في تفسير الإمام العسكري / 529 ، والاحتجاج : 1 / 14 : ( قال أبو محمد الحسن بن علي العسكري ( عليهما السلام ) : ذُكر عند الصادق ( عليه السلام ) الجدال في الدين وأن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) والأئمة ( عليهم السلام ) قد نهوا عنه ، فقال الصادق ( عليه السلام ) : لم يَنْهَ عنه مطلقاً ولكنه نهى عن الجدال بغير التي هي أحسن ، أما تسمعون الله يقول : وَلاتُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ . وقوله : أدْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ . فالجدال بالتي هي أحسن قد قرنه العلماء بالدين ، والجدال بغير التي هي أحسن محرم حرمه الله على شيعتنا . وكيف يحرم الله الجدال جملةً وهو يقول : تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ . وهل يؤتي ببرهان إلا بالجدال بالتي هي أحسن ! قيل : يا ابن رسول الله فما الجدال بالتي هي أحسن ، وبالتي ليست بأحسن ؟
قال الصادق ( عليه السلام ) . . أما الجدال بغير التي هي أحسن فأن تجحد حقاً لا يمكنك أن تفرق بينه وبين باطل من تجادله . . فهذا هو المحرم ، لأنك مثله جحد هو حقاً ، وجحدت أنت حقاً آخر .
وقال أبو محمد الحسن العسكري ( عليه السلام ) : فقام إليه رجل آخر وقال : يا ابن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أفجادلَ رسول الله ؟ فقال الصادق ( عليه السلام ) : مهما ظننت برسول الله من شئ فلا تظنن به مخالفة الله ، أليس الله قد قال : وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ . . أفتظن أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) خالف ما أمر الله به فلم يجادل بما أمره الله به ، ولم يخبر عن أمر الله بما أمره أن يخبر به !
ولقد حدثني أبي الباقر ، عن جدي علي بن الحسين ، عن أبيه الحسين بن علي سيد الشهداء ، عن أبيه أمير المؤمنين صلوات الله عليهم ، أنه اجتمع يوماً عند رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أهل خمسة أديان : اليهود ، والنصارى ، والدهرية ، والثنوية ، ومشركو العرب .
فقالت اليهود : نحن نقول عزيرٌ ابن الله ، وقد جئناك يا محمد لننظر ما تقول ، فإن اتبعتنا فنحن أسبق إلى الصواب منك وأفضل ، وإن خالفتنا خصمناك .
وقالت النصارى : نحن نقول إن المسيح ابن الله اتحد به ، وقد جئناك لننظر ما تقول ، فإن اتبعتنا فنحن أسبق إلى الصواب منك وأفضل وإن خالفتنا خصمناك .
وقالت الدهرية : نحن نقول إن الأشياء لا بَدْوَ لها وهي دائمة ، وقد جئناك لننظر فيما تقول ، فإن اتبعتنا فنحن أسبق إلى الصواب منك وأفضل ، وإن خالفتنا خصمناك .
وقالت الثنوية : نحن نقول إن النور والظلمة هما المدبران . . فإن اتبعتنا فنحن أسبق إلى الصواب منك ، وإن خالفتنا خصمناك .
وقال مشركو العرب : نحن نقول إن أوثاننا آلهة . . فإن اتبعتنا فنحن أسبق إلى الصواب منك وأفضل ، وإن خالفتنا خصمناك .
فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : آمنت بالله وحده لا شريك له ، وكفرت بالجبت والطاغوت ، وبكل معبود سواه .
ثم قال لهم : إن الله تعالى قد بعثني كافة للناس بشيراً ونذيراً وحجةً على العالمين ، وسيردُّ كيدَ من يكيد دينَه في نحره .
ثم قال لليهود : أجئتموني لأقبل قولكم بغير حجة ؟ قالوا : لا . قال : فما الذي دعاكم إلى القول بأن عزيراً ابن الله ؟ قالوا : لأنه أحيا لبني إسرائيل التوراة بعد ما ذهبت ، ولم يفعل بها هذا إلا لأنه ابنه .
فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : فكيف صار عزيرٌ ابن الله دون موسى ( عليه السلام ) وهو الذي جاء لهم بالتوراة ، ورؤي منه من المعجزات ما قد علمتم ؟ ولئن كان عزير ابن الله لما ظهر من إكرامه بإحياء التوراة ، فلقد كان موسى بالبنوة أولى وأحق ، ولئن كان هذا المقدار من إكرامه لعزير يوجب له أنه ابنه فأضعاف هذه الكرامة لموسى توجب له منزلة أجلَّ من البنوة ! لأنكم إن كنتم إنما تريدون بالبنوة الدلالة على سبيل ما تشاهدونه في دنياكم من ولادة الأمهات الأولاد بوطئ آبائهم لهن ، فقد كفرتم بالله وشبهتموه بخلقه ، وأوجبتم فيه صفات المحدثين ، فوجب عندكم أن يكون محدثاً مخلوقاً ، وأن يكون له خالقٌ صنعه وابتدعه .
قالوا : لسنا نعني هذا ، فإن هذا كفر كما دللت ، لكنا نعني أنه ابنه على معنى الكرامة ، وإن لم يكن هناك ولادة ، كما قد يقول بعض علمائنا لمن يريد إكرامه وإبانته بالمنزلة من غيره : يا بنيَّ وإنه ابني لاعلى إثبات ولادته منه ، لأنه قد يقول ذلك لمن هو أجنبي لا نسب له بينه وبينه ، وكذلك لما فعل الله تعالى بعزير ما فعل ، كان قد اتخذه ابناً على الكرامة لا على الولادة فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : فهذا ما قلته لكم إنه إن وجب على هذا الوجه أن يكون عزير ابنه ، فإن هذه المنزلة بموسى أولى ، وإن الله يفضح كل مبطل بإقراره ، ويقلب عليه حجته ! إن ما احتججتم به يؤديكم إلى ما هو أكثر مما ذكرته لكم ، لأنكم قلتم إن عظيماً من عظمائكم قد يقول لأجنبي لا نسب بينه وبينه : يا بني ، وهذا ابني ، لا على طريق الولادة ، فقد تجدون أيضاً هذا العظيم لأجنبي آخر : هذا أخي ، ولآخر : هذا شيخي ، وأبي ، ولآخر : هذا سيدي ويا سيدي ، على سبيل الإكرام . وإن من زاده في الكرامة زاده في مثل هذا القول ، فإذاً يجوز عندكم أن يكون موسى أخاً لله أو شيخاً له أو أباً أو سيداً ، لأنه قد زاده في الإكرام مما لعزير ، كما أن من زاد رجلاً في الإكرام فقال له يا سيدي ويا شيخي ويا عمي ويا رئيسي على طريق الإكرام ، وأن من زاده في الكرامة زاده في مثل هذا القول ، أفيجوز عندكم أن يكون موسى أخاً لله أو شيخاً أو عماً أو رئيساً أو سيداً أو أميراً ، لأنه قد زاده في الإكرام على من قال له يا شيخي ، أو يا سيدي ، أو يا عمي ، أو يا رئيسي ، أو يا أميري ؟ !
قال : فبهت القوم وتحيروا وقالوا : يا محمد أجِّلنا نتفكر فيما قد قلته لنا . فقال : أنظروا فيه بقلوب معتقدة للإنصاف يهدكم الله .
ثم أقبل على النصارى فقال لهم : وأنتم قلتم إن القديم عز وجل اتحد بالمسيح ابنه ، فما الذي أردتموه بهذا القول ، أردتم أن القديم صار محدثاً لوجود هذا المحدث الذي هو عيسى ، أو المحدث الذي هو عيسى صار قديماً كوجود القديم الذي هو الله ، أو معنى قولكم إنه اتحد به أنه اختصه بكرامة لم يكرم بها أحداً سواه ؟
فإن أردتم أن القديم صار محدثاً فقد أبطلتم ، لأن القديم محالٌ أن ينقلب فيصير محدثاً . وإن أردتم أن المحدث صار قديماً فقد أحلتم ، لأن المحدث أيضا محالٌ أن يصير قديماً . وإن أردتم أنه اتحد به بأنه اختصه واصطفاه على سائر عباده ، فقد أقررتم بحدوث عيسى وبحدوث المعنى الذي اتحد به من أجله ، لأنه إذا كان عيسى محدثاً وكان الله اتحد به بأن أحدث به معنىً صار به أكرم الخلق عنده ، فقد صار عيسى وذلك المعنى محدثين ، وهذا خلاف ما بدأتم تقولونه .
فقالت النصارى : يا محمد إن الله لما أظهر على يد عيسى من الأشياء العجيبة ما أظهر ، فقد اتخذه ولداً على جهة الكرامة .
فقال لهم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : فقد سمعتم ما قلته لليهود في هذا المعنى الذي ذكرتموه ، ثم أعاد ذلك كله ، فسكتوا إلا رجلاً واحداً منهم ، فقال له : يا محمد ، أوَلستم تقولون إن إبراهيم خليل الله ؟ قال : قلنا ذلك . قال : فإذا قلتم ذلك فلم منعتمونا من أن نقول إن عيسى ابن الله ؟
قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : إنهما لن يشتبها ، لأن قولنا إبراهيم خليل الله ، فإنما هو مشتق من الخلة والخلة معناها الفقر والفاقة ، فقد كان خليلاً إلى ربه فقيراً وإليه منقطعاً ، وعن غيره متعففاً معرضاً مستغنياً ، وذلك لما أريد قذفه في النار فرمي به في المنجنيق فبعث الله جبرئيل فقال له : أدرك عبدي فجاء فلقيه في الهواء فقال له : كلفني ما بدا لك ، فقد بعثني الله لنصرتك . فقال إبراهيم : حسبي الله ونعم الوكيل ، إني لا أسأل غيره ولا حاجة لي إلا إليه ، فسماه خليله أي فقيره ومحتاجه ، والمنقطع إليه عمن سواه .
وإذا جُعل معنى ذلك من الخلة ، وهو أنه قد تخلل معانيه ووقف على أسرار لم يقف عليها غيره ، كان الخليل معناه العالم به وبأموره ، ولا يوجب ذلك تشبيه الله بخلقه . ألا ترون أنه إذا لم ينقطع إليه لم يكن خليله وإذا لم يعلم بأسراره لم يكن خليله ، وأن من يلده الرجل وإن أهانه وأقصاه ، لم يخرج عن أن يكون ولده ، لأن معنى الولادة قائم به .
ثم إن وجب لأنه قال لإبراهيم خليلي أن تقيسوا أنتم فتقولوا بأن عيسى ابنه ، وجب أيضاً كذلك أن تقولوا لموسى إنه ابنه ، فإن الذي معه من المعجزات ، لم يكن بدون ما كان مع عيسى .
فقال بعضهم لبعض : وفي الكتب المنزلة إن عيسى قال : أذهب إلى أبي وأبيكم ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : فإن كنتم بذلك الكتاب تعملون فإن فيه أذهب إلى أبي وأبيكم ، فقولوا إن جميع الذين خاطبهم عيسى كانوا أبناء الله ، كما كان عيسى ابنه من الوجه الذي كان عيسى ابنه .
ثم إن ما في هذا الكتاب مبطل عليكم هذا الذي زعمتم أن عيسى من وجهة الإختصاص كان ابناً له ، لأنكم قلتم إنما قلنا إنه ابنه لأنه اختصه بما لم يختص به غيره ، وأنتم تعلمون أن الذي خص به عيسى لم يخص به هؤلاء القوم الذين قال لهم عيسى : أذهب إلى أبي وأبيكم ، فبطل أن يكون الإختصاص لعيسى ، لأنه قد ثبت عندكم بقول عيسى لمن لم يكن له مثل اختصاص عيسى ، وأنتم إنما حكيتم لفظة عيسى وتأولتموها على غير وجهها ، لأنه إذا قال : أذهب إلى أبي وأبيكم ، فقد أراد غير ما ذهبتم إليه ونحلتموه ، وما يدريكم لعله عنى أذهب إلى آدم أو إلى نوح ، وأن الله يرفعني إليهم ويجمعني معهم ، وآدم أبي وأبيكم وكذلك نوح ، بل ما أراد غير هذا . قال : فسكت النصارى وقالوا : ما رأينا كاليوم مجادلاً ولا مخاصماً مثلك ، وسننظر في أمورنا !
ثم أقبل رسول الله على الدهرية فقال : وأنتم فما الذي دعاكم إلى القول بأن الأشياء لا بَدْوَ لها وهي دائمةٌ ، لم تزل ولا تزال ؟
فقالوا : لأنا لا نحكم إلا بما نشاهد ولم نجد للأشياء حدثاً ، فحكمنا بأنها لم تزل ، ولم نجد لها انقضاء وفناء ، فحكمنا بأنها لا تزال .
فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : أفوجدتم لها قِدَماً ، أم وجدتم لها بَقَاءً أبَد الآبد ؟ فإن قلتم إنكم وجدتم ذلك أنهضتم لأنفسكم أنكم لم تزالوا على هيئتكم وعقولكم بلا نهاية ، ولا تزالون كذلك !
ولئن قلتم هذا ، دفعتم العيان وكذبكم العالمون والذين يشاهدونكم . قالوا : بل لم نشاهد لها قِدماً ولا بقاءً أبد الآبد .
قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : فلم صرتم بأن تحكموا بالقِدم والبقاء دائماً لأنكم لم تشاهدوا حدوثها ، وانقضاؤها أولى من تارك التميز لها مثلكم ، فيحكم لها بالحدوث والإنقضاء والانقطاع ، لأنه لم يشاهد لها قدماً ولا بقاءً أبد الآبد ؟ أوَلستم تشاهدون الليل والنهار وأحدهما بعد الآخر ؟ فقالوا : نعم . فقال : أترونهما لم يزالا ولا يزالان ؟ فقالوا : نعم . فقال : أفيجوز عندكم اجتماع الليل والنهار ؟ فقالوا : لا . فقال ( صلى الله عليه وآله ) : فإذاً منقطعٌ أحدهما عن الآخر فيسبق أحدهما ويكون الثاني جارياً بعده . قالوا : كذلك هو . فقال : قد حكمتم بحدوث ما تقدم من ليل ونهار لم تشاهدوهما ، فلا تنكروا لله قدرته .
ثم قال ( صلى الله عليه وآله ) : أتقولون ما قبلكم من الليل والنهار متناهٍ أم غير متناهٍ ؟ فإن قلتم إنه غير متناه ، فقد وصل إليكم آخرٌ بلا نهاية لأوله ، وإن قلتم متناه فقد كان ولا شئ منهما . قالوا : نعم .
قال لهم : أقلتم إن العالم قديمٌ غير محدث ، وأنتم عارفون بمعنى ما أقررتم به وبمعنى ما جحدتموه ؟ قالوا : نعم . قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : فهذا الذي تشاهدونه من الأشياء بعضها إلى بعض يفتقر لأنه لأقوام للبعض إلا بما يتصل به ، كما نرى البناء محتاجاً بعض أجزائه إلى بعض وإلا لم يتسق ولم يستحكم ، وكذلك سائر ما نرى .
وقال أيضاً : فإذا كان هذا المحتاج بعضه إلى بعض لقوته وتمامه ، هو القديم فأخبروني أن لو كان محدثاً كيف كان يكون ، وماذا كانت تكون صفته ؟ قال : فبهتوا وعلموا أنهم لا يجدون للمحدث صفة يصفونه بها إلا وهي موجودة في هذا الذي زعموا أنه قديم !
فوجموا وقالوا : سننظر في أمرنا .
ثم أقبل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) على الثنوية الذين قالوا النور والظلمة هما المدبران فقال : وأنتم فما الذي دعاكم إلى ما قلتموه من هذا ؟ فقالوا : لأنا وجدنا العالم صنفين خيراً وشراً ، ووجدنا الخير ضداً للشر ، فأنكرنا أن يكون فاعل واحد يفعل الشئ وضده ، بل لكل واحد منهما فاعل ، ألا ترى أن الثلج محال أن يسخن كما أن النار محال أن تبرد ، فأثبتنا لذلك صانعين قديمين ظلمةً ونوراً . فقال لهم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : أفلستم قد وجدتم سواداً وبياضاً وحمرةً وصفرةً وخضرةً وزرقةً ، وكل واحدة ضد لسائرها لاستحالة اجتماع مثلين منها في محل واحد ، كما كان الحر والبرد ضدين لاستحالة اجتماعهما في محل واحد ؟ قالوا : نعم .
قال : فهلا أثبتم بعدد كل لون صانعاً قديماً ، ليكون فاعل كل ضد من هذه الألوان غير فاعل الضد الآخر ؟ قال : فسكتوا .
ثم قال : فكيف اختلط النور والظلمة ، وهذا من طبعه الصعود وهذه من طبعها النزول ، أرأيتم لو أن رجلاً أخذ شرقاً يمشي إليه والآخر غرباً أكان يجوز عندكم أن يلتقيا ما داما سائرين على وجههما ؟ قالوا : لا .
قال : فوجب أن لا يختلط النور والظلمة لذهاب كل واحد منهما في غير جهة الآخر ، فكيف وجدتم حدث هذا العالم من امتزاج ما هو محال أن يمتزج ، بل هما مدبران جميعاً مخلوقان . فقالوا : سننظر في أمورنا .
ثم أقبل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) على مشركي العرب فقال : وأنتم فلمَ عبدتم الأصنام من دون الله ؟ فقالوا : نتقرب بذلك إلى الله تعالى . فقال لهم : أوَهي سامعة مطيعة لربها عابدة له حتى تتقربوا بتعظيمها إلى الله ؟ قالوا : لا . قال : فأنتم الذين نحتموها بأيديكم ؟ قالوا : نعم . قال : فلأن تعبدكم هي لو كان يجوز منها العبادة أحرى من أن تعبدوها ، إذا لم يكن أمركم بتعظيمها من هو العارف بمصالحكم وعواقبكم والحكيم فيما يكلفكم . قال : فلما قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) هذا القول اختلفوا فقال بعضهم : إن الله قد حل في هياكل رجال كانوا على هذه الصورة ، فصورنا هذه الصور نعظمها لتعظيمنا تلك الصور التي حل فيها ربنا !
وقال آخرون منهم : إن هذه صور أقوام سلفوا كانوا مطيعين لله قبلنا ، فمثَّلنا صورهم وعبدناها تعظيماً لله .
وقال آخرون منهم : إن الله لما خلق آدم وأمر الملائكة بالسجود له فسجدوه تقرباً بالله كنا نحن أحق بالسجود لآدم من الملائكة ، ففاتنا ذلك فصورنا صورته فسجدنا لها تقرباً إلى الله كما تقربت الملائكة بالسجود لآدم إلى الله تعالى ، وكما أمرتم بالسجود بزعمكم إلى جهة مكة ففعلتم ، ثم نصبتم في غير ذلك البلد بأيديكم محاريب سجدتم إليها وقصدتم الكعبة لا محاريبكم ، وقصدتم بالكعبة إلى الله عز وجل لا إليها .
فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : أخطأتم الطريق وضللتم ، أما أنتم وهو يخاطب الذين قالوا إن الله يحل في هياكل رجال كانوا على هذه الصورة التي صورناها ، فصورنا هذه الصور نعظمها لتعظيمنا لتلك الصور التي حل فيها ربنا ، فقد وصفتم ربكم بصفة المخلوقات ، أو يحل ربكم في شئ حتى يحيط به ذاك الشئ ، فأي فرق بينه إذاً وبين سائر ما يحل فيه من لونه وطعمه ورائحته ولينه وخشونته وثقله وخفته ، ولم صار هذا المحلول فيه محدثاً قديماً دون أن يكون ذلك محدثاً وهذا قديماً ، وكيف يحتاج إلى المحال من لم يزل قبل المحال ، وهو عز وجل كان لم يزل ، وإذا وصفتموه بصفة المحدثات في الحلول فقد لزمكم أن تصفوه بالزوال ، وما وصفتموه بالزوال والحدوث فصفوه بالفناء ، لأن ذلك أجمع من صفات الحال والمحلول فيه ، وجميع ذلك متغير الذات ، فإن كان لم يتغير ذات الباري تعالى بحلوله في شئ ، جاز أن لا يتغير بأن يتحرك ويسكن ويسود ويبيض ويحمر ويصفر ، وتحله الصفات التي تتعاقب على الموصوف بها ، حتى يكون فيه جميع صفات المحدثين ويكون محدثاً ، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً ! ثم قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : فإذا بطل ما ظننتموه من أن الله يحل في شئ ، فقد فسد ما بنيتم عليه قولكم .
قال : فسكت القوم وقالوا : سننظر في أمورنا .
ثم أقبل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) على الفريق الثاني فقال : أخبرونا عنكم إذا عبدتم صور من كان يعبد الله فسجدتم لها وصليتم ، فوضعتم الوجوه الكريمة على التراب بالسجود لها ، فما الذي أبقيتم لرب العالمين ، أما علمتم أن من حق من يلزم تعظيمه وعبادته أن لا يساوَى به عبده ، أرأيتم ملكاً أو عظيماً إذا سويتموه بعبده في التعظيم والخضوع والخشوع ، أيكون في ذلك وضع من الكبير كما يكون زيادة في تعظيم الصغير ؟ فقالوا : نعم .
قال : أفلا تعلمون أنكم من حيث تعظمون الله بتعظيم صور عباده المطيعين له ، تُزرون على رب العالمين !
قال : فسكت القوم بعد أن قالوا : سننظر في أمرنا .
ثم قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) للفريق الثالث : لقد ضربتم لنا مثلاً وشبهتمونا بأنفسكم ولسنا سواء ، وذلك أنا عبادٌ الله مخلوقون مربوبون ، نأتمر له فيها أمرنا وننزجر عما زجرنا ، ونعبده من حيث يريده منا ، فإذا أمرنا بوجه من الوجوه أطعناه ولم نتعد إلى غيره مما لم يأمرنا ولم يأذن لنا ، لأنا لا ندري لعله إن أراد منا الأول فهو يكره الثاني ، وقد نهانا أن نتقدم بين يديه ، فلما أمرنا أن نعبده بالتوجه إلى الكعبة أطعناه ، ثم أمرنا بعبادته بالتوجه نحوها في سائر البلدان التي تكون بها فأطعناه ، ولم نخرج في شئ من ذلك من اتباع أمره . والله حيث أمر بالسجود لآدم لم يأمر بالسجود لصورته التي هي غيره . فليس لكم أن تقيسوا ذلك عليه ، لأنكم لا تدرون لعله يكره ما تفعلون ، إذ لم يأمركم به .
ثم قال لهم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : أرأيتم لو أذن لكم رجل دخول داره يوماً بعينه ألكم أن تدخلوها بعد ذلك بغير أمره ، أو لكم أن تدخلوا داراً له أخرى مثلها بغير أمره ، أو وهب لكم رجل ثوباً من ثيابه أو عبداً من عبيده أو دابة من دوابه ألكم أن تأخذوا ذلك ؟ قالوا : نعم . قال : فإن لم تأخذوه ألكم أخذ آخر مثله ؟ قالوا : لا ، لأنه لم يأذن لنا في الثاني كما أذن في الأول . قال ( صلى الله عليه وآله ) : فأخبروني ، الله أولى بأن لايُتقدم على ملكه بغير أمره أو بعض المملوكين ؟ قالوا : بل الله أولى بأن لا يتصرف في ملكه بغير إذنه ، قال : فلم فعلتم ، ومتى أمركم بالسجود أن تسجدوا لهذه الصور ؟
قال فقال القوم : سننظر في أمورنا وسكتوا !
وقال الصادق ( عليه السلام ) : فوالذي بعثه بالحق نبياً ما أتت على جماعتهم إلا ثلاثة أيام ، حتى أتوا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فأسلموا ، وكانوا خمسة وعشرين رجلاً من كل فرقة خمسة ، وقالوا : ما رأينا مثل حجتك يا محمد ، نشهد أنك رسول الله ) .
[ كان اليهود يستفتحون بالنبي وآله ( صلى الله عليه وآله )
في تفسير الإمام العسكري ( عليه السلام ) / 393 ، في تفسير قوله تعالى : وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ .
روى عن جده أمير المؤمنين ( عليه السلام ) قال : إن الله تعالى أخبر رسوله ( صلى الله عليه وآله ) بما كان من إيمان اليهود بمحمد قبل ظهوره ، ومن استفتاحهم على أعدائهم بذكره والصلاة عليه وعلى آله . وكان الله عز وجل أمر اليهود في أيام موسى وبعده إذا دهمهم أمر ودهتهم داهية ، أن يدعوا الله عز وجل بمحمد وآله الطيبين ، وأن يستنصروا بهم ، وكانوا يفعلون ذلك حتى كانت اليهود من أهل المدينة قبل ظهور محمد ( صلى الله عليه وآله ) بسنين كثيرة يفعلون ذلك ، فيكفون البلاء والدهماء والداهية .
وكانت اليهود قبل ظهور محمد ( صلى الله عليه وآله ) بعشر سنين ، تعاديهم أسد وغطفان ويقصدون أذاهم ، وكانوا يستدفعون شرورهم وبلاءهم بسؤالهم ربهم بمحمد وآله الطيبين ، حتى قصدهم في بعض الأوقات أسد وغطفان في ثلاثة آلاف فارس إلى بعض قرى اليهود حوالي المدينة ، فتلقاهم اليهود ، وهم ثلاث مائة فارس ، ودعوا الله بمحمد وآله الطيبين الطاهرين ، فهزموهم وقطعوهم . فقال أسد وغطفان بعضهما لبعض : تعالوا نستعين عليهم بسائر القبائل ، فاستعانوا عليهم بالقبائل وأكثروا حتى اجتمعوا قدر ثلاثين ألفاً وقصدوا هؤلاء الثلاث مائة في قريتهم ، فألجؤوهم إلى بيوتها ، وقطعوا عنها المياه الجارية التي كانت تدخل إلى قراهم ، ومنعوا عنهم الطعام ، واستأمن اليهود منهم فلم يؤمنوهم وقالوا : لا إلا أن نقتلكم ونسبيكم وننهبكم . فقالت اليهود بعضها لبعض : كيف نصنع ؟
فقال لهم أماثلهم وذوو الرأي منهم : أما أمر موسى ( عليه السلام ) أسلافكم ومن بعدهم بالإستنصار بمحمد وآله ؟ أما أمركم بالإبتهال إلى الله تعالى عند الشدائد بهم ؟ قالوا : بلى ، قالوا : فافعلوا . فقالوا : اللهمَّ بجاه محمد وآله الطيبين لما سقيتنا ، فقد قطعت الظلمة عنا المياه حتى ضعف شباننا ، وتماوتت ولداننا ، وأشرفنا على الهلكة . فبعث الله تعالى لهم وابلاً هطلاً سحاً ملأ حياضهم وآبارهم وأنهارهم وأوعيتهم وظروفهم ، فقالوا : هذه إحدى الحسنيين ، ثم أشرفوا من سطوحهم على العساكر المحيطة بهم ، فإذا المطر قد آذاهم غاية الأذى ، وأفسد أمتعتهم وأسلحتهم وأموالهم ، فانصرف عنهم لذلك بعضهم ، وذلك أن المطر أتاهم في غير أوانه في حمارّة القيظ حين لا يكون مطر ، فقال الباقون من العساكر : هبكم سقيتم فمن أين تأكلون ؟ ولئن انصرف عنكم هؤلاء فلسنا ننصرف حتى نقهركم على أنفسكم وعيالاتكم وأهاليكم وأموالكم ، ونشفي غيظنا منكم .
فقالت اليهود : إن الذي سقانا بدعائنا بمحمد وآله قادر على أن يطعمنا ، وإن الذي صرف عنا من صرفه قادر على أن يصرف الباقين ، ثم دعوا الله بمحمد وآله أن يطعمهم ، فجاءت قافلة عظيمة من قوافل الطعام قدر ألفي جمل وبغل وحمار ، موقرةً حنطةً ودقيقاً وهم لا يشعرون بالعساكر فانتهوا إليهم وهم نيام ولم يشعروا بهم ، لأن الله تعالى ثقل نومهم حتى دخلوا القرية ولم يمنعوهم ، وطرحوا فيها أمتعتهم ، وباعوها منهم فانصرفوا وأبعدوا ، وتركوا العساكر نائمة ليس في أهلها عين تطرف ، فلما أبعدوا انتبهوا ونابذوا اليهود الحرب ، وجعل يقول بعضهم لبعض : ألوحى ألوحى ( العجل ) فإن هؤلاء اشتد بهم الجوع وسيذلون لنا ! قال لهم اليهود : هيهات بل قد أطعمنا ربنا وكنتم نياماً ، جاءنا من الطعام كذا وكذا ، ولو أردنا قتالكم في حال نومكم لتهيأ لنا ، ولكنا كرهنا البغي عليكم فانصرفوا عنا ، وإلاّ دعونا عليكم بمحمد وآله واستنصرنا بهم أن يخزيكم ، كما قد أطعمنا وأسقانا ، فأبوا إلا طغياناً فدعوا الله بمحمد وآله واستنصروا بهم ، ثم برز الثلاث مائة فقتلوا منهم وأسروا وطحطحوهم ، واستوثقوا منهم بأُسرائهم ، فكانوا لا ينداهم مكروه من جهتهم ، لخوفهم على من لهم في أيدي اليهود . فلما ظهر محمد ( صلى الله عليه وآله ) حسدوه ، إذ كان من العرب ، فكذبوه ) .
مناظرة عمار بن ياسر ( رحمه الله ) مع اليهود
في تفسير الإمام العسكري / 515 ، قال ( عليه السلام ) : ( إن المسلمين لما أصابهم يوم أُحد من المحن ما أصابهم ، لقي قومٌ من اليهود بعده بأيام عمار بن ياسر وحذيفة بن اليمان ، فقالوا لهما : ألم تريا ما أصابكم يوم أُحد ، إنما يحارب كأحد طلاب ملك الدنيا ، حربه سجالاً ، فتارةً له وتارة عليه ، فارجعوا عن دينه . فأما حذيفة فقال : لعنكم الله لا أُقاعدكم ولا أسمع كلامكم ، أخاف على نفسي وديني وأفرُّ بهما منكم ، وقام عنهم يسعى .
وأما عمار بن ياسر فلم يقم عنهم ، ولكن قال لهم : معاشر اليهود إن محمداً وعد أصحابه الظفر يوم بدر إن صبروا ، فصبروا وظفروا ، ووعدهم الظفر يوم أُحد أيضاً إن صبروا ، ففشلوا وخالفوا ، فلذلك أصابهم ما أصابهم ، ولو أنهم أطاعوا وصبروا ولم يخالفوا لما غُلبوا .
فقالت له اليهود : يا عمار ، وإذا أطعتَ أنت غلبَ محمدٌ سادات قريش مع دقة ساقيك ! فقال عمار : نعم والله الذي لا إله إلا هو باعثه بالحق نبياً لقد وعدني محمد من الفضل والحكمة ما عَرَّفنيه من نبوته ، وفَهَّمنيه من فضل أخيه ووصيه وصفيه وخير من يخلفه بعده ، والتسليم لذريته الطيبين المنتجبين ، وأمرني بالدعاء بهم عند شدائدي ومهماتي وحاجاتي ، ووعدني أنه لا يأمرني بشئ فاعتقدت فيه طاعته إلا بلغته ، حتى لو أمرني بحط السماء إلى الأرض أو رفع الأرضين إلى السماوات لقَوَّى عليه ربي بدني بساقيَّ هاتين الدقيقتين !
فقالت اليهود : كلا والله يا عمار ! محمد أقلُّ عند الله من ذلك ، وأنت أوضع عند الله وعند محمد من ذلك ، لا ولا حجراً فيه أربعون مَنّاً !
فقام عمار عنهم وقال : لقد أبلغتكم حجة ربي ونصحت لكم ، ولكنكم للنصيحة كارهون ، وجاء إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقال له : يا عمار قد وصل إليَّ خبركما ، أما حذيفة فإنه فرَّ بدينه من الشيطان وأوليائه ، فهو من عباد الله الصالحين ، وأما أنت يا عمار فإنك قد ناضلت عن دين الله ، ونصحت لمحمد رسول الله ، فأنت من المجاهدين في سبيل الله الفاضلين . فبينا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وعمار يتحادثان إذ حضرت اليهود الذين كانوا كلموه فقالوا : يا محمد ، هاه صاحبك يزعم أنك إن أمرته برفع الأرض إلى السماء ، أو حط السماء إلى الأرض ، فاعتقد طاعتك وعزم على الإئتمار لك لأعانه الله عليه ، ونحن نقتصر منك ومنه على ما هو دون ذلك . إن كنت نبياً فقد قنعنا أن يحمل عمار مع دقة ساقيه هذا الحجر ! وكان الحجر مطروحاً بين يدي النبي ( صلى الله عليه وآله ) بظاهرالمدينة يجتمع عليه مائتا رجل ليحركوه فلا يمكنهم ، فقالوا له : يا محمد ، إن رام احتماله لم يحركه ولو حمل في ذلك على نفسه لانكسرت ساقاه وتهدم جسمه !
فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : لا تحتقروا ساقيه فإنهما أثقل في ميزان حسناته من ثور وثبير وحراء وأبي قبيس ، بل من الأرض كلها وما عليها ، وإن الله قد خفف بالصلاة على محمد وآله الطيبين ما هو أثقل من هذه الصخرة ، خفف العرش على كواهل ثمانية من الملائكة ، بعد أن كان لا يطيقه معهم العدد الكثير والجم الغفير . ثم قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : يا عمار إعتقد طاعتي وقل : اللهم بجاه محمد وآله الطيبين قوني ، ليسهل الله لك ما أمرك به ، كما سهل على كالب بن يوحنا عبور البحر على متن الماء ، وهو على فرسه يركض عليه ، لسؤاله الله بجاهنا أهل البيت !
فقالها عمار واعتقدها ، فحمل الصخرة فوق رأسه وقال : بأبي أنت وأُمي يا رسول الله ، والذي بعثك بالحق نبياً لهي أخفُّ في يدي من خلالةٍ أمسكها بها ! فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : حلق بها في الهواء فستبلغ بها قلة ذلك الجبل ، وأشار إلى جبل بعيد على قدر فرسخ ، فرمى بها عمار ، وتحلقت في الهواء حتى انحطت على ذروة ذلك الجبل ! ثم قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لليهود : أوَرأيتم ؟ قالوا : بلى !
فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : يا عمار ، قم إلى ذروة الجبل فستجد هناك صخرة أضعاف ما كانت فاحتملها ، وأعدها إلى حضرتي . فخطى عمار خطوة وطويت له الأرض ، ووضع قدمه في الخطوة الثانية على ذروة الجبل وتناول الصخرة المتضاعفة ، وعاد إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بالخطوة الثالثة ، ثم قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لعمار : اضرب بها الأرض ضربة شديدة فتهاربت اليهود وخافوا ، فضرب بها عمار على الأرض ، فتفتتت حتى صارت كالهباء المنثور وتلاشت ! فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : آمنوا أيها اليهود ! فقد شاهدتم آيات الله ، فآمن بعضهم وغلب الشقاء على بعضهم . . الخ . ) !
أقول : هذا الحديث يدلنا على تشفي اليهود بهزيمة المسلمين في أحد ، ومثلهم قريش فقد اعتبرتها عقوبة لمحمد ، لأنه قَتَلَ منهم في بدر وأخذ منهم أسرى !
ففي مجمع الزوائد ( 6 / 115 ) وصححه : ( عن عمر بن الخطاب قال : فلما كان عام أحد من العام المقبل عوقبوا بما صنعوا يوم بدر من أخذهم الفداء فقتل منهم سبعون ، وفر أصحاب رسول الله عن النبي فكسرت رباعيته ، وهشمت البيضة على رأسه ، وسال الدم على وجهه ، وأنزل الله عز وجل : أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ إني هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير . بأخذكم الفداء ) !
لاحظ أنهم جعلوا التوبيخ في الآية للنبي ( صلى الله عليه وآله ) والعقوبة له ، وهو قول اليهود !
من حجج النبي ( صلى الله عليه وآله ) على مشركي العرب
الإحتجاج ( 1 / 25 ) وتفسير الإمام العسكري / 501 : ( عن أبي محمد الحسن العسكري قال : قلت لأبي علي بن محمد ( عليه السلام ) هل كان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يناظر اليهود والمشركين إذا عاتبوه ويحاجهم ؟ قال : بلى مراراً كثيرة ، منها ما حكى الله من قولهم : وَقَالُوا مَا لِهَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِى فِي الأَسْوَاقِ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا . أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلا رَجُلاً مَسْحُورًا . وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ . وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا . أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا . أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِىَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً . أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ . . ثم قيل له في آخر ذلك : لوكنتَ نبياً كموسى أنزلت علينا كسفاً من السماء ونزلت علينا الصاعقة في مسألتنا إليك ، لأن مسألتنا أشد من مسائل قوم موسى لموسى ( عليه السلام ) !
قال : وذلك أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) كان قاعداً ذات يوم بمكة بفناء الكعبة إذ اجتمع جماعة من رؤساء قريش منهم الوليد بن المغيرة المخزومي ، وأبو البختري ابن هشام ، وأبو جهل ، والعاص بن وائل السهمي ، وعبد الله بن أبي أمية المخزومي ، وكان معهم جمع ممن يليهم كثير ، ورسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في نفر من أصحابه يقرأ عليهم كتاب الله ، ويؤدي إليهم عن الله أمره ونهيه . فقال المشركون بعضهم لبعض : لقد استفحل أمر محمد وعظم خطبه ، فتعالوا نبدأ بتقريعه وتبكيته وتوبيخه والاحتجاج عليه ، وإبطال ما جاء به ، ليهون خطبه على أصحابه ويصغر قدره عندهم ، فلعله ينزع عما هو فيه من غيه وباطله وتمرده وطغيانه ، فإن انتهى وإلا عاملناه بالسيف الباتر . قال أبو جهل : فمن ذا الذي يلي كلامه ومجادلته ؟ قال عبد الله بن أبي أمية المخزومي : أنا إلى ذلك ، أفما ترضاني له قرناً حسيباً ومجادلاً كفياً ؟ قال أبو جهل : بلى . فأتوه بأجمعهم ، فابتدأ عبد الله بن أبي أمية المخزومي فقال : يا محمد لقد ادعيت دعوى عظيمة ، وقلت مقالاً هائلاً ! زعمت أنك رسول الله رب العالمين ، وما ينبغي لرب العالمين وخالق الخلق أجمعين ، أن يكون مثلك رسوله بشر مثلنا ، تأكل كما نأكل وتشرب كما نشرب ، وتمشي في الأسواق كما نمشي ! فهذا ملك الروم وهذا ملك الفرس ، لا يبعثان رسولاً إلا كثير المال عظيم الحال ، له قصور ودور وفساطيط وخيام وعبيد وخدام ، ورب العالمين فوق هؤلاء كلهم فهم عبيده ، ولو كنت نبياً لكان معك ملك يصدقك ونشاهده !
بل لو أراد الله أن يبعث إلينا نبياً ، لكان إنما يبعث إلينا ملكاً لابشراً مثلنا . ما أنت يا محمد إلا رجلٌ مسحور ولست بنبي .
فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : هل بقي من كلامك شئ ؟
قال : بلى ، لو أراد الله أن يبعث إلينا رسولاً لبعث أجلَّ من فيما بيننا ، أكثره مالاً وأحسنه حالاً ، فهلا أنزل هذا القرآن الذي تزعم أن الله أنزله عليك وابتعثك به رسولاً على رجل من القريتين عظيم ، إما الوليد بن المغيرة بمكة ، وإما عروة بن مسعود الثقفي بالطائف .
فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : هل بقي من كلامك شئ يا عبد الله ؟
فقال : لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا ، بمكة هذه ، فإنها ذات أحجار وعرة وجبال ، تكسح أرضها وتحفرها وتجرى فيها العيون ، فإننا إلى ذلك محتاجون . أو تكون لك جنة من نخيل وعنب ، فتأكل منها وتطعمنا فتفجر الأنهار خلالها تفجيراً ، أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا . ثم قال : أَوْ تَأْتِىَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً . أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ أي لصعودك ، حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ : من الله العزيز الحكيم إلى عبد الله بن أبي أمية المخزومي ومن معه بأن آمنوا بمحمد بن عبد الله بن عبد المطلب ، فإنه رسولي . ثم لا أدري يا محمد إذا فعلت هذا كله أؤمن بك أو لا . بل لو رفعتنا إلى السماء وفتحت أبوابها وأدخلتناها لقلنا إنما سكرت أبصارنا وسحرتنا .
فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : يا عبد الله أبقي شئ من كلامك ؟ قال : يا محمد أوليس فيما أوردته عليك كفاية وبلاغ ، ما بقي شئ ، فقل ما بدا لك وأفصح عن نفسك إن كان لك حجة ، وأتنا بما سألناك به .
فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : اللهم أنت السامع لكل صوت والعالم بكل شئ ، تعلم ما قاله عبادك ، فأنزل الله عليه : يا محمد : وَقَالُوا مَا لِهَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ . . . وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلارَجُلاً مَسْحُورًا .
ثم قال : يا محمد : تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا .
وأنزل عليه : يا محمد : فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ . . وأنزل الله عليه : يا محمد وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِىَ الأَمْرُ . .
قال له رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : يا عبد الله أما ذكرت من أني آكل الطعام كما تأكلون ، وزعمت أنه لا يجوز لأجل هذا أن أكون لله رسولاً ، فإنما الأمر لله تعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ، وهو محمود وليس لك ولا لأحد الاعتراض عليه بلمَ وكيفَ ، ألا ترى أن الله كيف أفقرَ بعضاً وأغنى بعضاً ، وأعزَّ بعضاً وأذل بعضاً ، وأصحَّ بعضاً وأسقمَ بعضاً ، وشرَّفَ بعضاً ووضعَ بعضاً ، وكلهم ممن يأكل الطعام ، ثم ليس للفقراء أن يقولوا لمَ أفقرتنا وأغنيتهم ، ولا للوضعاء أن يقولوا لمَ وضعتنا وشرفتهم ولا للزمني والضعفاء أن يقولوا : لمَ أزمنتنا وأضعفتنا وصححتهم ، ولا للأذلاء أن يقولوا : لمَ أذللتنا وأعززتهم ، ولا لقباح الصور أن يقولوا : لمَ قبحتنا وجمَلَّتهم ! بل إن قالوا ذلك كانوا على ربهم رادين ، وله في أحكامه منازعين وبه كافرين ، ولكان جوابه لهم : أنا الملك الخافض الرافع ، المغني المفقر ، المعز المذل ، المصحح المسقم ، وأنتم العبيد ليس لكم إلا التسليم لي والانقياد لحكمي ، فإن سلمتم كنتم عباداً مؤمنين ، وإن أبيتم كنتم بي كافرين ، وبعقوباتي من الهالكين .
ثم أنزل الله عليه : يا محمد قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ . يعني آكل الطعام . يُوحَى إِلَىَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ : يعني قل لهم أنا في البشرية مثلكم ، ولكن ربي خصني بالنبوة دونكم ، كما يخص بعض البشر بالغنى والصحة والجمال ، دون بعض من البشر . .
ثم قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : وأما قولك : هذا ملك الروم وملك الفرس لا يبعثان رسولاً إلا كثير المال عظيم الحال ، له قصور ودور وفساطيط وخيام ، وعبيد وخدام ، ورب العالمين فوق هؤلاء كلهم ، فهم عبيده . فإن الله له التدبير والحكم ، لا يفعل على ظنك وحسبانك ، ولا باقتراحك بل يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ، وهو محمود .
يا عبد الله ، إنما بعث الله نبيه ليعلم الناس دينهم ويدعوهم إلى ربهم ، ويكد نفسه في ذلك آناء الليل ونهاره ، فلو كان صاحب قصور يحتجب فيها ، وعبيد وخدم يسترونه عن الناس ، أليس كانت الرسالة تضيع والأمور تتباطأ . . يا عبد الله إنما بعثني الله ولا مال لي ، ليعرفكم قدرته وقوته وأنه هو الناصر لرسوله ، ولا تقدرون على قتله ، ولا منعه في رسالاته ، فهذا بين في قدرته وفي عجزكم ، وسوف يظفرني الله بكم فأسعكم قتلاً وأسراً ، ثم يظفرني الله ببلادكم ويستولي عليها المؤمنون . .
ثم قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : وأما قولك لي : لو كنت نبياً لكان معك مَلَكٌ يصدقك ونشاهده ، بل لو أراد الله أن يبعث إلينا نبياً لكان إنما يبعث ملكاً لا بشراً مثلنا ، فالملك لا تشاهده حواسكم لأنه من جنس هذا الهواء لاعيانَ منه ، ولو شاهدتموه بأن يزاد في قوى أبصاركم لقلتم ليس هذا ملكاً بل هذا بشر . . بل إنما بعث الله بشراً وأظهر على يده المعجزات التي ليست في طبائع البشر الذين قد علمتم ضمائر قلوبهم ، فتعلمون بعجزكم عما جاء به أنه معجزة ، وأن ذلك شهادة من الله بالصدق له . ولو ظهر لكم ملك وظهر على يده ما تعجزون عنه ويعجز عنه جميع البشر ، لم يكن في ذلك ما يدلكم أن ذلك ليس في طبائع سائر أجناسه من الملائكة حتى يصير ذلك معجزاً ، ألا ترون أن الطيور التي تطير ليس ذلك منها بمعجز ، لأن لها أجناساً يقع منها مثل طيرانها ، ولو أن آدمياً طار كطيرانها كان ذلك معجزاً .
فإن الله عز وجل سهل عليكم الأمر ، وجعله بحيث تقوم عليكم حجته وأنتم تقترحون عمل الصعب الذي لا حجة فيه .
ثم قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : وأما قولك : ما أنت إلا رجل مسحور ، فكيف أكون كذلك وقد تعلمون أني في صحة التميز والعقل فوقكم ، فهل جربتم عليَّ منذ نشأت إلى أن استكملت أربعين سنة ، خِزْيَةً أو زلةً أو كذبةً ، أو خيانةً أو خطأً من القول ، أو سفهاً من الرأي ؟ !
أتظنون أن رجلاً يعتصم طول هذه المدة بحول نفسه وقوتها أو بحول الله وقوته ، وذلك ما قال الله : اُنْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً ، إلى أن يثبتوا عليك عمى بحجة ، أكثر من دعاويهم الباطلة التي تبين عليك تحصيل بطلانها .
ثم قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : وأما قولك : لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ، الوليد بن المغيرة بمكة ، أو عروة بن مسعود الثقفي بالطائف ، فإن الله ليس يستعظم مال الدنيا كما تستعظمه أنت ولا خطر له عنده كما له عندك ، بل لو كانت الدنيا عنده تعدل جناح بعوضة لما سقى كافراً به مخالفاً له شربة ماء ! وليس قسمة الله إليك بل الله هو القاسم للرحمات والفاعل لما يشاء في عبيده وإمائه ، وليس هو عز وجل ممن يخاف أحداً كما تخافه أنت ، لما له وحاله فعرفته بالنبوة لذلك ، ولا ممن يطمع في أحد في ماله أو في حاله كما تطمع أنت ، فتخصه بالنبوة لذلك ، ولا ممن يحب أحداً محبة الهواء كما تحب أنت ، فتقدم من لا يستحق التقديم . وإنما معاملته بالعدل ، فلا يُؤْثِرُ إلا بالعدل لأفضل مراتب الدين وجلاله ، إلا الأفضل في طاعته والأجد في خدمته ، وكذلك لا يؤخر في مراتب الدين وجلاله إلا أشدهم تباطأ عن طاعته ، وإذا كان هذا صفته لم ينظر إلى مال ولا إلى حال ، بل هذا المال والحال من تفضله ، وليس لأحد من عباده عليه ضريبة لازب ، فلا يقال له إذا تفضلت بالمال على عبد فلا بد أن تتفضل عليه بالنبوة أيضاً ، لأنه ليس لأحد إكراهه على خلاف مراده ولا إلزامه تفضلاً لأنه تفضل قبله بنعمه .
ألا ترى يا عبد الله كيف أغنى واحداً وقبَّحَ صورته ، وكيف حسَّنَ صورة واحد وأفقره ، وكيف شرَّفَ واحداً وأفقره ، وكيف أغنى واحداً ووضعه ! ثم ليس لهذا الغني أن يقول : هلا أضيف إلى يساري جمال فلان ولا للجميل أن يقول : هلَّا أضيف إلى جمالي مال فلان ، ولا للشريف أن يقول : هلا أضيف إلى شرفي مال فلان ، ولا للوضيع أن يقول : هلا أضيف إلى ضعتي شرف فلان ، ولكن الحكم لله يقسم كيف يشاء ويفعل كما يشاء ، وهو حكيم في أفعاله محمود في أعماله .
وذلك قوله تعالى : وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ . قال الله تعالى : أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ يا محمد نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ، فأحوجْنا بعضاً إلى بعض ، أحوجَ هذا إلى مال ذلك وأحوجَ ذلك إلى سلعة هذا وإلى خدمته ، فترى أجلَّ الملوك وأغنى الأغنياء محتاجاً إلى أفقر الفقراء في ضرب من الضروب : إما سلعة معه ليست معه وإما خدمة يصلح لها لا يتهيأ لذلك الملك أن يستغني إلا به ، وإما باب من العلوم والحكم ، هو فقير إلى أن يستفيدها من هذا الفقير ، فهذا الفقير يحتاج إلى مال ذلك الملك الغني ، وذلك الملك يحتاج إلى علم هذا الفقير أو رأيه أو معرفته . ثم ليس للملك أن يقول هلا اجتمع إلى مالي علم هذا الفقير ، ولا للفقير أن يقول هلا اجتمع على رأيي وعلمي وما أتصرف فيه من فنون الحكمة مال هذا الملك الغني . ثم قال الله : وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا .
ثم قال : يا محمد قل لهم : وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ . . من أموال الدنيا .
ثم قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : وأما قولك : لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا ، إلى آخر قلته ، فإنك قد اقترحت على محمد أشياء ، منها ما لو جاءك به لم يكن برهاناً لنبوته ، ورسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يرتفع عن أن يغتنم جهل الجاهلين ويحتج عليهم بما لا حجة فيه . ومنها ما لو جاءك به كان معه هلاكك ، وإنما يؤتى بالحجج والبراهين ليلزم عباد الله الإيمان بها لا ليهلكوا بها ، فإنما اقترحت هلاكك ورب العالمين أرحم بعباده وأعلم بمصالحهم من أن يهلكهم كما تقترحون . ومنها المحال الذي لا يصح ولا يجوز كونه ، ورسول رب العالمين يعرفك ذلك ويقطع معاذيرك ويضيق عليك سبيل مخالفته ، ويلجؤك بحجج الله إلى تصديقه حتى لا يكون لك عنه محيد ولا محيص . ومنها ما قد اعترفت على نفسك أنك فيه معاند متمرد ، لا تقبل حجة ولا تصغي إلى برهان ، ومن كان كذلك فدواؤه عذاب الله النازل من سمائه ، أو في جحيمه ، أو بسيوف أوليائه .
فأما قولك يا عبد الله : لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا ، بمكة هذه فإنها ذات أحجار وصخور وجبال . . فإنك سألت هذا وأنت جاهل بدلائل الله . يا عبد الله أرأيت لو فعلت هذا أكنت من أجل هذا نبياً ؟ قال : لا . قال رسول الله : أرأيت الطائف التي لك فيها بساتين ، أما كان هناك مواضع فاسدة صعبة أصلحتها وذللتها وكسحتها وأجريت فيها عيوناً استنبطتها ؟ قال : بلى .
قال : وهل لك في هذا نظراء ؟ قال : بلى . قال : فصرت أنت وهم بذلك أنبياء ؟ قال : لا . قال : فكذلك لا يصير هذا حجة لمحمد لو فعله على نبوته ، فما هو إلا كقولك : لن نؤمن لك حتى تقوم وتمشي على الأرض كما يمشي الناس ، أو حتى تأكل الطعام كما يأكل الناس .
وأما قولك يا عبد الله : أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فتأكل منها وتطعمنا فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا . أوَليس لك ولأصحابك جنات من نخيل وعنب بالطائف تأكلون وتطعمون منها وتفجرون الأنهار خلالها تفجيراً ، أفصرتم أنبياء بهذا ؟ قال : لا . قال : فما بال اقتراحكم على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أشياء لو كانت كما تقترحون لما دلت على صدقه ، بل لو تعاطاها لدل تعاطيها على كذبه لأنه يحتج بما لا حجة فيه ويختدع الضعفاء عن عقولهم وأديانهم ، ورسول رب العالمين يجلُّ ويرتفع عن هذا .
ثم قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : يا عبد الله وأما قولك : أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا ، فإنك قلت : وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ ، فإن في سقوط السماء عليكم هلاككم وموتكم ، فإنما تريد بهذا من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أن يهلكك ورسول رب العالمين أرحم من ذلك لا يهلكك ولكنه يقيم عليك حجج الله ، وليس حجج الله لنبيه وحده على حسب اقتراح عباده ، لأن العباد جهال بما يجوز من الصلاح وما لا يجوز منه من الفساد ، وقد يختلف اقتراحهم ويتضاد حتى يستحيل وقوعه ، والله عز وجل طبيبكم ، لا يجري تدبيره على ما يلزم به المحال . ثم قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : وهل رأيت يا عبد الله طبيباً كان دواؤه للمرضى على حسب اقتراحهم ، وإنما يفعل به ما يعلم صلاحه فيه ، أحبه العليل أو كرهه ، فأنتم المرضى والله طبيبكم ، فإن انقدتم لدوائه شفاكم ، وإن تمردتم عليه أسقمكم .
وبعدُ ، فمتى رأيت يا عبد الله مدعي حق من قبل رجل ، أوجبَ عليه حاكم من حكامهم فيما مضى بينةً على دعواه على حسب اقتراح المدعى عليه ، إذا ما كان يثبت لأحد على أحد دعوى ولاحق ، ولا كان بين ظالم ومظلوم ولا بين صادق وكاذب فرق .
ثم قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : يا عبد الله وأما قولك : أو تأتي بالله والملائكة قبيلاً يقابلوننا ونعاينهم ! فإن هذا من المحال الذي لا خفاء به ، وإن ربنا عز وجل ليس كالمخلوقين يجئ ويذهب ويتحرك ويقابل شيئاً ، حتى يؤتى به ، فقد سألتم بهذا المحال .
وإنما هذا الذي دعوت إليه صفةُ أصنامكم الضعيفة المنقوصة التي لا تسمع ولا تبصر ولا تعلم ، ولا تغني عنكم شيئاً ولا عن أحد .
يا عبد الله ، أوَليس لك ضياع وجنانٌ بالطائف ، وعقارٌ بمكة وقُوَّامٌ عليها ؟ قال : بلى . قال أفتشاهدٌ جميع أحوالها بنفسك أو بسفراء بينك وبين معامليك ؟ قال : بسفراء . قال : أرأيت لو قال معاملوك وأَكَرَتُك وخدمك لسفرائك لا نصدقكم في هذه السفارة ، إلا أن تأتونا بعبد الله بن أبي أمية لنشاهده فنسمع ما تقولون عنه شفاهاً ، كنت تُسَوِّغُهُم هذا أو كان يجوز لهم عندك ذلك ؟ قال : لا .
قال : فما الذي يجب على سفرائك ، أليس أن يأتوهم عنك بعلامة صحيحة تدلهم على صدقهم يجب عليهم أن يصدقوهم ؟ قال : بلى .
قال : يا عبد الله أرأيت سفيرك لو أنه لما سمع منهم هذا عاد إليك وقال لك قم معي ، فإنهم قد اقترحوا عليَّ مجيئك معي ، أليس يكون هذا لك مخالفاً ، وتقول له : إنما أنت رسول لا مشير ولا آمر ؟
قال : بلى . قال : فكيف صرت تقترح على رسول رب العالمين ما لا تسوغ لأكرتك ومعامليك أن يقترحوه على رسولك إليهم !
وكيف أردت من رسول رب العالمين أن يستذم إلى ربه ، بأن يأمر عليه وينهى ، وأنت لا تُسوغ مثل هذا على رسولك إلى أكرتك وقوامك !
هذه حجة قاطعة لإبطال جميع ما ذكرته في كل ما اقترحته يا عبد الله !
وأما قولك يا عبد الله : أو يكون لك بيت من زخرف ، وهو الذهب .
أما بلغك أن لعظيم مصر بيوتاً من زخرف ؟ قال : بلى .
قال : أفصار بذلك نبياً ؟ قال : لا . قال : فكذلك لا يوجب لمحمد ( صلى الله عليه وآله ) نبوةٌ لو كان له بيوت ، ومحمدٌ لا يغتنم جهلك بحجج الله !
وأما قولك يا عبد الله : أو ترقى في السماء ، ثم قلت : ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتاباً نقرؤه .
يا عبد الله ، الصعود إلى السماء أصعب من النزول منها ، وإذا اعترفت على نفسك أنك لا تؤمن إذا صعدت فكذلك حكم النزول !
ثم قلت : حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ من بعد ذلك ، ثم لا أدري أؤمن بك أو لا أؤمن بك ! فأنت يا عبد الله مقر بأنك تعاند حجة الله عليك ، فلا دواء لك إلا تأديبه لك على يد أوليائه من البشر أو ملائكته الزبانية ، وقد أنزل الله عليَّ حكمةً بالغةً جامعةً لبطلان كل ما اقترحته ، فقال عز وجل : قُلْ يا محمد سُبْحَانَ رَبِّى هَلْ كُنْتُ إِلا بَشَرًا رَسُولاً ، ما أبعد ربي عن أن يفعل الأشياء على ما يقترحه الجهال ، مما يجوز ومما لا يجوز ، وهل كنت إلا بشراً رسولاً ، لا يلزمني إلا إقامة حجة الله التي أعطاني ، وليس لي أن آمر على ربي ولا أنهى ، ولا أشير فأكون كالرسول الذي بعثه ملك إلى قوم من مخالفيه ، فرجع إليه يأمره أن يفعل بهم ما اقترحوه عليه .
فقال أبو جهل : يا محمد هاهنا واحدة : ألست زعمت أن قوم موسى احترقوا بالصاعقة لما سألوه أن يريهم الله جهرة ؟ قال : بلى . قال : فلو كنت نبياً لاحترقنا نحن أيضاً ، فقد سألنا أشد مما سأل قوم موسى ، لأنهم كما زعمت قالوا : أرنا الله جهرة ، ونحن نقول : لن نؤمن لك حتى تأتي بالله والملائكة قبيلاً نعاينهم . فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : يا أبا جهل أما علمت قصة إبراهيم الخليل لما رفع في الملكوت ، وذلك قول ربي : وَكَذَلِكَ نُرِى إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ، قَوَّى الله بصره لما رفعه دون السماء حتى أبصر الأرض ومن عليها ظاهرين ومستترين ، فرأى رجلاً وامرأةً على فاحشة فدعا عليهما بالهلاك فهلكا ، ثم رأى آخرين فدعا عليهما بالهلاك فهلكا ، ثم رأى آخريْن فدعا عليهما بالهلاك فهلكا ، ثم رأى آخريْن فهمَّ بالدعاء عليهما فأوحى الله إليه : يا إبراهيم أكفف دعوتك عن عبادي وإمائي ، فإني أنا الغفور الرحيم الجبار الحليم ، لايضرني ذنوب عبادي كما لاتنفعني طاعتهم ، ولست أسوسهم بشفاء الغيظ كسياستك ، فاكفف دعوتك عن عبادي وإمائي فإنما أنت عبد نذير لا شريك في الملك ، ولا مهيمن عليَّ ولا عبادي ، وعبادي معي بين خلال ثلاث : إما تابوا إليَّ فتبت عليهم وغفرت ذنوبهم وسترت عيوبهم ، وإما كففت عنهم عذابي لعلمي بأنه سيخرج من أصلابهم ذريات مؤمنون ، فأرفق بالآباء الكافرين وأتأني بالأمهات الكافرات ، وأرفع عنهم عذابي ليخرج ذلك المؤمن من أصلابهم ، فإذا تزايلوا حل بهم عذابي وحاق بهم بلائي ، وإن لم يكن هذا ولا هذا ، فإن الذي أعددته لهم من عذابي أعظم مما تريده بهم ، فإن عذابي لعبادي على حسب جلالي وكبريائي . يا إبراهيم خلِّ بيني وبين عبادي ، فأنا أرحم بهم منك وخل بيني وبين عبادي ، فإني أنا الجبار الحليم ، العلام الحكيم ، أدبرهم بعلمي وأنفذ فيهم قضائي وقدري .
ثم قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : يا أبا جهل . . فانظر إلى السماء ، فنظر فإذا أبوابها مفتحة وإذا النيران نازلة منها مسامتة لرؤوس القوم ، تدنو منهم حتى وجدوا حرها بين أكتافهم ، فارتعدت فرائص أبي جهل والجماعة ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : لاتروعنكم فإن الله لا يهلككم بها وإنما أظهرها عبرةً . ثم نظروا إلى السماء وإذا قد خرج من ظهور الجماعة أنوار قابلتها ورفعتها ودفعتها ، حتى أعادتها في السماء كما جاءت منها ! فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : إن بعض هذه الأنوار . . أنوار ذرية طيبة ستخرج من بعضكم ) .
أقول : هذا المنطق النبوي العالي لا يمكن أن يحفظه إلا أهل البيت ( عليهم السلام ) ، فقد ذكر المفسرون والمحدثون أن سبب نزول هذه الآيات أن مجموعة من قريش منهم عبد الله بن أمية المخزومي أخ أم سلمة لأبيها ، وهو ابن عاتكة عمة النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، وذكر رواة السلطة نقاشهم مع النبي ( صلى الله عليه وآله ) مختصراً جداً ، ثم رووا إسلام عبد الله في فتح مكة .
قال الطبري ( 2 / 329 ) : ( وقد كان العباس بن عبد المطلب تلقى رسول الله ( ص ) ببعض الطريق وقد كان أبو سفيان بن الحارث وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة قد لقينا رسول الله ( ص ) بنيق العقاب فيما بين مكة والمدينة فالتمس الدخول على رسول الله فكلمته أم سلمة فيهما فقالت : يا رسول الله ابن عمك وابن عمتك وصهرك ، قال : لا حاجة لي بهما أما ابن عمى فهتك عرضي ، واما ابن عمتي وصهري ، فهو الذي قال بمكة ما قال ! فلما خرج الخبر إليهما بذلك ومع أبي سفيان بنيٌّ له فقال والله ليأذنن لي أو لآخذن بيد بنيَّ هذا ثم لنذهبن في الأرض حتى نموت عطشاً وجوعاً ، فلما بلغ ذلك رسول الله ( ص ) رقَّ لهما ثم أذن لهما ، فدخلا عليه فأسلما ) .
بعض آيات النبي ( صلى الله عليه وآله ) للمشركين
في الإحتجاج ( 1 / 37 ) وتفسير العسكري ( عليه السلام ) ( 1 / 410 ) : ( عن أبي محمد الحسن العسكري ( عليه السلام ) أنه قال : قيل لأمير المؤمنين ( عليه السلام ) : يا أمير المؤمنين هل كان لمحمد ( صلى الله عليه وآله ) آية مثل آية موسى ( عليه السلام ) في رفعه الجبل فوق رؤوس الممتنعين عن قبول ما أمروا به ؟ فقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : إي والذي بعثه الله بالحق نبياً ، ما من آية كانت لأحد من الأنبياء ( عليهم السلام ) من لدن آدم إلى أن انتهى إلى محمد ( صلى الله عليه وآله ) ، إلا وقد كان لمحمد مثلها أو أفضل منها ، ولقد كان لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) نظير هذه الآية إلى آيات آخر ظهرت له ، وذلك أن رسول الله لما أظهر بمكة دعوته وأبان عن الله تعالى مراده ، رمته العرب عن قِسِيِّ عداوتها بضروب مكائدهم !
ولقد قصدته يوماً ، لأني كنت أول الناس إسلاماً ، بعث يوم الاثنين وصليت معه يوم الثلاثاء ، وبقيت معه أصلي سبع سنين حتى دخل نفر في الإسلام وأيد الله تعالى دينه من بعد ، فجاء قوم من المشركين فقالوا له : يا محمد تزعم أنك رسول رب العالمين ، ثم إنك لا ترضى بذلك حتى تزعم أنك سيدهم وأفضلهم ، فلئن كنت نبياً فأتنا بآية كما تذكره من الأنبياء قبلك : مثل نوح الذي جاء بالغرق ونجا في سفينته مع المؤمنين ، وإبراهيم الذي ذكرت أن النار جعلت عليه برداً وسلاماً ، وموسى الذي زعمت أن الجبل رفع فوق رؤوس أصحابه حتى انقادوا لما دعاهم إليه صاغرين داخرين ، وعيسى الذي كان ينبؤهم بما يأكلون وما يدخرون في بيوتهم . وصار هؤلاء المشركين فرقاً أربعة :
هذه تقول أظهر لنا آية نوح ، وهذه تقول أظهر لنا آية موسى ، وهذه تقول أظهر لنا آية إبراهيم ، وهذه تقول أظهر لنا آية عيسى ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : إنما أنا نذير وبشير مبين ، أتيتكم بآية مبينة هذا القرآن الذي تعجزون أنتم والأمم وسائر العرب عن معارضته وهو بلغتكم ، فهو حجة بينة عليكم ، وما بعد ذلك فليس لي الاقتراح على ربي ، وما على الرسول إلا البلاغ المبين ، إلى المقرين بحجة صدقه وآية حقه ، وليس عليه أن يقترح بعد قيام الحجة على ربه ما يقترحه عليه المقترحون ، الذين لا يعلمون هل الصلاح أو الفساد فيما يقترحون .
فجاء جبرئيل فقال : يا محمد إن العلي الأعلى يقرأ عليك السلام ويقول لك : إني سأظهر لهم هذه الآيات وإنهم يكفرون بها إلا من أعصمه منهم ولكني أريهم ذلك زيادة في الإعذار والإيضاح لحججك ، فقل لهؤلاء المقترحين لآية نوح ( عليه السلام ) : إمضوا إلى جبل أبي قبيس ، فإذا بلغتم سفحه فسترون آية نوح ، فإذا غشيكم الهلاك فاعتصموا بهذا وبطفلين يكونان بين يديه . وقل للفريق الثاني المقترحين لآية إبراهيم ( عليه السلام ) : إمضوا إلى حيث تريدون من ظاهر مكة ، فسترون آية إبراهيم في النار ، فإذا غشيكم النار فسترون في الهواء امرأة قد أرسلت طرف خمارها ، فتعلقوا به لتنجيكم من الهلكة وترد عنكم النار .
وقل للفريق الثالث المقترحين لآية موسى : إمضوا إلى ظل الكعبة فسترون آية موسى ، وسينجيكم هناك عمي حمزة .
وقل للفريق الرابع ورئيسهم أبو جهل : وأنت يا أبا جهل فاثبت عندي ليتصل بك أخبار هؤلاء الفرق الثلاث ، فإن الآية التي اقترحتها تكون بحضرتي . فقال أبو جهل للفرق الثلاث : قوموا فتفرقوا ليتبين لكم باطل قول محمد ( صلى الله عليه وآله ) ، فذهب الفريق الأول إلى جبل أبي قبيس ، والثاني إلى صحراء ملساء ، والثالث إلى ظل الكعبة ورأوا ما وعدهم الله ورجعوا إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) مؤمنين ، وكلما رجع فريق منهم إليه وأخبروه بما شاهدوا ألزمه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) الإيمان بالله ، فاستمهل أبو جهل إلى أن يجئ الفريق الآخر حسب ما أوردناه في الكتاب الموسوم بمفاخر الفاطمية ، تركنا ذكره هاهنا طلباً للإيجاز والاختصار .
قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : فلما جاءت الفرقة الثالثة وأخبروا بما شاهدوا عياناً وهم مؤمنين بالله وبرسوله ، قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لأبي جهل : هذه الفرقة الثالثة قد جاءتك وأخبرتْك بما شاهدتْ !
فقال أبو جهل : لا أدري أصَدَق هؤلاء أم كذبوا ، أم حقق لهم ذلك أم خُيِّلَ إليهم ، فإن رأيت أنا ما اقترحته عليك من نحو آيات عيسى بن مريم فقد لزمني الإيمان بك ، وإلا فليس يلزمني تصديق هؤلاء على كثرتهم . فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : يا أبا جهل فإن كان لا يلزمك تصديق هؤلاء على كثرتهم وشدة تحصيلهم ، فكيف تصدق بمآثر آبائك وأجدادك ومساوئ أسلاف أعدائك ، وكيف تصدق على الصين والعراق والشام إذا حدثت عنها ، وهل المخبرون عن ذلك إلا دون هؤلاء المخبرين لك عن هذه الآيات ، مع سائر من شاهدها معهم من الجمع الكثيف الذين لا يجتمعون على باطل يتخرصونه ، إلا إذا كان بإزائهم من يكذبهم ويخبر بضد أخبارهم ، ألا وكل فرقة محجوجون بما شاهدوا ، وأنت يا أبا جهل محجوج بما سمعت ممن شاهده .
ثم أخبره النبي ( صلى الله عليه وآله ) بما اقترح عليه من آيات عيسى من أكله لما أكل وادخاره في بيته لما ادخر من دجاجة مشوية وإحياء الله تعالى إياها وإنطاقها بما فعل بها أبو جهل وغير ذلك ، على ما جاء به في هذا الخبر ، فلم يصدقه أبو جهل في ذلك كله ، بل كان يكذبه وينكر جميع ما كان النبي ( صلى الله عليه وآله ) يخبره به من ذلك ، إلى أن قال النبي ( صلى الله عليه وآله ) لأبي جهل : أما كفاك ما شاهدت أم تكون آمناً من عذاب الله . قال أبو جهل : إني لأظن أن هذا تخييلٌ وإيهامٌ . فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : فهل تفرق بين مشاهدتك لها وسماعك لكلامها يعني الدجاجة المشوية التي أنطقها الله له ، وبين مشاهدتك لنفسك ، ولسائر قريش والعرب وسماعك كلامهم ؟ قال أبو جهل : لا . فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : فما يدريك إذا أن جميع ما تشاهد وتحس بحواسك تخييل ! قال أبو جهل : ما هو تخييل . قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : ولا هذا تخييل ، وإلا فكيف تصحح أنك ترى في العالم شيئاً أوثق منه . تمام الخبر ) .
رسالة أبي جهل إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) !
قال في الإجتجاج ( 1 / 40 ) : ( رسالة لأبي جهل إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لما هاجر إلى المدينة ، والجواب عنها ، بالرواية عن أبي محمد الحسن العسكري ( عليه السلام ) : وهي أن قال :
يا محمد ! إن الخيوط التي في رأسك هي التي ضيقت عليك مكة ، ورمت بك إلى يثرب ، وإنها لا تزال بك تنفرك وتحثك على ما يفسدك ويتلفك إلى أن تفسدها على أهلها ، وتصليهم حر نار جهنم وتعديك طورك ، وما أرى ذلك إلا وسيؤول إلى أن تثور عليك قريش ثورة رجل واحد لقصد آثارك ودفع ضرك وبلائك ، فتلقاهم بسفهائك المغترين بك ويساعدك على ذلك من هو كافر بك مبغض لك ، فيلجؤه إلى مساعدتك ومظافرتك خوفه لأن لا يهلك بهلاكك ويعطب عياله بعطبك ، ويفتقر هو ومن يليه بفقرك وبفقر شيعتك ، إذ يعتقدون أن أعداءك إذا قهروك ودخلوا ديارهم عنوة لم يفرقوا بين من والاك وعاداك واصطلموهم باصطلامهم لك ، وأتوا على عيالاتهم وأموالهم بالسبي والنهب ، كما يأتون على أموالك وعيالك ، وقد أعذر من أنذر وبالغ من أوضح . وأُدِّيَتْ هذه الرسالة إلى محمد وهو بظاهر المدينة ، بحضرة كافة أصحابه وعامة الكفار من يهود بني إسرائيل ، وهكذا أَمَرَ الرسول ، ليجبِّنَ المؤمنين ويغري بالوثوب عليه سائر من هناك من الكافرين .
فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) للرسول : قد أطريت مقالتك واستكملت رسالتك ؟ قال : بلى . قال : فاسمع الجواب : إن أبا جهل بالمكاره والعطب يتهددني ، ورب العالمين بالنصر والظفر يعدني ، وخبر الله أصدق والقبول من الله أحق ، لن يضر محمداً من خذله أو غضب عليه ، بعد أن ينصره الله ويتفضل بجوده وكرمه عليه ، قل له : يا أبا جهل إنك واصلتني بما ألقاه في خلدك الشيطان ، وأنا أجيبك بما ألقاه في خاطري الرحمن : إن الحرب بيننا وبينك كائنة إلى تسع وعشرين يوماً ، وإن الله سيقتلك فيها بأضعف أصحابي ، وستلقى أنت وشيبة وعتبة والوليد وفلان وفلان وذكر عدداً من قريش في قَلِيبِ بدر مقتولين ، أقتل منكم سبعين وآسر منكم سبعين ، وأحملهم على الفداء الثقيل .
ثم نادى جماعة من بحضرته من المؤمنين واليهود وسائر الأخلاط : ألا تحبون أن أريكم مصارع هؤلاء المذكورين ؟ قالوا : بلى . قال : هلموا إلى بدر ، فإن هناك الملتقى والمحشر ، وهناك البلاء الأكبر ، لأضع قدمي على مواضع مصارعهم ، ثم ستجدونها لا تزيد ولا تنقص ، ولا تتغير ولا تتقدم ولا تتأخر لحظة ، ولا قليلا ولا كثيراً .
فلم يَخُفَّ ذلك على أحد منهم ، ولم يجُبه إلا علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) وحده قال : نعم بسم الله . فقال الباقون : نحن نحتاج إلى مركوب وآلات ونفقات ، ولا يمكننا الخروج إلى هناك ، وهو مسيرة أيام . فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لسائر اليهود : فأنتم ماذا تقولون ؟ فقالوا : نحن نريد أن نستقر في بيوتنا ، ولا حاجة لنا في مشاهدة ما أنت في ادعائه محيل ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : لا نَصَبَ لكم في المسير إلى هناك ، أُخطوا خطوة واحدة ، فإن الله يطوي الأرض لكم ويوصلكم في الخطوة الثانية إلى هناك . قال المسلمون : صدق رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فلنَشْرُف بهذه الآية . وقال الكافرون والمنافقون : سوف نمتحن هذا الكذاب لينقطع عذر محمد ، وتصير دعواه حجة عليه وفاضحة له في كذبه .
قال : فخطى القوم خطوة ثم الثانية ، فإذا هم عند بئر بدر ، فتعجبوا فجاء رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقال : إجعلوا البئر العلامة واذرعوا من عندها كذا ذراع فذرعوا ، فلما انتهوا إلى آخرها قال : هذا مصرع أبي جهل ! يجرحه فلان الأنصاري ، ويجهز عليه عبد الله بن مسعود ، أضعف أصحابي .
ثم قال : إذرعوا من البئر من جانب آخر ، ثم من جانب آخر ، ثم من جانب آخر كذا وكذا ذراعاً وذراعاً ، وذكر أعداد الأذرع مختلفة ، فلما انتهى كل عدد إلى آخره ، قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : هذا مصرع عتبة ، وهذا مصرع شيبة ، وذاك مصرع الوليد ، وسيقتل فلان وفلان إلى أن سمى سبعين منهم بأسمائهم ، وسيؤسر فلان وفلان إلى أن ذكر سبعين منهم بأسمائهم وأسماء آبائهم وصفاتهم ، ونسب المنسوبين إلى أمهاتهم وآبائهم ونسب الموالي منهم إلى مواليهم . ثم قال ( صلى الله عليه وآله ) : أوقفتم على ما أخبرتكم به ؟ قالوا : بلى . قال : إن ذلك من الله لحق كائن بعد ثمانية وعشرين يوماً ، وفي اليوم التاسع والعشرين وعداً من الله مفعولاً ، وقضاءً حتماً لازماً . تمام الخبر . ثم قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : يا معشر المسلمين واليهود أكتبوا بما سمعتم . فقالوا : يا رسول الله قد سمعنا ووعينا ولا ننسى . فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : الكتابة أذكر لكم . فقالوا : يا رسول الله فأين الدواة والكتف ؟ فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : ذلك للملائكة . ثم قال : يا ملائكة ربي أكتبوا ما سمعتم من هذه القصة في الكتاب ، واجعلوا في كم كل واحد منهم كتفاً من ذلك . ثم قال ( صلى الله عليه وآله ) : يا معشر المسلمين تأملوا أكمامكم وما فيها ، وأخرجوها واقرأوها ! فتأملوها وإذا في كم كل واحد منهم صحيفة ، وإذا فيها ذكر ما قاله رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في ذلك سواءً لا يزيد ولا ينقص ولا يتقدم ولا يتأخر . فقال : أغيضوها في أكمامكم تكن حجة عليكم وشرفاً للمؤمنين منكم ، وحجة على أعدائكم فكانت معهم ! فلما كان يوم بدر جرت الأمور كلها ببدر كما قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لا يزيد ولا ينقص ، قابلوها في كتبهم فوجدوها كما كتبها الملائكة لا تزيد ولا تنقص ولا تتقدم ولا تتأخر ، فقبل المسلمون ظاهرهم ووكلوا باطنهم إلى خالقهم ) .
محاولة قريش اغتيال النبي ( صلى الله عليه وآله ) وعلي ( عليه السلام )
في تفسير الإمام العسكري ( عليه السلام ) / 380 ، قال : ( لقد رامت الفجرة الكفرة ليلة العقبة قتل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) على العقبة ، ورام من بقي من مردة المنافقين بالمدينة قتل علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) فما قدروا على مغالبة ربهم ، حملهم على ذلك حسدهم لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في علي ( عليه السلام ) لما فَخَّمَ من أمره ، وعَظَّمَ من شأنه من ذلك . إنه لما خرج النبي ( صلى الله عليه وآله ) من المدينة وقد كان خلفه عليها وقال له : إن جبرئيل أتاني وقال لي : يا محمد إن العلي الأعلى يقرأ عليك السلام ويقول لك : يا محمد إما أن تخرج أنت ويقيم علي ، أو تقيم أنت ويخرج علي ، لا بد من ذلك فإن علياً قد ندبته لإحدى اثنتين ، لا يعلم أحد كنه جلال من أطاعني فيهما ، وعظيم ثوابه غيري .
فلما خلفه أكثر المنافقون الطعن فيه فقالوا : مله وسئمه وكره صحبته ، فتبعه علي ( عليه السلام ) حتى لحقه ، وقد وجد غماً شديداً مما قالوا فيه . فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : ما أشخصك عن مركزك ؟ قال : بلغني عن الناس كذا كذا . فقال له : أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي ، فانصرف علي إلى موضعه ، فدبروا عليه أن يقتلوه ، وتقدموا في أن يحفروا له في طريقه حفيرة طويلة قدر خمسين ذراعاً ، ثم غطوها بحصر رقاق ، ونثروا فوقها يسيراً من التراب بقدر ماغطوا به وجوه الحصر ، وكان ذلك على طريق علي ( عليه السلام ) الذي لابد له من سلوكه ليقع هو ودابته في الحفيرة التي قد عمقوها وكان ما حوالي المحفور أرض ذات حجارة . ودبروا على أنه إذا وقع مع دابته في ذلك المكان كبسوه بالأحجار حتى يقتلوه ! فلما بلغ علي ( عليه السلام ) قُرب المكان لوى فرسه عنقه وأطاله الله فبلغت جحفلته أُذنيه وقال : يا أمير المؤمنين قد حُفِرَ لك هاهنا ، ودُبِّرَ عليك الحتف ، وأنت أعلم لا تمر فيه !
فقال له علي ( عليه السلام ) : جزاك الله من ناصح خيراً كما تُدبر بتدبيري ، فإن الله عز وجل لا يخليك من صنعه الجميل ، وسار حتى شارف المكان فتوقف الفرس خوفاً من المرور على المكان ، فقال علي ( عليه السلام ) : سر بإذن الله سالماً سوياً عجيباً شأنك ، بديعاً أمرك ، فتبادرت الدابة . فإن الله عز وجل قد متَّنَ الأرض وصلَّبها ولأمَ حفرها ، كأنها لم تكن محفورة ) .
ثم ربطت الرواية بين محاولة اغتيال علي ( عليه السلام ) واغتيال النبي ( صلى الله عليه وآله ) في رجوعه من تبوك في ليلة العقبة ، ليقتلوه ويبكوا عليه ، وينصبوا خليفة منهم مكانه !
وذكرت أن الذين شاركوا في مؤامرة قتل علي عشرة ، وفي مؤامرة قتل النبي ( صلى الله عليه وآله ) أربعٌ وعشرون ، قالت : ( فلان وفلان ، إلى أن ذكر العشرة بمواطأة من أربعة وعشرين ، هم مع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في طريقه ) !
ثم ذكرت الرواية أن الله تعالى بعث جبرئيل ( عليه السلام ) فأحبط مؤامرتهم ، ثم أخبر النبي ( صلى الله عليه وآله ) وهو في الطريق بمحاولتهم قتل علي ( عليه السلام ) .
من مغيبات النبي ( صلى الله عليه وآله ) عن ضغائن قريش بعده
في تفسير الإمام العسكري ( عليه السلام ) / 408 : ( قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لعلي بن أبي طالب ( عليه السلام ) وقد مر معه بحديقة حسنة فقال علي ( عليه السلام ) : ما أحسنها من حديقة ! فقال : يا علي لك في الجنة أحسن منها . . إلى أن مرَّ بسبع حدائق كلُّ ذلك يقول علي ( عليه السلام ) : ما أحسنها من حديقة ! ويقول رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : لك في الجنة أحسن منها . ثم بكى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بكاءً شديداً فبكى علي ( عليه السلام ) لبكائه ، ثم قال : ما يبكيك يا رسول الله ! قال : يا أخي يا أبا الحسن ضغائن في صدور قوم يُبدونها لك بعدي . قال علي ( عليه السلام ) : يا رسول الله في سلامة من ديني ؟ قال : في سلامة من دينك . قال : يا رسول الله إذا سلم ديني فلا يسوؤني ذلك . فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : لذلك جعلك الله لمحمد تالياً ، وإلى رضوانه وغفرانه داعياً ، وعن أولاد الرشد والغي بحبهم لك وبغضهم منبئاً ، وللواء محمد يوم القيامة حاملاً ، وللأنبياء والرسل والصابرين تحت لوائي إلى جنات النعيم قائداً . يا علي ، إن أصحاب موسى اتخذوا بعده عجلاً وخالفوا خليفته ، وسيتخذ أُمتي بعدي عجلاً ثمّ عجلاً ثمّ عجلاً ، ويخالفونك وأنت خليفتي على هؤلاء ، يضاهئون أولئك في اتخاذهم العجل ! ألا فمن وافقك وأطاعك فهو معنا في الرفيع الأعلى ، ومن اتخذ العجل بعدي وخالفك ولم يتب فأولئك مع الذين اتخذوا العجل زمان موسى ) .
ويؤيد ذلك ما رواه مسلم في صحيحه ( 1 / 109 ) عن عائشة أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) قال : ( لا يذهب الليل والنهار حتى تعبد اللات والعزى . فقلت يا رسول الله إن كنت لأظن حين أنزل الله هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ . أن ذلك تاماً . قال : إنه سيكون من ذلك ما شاء الله ) .
لا يكون غير المعصوم قدوة مطلقة
في كل المجتمعات توجد ظاهرة الاتباع والائتمام والتمحور حول رئيس ديني أو دنيوي ، وتكثر أنواع الرؤساء أو القدوات ، وتتنوع القواعد التي وضعوها لاختيار المتبوع وطاعته .
وأكثر الإتِّبَاع في القرآن مذموم ، قال الله تعالى : وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا . وقال : إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ . وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّأُوا مِنَّا .
وبعضه اتباعٌ ممدوح ، قال تعالى : وَالسَّابِقُونَ الأَوَلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ . وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ .
وقد وضعت الأديان شروطاً لمن يُتبع ويُطاع ، لكن الناس عادةً يخالفون شروط الأديان والرسل ، ولا يتقيدون بها .
وقد تفرد تفسير الإمام العسكري ( عليه السلام ) برواية تبين صفات من يصح الاقتداء به ومن لا يصح ، وتعلمك كيف ينبغي أن تمتحنه لتعرف تحقق الشروط فيه ! قال ( عليه السلام ) / 53 : ( وأما قول علي بن الحسين ( عليه السلام ) فإنه قال : إذا رأيتم الرجل قد حَسَّنَ سَمْتَهُ وهديه ، وتماوت في منطقه ، وتخاضع في حركاته ، فرويداً لا يغرنكم ، فما أكثر من يعجزه تناول الدنيا ، وركوب المحارم منها ، لضعف نيته ومهانته ، وجُبن قلبه ، فنصب الدين فخاً لها ، فهو لا يزل يختل الناس بظاهره ، فإن تمكن من حرام اقتحمه .
فإذا وجدتموه يعف من المال الحرام ، فرويداً لا يغرنكم ، فإن شهوات الخلق مختلفة ، فما أكثر من ينبو عن المال الحرام وإن كثر ، ويحمل نفسه على شوهاء قبيحة فيأتي منها محرماً !
فإذا وجدتموه يعفُّ عن ذلك ، فرويداً لا يغرنكم حتى تنظروا ما عَقَدَهُ عقلُه فما أكثر من يترك ذلك أجمع ، ثم لا يرجع إلى عقل متين ، فيكون ما يفسده بجهله أكثر مما يصلحه بعقله .
فإذا وجدتم عقله متيناً فرويداً لا يغرنكم ، حتى تنظروا مع هواه يكون على عقله ، أو يكون مع عقله على هواه ؟ وكيف محبته للرئاسات الباطلة وزهده فيها ، فإن في الناس من خسر الدنيا والآخرة بترك الدنيا للدنيا ، ويرى أن لذة الرئاسة الباطلة أفضل من لذة الأموال والنعم المباحة المحللة ، فيترك ذلك أجمع طلباً للرئاسة ، حتى إذا : قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالآثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ . فهو يخبط خبط عشواء ، يقوده أولُ باطلٍ إلى أبعد غايات الخسارة ، ويمد يده بعد طلبه لما لا يقدر عليه في طغيانه ، فهو يحل ما حرم الله ، ويحرم ما أحل الله ، لا يبالي ما فات من دينه إذا سلمت له رئاسته ، التي قد شقيَ من أجلها . فأولئك مع الذين غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ . . وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا . ولكن الرجل كل الرجل ، نعم الرجل ، هو الذي جعل هواه تبعاً لأمر الله ، وقواه مبذولة في رضاء الله تعالى ، يرى الذل مع الحق أقرب إلى عز الأبد من العز في الباطل ، ويعلم أن قليل ما يحتمله من ضرائها يؤديه إلى دوام النعم في دار لا تبيد ولا تنفد ، وإن كثير ما يلحقه من سرائها إن اتبع هواه ، يؤديه إلى عذاب لا انقطاع له ولا زوال . فذلكم الرجل نعم الرجل ، فبه فتمسكوا ، وبسنته فاقتدوا ، وإلى ربكم فبه فتوسلوا ، فإنه لا ترد له دعوة ، ولا تخيب له طلبة ) .
ملاحظات
1 . مقصود الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) بهذا الحديث النهي عن الاقتداء بغير المعصوم ، وقد صرح به الإمام الصادق ( عليه السلام ) بقوله ( الكافي : 2 / 298 ) : ( عن أبي حمزة الثمالي قال : قال لي أبو عبد الله ( عليه السلام ) : إياك والرئاسة ، وإياك أن تطأ أعقاب الرجال ، قال قلت : جعلت فداك أما الرئاسة فقد عرفتها ، وأما أن أطأ أعقاب الرجال فما ثلثا ما في يدي إلا مما وطئت أعقاب الرجال . فقال لي : ليس حيث تذهب ، إياك أن تنصب رجلاً دون الحجة ، فتصدقه في كل ما قال ) .
ومعنى نَصَبَ رجل دون الحجة : اتخذ رجلاً قدوةً وإماماً ، مقابل المعصوم الذي نصبه الله تعالى ، وهذا يعني أن المتخذ من دون الإمام ( عليه السلام ) متخذ من دون الرسول ( صلى الله عليه وآله ) ومن دون الله ، كما قال الله تعالى : وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا للَّهِ . وهذا يعني نوعاً من التكفير لمن لم يطع المعصوم وأطاع غيره وإن لم تجر عليه أحكام الكافر والمشرك !
2 . يأتي هنا السؤال : هل يعني ذلك أن الاقتداء بأي شخص ضلال ، إلا المعصوم ؟ والجواب : أن ذلك ليس على إطلاقه ، لكن نصب الشخص مقابل المعصوم ( عليه السلام ) ضلال ، والاقتداء بمن خالف المعصوم ( عليه السلام ) ضلال . ومعناه : أنه يشترط فيمن تقتدي به شرطين : الأول : أن لا نعصمه . والثاني : أن لا يخالف المعصوم ( عليه السلام ) .
3 . يتضح بهذا أن الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) يقصد وجوب التشدد في شروط من تقتدي به ، وضرورة امتحانه ، وذلك بعد أن يكون مستوفياً للشرطين الأصليين وهما أن لا تنصبه دون الحجة ، ولا يكون مخالفاً للحجة .
فبعد إحراز هذين الشرطين إمتحنه بالمواد الأربعة التي ذكرها ( عليه السلام ) : المال ، والجنس ، والعقل ، وتغليب عقله على هواه .
ويؤيد ذلك قول الإمام العسكري ( عليه السلام ) في تفسيره / 674 : ( قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ : ممن ترضون دينه وأمانته ، وصلاحه وعفته ، وتيقظه فيما يشهد به ، وتحصيله وتمييزه . فما كل صالح مميز ولا محصل ولا كل محصل مميز صالح ، وإن من عباد الله لمن هو أهل لصلاحه وعفته ، لو شهد لم تقبل شهادته لقلة تمييزه . فإذا كان صالحاً عفيفاً ، مميزاً محصلاً ، مجانباً للمعصية والهوى والميل والتحامل ، فذلكم الرجل الفاضل ، فبه فتمسكوا وبهديه فاقتدوا . وإن انقطع عنكم المطر فاستمطروا به ، وإن امتنع عليكم النبات فاستخرجوا به النبات ، وإن تعذر عليكم الرزق فاستدروا به الرزق ، فإن ذلك ممن لا تخيب طلبته ، ولا ترد مسألته ) .
4 . أمر النبي ( صلى الله عليه وآله ) أمته باتباع الأئمة من عترته من بعده ( عليهم السلام ) والاقتداء بهم ، وقد تواترت الرواية عنه في ذلك ، كالذي رواه الخزاز في كفاية الأثر / 111 : ( عن واثلة بن الأسفع قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : أنزلوا أهل بيتي بمنزلة الرأس من الجسد وبمنزلة العينين من الرأس ، وإن الرأس لا يهتدي إلا بالعينين . اقتدوا بهم من بعدي ، لن تضلوا . فسألنا عن الأئمة قال : الأئمة بعدي من عترتي ، أو قال من أهل بيتي ، عدد نقباء بني إسرائيل ) .
والذي رواه الصدوق في معاني الأخبار / 114 : ( عن جابر بن عبد الله ، قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : اقتدوا بالشمس فإذا غابت الشمس فاقتدوا بالقمر ، فإذا غاب القمر فاقتدوا بالزهرة ، فإذا غابت الزهرة فاقتدوا بالفرقدين . فقالوا : يا رسول الله فما الشمس ، وما القمر ، وما الزهرة ، وما الفرقدان ؟ فقال : أنا الشمس ، وعلي القمر ، والزهرة فاطمة ، والفرقدان الحسن والحسين ) .
وقد وضع رواة السلطة مقابل هذا الحديث أحاديث في اتباع أبي بكر وعمر ! وردها بعض نقاد الحديث ، وكذبوا راويها ، وهو من ذرية عمر !
روى الحاكم ( 3 / 75 ) : ( عن حذيفة قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : اقتدوا باللذيْن من بعدي أبي بكر وعمر ، واهتدوا بهدي عمار ، وتمسكوا بعهد ابن أم عبد ) .
وفي كشف الخفاء ( 1 / 160 ) : ( رواه أحمد والترمذي وابن ماجة عن حذيفة . . والطبراني عن أنس ، وله من حديث أبي الدرداء : اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر فإنهما حبل الله الممدود ، ومن تمسك بهما فقد تمسك بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها ) .
وقال ابن حجر في لسان الميزان ( 5 / 237 ) : ( محمد بن عبد الله بن عمروي العمري . ذكره العقيلي فقال : لا يصح حديثه ولا يعرف بنقل الحد يث ، حدثنا أحمد بن خليل قال ثنا إبراهيم بن محمد الحلبي حدثني محمد بن عبد الله بن عمر بن القاسم ، انا مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر رضي الله عنه ، عن ابن القاسم بن عبد الله ، بن عبيد الله ، بن عاصم ، بن عمر بن الخطاب ، عنهما مرفوعاً : اقتدوا باللذيْن من بعدي أبي بكر وعمر .
فهذا لا أصل له من حديث مالك ، بل هو معروف من حديث حذيفة بن اليمان ، وقال الدارقطني : العمري هذا يحدث عن مالك بأباطيل . وقال ابن مندة : له مناكير . انتهى . وقال العقيلي بعد تخريجه : هذا حديث منكر ، لا أصل له ، وأخرجه الدارقطني من رواية أحمد الخليلي الضمري ، بسنده وساق بسند كذلك ، ثم قال : لا يثبت والعمري هذا ضعيف .
ثم أخرجه عن العباس بن عقدة عن يونس بن سابق ، ثنا محمد بن خالد العمري ، ثنا مالك به ، وقال : كذا قال محمد بن خالد العمري ، وأشار إلى أنه واحد اختلف في اسم أبيه ، ويحتمل أن يكون آخر . وسيأتي القول في يونس بن سابق شيخ ابن عقدة . . وقال الدارقطني : محمد بن عبد الله العمري ، هذا منكر الحديث ، يحدث عن مالك بأباطيل ) .
وقال الجاحظ في العثمانية / 135 : ( ويروون أن النبي صلى الله عليه قال : اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر . وقد تعلمون أن إسناده عبد الملك ، عن ربعي عن حذيفة . والآخر سلمة بن كهيل ، عن أبي الزعراء ، عن عبد الله !
ويروون أن النبي صلى الله عليه نظر إلى أبي بكر وعمر مقبلين فقال : هذان سيدا كهول أهل الجنة من الأولين والآخرين ، إلا الأنبياء والمرسلين ، يا علي لا تخبرهما . فزعموا جميعاً أن علياً قال : ولو كانا حيين ما حدثتكم .
ويروون جميعاً أن علياً قام في الناس خطيباً فقال : ألا إن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر والثاني عمر ، ولو شئت أن أخبركم بالثالث فعلت ، فكنى عن ذكر عثمان . ويروون أن النبي صلى الله عليه لما أسس مسجد المدينة جاء بحجر فوضعه ، ثم جاء أبو بكر بحجر فوضعه ، ثم جاء عمر بحجر فوضعه ، ثم جاء عثمان بحجر فوضعه ، فسئل النبي صلى الله عليه عن ذلك فقال : هم لأمر الخلافة من بعدي ) .
هذا وقد كذَّبَ أئمتنا ( عليهم السلام ) حديث الاقتداء بأبي بكر وعمر ، وما شابهه ، فقد رده الإمام الرضا ( عليه السلام ) لما سأله عنه المأمون ، ورده الإمام الجواد ( عليه السلام ) لما سأله عنه الفقهاء .
5 . بحث فقهاؤنا حديث الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) : لا يغرنكم الرجل . . في مسألة العدالة ، وتوسع فيه علماء البحرين . الحدائق ( 10 / 58 ، والدرة النجفيه : 2 / 454 ) .
الاكثر قراءة في التراث العسكري الشريف
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة