شخصية المنصور وأسرته
أبو جعفر المنصور العباسي ، أو المنصور الدوانيقي ، هو ثاني الخلفاء العباسيين وهو مؤسس الدولة العباسية ، ومؤسس المذاهب الأربعة ، ومؤسس بغداد .
اسمه عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب . وكان جده عبد الله بن عباس من أصحاب أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، وكان معه في حروبه مع عائشة وطلحة والزبير ومعاوية والخوارج ، ثم كان ضد يزيد بن معاوية ، وضد ابن الزبير ، وقد نفاه الأخير من مكة ، فسكن الطائف وتوفي فيها .
وكان ابنه الصغير علي بن عبد الله أحب أبنائه إليه ، فأوصاه أن يذهب بعد وفاته إلى الشام ، لأن بني أمية خير له من آل الزبير ، فهم وبنو هاشم أولاد عبد مناف .
وسكن ابنه علي في الشام وأكرمه الأمويون ، وبعده ابنه محمد ، حتى غضب عليه الخليفة الأموي فأبعده إلى الأردن ، وكان يعطيه نفقته .
وبرز ابنه إبراهيم بن محمد الذي تبناه قائد الثورة الخراسانية أبو سلمة الخلال ، فسجنه الخليفة الأموي مروان بن محمد المعروف بمروان الحمار ، ومات في السجن . وهرب إخوته السفاح والمنصور وغيرهم من بني العباس ، وكانوا يتابعون أخبار ثورة الخراسانيين على الأمويين ، لأنها كانت تحت شعار إعادة الحق إلى الرضا من آل محمد ( صلى الله عليه وآله ) .
ولما انتصرت الثورة ووصلت قوات أبي مسلم الخراساني إلى الكوفة ، جاء العباسيون إليها ، لكن قائد الثورة أبا سلمة الخلال حبسهم في بيت ، وأرسل مبعوثاً إلى الإمام جعفر الصادق ( عليه السلام ) يعرض عليه البيعة بالخلافة ، فلم يقبل ، فعرضها على عبد الله بن الحسن فلم يقبلها له وأرادها لابنه محمد ، فقام أبو سلمة ببيعة السفاح واسمه أيضاً عبد الله .
كان السفاح أصغر من المنصور بعشر سنين ، فقد ولد المنصور سنة 95 هجرية وولد السفاح سنة 104 ، وزعموا أن أباهما أوصى للسفاح بعد إبراهيم ، لأنه أصغر إخوته ، وأمه حارثية من آل عبد المدان ، وأم المنصور أمَةٌ فارسية .
وحكم السفاح أربع سنوات وكانت عاصمته الأنبار ، وتوفي سنة 136 فجأة وهو شاب وعمره 35 سنة ، وقالوا إنه أوصى للمنصور الذي كان عمره يومها 41 سنة ، فحكم نحو 23 ، وجعل الخلافة في أولاده ، ولم تخرج منهم .
« وكان ( المنصور ) أسمر طويلاً ، نحيف الجسم ، خفيف العارضين ، يخضب بالسواد » . ( تاريخ دمشق : 32 / 346 ) . وأمه سلامة ، وهي أمة ( التنبيه للمسعودي / 295 ) من بلدة إيذة الفارسية في الأهواز ، وقد ولدت بالبصرة ، وأخذت ابنها المنصور إلى بلدها إيذة ، فقد عمل فيها جابياً ، وتزوج وولد ابنه المهدي فيها !
ولم تكن سلامة محترمة ، فقد وصفها عبد الله عم المنصور بالزانية قال : « أفَعَلَها ابن سلامة الفاعلة ، لا يكني » ! ( أنساب الأشراف / 1007 ) .
وقد كتبنا في جواهر التاريخ ترجمة وافية للمنصور ، وأبرز صفاته ، وخططه لإبادة أبناء علي وفاطمة ( عليهما السلام ) ، وقتله الإمام الصادق ( عليه السلام ) .
نقَّلّ المنصور العاصمة حتى استقر في بغداد
نقل المنصور عاصمته من الأنبار إلى الحيرة ، ثم إلى الهاشميات قرب الكوفة ، ثم بنى بغداد وسكن فيها . قال في معجم البلدان : 1 / 459 : « فأنفق المنصور على عمارة بغداد ثمانية عشر ألف ألف دينار . . وذاك أن الأستاذ من الصناع كان يعمل في كل يوم بقيراط إلى خمس حبات ، والروزجاري ( العامل ) بحبتين إلى ثلاث حبات ، وكان الكبش بدرهم ، والحمل بأربعة دوانيق ، والتمر ستون رطلاً بدرهم . . . وكان بين كل باب من أبواب المدينة والباب الآخر ميل ، وفي كل ساف من أسواف البناء مائة ألف لبنة واثنان وستون ألف لبنة من اللبن الجعفري . . .
وكان المنصور كما ذكرنا بنى مدينته مدورة وجعل داره وجامعها في وسطها ، وبنى القبة الخضراء فوق إيوان ، وكان علوها ثمانين ذراعاً ، وعلى رأس القبة صنم على صورة فارس في يده رمح . . . وسقط رأس هذه القبة سنة 329 ، وكان يوم مطر عظيم ورعد هائل ، وكانت هذه القبة تاج البلد وعلم بغداد ، ومأثرة من مآثر بني العباس ، وكان بين بنائها وسقوطها مائة ونيف وثمانون سنة . . . وكان لا يدخل أحد من عمومة المنصور ولا غيرهم من شئ من الأبواب إلا راجلاً . . فقال له عمه عبد الصمد : يا أمير المؤمنين أنا شيخ كبير ، فلو أذنت لي أن أنزل داخل الأبواب فلم يأذن له . . ثم أقطع المنصور أصحابه القطائع فعمروها » .
وفي الطبري : 6 / 237 ، و 297 : « وبعث إلى راهب في الصومعة فقال : هل عندك علم أن يبنى هاهنا مدينة ؟ فقال له : بلغني أن رجلاً يقال له مقلاص يبنيها ! قال أنا والله مقلاص » ! « فرآه راهب كان هناك وهو يقدِّر بناءها فقال : لا تتم ! فبلغه فأتاه فقال : نعم ، نجد في كتبنا أن الذي يبنيها ملك يقال له مقلاص ! قال أبو جعفر : كانت والله أمي تلقبني في صغري مقلاصاً » ! ( تاريخ بغداد : 1 / 87 ) .
وأصل المقلاص : الناقة السمينة ( الصحاح : 3 / 1053 ) وسمي به سارق مشهور كان يسرق النوق السِّمان ! ففي هامش النهاية لابن كثير : 10 / 108 : « مقلاص : اسم لص كانت تضرب به الأمثال ، وكان أبو جعفر المنصور صبياً سرق غزلاً لعجوز كانت تخدمه وباعه لينفق على أتراب له ، فلما علمت بفعلته سمته مقلاصاً ، وغلب عليه هذا اللقب » . وتاريخ الذهبي : 9 / 33 ، والنهاية : 10 / 108 .
وسماه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بذلك في خطبته عن بني عباس ! قال ( عليه السلام ) : « وتبنى مدينة يقال لها الزوراء بين دجلة ودجيل والفرات ، فلو رأيتموها مشيدة بالجص والآجر مزخرفة بالذهب والفضة واللازورد المستسقى والمرموم والرخام وأبواب العاج والأبنوس . . وتوالت ملوك بني الشيبصان ( أي الشيطان ) أربعة وعشرون ملكاً على عدد سني الملك ، فيهم السفاح والمقلاص والجموح والخدوع والمظفر والمؤنث والنطار والكبش والكيسر والمهتور والعيار الخ . » . ( كفاية الأثر / 213 ، والمناقب : 2 / 108 ) .
3 - ظلم بني العباس أشهر من كفر إبليس !
كان السفاح أول خلفاء بني العباس ليناً أكثر من بقيتهم ! وكان شيعياً كبقية إخوته ، فقد خطب عمه داود بن علي في مراسم بيعته فقال : « أيها الناس ! الآن تقشعت حنادس الفتنة . . وأخذ القوس باريها ، ورجع الحق إلى نصابه في أهل بيت نبيكم ، أهل الرأفة بكم والرحمة لكم والتعطف عليكم . . وإنه والله أيها الناس ما وقف هذا الموقف بعد رسول الله أحد أولى به من علي بن أبي طالب ، وهذا القائم خلفي ، فاقبلوا عباد الله ما آتاكم بشكر » . ( اليعقوبي : 2 / 350 ) .
وحكم السفاح أربع سنوات ومات دفعة ، وتولى بعده أخوه المنصور وكان أكبر منه بعشر سنوات ، ولا يبعد أنه سمه !
وحكم المنصور نحو 23 سنة ، وأباد أعمامه وإخوته أو أخضعهم ، وحصر الخلافة في أولاده ، فلم يحكم بعده أحدٌ إلا من أولاده !
وظلم بني العباس أشهر من كفر إبليس ! فقد شكى أحد من ظلمهم فحكم عليه المنصور أن يدفن حياً ! قال سديف الشاعر :
« إنا لنأمل أن ترتد ألفتنا * بعد التباعد والشحناء والإحن *
وتنقضي دولة أحكام قادتها * فينا كأحكام قوم عابدي وثن
فطالما قد بروا في الجور أعظمنا * بري الصناع قداح النبع بالسفن
فكتب المنصور إلى ( عمه حاكم المدينة ) عبد الصمد بن علي بأن يدفنه حياً ، ففعل » !
وقال أبو عطاء : يا ليت جور بني مروان دام لنا وليت عدل بني العباس في النار !
( حياة الإمام الرضا ( عليه السلام ) للسيد جعفر مرتضى / 107 ، وشرح إحقاق الحق : 3 / 421 ، عن العمدة لابن رشيق : 1 / 58 ، طبع مصر ) .
وقال المنصور لأعرابي في الشام : « أحمد الله يا أعرابي الذي رفع عنكم الطاعون بولايتنا أهل البيت ! قال : إن الله تعالى لا يجمع علينا ولايتكم والطاعون ! فسكت ولم يزل يطلب له العلل حتى قتله ! ( تاريخ دمشق : 32 / 319 ، والنهاية : 10 / 131 ) .
وفي الإمامة والسياسة لابن قتيبة : 2 / 144 ، أن المنصور سأل ابن أبي ذؤيب ، ومالك بن أنس ، وابن سمعان ، وهم أئمة عند السنة : « أي الرجال أنا عندكم ، أمن أئمة العدل ، أم من أئمة الجور ؟ فقال مالك : فقلت يا أمير المؤمنين ، أنا متوسل إليك بالله تعالى وأتشفع إليك بمحمد وبقرابتك منه ، إلا ما أعفيتني من الكلام في هذا ! قال : قد أعفاك أمير المؤمنين ، ثم التفت إلى ابن سمعان فقال له : أيها القاضي ناشدتك الله تعالى أي الرجال أنا عندك ؟ فقال ابن سمعان : أنت والله خير الرجال يا أمير المؤمنين ، تحج بيت الله الحرام ، وتجاهد العدو ، وتؤمن السبل ويأمن الضعيف بك أن يأكله القوي ، وبك قوام الدين ، فأنت خير الرجال وأعدل الأئمة !
ثم التفت إلى ابن أبي ذؤيب فقال له : ناشدتك الله أي الرجال أنا عندك ؟ قال : أنت والله عندي شر الرجال ، استأثرت بمال الله ورسوله ، وسهم ذوي القربى واليتامى والمساكين ، وأهلكت الضعيف وأتعبت القوي وأمسكت أموالهم ، فما حجتك غداً بين يدي الله ؟
فقال له أبو جعفر : ويحك : ما تقول ، أتعقل ؟ أنظر ما أمامك ! قال : نعم ، قد رأيت أسيافاً ، وإنما هو الموت ولا بد منه ، عاجله خير من آجله !
ثم خرجا وجلست ، قال : إني لأجد رائحة الحنوط عليك ! قلت : أجل : لما نمى إليك عني ما نمى وجاءني رسولك في الليل ظننته القتل ، فاغتسلت وتطيبت ولبست ثياب كفنيّ ! فقال أبو جعفر : سبحان الله ما كنت لأثلم الإسلام وأسعى في نقضه ، أوَما تراني أسعى في أود الإسلام وإعزاز الدين عائذاً بالله مما قلت يا أبا عبد الله ، انصرف إلى مصرك راشداً مهدياً ، وإن أحببت ما عندنا فنحن ممن لا يؤثر عليك أحداً ، ولا يعدل بك مخلوقاً !
فقلت : إن يجبرني أمير المؤمنين على ذلك فسمعاً وطاعة ، وإن يخيرني أمير المؤمنين اخترت العافية . فقال : ما كنت لأجبرك ولا أكرهك ، انقلب معافى مكلوءً . قال : فبت ليلتي ، فلما أصبحنا أمر أبو جعفر بصرر دنانير ، في كل صرة خمسة آلاف دينار ، ثم دعا برجل من شرطته فقال له : تقبض هذا المال وتدفع لكل رجل منهم صرة ، أما مالك بن أنس إن أخذها فبسبيله وإن ردها لا جناح عليه فيما فعل ، وإن أخذها ابن أبي ذؤيب فأتني برأسه ! وإن ردها عليك فبسبيله لا جناح عليه . وإن يكن ابن سمعان ردها فأتني برأسه وإن أخذها فهي عافيته ! فنهض بها إلى القوم ، فأما ابن سمعان فأخذها فسلم ، وأما ابن أبي ذؤيب فردها فسلم ، وأما أنا فكنت والله محتاجاً إليها فأخذتها » !
أقول : وهذا من دهاء المنصور ، ولا بد أنه قتله سراً بالسم ونحوه !
الثروة التي ورَّثها المنصور لابنه
قال الربيع الحاجب : « مات المنصور وفي بيت المال شئ لم يجمعه خليفة قط قبله مائة ألف ألف درهم وستون ألف ألف درهم ، فلما صارت الخلافة إلى المهدي قسم ذلك وأنفقه . وقال الربيع : نظرنا في نفقة المنصور فإذا هو ينفق في كل سنة ألفي درهم ، مما يجئ من مال الشراة » . ( تاريخ بغداد : 3 / 11 ) .
وقال الذهبي في تاريخ الإسلام : 10 / 438 : « جمع من الأموال ما لا يعبر عنه ، وكان مسيكاً ( بخيلاً ) ، فذكر عن الربيع الحاجب أنه قال : مات المنصور وفي بيت المال مائة ألف ألف درهم وستون ألف ألف درهم . . وَزن ذلك المال بالقنطار الدمشقي ألف قنطار وست مائة قنطار وسبعون ، وإذا صرف بها ذهب مصري جاء أزيد من مائة قنطار وسبعين قنطاراً » .
« فتح المنصور يوماً خزانة مما قبض من خزائن مروان بن محمد فأحصى فيها اثني عشر ألف عدل خز ، فأخرج منها ثوباً وقال : يا ربيع اقطع من هذا الثوب جبتين لي واحدة ولمحمد واحدة ، فقلت : لا يجئ منه هذا . قال : فاقطع لي منه جبة وقلنسوة ، وبخل بثوب آخر يخرجه للمهدي ! فلما أفضت الخلافة إلى المهدي أمر بتلك الخزانة بعينها ففرقت على الموالي والغلمان » . ( تاريخ بغداد : 3 / 11 ) .
« قال لي المهدي : يا ربيع قم بنا حتى ندور في خزائن أمير المؤمنين ، قال فدرنا فوقفنا على بيت فيه أربع مائة حِبّ مطينة الرؤوس ، قال فقلنا : ما هذه ؟ قيل : هذه فيها أكباد مُملحة ، أعدها المنصور للحصار » . ( تاريخ دمشق : 32 / 332 ) .
كان المنصور شيعياً قبل ثورة الحسنيين !
كان المنصور شيعياً وبايع مهدي الحسنيين الذين ثاروا على الأمويين لإعادة الخلافة لآل النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، وكان شعارهم البراءة من بني تيم وعدي ، وبني أمية !
وكان المنصور يخدم محمداً « قال عمير بن الفضل الخثعمي : رأيت أبا جعفر المنصور يوماً وقد خرج محمد بن عبد الله بن الحسن من دار ابنه ، وله فرس واقف على الباب مع عبد له أسود ، وأبو جعفر ينتظره ، فلما خرج وثب أبو جعفر فأخذ بردائه حتى ركب ، ثم سوى ثيابه على السرج ومضى محمد ! فقلت وكنت حينئذ أعرفه ولا أعرف محمداُ : من هذا الذي أعظمته هذا الإعظام حتى أخذت بركابه ، وسويت عليه ثيابه ؟ قال : أوَما تعرفه ؟ قلت : لا . قال : هذا محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن ، مهدينا أهل البيت » . ( مقاتل الطالبيين / 161 ) .
كما خطب عمه داود بن علي في مراسم بيعة السفاح ، فقال : « وإنه والله أيها الناس ما وقف هذا الموقف بعد رسول الله أحد أولى به من علي بن أبي طالب ، وهذا القائم خلفي ، فاقبلوا عباد الله ما آتاكم بشكر » . ( تاريخ ( اليعقوبي : 2 / 350 ) .
كما كان العديد من وزراء المنصور وأنصاره شيعة ، وقد أقطعهم إقطاعات في بغداد ، كآل يقطين وآل نوبخت .
الاكثر قراءة في قضايا عامة
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة