كانت بدايات اهتمام الولايات المتحدة الأمريكية تجاه منطقة الخليج العربي بصورة عامة والعراق بصورة خاصة ، في أواخر القرن التاسع عشر، وكان ذلك الاهتمام قد اقتصر على البعثات التبشيرية الدينية والتجارية حصرا، فقد أسهمت الأفكار الدينية إبان تلك الفترة والمستندة إلى الفكر الديني المسيحي، والذي استمد من الأفكار التي سادت في القرن السادس عشر، فيما يخص الأفكار المستندة في نشاطاتها تجاه القضايا الإنسانية ، وعلى هذا الأساس اخذ اندفاع المبشرون الأمريكيون في ترجمة أفكارهم تجاه منطقة الخليج العربي والعراق تحديدا ، من خلال العمل على تأسيس مراكز للتبشير، إذ تركز العمل التبشيري المسيحي بنشاطاته الطبية والتعليمية والدينية والسياسية من خلال الإرسالية العربية ذات الأهداف التبشيرية ( The Arabian American Mission) ، والتي أسسها البروفسور لأنسج (Lansing) عام 1889، وعدت الموصل أول مراكزهم التبشيرية عام 1889 ، وبعدها البصرة عام 1891 والذي اعتبر العراق نقطة انطلاق مهامها في الخليج العربي باتجاه البحرين عام 1892 والكويت عام 1910 (1).

واخذ الاهتمام الأمريكي التبشيري في العراق يزداد بعد نهاية الحرب العالمية الأولى (1914-1918)، بعد أن أسست للطائفة البروتستانتية من الاثوريين الذين فروا من منطقة أرمينيا أثناء مجريات الحرب واستقروا في العراق، على اثر قرار عصبة الأمم عام 1925، أحقية الموصل بأنها عراقية والت عملية تقسيم الحدود الإدارية للموصل بين العراق وتركيا، وأن تعمل بريطانيا على أجبار الحكومة العراقية بالموافقة على إسكانهم ، وعلى اثر ذلك منح الدستور العراقي عام 1925، الأقليات الدينية الحق في فتح المدارس الخاصة لتعليم أبناءهم وفق تعاليم وزارة المعارف العراقية ، وجاء ذلك الاهتمام الذي اخذ بعدا سياسيا في عملية توسع النشاط التبشيري الأمريكي في حقبة الانتداب البريطاني على العراق ، تزامنا مع دخول الولايات المتحدة الأمريكية للمنافسة مع الشركات الأخرى في استثمار النفط العراقي (2) .

أخذت قضية الاثوريين بعدا اكبر ليس كونها قضية أقلية في التركيبة السكانية في العراق وإنما حملت في طياتها مشاكل أثرت على الوضع السياسي الداخلي ، مما دفع الحكومة العراقية إصدار قرار في اذار 1927 ، يحدد سكنهم بعيدا عن المناطق الشمالية وتحديد أماكن سكناهم بما ترى الحكومة العراقية ، ويعد عام 1929 الذي أصدرت فيه وزارة المعارف قانونا عد من القوانين التي تحدد عمل البعثات التبشيرية وتحديدا الأمريكية منها ، وخلال تلك الفترة اكتفت الولايات المتحدة الأمريكية برعاية الأنشطة الثقافية والاقتصادية ولم يجر الاعتراف بالعراق كدولة إلا بعد التوقيع على المعاهدة العراقية البريطانية الأمريكية اعتراف الولايات المتحدة الأمريكية بالعراق دولة في 9 كانون الثاني عام 1930 (3).

اخذ التمدد التبشيري الأمريكي في العراق في التوسع وتحديدا في عهد الملك غازي (1932- 1939) (4). وتحديدا في شمال العراق ، والتي عدت سابقة بان عمل المبشرين اخذ بعدا منظما ولاسيما بعد وصول المبشر الأمريكي كمبرلاند (Cumberland)، الذي اخذ يدعو إلى المسيحية وهذا ما تسبب بإثارة مشاعر المسلمين، مما أدى إلى قتله في مدينة دهوك عام 1938، وفي عام 1940 بعد أن تولى رشيد عالي الكيلاني رئاسة الوزراء أصدر قانونا جديدا للمعارف رقم 57 في العام نفسه والذي جاء في النص ((استقلال العراق الثقافي ووضع الأسس القومية للتعليم فبموجب هذا القانون يمنع الأطفال العراقيون الذين هم في سن التعليم الابتدائي من دخول المدارس الابتدائية الأجنبية في العراق ، فضلا عن تدريس اللغة العربية والتاريخ والجغرافية الذي أصبح مطلوبا في كل المدارس الأهلية والأجنبية وفق منهاج المدارس الحكومة ، ويجب أن تقترح مناهج التدريس والكتب المدرسية في هذه المدارس بمصادقة وزارة المعارف ...)) (5).
وعلى الرغم من الاعتراض الذي أبدته الولايات المتحدة الأمريكية على ما جاء بقانون رقم (57) تمت المصادقة عليه والعمل به حتى إصدار قانون رقم (18) عام 1953، الذي عد الأول في عملية تنظيم عمل الإرساليات التبشيرية والمدارس الأجنبية إذ وضع (( شروطا لتأسيس المدارس الأهلية والأجنبية ، منها أن تتعهد الجهة الأجنبية التي تنتمي أليها المدرسة في العراق معاملة المثل بالمقابل بالنسبة للمدارس العراقية في بلادها... وان تتعهد بإتباع إحكام قانون وزارة المعارف العامة وتوفير بناية مناسبة للمدرسة ومجهزة بالمستلزمات التدريسية الرئيسية ويجب أن تقدم ملاك المدرسة وميزانياتها قبل بدء العام الدراسي )) (6(.

انتهج المبشرون الأمريكيون في العراق أسلوبا مزدوجا بين الأهداف السياسية والأهداف الإنسانية التي كانت من صلب مهامها ، إلا أنهم اعتقدوا أن المسلك السياسي لا يخل في مهامهم الأساسية كقوة تبشيرية، وهذا ما دفعهم للعمل وبصورة أساسية إلى نهج سياسة خاصة في توثيق العلاقة مع الحكومة العراقية، ليتسنى لهم تحقيق الأهداف واستمرار العمل التبشيري ومن جانب أخر تحقيق قضايا ذات إبعاد سياسية تحت ذريعة بقائهم واستمرارهم في تحقيق موطأ قدم لهم كون الفكر الذي كان سائد في القرن التاسع عشر والقرن العشرين الذي ينسجم مع توجهات الفكر الديني الذي كانوا يحملونه ضمن ثقافة التوسع والاستعمار .(7)

شهد العراق بعد قيام ثورة 14 تموز ،1958 ، توسع كبير لحركة المبشرين الأوربيين وتحديدا الأمريكيين، إذ اخذ تركيزهم على عمل منظم وفق زيارات للكنائس في بغداد والموصل والبصرة والعمل على مساندة الكنائس الأمريكية البروتستانتية ضد الإرساليات السوفيتية الأرثوذكسية، الذي زاد نشاطها وإعدادها بعد إعلان الثورة ، وجاء ذلك وفق الإشكاليات والانقسام في الإرث المسيحي عقائديا وفكريا ، حتى تبلور إلى ثلاثة اتجاهات دينية" "بروتستانت ، كاثوليك " الأرثوذكس" وكان العراق ساحة باتجاه إرساء دعائم القوة ، فبدأت عملية التوسع التبشيري في عقد الستينات من القرن العشرين من خلال زيادة في أعداد الطلبة في الإرساليات التبشيرية الأمريكية وتحديدا في" كلية بغداد ، وثانوية بغداد الأمريكية وثانوية الرجاء العالي في البصرة " إذ بلغ إعداد الطلبة فيها (1487) طالبا وطالبة و (121) مدرسه ومدرس واخذ ذلك التوسع يزداد ولاسيما بعد انقلاب شباط 1963 حتى عام 1968(8) .

................................................................
 (1) للمزيد من التفاصيل ينظر : عبد المالك التميمي ، "النشاط التبشيري للمبشرين في منطقة الخليج العربي "، مجلة دراسات الخليج والجزيرة العربية ، العدد (20)، 1979 ، ص ص 103- 114 عامر بلو إسماعيل ، التعليم التبشيري الأمريكي في الموصل منذ أواخر العهد العثماني حتى عام 1932 ، مجلة التربية والعلم ، العدد (2)، المجلد (16)، 2009، ص 66؛ خليل علي مراد تطور السياسة الأمريكية في منطقة الخليج العربي 1941 - 1947، مطبعة جامعة البصرة ، البصرة ، 1980، ص 20؛ نعومي كلاين ، صعود، رأسمالية الكوارث، مؤسسة محمد بن راشد المكتوم للمطبوعات والنشر، دبي ،2010، ص39.

(2) للمزيد من التفاصيل ينظر : هيثم منخي طالب الجبوري ، مسيحيو العراق ودورهم في تاريخ العراق المعاصر ، رسالة ماجستير غير منشورة ، كلية التربية للعلوم الإنسانية ، جامعة بابل ، 2012 ، ص ص 181-182؛ عبدا لرزاق الحسني، تاريخ الوزارات ، ج3، ص318.
 (3) وقع العراق في 9 كانون الثاني عام 1930 معاهدة مع كل من بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية ، إذ عكست المعاهدة طبيعة العلاقة السائدة بين بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية ، ويفسر توقيع تلك المعاهدة عملية إرضاء للأخيرة جراء المعارضة للاستئثار الشركات البريطانية والفرنسية لامتياز النفط وتحديدا في مؤتمر سان ريمو عام 1920 ومن جانب أخر يضمن للرعايا الأمريكان المصالح والامتيازات الممنوحة للدول الأعضاء في مجلس عصبة الأمم ومنها ضمان حقوق النشاطات الدينية والثقافية والتربوية وحق التملك في العراق والاهم اعتبرت المعاهدة البداية للتنافس البريطاني الأمريكي على العراق وللمزيد حول ما جاء في مضمون ذلك الاتفاق ينظر ، إسامة عبد الرحمن الدوري ، العلاقات العراقية الأمريكية ، أطروحة دكتوراه غير منشورة ، كلية الآداب، جامعة بغداد ، 1989، ص- ص
42 ــ 43.

 (4) الملك غازي بن فيصل: ولد في مدينة مكة المكرمة في ، غادر مكة عام 1923 إلى عمان ليعيش مع عمه عبد الله بن الحسين ، وصل إلى بغداد عام 1924 ولياً للعهد ، غادر بغداد عام 1926 ليدرس في كلية هازو في لندن ، دخل الكلية العسكرية عام 1928 وتخرج منها برتبة ملازم ثاني ، أصبح ملكاً على العراق عام 1933 - 1939 ، للمزيد عن حياة الملك غازي يُنظر: محمد حسين الزبيدي، غازي ومرافقوه توزيع دار السلام ، بغداد ، 1989.

(5) محمد فاضل الجمالي العراق بين الأمس واليوم، بغداد، 1954، ص 16.

 (6) للمزيد ينظر: زينب هاشم جريان، التعليم النسوي في العراق 1921 - 1958 ، رسالة ماجستير غير منشورة ، كلية

التربية بنات ، جامعة بغداد ، 2013، ص 144.

(7) عبد الملك التميمي، المصدر السابق ، ص – ص 110-113.

 (8) للمزيد ينظر: جيمس دورني ، روبرت بالستغراف ، النظريات المتقاربة في العلاقات الدولية ، ترجمة وليد عبد الحي، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، بيروت ، 1985 ، ص 85-87: صحيفة الاتحاد ، العدد (39438) ، 27 تشرين الثاني 2005.

اخر الاخبار

اخبار العتبة العباسية المقدسة

مستشفى الكفيل يدخل قائمة الاعتماد الدولية بجودة الخدمة وسلامة المرضى

جامعة العميد تقيم ورشة عمل تدريبية في مجال التعليم الطبي الحديث

سماحة السيد الصافي يدعو إلى الاستمرار في تحقيق تراث العلماء الأعلام وتسليط الضوء على فكرهم

شعبة الخطابة الحسينية تختتم الموسم الثامن من مشروع الدورات الصيفية في كربلاء

المزيد

الآخبار الصحية

الأطعمة الحارة.. "سر صغير" يغير صحة قلبك وعقلك

وباء صامت.. الملايين حول العالم مصابون بالسكري دون أن يعلموا !

لماذا ينصح بتناول تفاحة يوميا؟

8 فواكه طبيعية تمنحك نوما هنيئا.. وتخلصك من الأرق

المزيد

الآخبار التكنلوجية

ثلاث علامات على وجود مشاكل خطيرة في محرك السيارة ؟

ماذا نعرف عن اللقاح الروسي ضد السرطان؟

مركبة فضاء تعثر على دليل عن وجود حياة قديمة على المريخ

لتدريب الذكاء الاصطناعي.. الصين تخطط لإنشاء شبكة حوسبة موحدة

المزيد

مواضيع ذات صلة

سقوط البصرة بيد البريطانيين

ثورة النجف عام 1918م ضد الاحتلال البريطاني.

موقف رجال الدين والعشائر العراقية من الاحتلال البريطاني للعراق.

الاحتلال البريطاني للعراق.

اهمية العراق للسياسة البريطانية في مطلع القرن العشرين.

شركة الهند الشرقية ــ البريطانية ونفوذها في العراق.

شركة الهند الشرقية –البريطانية ونفوذها في العراق.

ثورة العشرين (الامام الحائري يفتي بالجهاد) ضد البريطانيين.