، وبهذا البيان فانّ عصمتهم ستكون أيضاً في مرحلتين: مرحلة تلقّي الوحي والمعارف الالهيّة، ومرحلة التبليغ والترويج.
حيازة أمير المؤمنين لمقام العصمة:
لقد حاز أمير المؤمنين عليه السلام من الله سبحانه مقامَ العصمة وكونه وصيّ رسول الله ووارثه وخليفته، وأوّل من آمن برسول الله وصلى معه.
يروي الطبري بسنده عن ابن عباس قال: أوَّلُ مَن صلى عليّ[4].
ويحدّث ايضاً عن زيد بن أرقم قال: أوَّلُ مَنْ أسْلم مَعَ رَسُولِ اللهُ صلى اللهُ عليه [و آله] وسلم عليّ [عليه السلام][5].
ويروي عنه أيضاً قال: أوَّلُ رَجُلٍ صلى مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عليه [و آله] وسلم عليّ ابنُ أبي طَالِبٍ[6].
ويروي أيضاً بسنده عن عبّاد بن عبد الله قال: سَمِعْتُ عَلياً يَقُولُ: "أنَا عَبْدُ اللهِ وأخو رَسُولِهِ وأنَا الصِّدِّيقُ الأكبر لَا يَقُولها بَعْدِي إلَّا كَاذِبٌ مُفْتَرٍ، صَلَّيتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ قَبْلَ النَّاسِ بِسَبْعِ سِنين"[7].
ويقول ابن الصبّاغ المالكي ومحمّد بن طلحة الشافعي: وَكَانَ رَسُولُ اللهُ صلى اللهُ عليه [و آله] وسلّم قَبلَ بَدْوِ أمْرِهِ إذَا أرَادَ الصَّلَاةَ خَرَجَ إلى شِعَابِ مَكَّةَ مُسْتَخِفياً وأخْرَجَ عَليّاً مَعَهُ، فَيُصَلِّيانِ مَا شَاءَ اللهُ فَإذَا قَضَيَا رَجَعَا إلى مَكَانهما[8].
ويروي الطبري بسنده عن يحيي بن عفيف الكندي (عفيف الكندي هو أخ الأشعث بن قيس، وكان رفيقاً للعباس بن عبد المطّلب، وكان يأتي إلى مكّة للتجارة فيسكن في بيت العبّاس)؛ يقول: حدّثني أبي قال: كنتُ جالساً مع العبّاس بن عبد المطّلب بمكّة بالمسجد قبل أن يظهر أمر رسول الله صلى الله عليه [و آله] وسلم، فجاء شابٌّ فنظر إلى السماء حين حلقت الشمس ثم استقبل الكعبة فقام يصلّي، فجاء غلامٌ فقام عن يمينه، ثم جاءت امرأة فقامت خلفهما، فركع الشاب فركع الغلام والمرأة، ثم رفع فرفعا، ثم سجد فسجدا؛ فقلتُ: يا عبّاس أمرٌ عظيم! فقال العبّاس: أتعرف هذا الشابّ؟
فقلتُ: لا. فقال: هذا محمّد بن عبد الله بن عبد المطّلب ابن أخي؛ أتدري من هذا الغلام؟ هو علي أبي طالب بن عبد المطّلب ابن أخي؛ أتدري من هذه المرأة؟ هذه خديجة بنت خويلد. انّ ابن أخي هذا حدَّثني أنّ ربّه ربّ السماوات والأرض أمره بهذا الدين وهو عليه، ولا والله [ما أعرفُ] على ظهر الأرض اليوم على هذا الدين غير هؤلاء[9].
بلى، لقد انشغل النبيّ وأمير المؤمنين وخديجة بالصلاة وعبادة الله سنوات عديدة، بينما لم يكن أحد من أهل مكّة مؤمناً آنذاك أو عالماً برسالته صلى الله عليه وآله، حتى نزلت عليه آية الإنذار من قبل الله تعالى.
[1] (تفسير الميزان)، ج 2، ص 140.
[2] الآية 69، من السورة 4: النساء.
[3] الآية 6 و7، من السورة 1: الفاتحة.
[4] (تاريخ الطبري)، ج 2، ص 55.
[5] الطبري، ج 2، ص 56؛ ويروي الحديث الرابع كذلك في (ينابيع المودّة) ص 60 عن ابن ماجة القزويني وأحمد في المسند وأبي نعيم الحافظ والثعلبي والحمويني بأدني اختلاف في اللفظ.
[8] (الفصول المهمّة) ص 14، و(مطالب السؤل) ص 11، و(تاريخ الطبري) ج 2، ص 58.
[9] (تاريخ الطبري) ج 2، ص 56؛ و(الفصول المهمّة)، ص 16؛ و(مطالب السؤل)، ص 11 الطبعة الحجريّة.
الاكثر قراءة في النبوة
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة