المراحل الثلاث لعصمة الأنبياء
المؤلف:
السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ
المصدر:
معرفة الإمام
الجزء والصفحة:
ج1/ ص57-59
2025-10-02
124
يمكن الاستفادة من الآية الشريفة التي ذكرناها في مطلع الدرس في اثبات جميع المراتب الثلاثية للعصمة في الذين بُعثوا لهداية الناس وإرشادهم.
{عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً ، إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ}.
اي اولئك الذين يصبحون من جميع الجهات، ومن زاوية العقائد، ومن زاوية الصفات النفسيّة والروحيّة مورد رضا الله سبحانه، واولئك الذين نالوا مرحلة العبوديّة المحضة، وخرجوا عن الغرور والعُجب والأنانية في جميع المراحل، فأصبحوا مرضيّين من قبل الله.
ومعلومٌ انّ الإنسان ما لم يصل إلى هذه المنزلة، فانّه لن يصبح مورداً للإرتضاء المطلق من ربّه[1]، وهذه هي مرتبة المخلصين. وفي هذه الحالة
فانّ الله سيكشف له الستار والحُجب القلبيّة ويُطلعه على علم غيبه وعلى كلّ ما هو خارج عن متناول يد جميع أفراد الجنّ والإنس والملائكة.
وبالطبع فلأنّ الله يُفهم الإنسان علمه الغيبيّ دون أي تغيير أو تبديل، ودون أي نقص أو خلل، فإن قلبه ينبغي أن يقع في مقام عصمة الله وصيانته، والّا لتصرّف بنفسه في تلقّي ذلك العلم ولأنحرف وبدّل في أخذه، وهذه هي مرحلة العصمة في تلقّي المعارف الحقة: {فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ ومِنْ خَلْفِهِ رَصَداً ، لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً}[2].
ولأنّ قلبه صافٍ وبعيد عن متناول يد الشيطان، فانّه- بعد التلقّي الصحيح- سيحفظ كلّ تلك المعارف والعلوم الكلّيّة ويحوّلها وينقلها كما أخذها، وهذه هي مرحلة في تبليغ وإيصال الأحكام والمعارف.
فالله سبحانه وتعالى يجعل رصداً وحرّاساً في أطراف قلبه وجوانبه وبين يديه ومن خلفه لكي لا تؤثرّ فيه إلقاءات الجنّ والإنس، ولا تجد وساوس النفس وابليس سبيلًا إلى قلبه، وهذه هي المصونيّة الالهيّة، لأن الله اذا وكلَ الإنسان إلى نفسه ورفع يده عن حمايته وحفظه، فانّه سيواجه آلاف الآفات، فذلك القلب محفوظ عن جميع الشرور، من شر {الْخَنَّاسِ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ}، ومن شرّ جميع ما خلق، {وَ مِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ} و{حاسِدٍ إِذا حَسَدَ}؛ لا يؤثّر عليه سحرٌ ولا طلسمة، ولا قدرة النفس الأمّارة بالسوء أبداً.
ولو اجتمعت المخلوقات واتّحدت لحرفه عن مقصده ومسيره، او لتتصرّف فيه خلافاً للعلوم الكلّيّة والمعارف الحقة، او لتغيّر معلوماته وإدراكاته، فإنّها لن تفلح ولن تستطيع، وذلك لأنّ قلب المؤمن تحت مصونيّة الله ورصده، فقد عين الله موكّلين لحراسته ولحفظه من بين يديه ومن خلفه، وذلك من أجل ان يقوم بتبليغ رسالات الله وأحكامه بصورة صحيحة وكاملة، لكي لا يتخطّى هؤلاء المؤمنون وظيفتهم؛ والله سبحانه محيطٌ بجميع أمورهم ومطّلع على جزئيّات وكليّات إنجازاتهم وأمورهم؛ وهذه هي مرحلة العصمة في التبليغ والتحويل.
وامّا مرحلة العصمة من المعصية، فهي أيضاً غير خارجة عن مدلول الآية بالتقريب السّابق، وذلك لأنّه اذا ما ارتكب رسولٌ ذنباً فانّه سيكون بفعله قد أعلن ترخيصه له؛ ولأنّه قد أعلن حُرمة ذلك الذنب قبلًا بقوله وكلامه، فانّه سيكون قد دعا إلى متناقضين؛ والمتناقضان ليسا حقّاً، بل انّ من المسلم انّ أحدهما باطل، في حين انّ قلب رسول الله مُصان عن تلاعب الشيطان، فقد كان وسيبقى متحقّقاً بالحق.
وتبين ملائكة الوحي هذه الحقيقة للرسول في سورة مريم: {وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وما خَلْفَنا وما بَيْنَ ذلِكَ وما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا}[3].
وهكذا فانّ المطالب التي ذكرت تُثبت عصمة الأنبياء والأئمّة عليهم السلام في جميع المراحل، بل وتثبتها كذلك للخاصّين والمقرّبين من أولياء الله تعالى.
[1] ويرد هنا هذا السؤال: كيف يكون المراد بالإرتضاء هو الإرتضاء المطلق، بينما المراد بالإرتضاء في الآية 28 من سورة الأنبياء:{وَ لَا يَشْفَعُونَ إلَّا لِمَن ارْتَضَى} ارتضاءً في الدين والعقيدة؟
و الجواب: لأنّ الشفاعة عائدة لأهل المعصية، وهي الكبائر، بدليل الآية 32 من سورة النجم: {لِيَجْزِي الَّذِينَ أسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا ويَجْزِيَ الَّذِينَ أحْسَنُوا بِالْحُسْنَي ، الَّذِين يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثْمِ والْفَوَاحِشَ إِلّا اللّمَمَ}؛ التي تعدّ من المحسنين الذين يجتنبون الكبائر فقط. وقد قال الرسول صلّي الله عليه وآله:"شفاعتي لأهل الكبائر من أمّتي، فأمّا المحسنون فما عليهم من سبيل". وجاء في سورة النساء، الآية 30:
{إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ}؛ وعلي ذلك فانّ نفس الاجتناب عن الكبائر مكفّر للسيّئات والمعاصي الصغيرة.
و علي هذا الأساس فانّ المراد بالإرتضاء في آية الشفاعة لا بدّ ان يكون- بمناسبة الحكم والموضوع- الإرتضاء في الدين والعقيدة لا الإرتضاء في السرّ والذات والعمل، لأنّ صصص تصبح ذاته وسرّه مورداً للإرتضاء فليس هناك من معني للشفاعة له. ويؤيّد هذا المعني الروايات الواردة عن على بن موسى الرضا عليه السلام، التي يفسّر فيها الإمام الإرتضاء في آية الشفاعة بالإرتضاء في الدين (في تفسير الميزان، المجلّد الأول، ص 171 فما بعد، والمجلّد الرابع عشر، سورة الأنبياء الآية 28، روايات تدلّ علي هذا المقصود). وتبقي آية الإرتضاء تلك حول علم الغيب باقيةً علي إطلاقها بمناسبة الحكم والموضوع؛ امّا بشأن الشفاعة فانّها سيكون لها كذلك إطلاق في الدين والعقيدة.
[2] الآية 27 و28، من السورة 72: الجنّ.
[3] الآية 64، من السورة 19: مَريم.
الاكثر قراءة في النبوة
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة